الكلمة الثالثة والعشرون
[هذه الكلمة تتحدث عن جماليات الإيمان ومحاسنِه وأثرِه على الإنسان، كما تتحدث عن أسباب سعادة الإنسان وشقائه]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
الكلمة الثالثة والعشرون
وهي مبحثان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ *
إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾
المبحث الأول [محاسن الإيمان وجمالياته]
نُبيِّن خَمسَ مَحاسِنَ مِن بينِ آلافِ مَحاسِنِ الإيمانِ، وذلك في خَمسِ نِقاطٍ:
النُّقطة الأولى [الإيمان انتسابٌ إلى الصانع تعالى، والكفر قطع الانتساب]
إنَّ الإنسانَ يَسمُو بنُورِ الإيمانِ إلى أَعلَى عِلِّـيِّينَ، فيَكتَسِبُ بذلك قِيمةً تَجعَلُه لائقًا بالجَنّةِ، بَينَما يَتَردَّى بظُلمةِ الكُفرِ إلى أَسفَلِ سافِلينَ، فيَكُونُ في وَضْعٍ يُؤَهِّلُه لِنارِ جَهَنَّم، ذلك لأنَّ الإيمانَ يَربِطُ الإنسانَ بصانِعهِ الجَليلِ، ويَربِطُه بوَثاقٍ شَديدٍ ونِسبةٍ إلَيه، فالإيمانُ إنَّما هو انتِسابٌ؛ لِذا يَكتَسِبُ الإنسانُ بالإيمانِ قِيمةً سامِيةً مِن حيثُ تَجَلِّي الصَّنعةِ الإلٰهِيّةِ فيه، وظُهُورِ آياتِ نُقُوشِ الأَسماءِ الرَّبّانيّةِ على صَفحةِ وُجُودِه.
أمَّا الكُفرُ فيَقطَعُ تلك النِّسبةَ وذلك الِانتِسابَ، وتَغشَى ظُلمَتُه الصَّنعةَ الرَّبّانيّةَ وتَطمِسُ على مَعالِمِها، فتَنقُصُ قِيمةُ الإنسانِ حيثُ تَنحَصِرُ في مادَّتِه فحَسْبُ؛ وقِيمةُ المادّةِ لا يُعتَدُّ بها فهي في حُكمِ المَعدُومِ، لكَونِها فانيةً، زائلةً، وحَياتُها حَياةٌ حَيَوانيّةٌ مُؤَقَّتةٌ.
وها نحن أُولاءِ نُبيِّنُ هذا السِّرَّ بمِثالٍ تَوضِيحيٍّ: إنَّ قِيمةَ المادّةِ تَختَلِفُ عن قيمةِ الصَّنعةِ ومَدَى الإجادةِ فيما يَصنَعُه الإنسانُ، فنَرَى أحيانًا القِيمتَينِ مُتَساوِيتَينِ، وقد تكُونُ المادّةُ أَكثرَ قِيمةً مِنَ الصَّنعةِ نَفسِها، وقد يَحدُثُ أن تَحتَوِيَ مادّةُ حَديدٍ على قِيمةٍ فَنِّـيّةٍ وجَماليّةٍ عاليةٍ جِدًّا، ويَحدُثُ أن تَحُوزَ صَنعةٌ نادِرةٌ نَفيسةٌ جِدًّا قِيمةَ مَلايينِ اللَّيراتِ رَغمَ كَونِها مِن مادّةٍ بَسِيطةٍ جِدًّا؛ فإذا عُرِضَت مِثلُ هذه التُّحفةِ النّادِرةِ في سُوقِ الصَّنَّاعين والحِرْفيِّين المُجِيدِين وعَرَفوا صانِعَها الباهِرَ الماهِرَ الشَّهيرَ فإنَّها تَحُوزُ سِعرَ مِليونِ ليرةٍ، أمّا إذا أُخِذَتِ التُّحفةُ نَفسُها إلى سُوقِ الحَدِيدِ الخامِ -مثلًا- فقد لا يَتَقدَّمُ لِشِرائها أَحَدٌ، ورُبَّما لا يُنفِقُ أَحَدٌ في شِرائها شيئًا.
وهكذا الإنسانُ، فهو الصَّنعةُ الخارِقةُ للخالقِ الصّانِعِ سُبحانَه، وهو أَرقَى مُعجِزةٍ مِن مُعجِزاتِ قُدرَتِه وأَلطَفُها، حيثُ خَلَقه الباري مَظهَرًا لِجَميعِ تَجَلِّياتِ أَسمائِه الحُسنَى، وجَعَله مَدارًا لِجَميعِ نُقُوشِه البَدِيعةِ جَلَّت عَظَمتُه، وصَيَّرَه مِثالًا مُصَغَّرًا ونَمُوذجًا للكائنات بأَسرِها.
فإذا استَقَرَّ نُورُ الإيمانِ في هذا الإنسانِ بَيَّن -ذلك النُّورُ- جَميعَ ما على الإنسانِ مِن نُقُوشٍ حَكيمةٍ، بل يَستَقْرِئُها الآخَرِين؛ فيَقرَؤُها المُؤمنُ بتَفَكُّرٍ، ويَشعُرُ بها في نَفسِه شُعُورًا كامِلًا، ويَجعَلُ الآخَرِين يُطالِعُونَها ويَتَملَّونَها، أي: كأنَّه يقُولُ: “ها أنا ذا مَصنُوعُ الصّانِعِ الجَليلِ ومَخلُوقُه.. انظُرُوا كيف تَتَجلَّى فِيَّ رَحمَتُه، وكَرَمُه”. وبما شابَهَها مِنَ المَعاني الواسِعةِ تَتَجلَّى الصَّنعةُ الرَّبّانيّةُ في الإنسانِ.
إذًا الإيمانُ الَّذي هو عِبارةٌ عنِ الِانتِسابِ إلى الصّانِعِ سُبحانَه، يقُومُ بإظهارِ جَميعِ آثارِ الصَّنعةِ الكامِنةِ في الإنسانِ، فتَتَعيَّنُ بذلك قِيمةُ الإنسانِ على مَدَى بُرُوزِ تلك الصَّنعةِ الرَّبّانيّةِ، ولَمَعانِ تلك المِرآةِ الصَّمَدانيّةِ، فيَتَحوَّلُ هذا الإنسانُ الَّذي لا أَهَمِّيّةَ له إلى مَرتَبةِ أَسمَى المَخلُوقاتِ قاطِبةً، حيثُ يُصبِحُ أَهلًا للخِطابِ الإلٰهِيِّ، ويَنالُ شَرَفًا يُؤَهِّلُه للضِّيافةِ الرَّبّانيّةِ في الجَنّةِ.
أمّا إذا تَسَلَّل الكُفرُ -الَّذي هو عِبارةٌ عن قَطعِ الِانتِسابِ إلى الله- في الإنسانِ، فعِندَئذٍ تَسقُطُ جَميعُ مَعاني نُقُوشِ الأَسماءِ الحُسنَى الإلٰهِيّةِ الحَكِيمةِ في الظَّلامِ وتُمحَى نِهائيًّا، وتَتَعذَّرُ مُطالَعَتُها وقِراءَتُها؛ ذلك لأنَّه لا يُمكِنُ أن تُفهَم الجِهاتُ المَعنَويّةُ المُتَوجِّهةُ فيه إلى الصّانِعِ الجَليلِ بنِسيانِ الصّانِعِ سُبحانَه، بل تَنقَلِبُ على عَقِبَيها، وتَندَرِسُ أَكثرُ آياتِ الصَّنعةِ النَّفيسةِ الحَكيمةِ وأَغلَبُ النُّقُوشِ المَعنَويّةِ العاليةِ، أمّا ما يَتَبقَّى مِنها مِمّا يَتَراءَى للعَينِ فسوف يُعزَى إلى الأَسبابِ التّافِهةِ.. إلى الطَّبِيعةِ والمُصادَفةِ، فتَسقُطُ نِهائيًّا وتَزُولُ، حيثُ تَتَحوَّلُ كلُّ جَوهَرةٍ مِن تلك الجَواهِرِ المُتَلألِئةِ إلى زُجاجةٍ سَوداءَ مُظلِمةٍ، وتَقتَصِرُ أَهَمِّيَّتُها آنَذاك على المادّةِ الحَيَوانيّةِ وَحْدَها.. وكما قُلنا: إنَّ غايةَ المادّةِ وثَمَرتَها هي قَضاءُ حَياةٍ قَصِيرةٍ جُزئيّةٍ يَعيشُها صاحِبُها وهو أَعجَزُ المَخلُوقاتِ وأَحوَجُها وأَشقاها، ومِن ثَمَّ يَتَفسَّخُ في النِّهايةِ ويَزُولُ.. وهكذا يَهدِمُ الكُفرُ الماهِيّةَ الإنسانيّةَ ويُحِيلُها مِن جَوهَرةٍ نَفيسةٍ إلى فَحمةٍ خَسِيسةٍ.
النُّقطة الثانية [الإيمان ينير الموجودات والزمان والمكان]
كما أنَّ الإيمانَ نُورٌ يُضِيءُ الإنسانَ ويُنوِّرُه ويُظهِرُ بجَلاءٍ جَميعَ المَكاتيبِ الصَّمَدانيّةِ المَكتُوبةِ علَيه ويَستَقرِئُها، كذلك فهو يُنيرُ الكائناتِ أيضًا، ويُنقِذُ القُرُونَ الخاليةَ والآتيةَ مِنَ الظُّلُماتِ الدّامِسةِ.
وسنُوضِحُ هذا السِّرَّ بمِثالٍ، استِنادًا إلى أَحَدِ أَسرارِ هذه الآيةِ الكَريمةِ: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾.
لقد رَأَيتُ في واقِعةٍ خَياليّةٍ أنَّ هناك طَودَينِ شامِخَينِ مُتَقابِلَينِ، نُصِبَ على قِمَّتَيهما جِسرٌ عَظِيمٌ مُدهِشٌ، وتَحتَه وادٍ عَمِيقٌ سَحِيقٌ، وأنا واقِفٌ على ذلك الجِسرِ، والدُّنيا يُخَيِّمُ علَيها ظَلامٌ كَثيفٌ مِن كلِّ جانبٍ، فلا يَكادُ يُرَى مِنها شيءٌ؛ فنَظَرتُ إلى يَمِيني فوَجَدتُ مَقبَرةً ضَخمةً تحتَ جُنْحِ ظُلُماتٍ لا نِهايةَ لها، أي: هكذا تَخَيَّلتُ، ثمَّ نَظَرتُ إلى طَرَفي الأَيسَرِ فكأَنِّي وَجَدتُ أَمواجَ ظُلُماتٍ عاتيةٍ تَتَدافَعُ فيها الدَّواهي المُذهِلةُ والفَواجِعُ العَظِيمةُ وكأنَّها تَتَأهَّبُ للِانقِضاضِ، ونَظَرتُ إلى أَسفَلِ الجِسرِ فتَراءَتْ لِعَيني هُوّةٌ عَمِيقةٌ لا قَرارَ لها، وقد كُنتُ لا أَملِكُ سِوَى مِصباحٍ يَدَوِيٍّ خافِتِ النُّورِ أَمامَ كلِّ هذا الهَدِيرِ العَظيمِ مِنَ الظُّلُماتِ، فاستَخدَمتُه، فبَدا لي وَضعٌ رَهيبٌ، إذ رأيتُ أُسُودًا وضَوارِيَ ووُحُوشًا وأَشباحًا في كلِّ مَكانٍ حتَّى في نِهاياتِ الجِسرِ وأَطرافِه، فتَمَنَّيتُ أنْ لم أَكُن أَملِكُ هذا المِصباحَ الَّذي كَشَفَ لي كلَّ هذه المَخلُوقاتِ المُخِيفةِ، إذ إنَّني أَينَما وَجَّهتُ نُورَ المِصباحِ شَهِدتُ المَخاطِرَ المُدهِشةَ نَفسَها، فتَحَسَّرتُ في ذاتِ نَفسِي وتَأَوَّهتُ قائلًا: “إنَّ هذا المِصباحَ مُصِيبةٌ وبَلاءٌ عَلَيَّ”. فاستَشاطَ غَيظِي، فأَلقَيتُ المِصباحَ إلى الأَرضِ وتَحَطَّمَ، وكأَنِّي بتَحَطُّمِه قد أَصَبتُ زِرًّا لِمِصباحٍ كَهرَبائيٍّ هائلٍ، فإذا به يُنوِّرُ الكائناتِ جَميعًا، فانقَشَعَتْ تلك الظُّلُماتُ وانكَشَفَتْ وزالَت نِهائيًّا، وامتَلَأ كلُّ مكانٍ وكلُّ جِهةٍ بذلك النُّورِ، وبَدَتْ حَقيقةُ كلِّ شيءٍ ناصِعةً واضِحةً..
فوَجَدتُ أنَّ ذلك الجِسرَ المُعَلَّقَ الرَّهيبَ ما هو إلّا شارِعٌ يَمُرُّ مِن سَهلٍ مُنبَسِطٍ، وتَبَيَّنتُ أنَّ تلك المَقبَرةَ الهائلةَ الَّتي رَأَيتُها على جِهةِ اليَمينِ لَيسَت إلَّا مَجالِسَ ذِكرٍ وتَهليلٍ وخِدمةً جَليلةً، وعِبادةً سامِيةً، ونَدوةً كَرِيمةً لَطِيفةً، تحتَ إِمرةِ رِجالٍ نُورانيِّينَ في جَنائِنَ خُضْرٍ جَميلةٍ تُشِعُّ بَهجةً ونُورًا، وتَبعَثُ في القَلبِ سَعادةً وسُرُورًا.
أمّا تلك الأَودِيةُ السَّحِيقةُ والدَّواهي المُدهِشةُ والحَوادِثُ الغامِضةُ الَّتي رَأَيتُها عن يَسارِي، فلم تكُن إلّا جِبالًا مُشَجَّرةً خَضراءَ تَسُرُّ النّاظِرِين، ووَراءَها مَضِيفٌ عَظِيمٌ ومُرُوجٌ رائعةٌ ومُتَنزَّهٌ رائعٌ.. نعم، هكذا رَأَيتُها بخَيالي.
أمّا تلك المَخلُوقاتُ المُخِيفةُ والوُحُوشُ الضّارِيةُ الَّتي شاهَدتُها فلم تكُن إلَّا حَيَواناتٍ أَليفةً أَنيسةً، كالجَمَلِ والثَّورِ والضَّأنِ والماعِزِ؛ وعِندَها تَلَوتُ الآيةَ الكَريمةَ: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾، وبَدَأتُ أُرَدِّدُ: “الحَمدُ للهِ على نُورِ الإيمانِ. ثُمَّ أَفَقْتُ مِن تلك الواقِعةِ.”
وهكذا، فذاكُما الجَبَلانِ هما: بِدايةُ الحَياةِ ومُنتَهاها، أي: هما عالَمُ الأَرضِ وعالَمُ البَرزَخِ؛ وذلك الجِسرُ هو طَرِيقُ الحَياةِ؛ والطَّرَفُ الأَيمَنُ هو الماضي مِنَ الزَّمَن، والطَّرَفُ الأَيسَرُ هو المُستَقبَلُ منه؛ أمَّا المِصباحُ اليَدَوِيُّ فهو أَنانيّةُ الإنسانِ المُعتَدَّةُ بنَفسِها والمُتَباهِيةُ بما لَدَيها مِن عِلمٍ، والَّتي لا تُصغِي إلى الوَحْيِ السَّماوِيِّ.. أمّا تلك الغِيلانُ والوُحُوشُ الكاسِرةُ فهي حَوادِثُ العالَمِ العَجيبةُ ومَوجُوداتُه.
فالإنسانُ الَّذي يَعتَمِدُ على أَنانيَّتِه وغُرُورِه، ويَقَع في شِراكِ ظُلُماتِ الغَفلةِ ويُبْتلَى بأَغلالِ الضَّلالةِ القاتلةِ، فإنَّه يُشبِهُ حالَتِي الأُولَى في تلك الواقِعةِ الخَياليّةِ، حيثُ يَرَى الزَّمَنَ الماضِيَ بنُورِ ذلك المِصباحِ النّاقِصِ الَّذي هو مَعرِفةٌ ناقِصةٌ مُنحَرِفةٌ للضَّلالةِ كمَقبَرةٍ عَظِيمةٍ في ظُلُماتِ العَدَمِ، ويُصَوِّرُ الزَّمَنَ مِنَ المُستَقبَلِ مُوحِشًا تَعبَثُ فيه الدَّواهِي والخُطُوبُ مُحِيلًا إيّاه إلى الصُّدْفةِ العَمْياءِ؛ كما يُصَوِّرُ جَميعَ الحَوادِثِ والمَوجُوداتِ -الَّتي كلٌّ مِنها مُوَظَّفةٌ مُسَخَّرةٌ مِن لَدُن رَبٍّ رَحيمٍ حَكيمٍ- كأنَّها وُحُوشٌ كاسِرةٌ وَفَواتِكُ ضارِيةٌ، فيَحِقُّ علَيه حُكمُ الآيةِ الكَريمةِ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾.
أمّا إذا أَغاثَتِ الإنسانَ الهِدايةُ الإلٰهِيّةُ، ووَجَد الإيمانُ إلى قَلبِه سَبِيلًا، وانكَسَرَتْ فِرعَونيّةُ النَّفسِ وتَحَطَّمَتْ، وأَصغَى إلى كِتابِ اللهِ، فيكُونُ أَشبَهَ بحالَتِي الثّانيةِ في تلك الواقِعةِ الخَياليّةِ، فتَصطَبِغُ الكائناتُ بالنَّهارِ وتَمتَلِئُ بالنُّورِ الإلٰهِيِّ، ويَنطِقُ العالَمُ برُمَّتِه: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.
فلَيس الزَّمَنُ الغابِرُ إذ ذاك مَقبَرةً عُظمَى كَما يُتوَهَّمُ، بل كلُّ عَصْرٍ مِن عُصُورِه -كما تَشهَدُه بَصِيرةُ القَلبِ- زاخِرٌ بوَظائفِ عُبُودِيّةٍ تحتَ قِيادةِ نَبيٍّ مُرسَلٍ، أو طائفةٍ مِنَ الأَولياءِ الصّالِحِين، يُدِيرُ تلك الوَظيفةَ السّامِيةَ ويَنشُرُها ويُرسِّخُ أَركانَها في الرَّعِيّةِ على أَتَمِّ وَجهٍ وأَكمَلِ صُورةٍ؛ ومِن بعدِ انتِهاءِ هذه الجَماعاتِ الغَفيرةِ مِن ذَوِي الأَرواحِ الصّافيةِ مِن أَداءِ وَظائفِها الحَياتيّةِ وواجِباتِها الفِطرِيّةِ تُحَلِّقُ مُرتَقيةً إلى المَقاماتِ العاليةِ مُرَدِّدةً: “اللهُ أَكبَرُ”، مُختَرِقةً حِجابَ المُستَقبَلِ.
وعِندَما يَلتَفِتُ إلى يَسارِه يَتَراءَى له مِن بَعيدٍ -بمِنظارِ نُورِ الإيمانِ- أنَّ هناك وَراءَ انقِلاباتٍ بَرزَخيّةٍ وأُخرَوِيّةٍ -وهي بضَخامةِ الجِبالِ الشَّواهِقِ- قُصُورَ سَعادةِ الجِنانِ، قد مُدَّت فيها مَضايِفُ الرَّحمٰنِ مَدًّا لا أَوَّلَ له ولا آخِرَ؛ فيَتَيقَّنُ بأنَّ كلَّ حادِثةٍ مِن حَوادِثِ الكَونِ -كالأَعاصِيرِ والزَّلازِلِ والطّاعُونِ وأَمثالِها- إنَّما هي مُسَخَّراتٌ مُوَظَّفاتٌ مَأمُوراتٌ، فيَرَى أنَّ عَواصِفَ الرَّبيعِ والمَطَرِ وأَمثالَها مِنَ الحَوادِثِ الَّتي تَبدُو حَزِينةً سَمِجةً، ما هي في الحَقيقةِ والمَعنَى إلَّا مَدارُ الحِكَمِ اللَّطِيفةِ، حتَّى إنَّه يَرَى المَوتَ مُقدِّمةً لِحَياةٍ أَبَديّةٍ، ويَرَى القَبْرَ بابَ سَعادةٍ خالِدةٍ..
وقِسْ على هذا المِنوالِ سائرَ الجِهاتِ بتَطبِيقِ الحَقيقةِ على المِثالِ.
النُّقطة الثالثة [الإيمان قوة]
كما أنَّ الإيمانَ نُورٌ، فهُو قُوّةٌ أيضًا، فالإنسانُ الَّذي يَظفَرُ بالإيمانِ الحَقيقيِّ يَستَطيعُ أن يَتَحدَّى الكائناتِ، ويَتَخلَّصَ مِن ضِيقِ الحَوادِثِ، مُستَنِدًا إلى قُوّةِ إيمانِه، فيُبحِرُ مُتَفرِّجًا على سَفينةِ الحَياةِ في خِضَمِّ أَمواجِ الأَحداثِ العاتيةِ بكَمالِ الأَمانِ والسَّلامِ قائلًا: “تَوَكَّلتُ على اللهِ”، ويُسَلِّمُ أَعباءَه الثَّقيلةَ أَمانةً إلى يَدِ القُدرةِ للقَدِيرِ المُطلَقِ، ويَقطَعُ بذلك سَبِيلَ الدُّنيا مُطمَئِنَّ البالِ في سُهُولةٍ وراحةٍ حتَّى يَصِلَ إلى البَرزَخِ ويَستَرِيحَ، ومِن ثَمَّ يَستَطيعُ أن يَرتَفِعَ طائرًا إلى الجَنّةِ للدُّخُولِ إلى السَّعادةِ الأَبَديّةِ؛ أمَّا إذا تَرَك الإنسانُ التَّوَكُّلَ فلا يُفَوِّتُ التَّحلِيقَ والطَّيَرانَ إلى الجَنّةِ فحَسْبُ، بل ستَجذِبُه تلك الأَثقالُ إلى أَسفَلِ سافِلينَ.
فالإيمانُ إذًا يَقتَضي التَّوحِيدَ، والتَّوحِيدُ يَقُودُ إلى التَّسليمِ، والتَّسلِيمُ يُحَقِّقُ التَّوكُّلَ، والتَّوكُّلُ يُسَهِّلُ الطَّريقَ إلى سَعادةِ الدّارَينِ.
ولا تَظُنَّنَّ أنَّ التَّوكُّلَ هو رَفضُ الأَسبابِ ورَدُّها كُلِّـيًّا، وإنَّما هو عِبارةٌ عنِ العِلمِ بأنَّ الأَسبابَ هي حُجُبٌ بيَدِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ، يَنبَغي رِعايتُها ومُداراتُها، أمّا التَّشَبُّثُ بها أوِ الأَخذُ بها فهو نَوعٌ مِنَ الدُّعاءِ الفِعليِّ؛ فطَلَبُ المُسَبَّباتِ إذًا وتَرَقُّبُ النَّتائجِ لا يكُونُ إلَّا مِنَ الحَقِّ سُبحانَه وتَعالَى، وأنَّ المِنّةَ والحَمدَ والثَّناءَ لا تَرجِعُ إلّا إلَيه وَحدَه.
إنَّ مَثَلَ المُتَوكِّلِ على اللهِ وغَيرَ المُتَوكِّلِ كَمَثَلِ رَجُلَينِ قاما بحَملِ أَعباءٍ ثَقيلةٍ حُمِّلَتْ على رَأسَيهِما وعاتِقَيهِما، فقَطَعا التَّذاكِرَ وصَعِدا سَفِينةً عَظِيمةً، فوَضَعَ أَحَدُهُما ما على كاهِلِه حالَما دَخَل السَّفينةَ وجَلَسَ علَيه يَرقُبُه، أمّا الآخَرُ فلم يَفعَلْ مِثلَه لِحَماقَتِه وغُرُورِه، فقيل له: “ضَعْ عنك حِمْلَكَ الثَّقيلَ لِتَرتاحَ مِن عَنائِك!”.
فقال: “كلَّا، إنّي لَستُ فاعِلًا ذاك مَخافةَ الضَّياعِ، فأنا على قُوّةٍ لا أَعبَأُ بحِملي، وسأَحتَفِظُ بما أَملِكُه فَوقَ رَأسي وعلى ظَهرِي”.
فقيلَ له ثانيةً: “ولكِن أيُّها الأَخُ إنَّ هذه السَّفِينةَ السُّلطانيّةَ الأَمينةَ الَّتي تُؤوِينا وتَجرِي بنا هي أَقوَى وأَصلَبُ عُودًا مِنّا جَميعًا، وبإمكانِها الحِفاظُ علَينا وعلى أَمتِعَتِنا أَكثَرَ مِن أَنفُسِنا، فرُبَّما يُغمَى علَيك فتَهوِي بنَفسِك وأَمتِعَتِك في البَحرِ، فَضلًا عن أنَّك تَفقِدُ قُوَّتَك رُوَيدًا رُوَيدًا، فكاهِلُك الهَزِيلُ هذا وهامَتُك الخَرقاءُ هذه لن يَسَعَهُما بَعدُ حَمْلُ هذه الأَعباءِ الَّتي تَتَزايدُ رَهَقًا، وإذا رَآك رُبَّانُ السَّفينة على هذه الحالةِ فسيَظُنُّك مُصابًا بمَسٍّ مِنَ الجُنُونِ وفاقِدًا للوَعْيِ، فيَطْرُدُك ويَقذِفُ بكَ خارِجًا، أو يَأمُرُ بإلقاءِ القَبضِ علَيك ويُودِعُك السِّجنَ قائلًا: إنَّ هذا خائنٌ يَتَّهِمُ سفِينَتَنا ويَستَهزِئُ بنا. وستُصبِحُ أُضحُوكةً للنّاسِ، لأنَّك بإِظهارِك التَّكَبُّرَ الَّذي يُخفي ضَعْفًا -كما يَراه أَهلُ البَصائرِ- وبغُرُورِك الَّذي يَحمِلُ عَجْزًا، وبتَصَنُّعِك الَّذي يُبطِنُ رِياءً وذِلّةً، قد جَعَلتَ مِن نَفسِك أُضحُوكةً ومَهزَلةً.. ألا تَرَى أنَّ الكُلَّ باتُوا يَضحَكُون مِنك ويَستَصغِرُونك؟!”.
وبَعدَما سَمِع كلَّ هذا الكَلامِ عادَ ذلك المِسكِينُ إلى صَوابِه، فوَضَع حِمْلَه على أَرضِ السَّفِينةِ وجَلَسَ علَيه وقالَ: “الحَمدُ للهِ.. لِيَرضَ اللهُ عنك كلَّ الرِّضَى، فلقد أَنقَذْتَني مِنَ التَّعَب والهَوانِ، ومِنَ السِّجنِ والسُّخرِيةِ”.
فيا أيُّها الإنسانُ البَعيدُ عنِ التَّوكُّلِ.. ارجِعْ إلى صَوابِك وعُدْ إلى رُشدِك كهذا الرُّجُل، وتَوَكَّلْ على الله لِتَتَخلَّصَ مِنَ الحاجةِ والتَّسَوُّلِ مِنَ الكائناتِ، ولِتَنجُوَ مِنَ الِارتِعادِ والهَلَعِ أمامَ الحادِثاتِ، ولِتُنقِذَ نَفسَك مِنَ الرِّياءِ والِاستِهزاءِ، ومِنَ الشَّقاءِ الأَبَديِّ، ومِن أَغلالِ مُضايَقاتِ الدُّنيا.
النُّقطة الرابعة [الإيمان يجعل الإنسان إنسانًا، بل يجعله سلطانًا]
إنَّ الإيمانَ يَجعَلُ الإنسانَ إنسانًا حَقًّا، بل يَجعَلُه سُلطانًا، لِذا كانَت وَظِيفتُه الأَساسُ الإيمانَ باللهِ تَعالَى والدُّعاءَ إلَيه؛ بَينَما الكُفرُ يَجعَلُ الإنسانَ حَيَوانًا مُفتَرِسًا في غايةِ العَجْزِ.
وسنُورِدُ هنا دَليلًا واضِحًا وبُرهانًا قاطِعًا مِن بينِ آلافِ الدَّلائلِ على هذه المَسأَلةِ، وهو: التَّفاوُتُ والفُرُوقُ بينَ مَجِيءِ الحَيَوانِ والإنسانِ إلى دارِ الدُّنيا.
نعم، إنَّ التَّفاوُتَ بينَ مَجِيءِ الحَيَوانِ والإنسانِ إلى هذه الدُّنيا يَدُلُّ على أنَّ اكتِمالَ الإنسانيّةِ وارتِقاءَها إلى الإنسانيّةِ الحَقّةِ إنَّما هو بالإيمانِ وَحدَه؛ وذلك لأنَّ الحَيَوانَ حِينَما يأتي إلى الدُّنيا يأتي إلَيها كأنَّه قدِ اكتَمَلَ في عالَمٍ آخَرَ، فيُرسَلُ إلَيها مُتَكامِلًا حَسَبَ استِعدادِه، فيَتَعلَّمُ في ظَرْفِ ساعَتَينِ أو يَومَينِ أو شَهرَينِ جَميعَ شَرائطِ حَياتِه وعَلاقاتِه بالكائناتِ الأُخرَى وقَوانينِ حَياتِه، فتَحصُلُ لَدَيه مَلَكةٌ، فيَتَعلَّمُ العُصفُورُ أوِ النَّحلةُ -مَثلًا- القُدرةَ الحَياتيّةَ والسُّلُوكَ العَمَليَّ عن طَرِيقِ الإلهامِ الرَّبّانِيِّ وهِدايَتِه سُبحانَه؛ ويَحصُلُ في عِشرِين يَومًا على ما لا يَتَعلَّمُه الإنسانُ إلّا في عِشرِين سنةً.. إذًا الوَظِيفةُ الأَساسُ للحَيَوانِ لَيسَتِ التَّكَمُّلَ والِاكتِمالَ بالتَّعَلُّمِ، ولا التَّرَقِّيَ بكَسْبِ العِلمِ والمَعرِفةِ، ولا الِاستِعانةَ والدُّعاءَ بإظهارِ العَجزِ؛ وإنَّما وَظِيفتُه الأَصلِيّةُ: العَمَلُ حَسَبَ استِعدادِه، أي: العُبُودِيّةُ الفِعلِيّةُ.
أمّا الإنسانُ فعلى العَكسِ مِن ذلك تَمامًا، فهو عِندَما يَقْدَمُ إلى الدُّنيا يَقدَمُها وهو مُحتاجٌ إلى تَعَلُّمِ كلِّ شيءٍ وإدراكِه؛ إذ هو جاهِلٌ بقَوانينِ الحَياةِ كافّةً جَهْلًا مُطبِقًا، حتَّى إنَّه قد لا يَستَوعِبُ شَرائطَ حَياتِه خِلالَ عِشرِين سنةً، بل قد يَبقَى مُحتاجًا إلى التَّعَلُّمِ والتَّفَهُّمِ مَدَى عُمُرِه؛ فَضْلًا عن أنَّه يُبعَثُ إلى الحَياةِ وهو في غايةِ الضَّعْفِ والعَجْزِ، حتَّى إنَّه لا يَتَمكَّنُ مِنَ القِيامِ مُنتَصِبًا إلّا بعدَ سنَتَينِ مِن عُمُرِه، ولا يَكادُ يُميِّـزُ النَّفعَ مِنَ الضَّرِّ إلّا بعدَ خَمسَ عَشْرةَ سنةً، ولا يُمكِنُه أن يُحَقِّقَ لِنَفسِه مَنافِعَ حَياتِه ومَصالِحَها ولا دَفْعَ الضَّرَرِ عنها إلّا بالتَّعاوُنِ والِانخِراطِ في الحَياةِ الِاجتِماعيّةِ البَشَريّةِ.
يَتَّضِحُ مِن هذا أنَّ وَظِيفةَ الإنسانِ الفِطرِيّةَ إنَّما هي التَّـكَمُّلُ بـ”التَّعَلُّمِ”، أي التَّرَقِّي عن طَريقِ كَسْبِ العِلمِ والمَعرِفةِ، والدُّعاءِ والعُبُودِيّةِ، أي أن يُدرِكَ بنَفسِه ويَستَفسِرَ: “برَحمةِ مَن وشَفَقَتِه أُدارَى بهذه الرِّعايةِ الحَكِيمةِ؟! وبمَكْرُمةِ مَن وسَخائِه أُرَبَّى هذه التَّربيةَ المُفعَمةَ بالشَّفَقةِ والرَّحمةِ؟! وبأَلطافِ مَن وبجُودِه أُغَذَّى بهذه الصُّورةِ الرّازِقةِ الرَّقيقةِ؟!”.
فيَرَى أنَّ وَظِيفتَه حَقًّا هي الدُّعاءُ والتَّضَرُّعُ والتَّوَسُّلُ والرَّجاءُ بلِسانِ الفَقرِ والعَجْزِ إلى قاضي الحاجاتِ لِيَقضِيَ له طَلَباتِه وحاجاتِه الَّتي لا تَصِلُ يَدُه إلى واحِدةٍ مِنَ الأَلفِ مِنها.. وهذا يعني أنَّ وَظيفَتَه الأَساسَ هي التَّحليقُ والِارتِفاعُ بجَناحَيِ “العَجْزِ والفَقْرِ” إلى مَقامِ العُبُوديّةِ السّامي.
إذًا فلقد جِيء بهذا الإنسانِ إلى هذا العالَمِ لِأَجلِ أن يَتَكامَلَ بالمَعرِفةِ والدُّعاءِ، لأنَّ كلَّ شيءٍ فيه مُوَجَّهٌ إلى العِلمِ، ومُتَعلِّقٌ بالمَعرِفةِ حَسَبَ الماهِيّةِ والِاستِعدادِ؛ فأَساسُ كلِّ العُلُومِ الحَقيقيّةِ ومَعدِنُها ونُورُها ورُوحُها هو “مَعرِفةُ اللهِ تَعالَى”، كما أنَّ أُسَّ هذا الأَساسِ هو “الإيمانُ باللهِ جلَّ وعَلا.”
وحيثُ إنَّ الإنسانَ مُعَرَّضٌ لِما لا يُحصَى مِن أَنواعِ البَلايا والمَصائبِ ومُهاجَمةِ الأَعداءِ معَ ما يَحمِلُ مِن عَجْزٍ مُطلَقٍ، وله مَطالِبُ كَثيرةٌ وحاجاتٌ عَدِيدةٌ مع أنَّه في فَقْرٍ مُدقِعٍ لا نِهايةَ له؛ لِذا تكُونُ وَظيفَتُه الفِطرِيّةُ الأَساسُ “الدُّعاءَ” بعدَ الإيمانِ، وهو أَساسُ العِبادةِ ومُخُّها.. فكما يَلْجَأُ الطِّفلُ -العاجِزُ عن تَحقيقِ مَرامِه أو تَنفيذِ رَغبَتِه بما لا تَصِلُ إلَيه يَدُه- إلى البُكاءِ والعَوِيلِ، أو يَطلُبُ مَأمُولَه، أي: يدعو بلسان عجزه إمَّا قَولًا أو فِعلًا فيُوَفَّقُ إلى مَقصُودِه ذاك، كذلك الإنسانُ الَّذي هو أَلْطَفُ أَنواعِ الأَحياءِ وأَعجَزُها وأَفقَرُها وهو بمَنزِلةِ صَبِيٍّ ضَعِيفٍ لَطِيفٍ، فلا بُدَّ له مِن أن يَأوِيَ إلى كَنَفِ الرَّحمٰنِ الرَّحيمِ والِانطِراحِ بينَ يَدَيهِ إمّا باكِيًا مُعَبِّـرًا عن ضَعفِه وعَجزِه، أو داعيًا بفَقرِه واحتِياجِه، حتى تُلَبَّى حاجَتُه وتُنفَّذَ رَغبَتُهُ؛ وعِندَئذٍ يكُونُ قد أَدَّى شُكرَ تلك الإغاثاتِ والتَّلبِياتِ والتَّسخِيراتِ.
وإلَّا فإذا قالَ بغُرُورٍ كالطِّفلِ الأَحمَقِ: “أنا أَتَمكَّنُ أن أُسَخِّرَ جَميعَ هذه الأَشياءِ وأَستَحوِذَ علَيها بأَفكاري وتَدبِيري” وهي الَّتي تَفُوقُ أُلُوفَ المَرّاتِ قُوَّتَه وطاقَتَه! فلَيس ذلك إلَّا كُفرانًا بنِعَمِ اللهِ تَعالَى، ومَعصِيةً كَبِيرةً تُنافي الفِطرةَ الإنسانيّةَ وتُناقِضُها، وسَبَبًا لِجَعْلِ نَفسِه مُستَحِقًّا لِعَذابٍ أَليمٍ.
النُّقطة الخامسة [الإيمان يستلزم الدعاء]
كما أنَّ الإيمانَ يَقتَضِي “الدُّعاء”، ويَجْعَلُهُ وَسِيلةً قاطِعةً ووَساطةً بينَ المُؤمِنِ ورَبِّه، وكما أنَّ الفِطرةَ الإنسانيّةَ تَتَلهَّفُ إلَيه بشِدّةٍ وشَوْقٍ، فإنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى أيضًا يَدعُو الإنسانَ إلى الأَمرِ نَفسِه بقَولِه: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾، وبقَولِه تَعالَى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾.
ولَعلَّك تقُولُ: “إنَّنا كَثِيرًا مّا نَدعُو اللهَ فلا يُستَجابُ لنا رَغمَ أنَّ الآيةَ عامّةٌ تُصَرِّحُ بأنَّ كلَّ دُعاءٍ مُستَجابٌ”!.
الجَوابُ: إنَّ استِجابةَ الدُّعاءِ شيءٌ، وقَبُولَه شيءٌ آخَرُ؛ فكُلُّ دُعاءٍ مُستَجابٌ، إلَّا أنَّ قَبُولَه وتَنفِيذَ المَطلُوبِ نَفسِه مَنُوطٌ بحِكمةِ اللهِ سُبحانَه.
فمَثلًا: يَستَصرِخُ طِفلٌ عَليلٌ الطَّبِيبَ قائلًا: أيُّها الطَّبيبُ.. انظُرْ إلَيَّ وقُمْ بفَحْصِي. فيقُولُ الطَّبيبُ: أَمرُك يا صَغِيري. فيقُولُ الطِّفلُ: أَعطِني هذا الدَّواءَ. فالطَّبيبُ حِينَذاك إمَّا أن يُعطِيَه الدَّواءَ نفسَه، أو يُعطيَه دَواءً أَكثَرَ نَفعًا وأَفضلَ له، أو يَمنَعَ عنه العِلاجَ نِهائيًّا، وذلك حَسَبَ ما تَقتَضِيه الحِكمةُ والمَصلَحةُ.
وكذلك الحَقُّ تَبارَكَ وتَعالَى -ولَه المَثَلُ الأَعلَى- فلِأَنَّه حَكِيمٌ مُطلَقٌ ورَقيبٌ حَسِيبٌ في كلِّ آنٍ، فهو سُبحانَه يَستَجِيبُ دُعاءَ العَبدِ، وباستِجابَتِه يُزِيلُ وَحْشَتَه القاتِمةَ وغُربَتَه الرَّهيبةَ، مُبَدِّلًا إيّاها أَمَلًا وأُنسًا واطمِئنانًا؛ وهو سُبحانَه إمّا أن يَقبَلَ مَطلَبَ العَبدِ ويَستَجِيبَ لِنَفسِ دُعائِه مُباشَرةً، أو يَمنَحَه أَفضَلَ مِنه، أو يَرُدَّه، وذلك حَسَبَ اقتِضاءِ الحِكمةِ الرَّبّانيّةِ، لا حَسَبَ أَهواءِ العَبدِ المُتَحَكِّمةِ وأَمانيِّه الفاسِدةِ.
وكذا، فالدُّعاءُ هو ضَرْبٌ مِنَ العُبُودِيّةِ، وثِمارُ العُبُودِيّةِ وفَوائدُها أُخرَوِيّةٌ؛ أمّا المَقاصِدُ الدُّنيَويّةُ فهي “أَوقاتُ” ذلك النَّوعِ مِنَ الدُّعاءِ والعِبادةِ، ولَيسَت غاياتِها.
فمَثلًا: صَلاةُ الِاستِسقاءِ نَوعٌ مِنَ العِبادةِ، وانقِطاعُ المَطَرِ هو وَقتُ تلك العِبادةِ، فلَيسَت تلك العِبادةُ وذلك الدُّعاءُ لِأَجلِ نُزُولِ المَطَرِ. فلو أُدِّيَتْ تلك العِبادةُ لِأَجلِ هذه النِّـيّةِ وَحدَها إذًا لَكانَت غيرَ حَرِيَّةٍ بالقَبُولِ، حيثُ لم تكُن خالِصةً لِوَجهِ اللهِ تَعالَى..
وكذا وَقتُ غُرُوبِ الشَّمسِ هو إعلانٌ عن صلاةِ المَغرِبِ، ووَقتُ كُسُوفِ الشَّمسِ وخُسُوفِ القَمَرِ هو وَقتُ صَلاةِ الكُسُوفِ والخُسُوفِ. أي: إنَّ اللهَ سُبحانَه يَدعُو عِبادَه إلى نَوعٍ مِنَ العِبادةِ لِمُناسَبةِ انكِسافِ آيةِ النَّهارِ وانخِسافِ آيةِ اللَّيلِ اللَّتَينِ تُومِئانِ وتُعلِنانِ عَظَمتَه سُبحانَه.. وإلَّا فلَيسَت هذه العِبادةُ لِانجِلاءِ الشَّمسِ والقَمَرِ الَّذي هو مَعلُومٌ عِندَ الفَلَكيِّ.. فكما أنَّ الأَمرَ في هذا هكذا، فكذلك وَقتُ انحِباسِ المَطَرِ هو وَقتُ صَلاةِ الِاستِسقاءِ، وتَهافُتُ البَلايا وتَسَلُّطُ الشُّرُورِ والأَشياءِ المُضِرّةِ هو وَقتُ بعضِ الأَدعيةِ الخاصّةِ، حيثُ يُدرِكُ الإنسانُ حِينَئذٍ عَجْزَه وفَقْرَه فيَلُوذُ بالدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ إلى بابِ القَديرِ المُطلَقِ.. وإذا لم يَدفَعِ اللهُ سُبحانَه تلك البَلايا والمَصائبَ والشُّرُورَ مع الدُّعاءِ المُلِحِّ، فلا يُقالُ: إنَّ الدُّعاءَ لم يُستَجَبْ، بل يُقالُ: إنَّ وَقتَ الدُّعاءِ لم يَنقَضِ بَعدُ. وإذا ما رَفَع سُبحانَه بفَضلِه وكَرَمِه تلك البَلايا وكَشَفَ الغُمّةَ فقدِ انتَهَى وَقتُ الدُّعاءِ إذًا وانقَضَى.
وبهذا: فالدُّعاءُ سِرٌّ مِن أَسرارِ العُبُودِيّةِ، والعُبُودِيّةُ لا بُدَّ أن تكُونَ خالِصةً لِوَجهِ اللهِ، بأن يَأوِيَ الإنسانُ إلى ربِّه بالدُّعاءِ مُظهِرًا عَجْزَه، مع عَدَمِ التَّدَخُّلِ في إجراءاتِ رُبُوبيَّتِه، أو الِاعتِراضِ علَيها؛ وتَسليمُ الأَمرِ والتَّدبِيرِ كُلِّه إلَيه وَحدَه، معَ الِاعتِمادِ على حِكمَتِه مِن دُونِ اتِّهامٍ لرَحمَتِه ولا القُنُوطِ مِنها.
نعم، لقد ثَبَت بالآياتِ البَيِّناتِ أنَّه مِثلَما أنَّ المَوجُوداتِ في وَضعِ تَسبِيحٍ للهِ تَعالَى، كلٌّ بتَسبِيحٍ خاصٍّ، في عِبادةٍ خاصّةٍ، في سُجُودٍ خاصٍّ، فكذلك تُرفَعُ أَدعِيةٌ مِن جَمِيعِ الكائِناتِ إلى كَنَفِ رَبٍّ عَظِيمٍ: إمّا عن طَرِيقِ “لِسانِ الِاستِعدادِ والقابِليّةِ”، كدُعاءِ جَميعِ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ قاطِبةً، حيثُ يَبتَغي كلُّ واحِدٍ مِنها مِنَ الفَيَّاضِ المُطلَقِ صُورةً مُعيَّنةً له فيها مَعانٍ لأَسمائِه الحُسنَى؛ أو عن طَريقِ “لِسانِ الحاجةِ الفِطرِيّةِ” كأَدعِيةِ جَميعِ أَنواعِ الأَحياءِ للحُصُولِ على حاجاتِها الضَّرُورِيّةِ الَّتي هي خارِجةٌ عن قُدرَتِها.
فيَطلُبُ كلُّ حَيٍّ مِنَ الجَوادِ المُطلَقِ بلِسانِ حاجَتِه الفِطرِيّةِ عَناصِرَ استِمرارِ وُجُودِه الَّتي هي بمَثابةِ رِزقِه، أو عن طَرِيقِ “لِسانِ الِاضطِرارِ”، كدُعاءِ المُضطَـرِّ الَّذي يَتَضرَّعُ تَضَرُّعًا كامِلًا إلى مَولاه وَراءَ الحُجُبِ، بل لا يَتَوجَّهُ إلَّا إلى رَبِّه الرَّحِيمِ الَّذي يُلَبِّي حاجَتَه ويَقبَلُ الْتِجاءَه.. فهذه الأَنواعُ الثَّلاثةُ مِنَ الدُّعاءِ مَقبُولةٌ إن لم يَطرَأْ علَيها ما يَجعَلُها غيرَ مَقبُولةٍ. والنَّوعُ الرّابعُ مِنَ الدُّعاء، هو “دُعاؤُنا” المَعرُوفُ، فهو أيضًا نَوعانِ:
أحدُهما: دُعاءٌ فِعلِيٌّ وحاليٌّ.
وثانيهما: دُعاءٌ قَلبيٌّ وقَوليٌّ.
فمَثلًا: الأَخذُ بالأَسبابِ هو دُعاءٌ فِعليٌّ، عِلمًا أنَّ اجتِماعَ الأَسبابِ ليس المُرادُ مِنه إيجادَ المُسَبَّبِ، وإنَّما هو لِاتِّخاذِ وَضعٍ مُلائمٍ ومُرْضٍ للهِ سُبحانَه لِطَلَبِ المُسَبَّبِ مِنه بلِسانِ الحالِ. حتَّى إنَّ الحِراثةَ بمَنزِلةِ طَرْقِ بابِ خَزِينةِ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ؛ ونَظَرًا لِكَونِ هذا النَّوعِ مِنَ الدُّعاءِ الفِعلِيِّ مُوَجَّهٌ نحوَ اسمِ الجَوادِ المُطلَقِ وإلى عُنوانِه فهو مَقبُولٌ لا يُرَدُّ في أَكثَرِ الأَحيانِ.
أمّا القِسمُ الثاني: فهو الدُّعاءُ باللِّسانِ والقَلبِ، أي: طَلَبُ الحُصُولِ على المَطالِبِ والحاجاتِ الَّتي لا تَصِلُ إلَيها اليَدُ.. فأَهَمُّ جِهةٍ لهذا الدُّعاءِ وأَلطَفُ غاياتِه وأَلَذُّ ثَمَراتِه هو أنَّ الدّاعِيَ يُدرِكُ أنَّ هناك مَن يَسمَعُ خَواطِرَ قَلبِه، وتَصِلُ يَدُه إلى كلِّ شيءٍ، ومَن هو القادِرُ على تَلبِيةِ جَميعِ رَغَباتِه وآمالِه، ومَن يَرحَمُ عَجْزَه ويُواسِي فَقْرَه.
فيا أيُّها الإنسانُ العاجِزُ الفَقيرُ.. إيّاك أن تَتَخلَّى عن مِفتاحِ خَزِينةِ رَحمةٍ واسِعةٍ ومَصدَرِ قُوّةٍ مَتينةٍ، ألا وهو الدُّعاءُ، فتَشَبَّثْ به لِتَرتَقِيَ إلى أَعلَى عِلِّيِّي الإنسانيةِ، واجعَلْ دُعاءَ الكائناتِ جُزءًا مِن دُعائِك، ومِن نَفسِك عَبدًا كُلِّـيًّا ووَكِيلًا عامًّا بقَولِك: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وكُن أَحسَنَ تَقوِيمٍ لِهذا الكَونِ.
المبحث الثاني [حول سعادة الإنسان وشقاوته]
وهو عِبارةٌ عن خمسِ نِكاتٍ تَدُورُ حَولَ سَعادةِ الإنسانِ وشَقاوَتِه:
إنَّ الإنسانَ نَظَرًا لِكَونِه مَخلُوقًا في أَحسَنِ تَقوِيمٍ، ومَوهُوبًا بأَتَمِّ استِعدادٍ جامِعٍ، فإنَّه أُلقِيَ في مَيدانِ الِامتِحانِ هذا كي يَتَمكَّنَ مِن الدُّخُولِ ضِمنَ مَقاماتٍ ومَراتِبَ ودَرَجاتٍ ودَرَكاتٍ مَصفُوفةٍ، ابتِداءً مِن سِجِّينَ “أَسفَلِ سافِلينَ” إلى رِياضِ “أَعلَى عِلِّـيِّينَ”، فيَسمُو أو يَتَردَّى، ويَرقَى أو يَهوِي ضِمنَ دَرَجاتٍ مِنَ الثَّرَى إلى العَرشِ الأَعلَى، مِنَ الذَّرّةِ إلى المَجَرّةِ، إذ قد فُسِحَ المَجالُ أَمامَه للسُّلُوكِ في نَجدَينِ لا نِهايةَ لهما للصُّعُودِ والهُبُوطِ؛ وهكذا أُرسِلَ هذا الإنسانُ إلى الدُّنيا مُعجِزةَ قُدرةٍ، ونَتيجةَ خِلقةٍ، وأُعجُوبةَ صَنْعةٍ.
وسنُبيِّنُ هنا أَسرارَ هذا التَّرقِّي والعُرُوجِ الرّائعِ، أوِ التَّدَنِّي والسُّقُوطِ المُرعِبِ في “خَمسِ نِكاتٍ.”
النُّكتة الأولى [الإنسان أضعف الموجودات وأخطر الموجودات]
إنَّ الإنسانَ مُحتاجٌ إلى أَكثَرِ أَنواعِ الكائناتِ، وهو ذُو عَلاقةٍ صَمِيميّةٍ معَها، فلقدِ انتَشَرَت حاجاتُه في كلِّ طَرَفٍ مِنَ العالَمِ، وامتَدَّتْ رَغَباتُه وآمالُه إلى حيثُ الأَبَدُ، فمِثلَما يَطلُبُ أُقحُوانةً يَطلُبُ أيضًا رَبِيعًا زاهِيًا فَسِيحًا، ومِثلَما يَرغَبُ في مَرْجٍ مُبهِجٍ يَرغَبُ أيضًا في الجَنّةٍ الأَبَديّةِ، ومِثلَما يَتَلهَّفُ لرُؤْيةِ مَحبُوبٍ له يَشتاقُ أيضًا ويَتُوقُ إلى رُؤيةِ الجَمِيلِ ذِي الجَلالِ، ومِثلَما أنَّه مُحتاجٌ إلى فَتحِ بابِ غُرفةٍ لرُؤيةِ صَدِيقٍ حَمِيمٍ قابعٍ فيها، فهو مُحتاجٌ أيضًا إلى زِيارةِ عالَمِ البَرزَخِ الَّذي يَقبَعُ فيه تِسعٌ وتِسعُون بالمِئةِ مِن أَحبابِه وأَقرانِه، كما هو مُحتاجٌ إلى اللَّواذِ ببابِ القَديرِ المُطلَقِ الَّذي سيُغلِقُ بابَ الكَونِ الواسِعَ ويَفتَحُ بابَ الآخِرةِ الزّاخِرةِ والمَحشُورةِ بالعَجائبِ، والَّذي سيَرفَعُ الدُّنيا ليَضَعَ مَكانَها الآخِرةَ إنقاذًا لهذا الإنسانِ المِسكِينِ مِن أَلَمِ الفِراقِ الأَبَديِّ.
لِذا فلا مَعبُودَ لِهذا الإنسانِ -وهذا وَضْعُه- إلّا مَن بيَدِه مَقاليدُ الأُمُورِ كُلِّها، ومَن عِندَه خَزائنُ كلِّ شيءٍ، وهو الرَّقيبُ على كلِّ شيءٍ، وحاضِرٌ في كلِّ مَكانٍ، ومُنزَّهٌ مِن كلِّ مَكانٍ، ومُبَرَّأٌ مِنَ العَجزِ، ومُقَدَّسٌ مِنَ القُصُورِ، ومُتَعالٍ عنِ النَّقصِ، وهو القادِرُ ذُو الجَلالِ، وهو الرَّحيمُ ذُو الجَمالِ، وهو الحَكِيمُ ذُو الكَمالِ؛ ذلك لأنَّه لا يَستَطِيعُ أَحَدٌ تَلبِيةَ حاجاتِ إنسانٍ بآمالٍ ومَطامِحَ غيرِ مَحدُودةٍ إلّا مَن له قُدرةٌ لا نِهايةَ لها وعِلمٌ مُحِيطٌ شامِلٌ لا حُدُودَ له، فإذاً لا يَستَحِقُّ العِبادةَ إلّا هو.
فيا أيُّها الإنسانُ.. إذا آمَنتَ باللهِ وَحدَه وأَصبَحتَ عبدًا له وَحدَه، فُزْتَ بمَوقِعٍ مَرمُوقٍ فوقَ جَميعِ المَخلُوقاتِ؛ أمَّا إذا استَنكَفْتَ مِنَ العُبُودِيّةِ وتَجاهَلْتَها فسوف تكُونُ عَبْدًا ذَليلًا أمامَ المَخلُوقاتِ العاجِزةِ، وإذا ما تَباهَيتَ بقُدرَتِك وأَنانيَّتِك، وتَخَلَّيتَ عنِ الدُّعاءِ والتَّوكُّلِ، وتَكبَّرتَ وزِغتَ عن طَرِيقِ الحَقِّ والصَّوابِ، فستكُونُ أَضعَفَ مِنَ النَّملةِ والنَّحلةِ مِن جِهةِ الخَيرِ والإيجادِ، بل أَضعَفَ مِنَ الذُّبابةِ والعَنكَبُوتِ، وستكُونُ أَثقَلَ مِنَ الجَبَلِ وأَضَرَّ مِنَ الطّاعُونِ مِن جِهةِ الشَّرِّ والتَّخرِيبِ.
نعم، أيُّها الإنسانُ.. إنَّ فيك جِهَتَينِ:
الأُولى: جِهةُ الإيجادِ والوُجُودِ والخَيرِ والإيجابيّةِ والفِعلِ.
والأُخرَى: جِهةُ التَّخرِيبِ والعَدَمِ والشَّرِّ والسَّلبيّةِ والِانفِعالِ.
فعلى اعتِبارِ الجِهةِ الأُولَى (جِهةِ الإيجادِ) فإنَّك أَقَلُّ شَأنًا مِنَ النَّحلةِ والعُصفُورِ، وأَضعَفُ مِنَ الذُّبابةِ والعَنكَبُوتِ؛ أمَّا على اعتِبارِ الجِهةِ الثّانيةِ (جِهةِ التَّخرِيبِ) فبِاستِطاعَتِك أن تَتَجاوَزَ الأَرضَ والجِبالَ والسَّماواتِ، وبوُسعِكَ أن تَحمِلَ على عاتِقِك ما أَشفَقْنَ مِنه فتَكسِبَ دائرةً أَوسَعَ ومَجالًا أَفسَحَ، لأنَّك عِندَما تقُومُ بالخَيرِ والإيجادِ فإنَّك تَعمَلُ على سَعةِ طاقَتِك وبقَدْرِ جُهدِك وبمَدَى قُوَّتِك، أمّا إذا قُمتَ بالإساءةِ والتَّخرِيبِ، فإنَّ إساءَتَكَ تَتَجاوَزُ وتَستَشرِي، وإنَّ تَخرِيبَك يَعُمُّ ويَنتَشِرُ.
فمَثلًا: الكُفرُ إساءةٌ وتَخرِيبٌ وتَكذِيبٌ، ولكِنَّ هذه السَّيِّئةَ الواحِدةَ تُفضِي إلى تَحقِيرِ جَميعِ الكائناتِ وازدِرائِها واستِهجانِها، وتَتَضمَّنُ أيضًا تَزيِيفَ جَميعِ الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ الحُسنَى وإنكارَها، وتَتَمخَّضُ كذلك عن إهانةِ الإنسانيّةِ وتَرذِيلِها؛ ذلك لأنَّ لهذه المَوجُوداتِ مَقامًا عاليًا رَفيعًا، ووَظِيفةً ذاتَ مَغزًى، حيثُ إنَّها مَكاتيبُ رَبّانيّةٌ، ومَرايا سُبحانيّةٌ، ومُوَظَّفاتٌ مَأمُوراتٌ إلٰهِيّةٌ.. فالكُفرُ فَضلًا عن إسقاطِه تلك المَوجُوداتِ مِن مَرتَبةِ التَّوظِيفِ ومَنزِلةِ التَّسخِيرِ ومُهِمّةِ العُبُودِيّةِ، فإنَّه كذلك يُرْدِيها إلى دَرْكِ العَبَثِ والمُصادَفةِ ولا يَرَى لها قِيمةً ووَزنًا بما يَعتَرِيها مِن زَوالٍ وفِراقٍ يُبدِّلانِ ويُفَسِّخانِ بتَخرِيبِهما وأَضرارِهما المَوجُوداتِ إلى مَوادَّ فانيةٍ تافِهةٍ عَقيمةٍ لا أَهَمِّيّةَ لها ولا جَدوَى مِنها؛ وهو في الوَقتِ نَفسِه يُنكِرُ الأَسماءَ الإلٰهِيّةَ ويَتَجاهَلُها، تلك الأَسماءَ الَّتي تَتَراءَى نُقُوشُها وتَجَلِّياتُها وجَمالاتُها في مَرايا جَميعِ الكائناتِ.
حتَّى إنَّ ما يُطلَقُ علَيه: “الإنسانيّةُ” الَّتي هي قَصِيدةٌ حَكِيمةٌ مَنظُومةٌ تُعلِنُ إعلانًا لَطِيفًا جَميعَ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ القُدسِيّةِ، وهي مُعجِزةُ قُدرةٍ باهِرةٍ جامِعةٍ كالنَّواةِ لِأَجهِزةِ شَجَرةٍ دائمةٍ باقيةٍ؛ هذه “الإنسانيّةُ” يَقذِفُها الكُفرُ مِن صُورَتِها الحَيّةِ الَّتي تَفَوَّقَتْ بها على الأَرضِ والجِبالِ والسَّماواتِ بما أَخَذَتْ على عاتِقِها مِنَ الأَمانةِ الكُبْرَى وفُضِّلَتْ على المَلائكةِ وتَرَجَّحَت علَيها حتَّى أَصبَحَت صاحِبةَ مَرتَبةِ خِلافةِ الأَرضِ.. يَقذِفُها مِن هذه القِمّةِ السّامِيةِ العاليةِ إلى دَرَكاتٍ هي أَذَلُّ وأَدنَى مِن أيِّ مَخلُوقٍ ذَليلٍ فانٍ عاجِزٍ ضَعِيفٍ فَقِيرٍ، بل يُردِيها إلى دَرْكةِ أَتفَهِ الصُّوَرِ القَبيحةِ الزّائلةِ سَرِيعًا.
وخُلاصةُ القَولِ: إنَّ النَّفسَ الأَمّارةَ بإمكانِها اقتِرافُ جِنايةٍ لا نِهايةَ لها في جِهةِ الشَّرِّ والتَّخرِيبِ، أمّا في الخَيرِ والإيجادِ فإنَّ طاقَتَها مَحدُودةٌ وجُزئيّةٌ؛ إذِ الإنسانُ يَستَطِيعُ هَدْمَ بَيتٍ في يومٍ واحِدٍ، إلّا أنَّه لا يَستَطِيعُ أن يُشَيِّدَه في مِئةِ يومٍ، أمّا إذا تَخَلَّى الإنسانُ عنِ الأَنانيّةِ، وطَلَبَ الخَيرَ والوُجُودَ مِنَ التَّوفيقِ الإلٰهِيِّ، وأَرْجَعَ الأَمرَ إلَيه، وابتَعَد عنِ الشَّرِّ والتَّخرِيبِ، وتَرَك اتِّباعَ هَوَى النَّفسِ، فاكتَمَلَ عَبدًا للهِ تَعالَى تائبًا مُستَغفِرًا، ذاكِرًا له سُبحانَه، فسيَكُونُ مَظهَرًا للآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾، فتَنقَلِبُ القابِليّةُ العُظمَى عِندَه للشَّرِّ إلى قابِليّةٍ عُظمَى للخَيرِ، ويَكتَسِبُ قيمةَ “أَحسَنِ تَقوِيمٍ”، فيُحَلِّقُ عاليًا إلى أَعلَى عِلِّـيِّينَ.
أيُّها الإنسانُ الغافِلُ.. انظُر إلى فَضلِ الحَقِّ تَبارَك وتَعالَى وكَرَمِه، ففي الوَقتِ الَّذي تَقتَضِي العَدالةُ أن يَكتُبَ السَّيِّئةَ مِئةَ سَيِّئةٍ ويَكتُبَ الحَسَنةَ حَسَنةً واحِدةً أو لا يَكتُبَها، فهو -جَلَّت قُدرَتُه- يَكتُبُ السَّيِّئةَ سَيِّئةً واحِدةً والحَسَنةَ يَزِنُها بعَشرِ أَمثالِها أو بسَبعِينَ أو بسَبعِ مِئةٍ أو بسَبعةِ آلافِ أَمثالِها.
فافْهَمْ مِن هذه النُّكتةِ أنَّ الدُّخُولَ في جَهَنَّمَ هو جَزاءُ عَمَلٍ وهو عَينُ العَدالةِ، وأمّا دُخُولُ الجَنّةِ فهو فَضْلٌ إلٰهِيٌّ مَحْضٌ ومَكرُمةٌ خالِصةٌ، ومَرحَمةٌ بَحتةٌ.
النُّكتة الثانية [الإنسان بين أنانيته وعبوديته]
في الإنسانِ وَجهانِ:
الأولُ: جِهةُ الأَنانيّةِ المَقصُورةِ على الحَياةِ الدُّنيا.
والآخَرُ: جِهةُ العُبُودِيّةِ المُتَوَجِّهةِ إلى الحَياةِ الأَبَديّةِ.
فهو على اعتِبارِ الوَجهِ الأَوَّلِ مَخلُوقٌ مِسكِينٌ، إذ رَأسُ مالِه مِنَ الإرادةِ الجُزئيّةِ جُزءٌ ضَئِيلٌ كالشَّعرةِ، وله مِنَ الِاقتِدارِ كَسْبٌ ضَعِيفٌ، وله مِنَ الحَياةِ شُعلةٌ لا تَلبَثُ أن تَنطَفِئَ، وله مِنَ العُمُرِ مُدّةٌ عابِرةٌ خاطِفةٌ، وله مِنَ الوُجُودِ جِسمٌ يَبلَى بسُرعةٍ؛ ومع هذا فالإنسانُ فَردٌ لَطِيفٌ رَقيقٌ ضَعيفٌ مِن بينِ الأَفرادِ غيرِ المَحدُودةِ والأَنواعِ غيرِ المَعدُودةِ المُتَراصّةِ في طَبَقاتِ الكائناتِ.
أمّا على اعتِبارِ الوَجهِ الثّاني وخاصّةً مِن حيثُ العَجزُ والضَّعفُ المُتَوجِّهانِ إلى العُبُودِيّةِ، فهو يَتَمتَّعُ بفُسحةٍ واسِعةٍ، وأَهَمِّيّةٍ عَظِيمةٍ جِدًّا، لأنَّ الفاطِرَ الحَكِيمَ قد أَودَعَ في ماهِيَّتِه المَعنَوِيّةِ عَجْزًا عَظِيمًا لا نِهايةَ له، وفَقْرًا جَسِيمًا لا حَدَّ له، وذلك ليكُونَ مِرآةً واسِعةً جامِعةً جِدًّا للتَّجَلِّياتِ غيرِ المَحدُودةِ “للقَدِيرِ الرَّحيمِ” الَّذي لا نِهايةَ لقُدرَتِه ورَحمَتِه، و “للغَنيِّ الكَريمِ” الَّذي لا مُنتَهَى لغِناه وكَرَمِه.
نعم، إنَّ الإنسانَ يُشبِهُ البِذرةَ، فلقد وُهِبَت للبِذرةِ أَجهِزةٌ مَعنَوِيّةٌ مِن لَدُنِ “القُدرة”، وأُدرِجَت فيها خُطّةٌ دَقيقةٌ ومُهِمّةٌ جِدًّا مِن لَدُنِ “القَدَر”، لتَتَمكَّنَ مِنَ العَمَلِ داخِلَ التُّربةِ، مِنَ النُّمُوِّ والتَّرَعرُعِ والِانتِقالِ مِن ذلك العالَمِ المُظلِمِ الضَّيِّقِ إلى عالَمِ الهَواءِ الطَّليقِ والدُّنيا الفَسِيحةِ، وأَخيرًا التَّوَسُّلِ والتَّضَرُّعِ لخالِقِها بلِسانِ الِاستِعدادِ والقابِليّاتِ لكي تَصِيرَ شَجَرةً، والوُصُولِ إلى الكَمالِ اللّائقِ بها، فإذا قامَت هذه البِذرةُ بجَلْبِ المَوادِّ المُضِرّةِ بها، وصَرفِ أَجهِزَتِها المَعنَوِيّةِ الَّتي وُهِبَت لها إلى تلك المَوادِّ الَّتي لا تَعنِيها بشيءٍ، وذلك لِسُوءِ مِزاجِها وفَسادِ ذَوقِها، فلا شَكَّ أنَّ العاقبةَ تكُونُ وَخِيمةً جدًّا؛ إذ لا تَلبَثُ أن تَتَعفَّنَ دُونَ فائدةٍ، وتَبلَى في ذلك المَكانِ الضَّيِّقِ؛ أمّا إذا أَخضَعَتْ أَجهِزَتَها المَعنَويّةَ لِتَتَمثَّل أَمرَ ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ التَّكوِينيَّ وأَحسَنَتِ استِعمالَها، فإنَّها ستَنبَثِقُ مِن عالَمِها الضَّيِّقِ لِتَكتَمِلَ شَجَرةً مُثمِرةً باسِقةً، ولِتأخُذَ حَقيقتُها الجُزئيّةُ ورُوحُها المَعنَويّةُ الصَّغيرةُ صُورَتَها الحَقيقيّةَ الكُلِّـيَّةَ الكَبِيرةَ.
فكما أنَّ البِذرةَ هكذا فالإنسانُ كذلك، فقد أُودِعَتْ في ماهِيَّتِه أَجهِزةٌ مُهِمّةٌ مِن لَدُنِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ، ومُنِحَ بَرامِجَ دَقيقةً وثَمِينةً مِن لَدُنِ القَدَرِ الإلٰهِيِّ؛ فإذا أَخطَأ هذا الإنسانُ التَّقدِيرَ والِاختِيارَ، وصَرَف أَجهِزَتَه المَعنويةَ تحتَ ثَرَى الحَياةِ الدُّنيا وفي عالَمِ الأَرضِ الضَّيِّقِ المَحدُودِ، إلى هَوَى النَّفسِ، فسوف يَتَعفَّنُ ويَتَفسَّخ كتلك البِذرةِ المُتَعفِّنةِ، لِأَجلِ لَذّةٍ جُزئيّةٍ ضِمنَ عُمُرٍ قَصِيرٍ وفي مكانٍ مَحصُورٍ وفي وَضعٍ مُتَأَزِّمٍ مُؤلِمٍ، وستَتَحمَّلُ رُوحُه المِسكِينةُ تَبِعاتِ المَسؤُوليّةِ المَعنَوِيّةِ، فيَرحَلُ مِنَ الدُّنيا خائبًا خاسِرًا.
أمّا إذا رَبَّى الإنسانُ بِذرةَ استِعدادِه وسَقاها بماءِ الإسلامِ، وغَذّاها بضِياءِ الإيمانِ تحتَ تُرابِ العُبُودِيّةِ مُوَجِّهًا أَجهِزَتَه المَعنَوِيّةَ نحوَ غاياتِها الحَقيقيّةِ بامتِثالِ الأَوامِرِ القُرآنيّةِ.. فلا بُدَّ أنَّها ستَنشَقُّ عن أَوراقٍ وبَراعِمَ وأَغصانٍ تَمتَدُّ فُرُوعُها وتَتَفتَّحُ أَزاهِيرُها في عالَمِ البَرزَخِ، وتَتوَلَّدُ في عالَمِ الآخِرةِ وفي الجَنّةِ نِعَمًا وكَمالاتٍ لا حَدَّ لها، فيُصبِحُ الإنسانُ بِذرةً قيِّمةً حاوِيةً على أَجهِزةٍ جامِعةٍ لِحَقيقةٍ دائمةٍ ولِشَجَرةٍ باقيةٍ، ويَغدُو آلةً نَفيسةً ذاتَ رَونَقٍ وجَمالٍ، وثَمَرةً مُبارَكةً مُنَوَّرةً لِشَجَرةِ الكَونِ.
نعم، إنَّ السُّمُوَّ والرُّقيَّ الحَقيقيَّ إنَّما هو بتَوجيهِ القَلبِ، والسِّرِّ، والرُّوحِ، والعَقلِ، وحتَّى الخَيالِ وسائرِ القُوَى المَمنُوحةِ للإنسانِ، إلى الحَياةِ الأَبَديّةِ الباقيةِ، واشتِغالِ كلٍّ مِنها بما يَخُصُّه ويُناسِبُه مِن وَظائفِ العُبُودِيّةِ. أمّا ما يَتَوهَّمُه أَهلُ الضَّلالةِ سُمُوًّا، مِنَ الِانغِماسِ في تَفاهاتِ الحَياةِ والتَّلَذُّذِ بمَلَذّاتِها الهابِطةِ، والِانكِبابِ على جُزئيّاتِ لَذّاتِها الفانيةِ دُونَ الِالتِفاتِ إلى جَمالِ الكُلِّيّاتِ ولَذائذِها الباقيةِ الخالِدة، مُسَخِّرِين القَلبَ والعَقلَ وسائرَ اللَّطائفِ الإنسانيّةِ تَحتَ إِمرةِ النَّفسِ الأَمّارةِ بالسُّوءِ، وتَسيِيرِها جَميعًا لِخِدْمَتِها، فإنَّ هذا لا يَعني رُقيًّا قطُّ، بل هو سُقُوطٌ وهُبُوطٌ وانحِطاطٌ.
ولقد رَأَيتُ هذه الحَقيقةَ في واقِعةٍ خَياليّةٍ كهذا المِثالِ:
دَخَلتُ في مَدِينةٍ عَظِيمةٍ، وَجَدتُ فيها قُصُورًا فَخمةً ودُورًا ضَخمةً، وكانَت تُقامُ أَمامَ القُصُورِ والدُّورِ حَفَلاتٌ ومَهرَجاناتٌ وأَفراحٌ تَجلِبُ الأَنظارَ كأنَّها مَسارِحُ ومَلاهٍ، فلها جاذِبيّةٌ وبَهرَجةٌ؛ ثمَّ أَمعَنتُ النَّظَرَ فإذا صاحِبُ القَصرِ واقِفٌ أَمامَ البابِ وهو يُداعِبُ كَلبَه ويُلاعِبُه، والنِّساءُ يَرقُصْنَ مع الشَّبابِ الغُرَباءِ، وكانَتِ الفَتَياتُ اليافِعاتُ يُنَظِّمْنَ أَلعابَ الأَطفالِ، وبَوَّابُ القَصرِ قدِ اتَّخَذَ طَوْرَ المُشرِفِ يقُودُ هذا الحَشْدَ. فأَدرَكتُ أنَّ هذا القَصرَ خالٍ مِن أَهلِه، وأنَّه قد عُطِّلَت فيه الوَظائفُ والواجِباتُ، فهؤلاء السّارِحُون مِن ذَوِيه السّادِرُون في غَيِّهم قد سَقَطَتْ أَخلاقُهم وماتَت ضَمائِرُهم وفَرَغَت عُقُولُهم وقُلُوبُهم، فأَصبَحُوا كالبَهائمِ يَهِيمُون على وُجُوهِهم ويَلعَبُون أَمامَ القَصرِ.
ثمَّ مَشَيتُ قَليلًا ففاجَأَني قَصرٌ آخَرُ: رَأَيتُ كَلبًا وَفِيًّا مُستَلقِيًا على عَتَبةِ بابِه، ومعَه بَوّابٌ شَهمٌ وَقُورٌ هادِئٌ، ولَيس أَمامَ القَصرِ ما يُثيرُ الِانتِباهَ، فتَعَجَّبتُ مِن هذا الهُدُوءِ والسَّكينةِ واستَغرَبتُ! واستَفسَرتُ عنِ السَّبَبِ، فدَخَلتُ القَصرَ فوَجَدتُه عامِرًا بأَهلِه، فهناك الوَظائفُ المُتَبايِنةُ والواجِباتُ المُهِمّةُ الدَّقيقةُ يُنجِزُها أَهلُ القَصرِ، كلٌّ في طابِقِه المُخَصَّصِ له في جَوٍّ مِنَ البَهاءِ والهَناءِ والصَّفاءِ بحيثُ يَبعَثُ في الفُؤادِ الفَرحةَ والبَهجةَ والسَّعادةَ؛ ففي الطّابِقِ الأَوَّلِ هناك رِجالٌ يَقُومُون بإدارةِ القَصرِ وتَدبِيرِ شُؤُونِه، وفي طابِقٍ أَعلَى هناك البَناتُ والأَولادُ يَتَعلَّمُون ويَتَدارَسُون، وفي الطّابِقِ الثّالثِ السَّيِّداتُ يَقُمنَ بأَعمالِ الخِياطةِ والتَّطرِيزِ ونَسجِ الزَّخارِفِ المُلَوَّنةِ والنُّقُوشِ الجَميلةِ على أَنواعِ المَلابِسِ؛ أمّا الطّابِقُ الأَخيرُ فهُناك صاحِبُ القَصرِ يَتَّصِلُ هاتِفِيًّا بالمَلِكِ لِتَأمِينِ الرّاحةِ والسَّلامةِ والحَياةِ الحُرّةِ العَزِيزةِ المَرضِيّةِ لِأَهلِ القَصرِ، كلٌّ يُمارِسُ أَعمالَه حَسَبَ اختِصاصِه، ويُنجِزُ وَظائفَه اللّائِقةَ بمَكانَتِه المُلائِمةِ بكَمالِه ومَنزِلَتِه.
ونَظَرًا لِكَوني مَحجُوبًا عنهم فلم يَمنَعْني أَحَدٌ مِنَ التَّجَوُّلِ في أَنحاءِ القَصرِ، لِذا استَطلَعتُ الأُمُورَ بحُرِّيّةٍ تامّةٍ، ثمَّ غادَرتُ القَصرَ وتَجَوَّلتُ في المَدِينةِ، فرَأَيتُ أنَّها مُنقَسِمةٌ إلى هَذَينِ النَّوعَينِ مِنَ القُصُورِ والبِناياتِ، فسَأَلتُ عن سَبَبِ ذلك أيضًا فقِيلَ لي: “إنَّ النَّوعَ الأَوَّلَ مِنَ القُصُورِ الخاليةِ مِن أَهلِها والمُبَهرَجِ خارِجُها والمُزَيَّنةِ سُطُوحُها وأَفنِيَتُها، ما هي إلّا مَأْوَى أَئمّةِ الكُفرِ والضَّلالةِ؛ أمّا النَّوعُ الثّاني مِنَ القُصُورِ فهي مَساكِنُ أَكابِرِ المُؤمِنين مِن ذَوِي الغَيرةِ والشَّهامةِ والنَّخوةِ”، ثمَّ رَأَيتُ قَصْرًا في زاوِيةٍ مِن زَوايا المَدِينةِ مَكتُوبٌ علَيه اسمُ “سَعيدٍ”، فتَعَجَّبتُ، وعِندَما أَمعَنتُ النَّظَرَ أَبصَرتُ كأنَّ صُورَتي قد تَراءَت لي، فصَرَختُ مِن دَهشَتي واستَرْجَعتُ عَقْلي وأَفَقتُ مِن خَيالي.
وأُرِيدُ أن أُفَسِّرَ بتَوفيقِ اللهِ هذه الواقِعةَ الخَياليّةَ:
فتلكَ المَدِينةُ هي الحَياةُ الِاجتِماعيّةُ البَشَريّةُ، ومَدينةُ الحَضارةِ الإنسانيّةِ، وكلُّ قَصرٍ مِن تلك القُصُورِ عِبارةٌ عن إنسانٍ، أمّا أَهلُ القَصرِ فهم جَوارِحُ الإنسانِ كالعَينِ والأُذُنِ، ولَطائِفُه كالقَلبِ والسِّرِّ والرُّوحِ، ونَوازِعُه كالهَوَى والقُوّةِ الشَّهوانيّةِ والغَضَبيّةِ؛ وكلُّ لَطِيفةٍ مِن تلك اللَّطائفِ مُعَدّةٌ لِأَداءِ وَظِيفةِ عُبُودِيّةٍ مُعَيَّنةٍ، ولها لَذائِذُها وآلامُها؛ أمّا النَّفسُ والهَوَى والقُوّةُ الشَّهوانيّةُ والغَضَبيّةُ فهي بحُكْمِ البَوّابِ وبمَثابةِ الكَلبِ الحارِسِ.. فإخضاعُ تلك اللَّطائفِ السّامِيةِ إذًا لِأَوامِرِ النَّفسِ والهَوَى، وطَمْسُ وَظائفِها الأَصلِيّةِ لا شَكَّ يُعتَبَرُ سُقُوطًا وانحِطاطًا وليس تَرَقِّيًا وصُعُودًا.. وقِسْ أنت سائرَ الجِهاتِ علَيْها.
النُّكتة الثالثة [معنى “أحسن تقويم”]
إنَّ الإنسانَ -مِن جِهةِ الفِعلِ والعَمَلِ، وعلى أَساسِ السَّعيِ المادِّيِّ- حَيَوانٌ ضَعيفٌ ومَخلُوقٌ عاجِزٌ، دائرةُ تَصَرُّفاتِه وتَمَلُّكِه في هذه الجِهةِ مَحدُودةٌ وضَيِّقةٌ، فهي على مَدِّ يَدِه القَصِيرةِ، حتَّى إنَّ الحَيَواناتِ الأَليفةَ الَّتي أُعطِيَ زِمامُها بيَدِ الإنسانِ قد تَسَرَّبَ إلَيها مِن ضَعفِ الإنسانِ وعَجْزِه وكَسَلِه حِصّةٌ كَبِيرةٌ، فلَو قِيسَ مَثلًا الغَنَمُ والبَقَرُ الأَهلِيُّ بالغَنَمِ والبَقَرِ الوَحشِيِّ لَظَهَر فَرقٌ هائلٌ وبَونٌ شاسِعٌ.
إلَّا أنَّ الإنسانَ مِن جِهةِ الِانفِعالِ والقَبُولِ والدُّعاءِ والسُّؤالِ ضَيفٌ عَزِيزٌ كَرِيمٌ في دارِ ضِيافةِ الدُّنيا، قدِ استَضافَه المَولَى الكَرِيمُ ضِيافةً كَرِيمةً، حتَّى فَتَح له خَزائنَ رَحمَتِه الواسِعةَ، وسَخَّرَ له خَدَمَه ومَصنُوعاتِه البَدِيعةَ غيرَ المَحدُودةِ، وهَيَّأَ لِتَنزُّهِه واستِجمامِه ومَنافِعِه دائرةً عَظِيمةً واسِعةً جِدًّا، نِصفُ قُطْرِها مَدُّ البَصَرِ، بل مَدُّ انبِساطِ الخَيالِ.
فإذا استَنَد الإنسانُ إلى أَنانيَّتِه وغُرُورِه واتَّخَذ الحَياةَ الدُّنيا غايةَ آمالِه، وكان جُهدُه وكَدُّه لِأَجلِ الحُصُولِ على لَذّاتٍ عاجِلةٍ في سَعيِه وَراءَ مَعِيشَتِه، فسوف يَغرَقُ في دائرةٍ ضَيِّقةٍ، ويَذهَبُ سَعيُه أَدراجَ الرِّياحِ، وستَشْهَدُ علَيه يومَ الحَشرِ جَميعُ الأَجهِزةِ والجَوارِحِ واللَّطائفِ الَّتي أُودِعَتْ فيه شاكِيةً ضِدَّه، ساخِطةً ثائِرةً علَيه.
أمّا إذا أَدرَكَ أنَّه ضَيفٌ عَزِيزٌ، وتَحَرَّكَ ضِمنَ دائرةِ مَرضاةِ مَن نَزَل علَيه ضَيْفًا وهو الكَرِيمُ ذُو الجَلالِ، وصَرَفَ رَأسَ مالِ عُمُرِه ضِمنَ الدّائرةِ المَشرُوعةِ، فسوف يكُونُ نَشاطُه وعَمَلُه ضِمنَ دائرةٍ فَسِيحةٍ رَحْبةٍ جِدًّا تَمتَدُّ إلى الحَياةِ الأَبَديّةِ الخالِدةِ، وسيَعِيشُ سالِمًا آمِنًا مُطمَئِنًّا، ويَتَنفَّسُ الصُّعَداءَ ويَستَروِحُ، وبإمكانِهِ الصُّعُودُ والرُّقيُّ إلى أَعلَى عِلِّـيِّينَ، وسيَشهَدُ له في الآخِرةِ ما مَنَحَه اللهُ مِنَ الأَجهِزةِ والجَوارِحِ واللَّطائفِ.
نعم، إنَّ الأَجهِزةَ الَّتي زُرِعَت في الإنسانِ لَيسَت لِهذه الحَياةِ الدُّنيا التّافِهةِ، وإنَّما أُنعِمَ علَيه بها لِحَياةٍ باقيةٍ دائمةٍ، لها شَأْنُها وأَيُّ شَأنٍ؛ ذلك لِأَنَّنا إذا قارَنَّا بينَ الإنسانِ والحَيَوانِ نَرَى أنَّ الإنسانَ أَغنَى مِنَ الحَيَوانِ بكَثيرٍ مِن حَيثُ الأَجهِزةُ والآلاتُ بمَئةِ مَرّةٍ، ولكِنَّه مِن حيثُ لَذَّتُه وتَمَتُّعُه بالحَياةِ الدُّنيا أَفقَرُ مِنه بمِئةِ دَرَجةٍ، لأنَّ الإنسانَ يَجِدُ في كلِّ لَذّةٍ يَلْتَذُّ بها ويَتَذوَّقُها آثارَ آلافٍ مِنَ الآلامِ والمُنَغِّصاتِ؛ فهناك آلامُ الماضِي، ومَخاوِفُ المُستَقبَلِ، وهناك الآلامُ النّاتِجةُ مِن زَوالِ اللَّذّاتِ.. كلُّ ذلك يُفسِدُ علَيه مِزاجَه وأَذواقَه، ويُكَدِّرُ علَيه صَفْوَه ونَشْوَتَه، حيثُ يَتْرُكُ في لَذائِذِه أَثرًا للأَلَمِ، بَينَما الحَيَوانُ ليس كذلك، فهو يَتَلذَّذُ دُونَ أَلَمٍ، ويَتَذوَّقُ الأَشياءَ صافِيةً دُونَ تَكَدُّرٍ وتَعَكُّرٍ، فلا تُعَذِّبُه آلامُ الماضِي ولا تُرهِبُه مَخاوِفُ المُستَقبَلِ، فيَعِيشُ مُرتاحًا ويَغفُو هانِئًا شاكِرًا خالِقَه حامِدًا له.
إذًا فالإنسانُ الَّذي خُلِقَ في “أَحسَنِ تَقوِيمٍ” إذا حَصَر فِكرَه في الحَياةِ الدُّنيا وَحدَها، فسيَهبِطُ ويَتَّضِعُ ويُصبِحُ أقلَّ شَأنًا بمِئةِ دَرَجةٍ مِن حَيَوانٍ كالعُصفُورِ وإن كانَ أَسمَى وأَتَمَّ مِنَ الحَيَوانِ مِن حيثُ رَأسُ مالِه بمِئةِ دَرَجةٍ.. ولقد وَضَّحتُ هذه الحَقيقةَ بمَثَلٍ أَورَدتُه في مَوضِعٍ آخَرَ، وسأُعيدُه هنا بالمُناسَبةِ:
إنَّ رَجُلًا مَنَح خادِمَه عَشرَ لَيراتٍ ذَهبِيّةٍ، وأَمَره أن يُفَصِّلَ لِنَفسِه حُلّةً مِن قِماشٍ مُعَيَّنٍ، وأَعطَى لِخادِمِه الآخَرِ أَلفَ لَيرةٍ ذَهبِيّةٍ، إلَّا أنَّه أَرفَقَ بالمَبلَغِ قائِمةً صَغيرةً فيها ما يَطلُبُه مِنه، ووَضَع المَبلَغَ والقائِمةَ في جَيبِ الخادِمِ، وبَعَثَهما إلى السُّوقِ؛ اشتَرَى الخادِمُ الأَوَّلُ حُلّةً أَنيقةً كامِلةً مِن أَفخَرِ الأَقمِشةِ البَدِيعةِ بعَشْرِ لَيراتٍ، أمَّا الخادِمُ الثّاني فقد قَلَّدَ الخادِمَ الأَوَّلَ وحَذا حَذْوَه، ومِن حَماقَتِه وسَخافةِ عَقْلِه لم يُراجِعِ القائِمةَ المَوجُودةَ لَدَيه، فدَفَع لِصاحِبِ مَحَلٍّ كلَّ ما عِندَه (أَلفَ لَيرةٍ)، وطَلَب مِنه حُلّةً أَنِيقةً كامِلةً، ولكنَّ البائِعَ غيرَ المُنصِفِ اختارَ له حُلّةً مِن أَردَأِ الأَنواعِ، وعِندَما قَفَل هذا الخادِمُ الشَّقِيُّ راجِعًا إلى سَيِّدِه، ووَقَف بينَ يَدَيه، عَنَّفَه سَيِّدُه أَشَدَّ التَّعنِيفِ وأنَّبَه أَقسَى التَّأنِيبِ وعَذَّبَه عَذابًا أَليمًا.
فالَّذي يَملِكُ أَدنَى شُعُورٍ وأَقلَّ فِطْنةٍ يُدرِكُ مُباشَرةً أنَّ الخادِمَ الثانِيَ الَّذي مُنِحَ أَلفَ لَيرةٍ لم يُرْسَل إلى السُّوقِ لِشِراءِ حُلّةٍ، وإنَّما للِاتِّجارِ في تِجارةٍ مُهِمّةٍ جِدًّا.
فكذلك الإنسانُ الَّذي وُهِبَت له هذه الأَجهِزةُ المَعنَوِيّةُ واللَّطائفُ الإنسانيّةُ الَّتي إذا ما قِيسَت كلُّ واحِدةٍ مِنها بما في الحَيَوانِ لَظَهَرتْ أنَّها أَكثَرُ انبِساطًا وأَكثَرُ مَدًى بمِئةِ مَرّةٍ.
فمَثلًا: أين عَينُ الإنسانِ الَّتي تُميِّـزُ جَميعَ مَراتِبِ الحُسنِ والجَمالِ؟ وأين حاسَّتُه الذَّوقيّةُ الَّتي تُميِّـزُ بينَ مُختَلِفِ المَطعُوماتِ بلَذائذِها الخاصّةِ؟ وأين عَقلُه الَّذي يَنفُذُ إلى قَرارةِ الحَقائقِ وإلى أَدَقِّ تَفاصِيلِها؟ وأين قَلبُه المُشتاقُ المُتَلهِّفُ إلى جَميعِ أَنواعِ الكَمالِ؟ أين كلُّ هذه الأَجهِزةِ وأَمثالُها مِمّا في الآلاتِ الحَيَوانيّةِ البَسِيطةِ الَّتي قد لا تَنكَشِفُ إلَّا لِحَدِّ مَرتَبتَينِ أو ثَلاثٍ!! فيما عَدا الأَعمالَ الخاصّةَ المُناطةَ بجِهازٍ خاصٍّ في حَيَوانٍ مُعَيَّنٍ، والَّذي يُؤَدِّي عَمَلَه بشَكلٍ قد يَفضُلُ ما عِندَ الإنسانِ الَّذي ليس مِن مُهِمَّتِه مِثلُ هذه الأَعمالِ والوَظائفِ.
والسِّرُّ في وَفْرَةِ الأَجهِزةِ الَّتي مُنِحَت للإنسانِ وغِناها هو أنَّ حَواسَّ الإنسانِ ومَشاعِرَه قدِ اكتَسَبَت قُوّةً ونَماءً وانكِشافًا وانبِساطًا أَكثَرَ، لِما يَملِكُ مِنَ الفِكرِ والعَقلِ، فقد تَبايَنَ كَثيرًا مَدَى استِقطابِ حَواسِّه، نَظَرًا لِتَبايُنِ احتِياجاتِه وكَثرَتِها، لِذا تَنَوَّعَت أَحاسِيسُه وتَعَدَّدَت مَشاعِرُه؛ ولِأَنَّه يَملِكُ فِطرةً جامِعةً فقد أَصبَحَ مِحْورًا لِآمالٍ ورَغَباتٍ عِدّةٍ، ومَدارًا للتَّوَجُّهِ إلى مَقاصِدَ شَتَّى؛ ونَظَرًا لِكَثرةِ وَظائفِه الفِطرِيّةِ فقدِ انفَرَجَت أَجهِزَتُه وتَوَسَّعَت.. وبسَبَبِ فِطرَتِه البَدِيعةِ المُهَيَّأةِ لِشَتَّى أَنواعِ العِبادةِ فقد مُنِحَ استِعدادًا جامِعًا لِبُذُورِ الكَمالِ، لِذا لا يُمكِنُ أن يُمنَحَ هذه الأَجهِزةَ الوَفيرةَ إلى هذه الدَّرَجةِ الكَثيفةِ لِتَحصِيلِ هذه الحَياةِ الدُّنيَويّةِ المُؤَقَّتةِ الفانيةِ فحَسْبُ، بل لا بُدَّ أنَّ الغايةَ القُصوَى لهذا الإنسانِ هي أن يَفِيَ بحَقِّ وَظائفِه المُتَطَلِّعةِ إلى مَقاصِدَ لا نِهايةَ لها، وأن يُعلِنَ عن عَجزِه وفَقرِه أَمامَ اللهِ تَعالَى بعُبُودِيَّتِه، وأن يَرَى بنَظَرِه الواسِعِ تَسبِيحاتِ المَوجُوداتِ، فيَشهَدَ على ذلك ويَطَّلِعَ على ما تُمِدُّه الرَّحمةُ الإلٰهِيّةُ مِن إنعامٍ وآلاءٍ فيَشكُرَ اللهَ علَيها، وأن يُعايِنَ مُعجِزاتِ القُدرةِ الرَّبّانيّةِ في هذه المَصنُوعاتِ فيَتَفكَّرَ فيها ويَتَأمَّلَ ويَنظُرَ إلَيها نَظَرَ العِبرةِ والإعجابِ.
فيا عابِدَ الدُّنيا وعاشِقَ الحَياةِ الفانيةِ الغافِلَ عن سِرِّ “أَحسَنِ تَقوِيمٍ”.. استَمِعْ إلى هذه الواقِعةِ الخَياليّةِ الَّتي تَتَمثَّلُ فيها حَقيقةُ حَياةِ الدُّنيا، تلك الواقِعةِ التَّمثِيليّةِ الَّتي رَآها “سَعِيدٌ القَدِيمُ” فحَوَّلَتْه إلى “سَعِيدٍ الجَدِيدِ” وهي: أنِّي رَأَيتُ نَفسِي كأنِّي أُسافِرُ في طَرِيقٍ طَوِيلةٍ، أي: أُرسَلُ إلى مَكانٍ بَعِيدٍ، وكان سيِّدي قد خَصَّص لي مِقدارَ ستِّين لَيرةً ذَهَبيّةً يَمنَحُني مِنها كلَّ يومٍ شيئًا، حتَّى دَخَلتُ إلى فُندُقٍ فيه مَلهًى، فطَفِقتُ أُبذِّرُ ما أَملِكُ، وهي عَشْرُ لَيراتٍ، في لَيلةٍ واحِدةٍ على مائِدةِ القِمارِ والسَّهَرِ في سَبِيلِ الشُّهرةِ والإعجابِ، فأَصبَحتُ وأنا صِفرُ اليَدَينِ لم أتَّجِرْ بشَيءٍ، ولم آخُذْ شيئًا مِمّا سأَحتاجُ إلَيه في المَكانِ الَّذي أَقصِدُه، فلم أُوَفِّرْ لِنَفسِي سِوَى الآلامِ والخَطايا الَّتي تَرَسَّبَتْ مِن لَذّاتٍ غيرِ مَشرُوعةٍ، وسِوَى الجُرُوحِ والغُصَّاتِ والآهاتِ الَّتي تَرَشَّحَت مِن تلك السَّفاهاتِ والسَّفالاتِ..
وبَينَما أنا في هذه الحالةِ الكَئيبةِ الحَزِينةِ البائِسةِ، إذ تَمَثَّل أَمامي رَجُلٌ فقالَ: “أَنفَقتَ جَميعَ رَأسِ مالِك سُدًى، وصِرتَ مُستَحِقًّا للعِقابِ، وستَذهَبُ إلى البَلَدِ الَّذي تُرِيدُه خاوِيَ اليَدَينِ؛ فإن كُنتَ فَطِنًا وذا بَصِيرةٍ فبابُ التَّوبةِ مَفتُوحٌ لم يُغلَقْ بَعدُ، فبِإمكانِك أن تَدَّخِرَ نِصفَ ما تَحصُلُ علَيه مِمّا بَقِي لك مِنَ اللَّيراتِ الخَمْسَ عَشْرةَ لِتَشتَرِيَ بَعضًا مِمّا تَحتاجُ إلَيه في ذلك المَكانِ..” فاستَشَرتُ نَفسِي فإذا هي غيرُ راضِيةٍ بذلك، فقال الرَّجُلُ: “فادَّخِرْ إذًا ثُلُثَه”. ولكن وَجَدتُ نَفسِي غيرَ راضِيةٍ بهذا أيضًا، فقال: “فادَّخِرْ رُبُعَه”، فرَأَيتُ نَفسِي لا تُرِيدُ أن تَدَع العادةَ الَّتي ابتُلِيَتْ بها، فأَدارَ الرَّجُلُ رَأسَه وأَدبَر في حِدّةٍ وغَيظٍ ومَضَى في طَرِيقِه.
ثمَّ رَأَيتُ كأَنَّ الأُمُورَ قد تَغَيَّرَت، فرَأَيتُ نَفسِي في قِطارٍ يَنطَلِقُ مُنحَدِرًا بسُرعةٍ فائقةٍ في داخِلِ نَفَقٍ تحتَ الأَرضِ، فاضْطَرَبتُ مِن دَهشَتي، ولكِن لا مَناصَ لي حيثُ لا يُمكِنُني الذَّهابُ يَمِينًا ولا شِمالًا، ومِنَ الغَرِيبِ أنَّه كانَت تَبدُو على طَرَفَيِ القِطارِ أَزهارٌ جَمِيلةٌ جَذّابةٌ وثِمارٌ لَذِيذةٌ مُتَنوِّعةٌ، فمَدَدتُ يَدِي -كالأَغبِياءِ- نحوَها أُحاوِلُ قَطْفَ أَزهارِها والحُصُولَ على ثَمَراتِها، إلّا أنَّها كانَت بَعِيدةَ المَنالِ، الأَشواكُ فيها انغَرَزَتْ في يَدِي بمُجَرَّدِ مُلامَسَتِها فأَدْمَتْها وجَرَحَتْها، والقِطارُ كان ماضِيًا بسُرعةٍ فائقةٍ، فآذَيتُ نَفسِي مِن دُونِ فائدةٍ تَعُودُ علَيَّ، فقال أَحَدُ مُوَظَّفي القِطارِ: “أَعطِني خَمسةَ قُرُوشٍ لِأَنتَقِيَ لك الكَمِيّةَ المُناسِبةَ الَّتي تُرِيدُها مِن تلك الأَزهارِ والأَثمارِ، فإنَّك تَخسَرُ بجُرُوحِك هذه أَضعافَ أَضعافِ ما تَحصُلُ علَيه بخَمسةِ قُرُوشٍ، فَضْلًا عن أنَّ هناك عِقابًا على صَنِيعِك هذا، حيثُ إنَّك تَقطِفُها مِن غيرِ إذنٍ”، فاشتَدَّ علَيَّ الكَرْبُ في تلك الحالةِ. فنَظَرتُ أَتَطَلَّعُ مِنَ النّافِذةِ إلى الأَمامِ لِأَتعَرَّفَ إلى نِهايةِ النَّفَقِ، فرَأَيتُ أنَّ هناك نَوافِذَ كَثيرةً وثُغُورًا عِدّةً قد حَلَّت مَحَلَّ نِهايةِ النَّفَقِ، وأنَّ مُسافِرِي القِطارِ يُقذَفُون خارِجًا مِنَ القِطارِ إلى تلك الثُّغُورِ والحُفَرِ، ورَأَيتُ أن ثَغْرًا يُقابِلُني أنا بالذّاتِ أُقِيمَ على طَرَفَيه حَجَرٌ أَشبَهُ ما يكُونُ بشَواهِدِ القَبْرِ، فنَظَرتُ إلَيها بكلِّ دِقّةٍ وإمعانٍ، فرَأَيتُ أنَّه قد كُتِبَ علَيهما بحُرُوفٍ كَبِيرةٍ اسمُ “سَعِيد”، فصَرَختُ مِن فَرَقي وحَيْرَتي: يا وَيلاه!! وآنَذاك سَمِعتُ صَوتَ ذلك الرَّجُلِ الَّذي أَطالَ علَيَّ النُّصْحَ في بابِ المَلهَى وهو يقُولُ: “هلِ استَرجَعْتَ عَقلَك يا بُنيَّ وأَفَقْتَ مِن سَكرَتِك؟” فقُلتُ: “نعم، ولكن بعدَ فَواتِ الأَوانِ، بعدَ أن خارَتْ قُوايَ ولَم يَبْقَ لي حَولٌ ولا قُوّةٌ”. فقال: “تُبْ وتَوَكَّلْ” فقُلتُ: “قد فَعَلتُ”. ثمَّ أَفَقْتُ وقدِ اختَفَى سَعيدٌ القَدِيمُ ورَأَيتُ نَفسِي سَعِيدًا جَدِيدًا.
ونَرجُو مِنَ اللهِ أن يَجَعَل هذه الواقِعةَ الخَياليّةَ خَيرًا، وسأُفَسِّرُ قِسمًا مِنها وعلَيك تَفسيرُ الباقي، وهو: أنَّ ذلك السَّفَرَ هو السَّفَرُ الَّذي يَمُرُّ مِن عالَمِ الأَرواحِ، ومِن أَطوارِ عالَمِ الرَّحِمِ، ومِنَ الشَّبابِ، ومِنَ الشَّيخُوخةِ، ومِنَ القَبْرِ، ومِنَ البَرزَخِ، إلى الحَشْرِ وإلى الصِّراطِ وإلى أَبَدِ الآبادِ؛ وتلك اللَّيراتُ الذَّهَبيّةُ البالِغةُ سِتِّينَ هي العُمُرُ البالِغُ سِتِّين عامًا؛ وحِينَما رَأَيتُ تلك الواقِعةَ الخَياليّةَ كُنتُ في الخامِسةِ والأَربَعين مِنَ العُمُرِ حَسَبَ ظَنِّي، ولم يكُن لي سَنَدٌ ولا حُجّةٌ مِن أن أَعيشَ إلى السِّتِّين مِنَ العُمُرِ، إلّا أنَّه أَرشَدَني أَحَدُ تَلاميذِ القُرآنِ المُخلِصين أن أُنفِقَ نِصفَ ما بَقِي مِنَ العُمُرِ الغالِبِ -وهو خَمسةَ عَشَرَ عامًا- في سَبِيلِ الآخِرةِ.. وذلك الفُندُقُ هو مَدِينةُ إسطَنبُولَ بالنِّسبةِ إلَيَّ.. وذلك القِطارُ هو الزَّمَنُ، وكلُّ عامٍ بمَنزِلةِ عَرَبةٍ مِنه.. وذلك النَّفَقُ هو الحَياةُ الدُّنيا.. وتلك الأَزهارُ والثِّمارُ الشّائكةُ هي اللَّذّاتُ غيرُ المَشرُوعةِ واللَّهوُ المَحظُورُ، فالأَلَمُ الحاصِلُ مِن تَصَوُّرِ الزَّوالِ حِينَ الوِصالِ يُدمِي القَلبَ ويُمَزِّقُه أثناءَ الفِراقِ، ويُعَرِّضُه للعُقُوبةِ أيضًا؛ وإنَّ مَعنَى ما قالَه الخادِمُ في القِطارِ: “أَعطِني خَمسةَ قُرُوشٍ أُعطِك مِن أَحسَنِ ما تَحتاجُه” هو: أنَّ اللَّذّاتِ والأَذواقَ الَّتي يَحصُلُ علَيها الإنسانُ عن طَرِيقِ السَّعيِ الحَلالِ ضِمنَ الدّائرةِ المَشرُوعةِ كافيةٌ لِسَعادَتِه وهَنائِه وراحَتِه، فلا يَدَعُ مَجالًا للدُّخُولِ في الحَرامِ.. ويُمكِنُك أن تُفَسِّرَ ما بَقِي.
النُّكتة الرابعة [في ضعف الإنسان قوةٌ عظيمة وأنه سر التسخير]
إنَّ الإنسانَ في هذا الكَونِ أَشبَهُ ما يكُونُ بالطِّفلِ الضَّعيفِ المَحبُوبِ، يَحمِلُ في ضَعفِه قُوّةً كَبِيرةً، وفي عَجْزِه قُدرةً عَظِيمةً، لأنَّه بقُوّةِ ذلك الضَّعْفِ وقُدرةِ ذلك العَجزِ سُخِّرَت له هذه المَوجُوداتُ وانقادَت؛ فإذا ما أَدرَكَ الإنسانُ ضَعْفَه ودَعا رَبَّه قَوْلًا وحالًا وطَوْرًا، وأَدرَكَ عَجْزَه فاستَنجَد واستَغاثَ رَبَّه، فسَيُؤَدِّي الشُّكرَ والثَّناءَ على ذلك التَّسخِيرِ، وسيُوفَّقُ إلى مَطلُوبِه، وستَخْضَعُ له مَقاصِدُه وتَتَحقَّقُ مَآرِبُه، وتأتي إلَيه طائِعةً مُنقادةً، مع أنَّه يَعجِزُ عن أن يَنالَ بقُدرَتِه الذّاتيّةِ الجُزئيّةِ المَحدُودةِ بل ولا يَتَسنَّى له عُشرُ مِعشارِ ذلك، إلّا أنَّه يُحِيلُ -خَطَأً- أَحيانًا ما نالَه بدُعاءِ لِسانِ الحالِ إلى قُدرَتِه الذّاتيّةِ.
وعلى سَبِيلِ المِثالِ: إنَّ القُوّةَ الكامِنةَ في ضَعفِ فَرْخِ الدَّجاجِ تَجعَلُ أُمَّه تَدفَعُ عنه الأَسَدَ، وإنَّ القُوّةَ الكامِنةَ في ضَعفِ شِبلِ الأَسَدِ تُسَخِّـرُ أُمَّه المُفتَرِسةَ الضّارِيةَ لِنَفسِه، بحيثُ يَبقَى الأَسَدُ يَتَضوَّرُ مِنَ الجُوعِ بَينَما يَشبَعُ هو معَ صِغَرِه وضَعفِه.. وإنَّه لَجَديرٌ بالمُلاحَظةِ: القُوّةُ الهائِلةُ في الضَّعفِ، بل حَرِيٌّ بالمُشاهَدةِ والإعجابِ: تَجَلِّي الرَّحمةِ في ذلك الضَّعفِ.
وكما أنَّ الطِّفلَ المَحبُوبَ الرَّقيقَ يَحصُلُ بضَعفِه على شَفَقةِ الآخَرِين، وببُكائِه على مَطالِبِه، فيَخضَعُ له الأَقوِياءُ والسَّلاطِينُ، فيَنالُ ما لا يُمكِنُه أن يَنالَ واحِدًا مِنَ الأَلفِ مِنه بقُوَّتِه الضَّئيلةِ؛ فضَعفُه وعَجزُه إذًا هما اللَّذانِ يُحَرِّكانِ ويُثيرانِ الشَّفَقةَ والحِمايةَ بحَقِّه، حتَّى إنَّه يُذَلِّلُ بسَبّابَتِه الصَّغيرةِ الكِبارَ، ويَنقادُ إلَيه المُلُوكُ والأُمَراءُ.
فلو أَنكَرَ ذلك الطِّفلُ تلك الشَّفَقةَ واتَّهَم تلك الحِمايةَ، وقال بحَماقةٍ وغُرُورٍ: “أنا الَّذي سَخَّرتُ كلَّ هؤلاء الأَقوِياءِ بقُوَّتي وإرادَتي!”، فلا شَكَّ أنَّه يَستَحِقُّ أن يُقابَلَ باللَّطمةِ والصَّفعةِ؛ وكذلك الإنسانُ إذا أَنكَرَ رَحمةَ خالِقِه واتَّهَم حِكمَتَه وقالَ مِثلَ ما قالَ قارُونُ جاحِدًا النِّعمةَ: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾، فلا شَكَّ أنَّه يُعرِّضُ نَفسَه للعَذابِ. فهذه المَنزِلةُ والسَّلطَنةُ الَّتي يَتَمتَّعُ بها الإنسانُ، وهذه التَّرقِّياتُ البَشَريّةُ والآفاقُ الحَضارِيّةُ لَيسَت ناشِئةً مِن تَفَوُّقِه وقُوّةِ جِدالِه وهَيمَنةِ غَلَبَتِه ولا هو بجالِبٍ لها، بل مُنِحتْ للإنسانِ لِضَعفِه ومُدَّت له يدُ المُعاوَنةِ لِعَجزِه، وأُحسِنَتْ إلَيه لِفَقْرِه، وأُكرِمَ بها لِاحتِياجِه؛ وإنَّ سَبَب تلك السَّلطَنةِ ليس بما يَملِكُ مِن قُوّةٍ ولا بما يَقدِرُ علَيه مِن عِلمٍ، بل هو الشَّفَقةُ والرَّأفةُ الرَّبّانيّةُ، والرَّحمةُ والحِكْمةُ الإلٰهِيّةُ، الَّتي سَخَّرَت له الأَشياءَ وسَلَّمَتْها إلَيه.
نعم، إنَّ الإنسانَ المَغلُوبَ أَمامَ عَقرَبٍ بلا عُيُونٍ، وحَيّةٍ بلا أَرجُلٍ، لَيسَت قُدرَتُه هي الَّتي أَلْبَسَتْه الحَرِيرَ مِن دُودةٍ صَغِيرةٍ وأَطعَمَتْه العَسَلَ مِن حَشَرةٍ سامّةٍ؛ وإنَّما ذلك ثَمَرةُ ضَعفِه النّاتِجةُ مِنَ التَّسخِيرِ الرَّبّانِيِّ والإكرامِ الرَّحمانِيِّ.
فيا أيُّها الإنسانُ.. ما دامَتِ الحَقيقةُ هكذا، فدَعْ عنك الغُرُورَ والأَنانيّةَ، وأَعلِنْ أَمامَ عَتَبةِ بابِ الأُلُوهيّةِ عَجزَك وضَعفَك، أَعلِنْهما بلِسانِ الِاستِمدادِ، وأَفصِحْ عن فَقْرِك وحاجَتِك بلِسانِ التَّضَرُّعِ والدُّعاءِ، وأَظهِرْ بأنَّك عبدٌ للهِ خالِصٌ قائلًا: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾، فارتَفِعْ وارتَقِ في مَدارِجِ العُلا.
ولا تقُلْ: “أنا لَستُ بشَيءٍ! وما أَهَمِّيَّتي حتَّى يُسَخَّرَ لي هذا الكَونُ مِن لَدُنِ الحَكيمِ العَليمِ عن قَصدٍ وعِنايةٍ، وحتَّى يُطلَبَ مِنِّي الشُّكرُ الكُلِّيُّ؟!”، ذلك وإن كُنتَ بحَسَبِ نَفسِك وصُورَتِك الظّاهِرِيّةِ في حُكمِ العَدَمِ، إلّا أنَّك بحَسَبِ وَظِيفَتِك ومَنزِلَتِك مُشاهِدٌ فَطِنٌ، ومُتَفرِّجٌ ذَكِيٌّ على الكائناتِ العَظِيمةِ.. وأنَّك اللِّسانُ النّاطِقُ البَلِيغُ يَنطِقُ باسمِ هذه المَوجُوداتِ الحَكِيمةِ.. وأنَّك القارِئُ الدّاهِي والمُطالِعُ النَّبِيهُ لِكِتابِ العالَمِ هذا.. وأنَّك المُشرِفُ المُتَفكِّرُ في هذه المَخلُوقاتِ المُسَبِّحةِ.. وأنَّك بحُكمِ الأُستاذِ الخَبِيرِ والمِعمارِ الكَريمِ لهذه المَصنُوعاتِ العابِدةِ السّاجِدةِ.
نعم، أيُّها الإنسانُ.. إنَّك مِن جِهةِ جِسمِك النَّباتِيِّ ونَفسِك الحَيَوانيّةِ جُزءٌ صَغيرٌ وجُزئيٌّ حَقيرٌ ومَخلُوقٌ فَقيرٌ وحَيَوانٌ ضَعيفٌ تَخُوضُ في الأَمواجِ الهادِرةِ لِهذه المَوجُوداتِ المُتَزاحِمةِ المُدهِشةِ؛ إلّا أنَّك مِن حيثُ إنسانيَّتُك المُتَكامِلةُ بالتَّربيةِ الإسلاميّةِ، المُنَوَّرةُ بنُورِ الإيمانِ المُتَضَمِّنِ لِضِياءِ المَحَبّةِ الإلٰهِيّةِ سُلطانٌ في هذه العَبْدِيّةِ، وأنَّك كُلِّيٌّ في جُزئيَّتِك، وأنَّك عالَمٌ واسِعٌ في صِغَرِك، ولك المَقامُ السّامي مع حَقارَتِك، فأَنتَ المُشرِفُ ذُو البَصِيرةِ النَيِّرةِ على هذه الدّائرةِ الفَسِيحةِ المَنظُورةِ، حتَّى يُمكِنُك القَولُ: “إنَّ رَبِّيَ الرَّحِيمَ قد جَعَلَ لي الدُّنيا مَأوًى ومَسكَنًا، وجَعَل لي الشَّمسَ والقَمَرَ سِراجًا ونُورًا، وجَعَل لي الرَّبيعَ باقةَ وَرْدٍ زاهِيةً، وجَعَلَ لي الصَّيفَ مائِدةَ نِعمةٍ، وجَعَل لي الحَيَوانَ خادِمًا ذَليلًا، وأَخِيرًا جَعَل لي النَّباتَ زِينةً وأَثاثًا وبَهجةً لِدارِي ومَسكَني”.
وخُلاصةُ القَولِ: أنَّك إذا أَلقَيتَ السَّمْعَ إلى النَّفسِ والشَّيطانِ، فستَسقُطُ إلى أَسفَلِ سافِلينَ، وإذا أَصغَيتَ إلى الحَقِّ والقُرآنِ ارتَقَيتَ إلى أَعلَى عِلِّيِّينَ، وكُنتَ “أَحسَنَ تَقوِيمٍ” في هذا الكَونِ.
النُّكتةُ الخامِسة [للإنسان نوعان من العبودية]
إنَّ الإنسانَ أُرسِلَ إلى الدُّنيا ضَيفًا ومُوَظَّفًا، ووُهِبَتْ له مَواهِبُ واستِعداداتٌ مُهِمّةً جِدًّا، وعلى هذا أُسنِدَت إلَيه وَظائفُ جَليلةٌ؛ ولكي يقُومَ الإنسانُ بأَعمالِه ولِيَكَدَّ ويَسعَى لتلك الغاياتِ والوَظائفِ العَظِيمةِ فقد رُغِّبَ ورُهِّبَ لإنجازِ عَمَلِه.
سنُجمِلُ هنا الوَظائفَ الإنسانيّةَ وأَساساتِ العُبُودِيّةِ الَّتي أَوضَحناها في مَوضِعٍ آخَرَ، وذلك لِفَهمِ وإدراكِ سِرِّ “أَحسَنِ تَقوِيمٍ” فنقُولُ:
إنَّ الإنسانَ بعدَ مَجِيئِه إلى هذا العالَمِ له عُبُودِيّةٌ مِن ناحِيَتَينِ:
فالنّاحِيةُ الأُولَى: عُبُودِيّةٌ وتَفَكُّرٌ بصُورةٍ غِيابيّةٍ.
والنّاحِيةُ الثّانيةُ: عُبُودِيّةٌ ومُناجاةٌ بصُورةِ مُخاطَبةٍ حاضِرةٍ.
فالناحِيةُ الأُولَى هي تَصدِيقُه بالطّاعةِ لِسُلطانِ الرُّبُوبيّةِ الظّاهِرِ في الكَونِ، والنَّظَرُ إلى كَمالِه سُبحانَه ومَحاسِنِه بإعجابٍ وتَعظِيمٍ؛ ثمَّ استِنباطُ العِبرةِ والدُّرُوسِ مِن بَدائِعِ نُقُوشِ أَسمائِه الحُسنَى القُدسِيّةِ، وإعلانُها ونَشْرُها وإشاعَتُها؛ ثمَّ وَزنُ جَواهِرِ الأَسماءِ الرَّبّانيّةِ ودُرَرِها -كلُّ واحِدٍ مِنها خَزِينةٌ مَعنَوِيّةٌ خَفِيّةٌ- بمِيزانِ الإدراكِ والتَّبَصُّرِ، وتَقيِيمُها بأَنوارِ التَّقدِيرِ والعَظَمةِ والرَّحمةِ النّابِعةِ مِنَ القَلبِ؛ ثمَّ التَّفكُّرُ بإعجابٍ عِندَ مُطالَعةِ أَوراقِ الأَرضِ والسَّماءِ وصَحائفِ المَوجُوداتِ الَّتي هي بمَثابةِ كِتاباتِ قَلَمِ القُدرةِ؛ ثمَّ النَّظَرُ باستِحسانٍ بالِغٍ إلى زِينةِ المَوجُوداتِ والصَّنائعِ الجَمِيلةِ اللَّطيفةِ الَّتي فيها، والتَّحَبُّبُ لِمَعرِفةِ الفاطِرِ ذِي الجَمالِ، والتَّلَهُّفُ إلى الصُّعُودِ إلى مَقامِ حُضُورٍ عِندَ الصّانِعِ ذِي الكَمالِ ونَيلِ الْتِفاتِه الرَّبّانِيِّ.
والنّاحِيةُ الثّانيةُ هي مَقامُ الحُضُورِ والخِطابِ الَّذي يَنفُذُ مِنَ الأَثَرِ إلى المُؤَثِّرِ، فيَرَى أنَّ صانِعًا جَلِيلًا يُرِيدُ تَعرِيفَ نَفسِه إلَيه بمُعجِزاتِ صَنعَتِه، فيُقابِلُه هو بالإيمانِ والمَعرِفةِ؛ ثمَّ يَرَى أنَّ رَبًّا رَحِيمًا يُرِيدُ أن يُحَبِّبَ نَفسَه إلَيه بالأَثمارِ الحُلوةِ اللَّذِيذةِ لِرَحمَتِه، فيُقابِلُه هو بجَعلِ نَفسِه مَحبُوبًا عِندَه بالمَحَبّةِ الخالِصةِ والتَّعبُّدِ الخالِصِ لِوَجهِه؛ ثمَّ يَرَى أنَّ مُنعِمًا كَرِيمًا يُغرِقُه في لَذائِذِ نِعَمِه المادِّيّةِ والمَعنَوِيّةِ، فيُقابِلُه هو بفِعلِه وحالِه وقَولِه بكلِّ حَواسِّه وأَجهِزَتِه -إنِ استَطاعَ- بالشُّكرِ والحَمدِ والثَّناءِ علَيه؛ ثمَّ يَرَى أنَّ جَلِيلًا جَمِيلًا يُظهِرُ في مِرآةِ هذه المَوجُوداتِ كِبرِياءَه وعَظَمتَه وكَمالَه، ويُبْرِزُ جَلالَه وجَمالَه فيها بحيثُ يَجلِبُ إلَيها الأَنظارَ، فيُقابِلُ هو ذلك كلَّه: بتَردِيدِ “اللهُ أَكبَرُ.. سُبحانَ اللهِ..”، ويَسجُدُ سُجُودَ مَن لا يَمَلُّ بكلِّ حَيرةٍ وإعجابٍ وبمَحَبّةٍ ذائبةٍ في الفَناءِ.
ثمَّ يَرَى أنَّ غَنِيًّا مُطلَقًا يَعرِضُ خَزائنَه وثَروَتَه الهائلةَ الَّتي لا تَنضُبُ في سَخاءٍ مُطلَقٍ، فيُقابِلُه هو بالسُّؤالِ والطَّلَبِ بكَمالِ الِافتِقارِ في تَعظِيمٍ وثَناءٍ؛ ثمَّ يَرَى أنَّ ذلك الفاطِرَ الجَليلَ قد جَعَل الأَرضَ مَعرِضًا عَجِيبًا لِعَرْضِ جَميعِ الصَّنائِعِ الغَرِيبةِ النّادِرةِ، فيُقابِلُ هو ذلك بقَولِه: “ما شاءَ اللهُ!” مُستَحسِنًا لها، وبقَولِه: “بارَكَ اللهُ” مُقَدِّرًا لها، وبقَولِه: “سُبحانَ اللهِ” مُعجَبًا بها، وبقَولِه: “اللهُ أَكبَرُ” تَعظِيمًا لِخالِقِها؛ ثمَّ يَرَى أنَّ واحِدًا يَختِمُ على المَوجُوداتِ كُلِّها خَتْمَ التَّوحِيدِ وسِكَّتَه الَّتي لا تُقَلَّدُ وطُغْراءَه الخاصّةَ به، ويَنقُشُ علَيها آياتِ التَّوحِيدِ، ويَنصِبُ رايةَ التَّوحِيدِ في آفاقِ العالَمِ مُعلِنًا رُبُوبيَّتَه، فيُقابِلُه هو بالتَّصدِيقِ والإيمانِ والتَّوحِيدِ والإذعانِ والشَّهادةِ والعُبُودِيّةِ.
فالإنسانُ بمِثلِ هذه العِبادةِ والتَّفكُّرِ يُصبِحُ إنسانًا حَقًّا، ويُظهِرُ نَفسَه في “أَحسَنِ تَقوِيمٍ”، فيَصيرُ بيُمْنِ الإيمانِ وبَرَكَتِه لائقًا للأَمانةِ الكُبْرَى وخَلِيفةً أَمِينًا على الأَرضِ.
فيا أيُّها الإنسانُ الغافِلُ المَخلُوقُ في “أَحسَنِ تَقوِيمٍ”، والَّذي يَنحَدِرُ أَسفَلَ سافِلينَ لِسُوءِ اختِيارِه ونَزَقِه وطَيشِه.. اسمَعْني جَيِّدًا، وانظُر إلى اللَّوحَتَينِ المَكتُوبَتَينِ في المَقامِ الثّاني مِنَ “الكَلِمةِ السّابِعةَ عَشْرةَ” حتَّى تَرَى أنت أيضًا كيف كُنتُ أَرَى الدُّنيا مِثلَك حُلْوةً خَضِرةً عِندَما كُنتُ في غَفلةِ الشَّبابِ وسُكْرِه؛ ولكن لَمّا أَفَقتُ مِن سُكْرِ الشَّبابِ وصَحَوتُ مِنه بصُبْحِ المَشِيبِ رَأَيتُ أنَّ وَجْهَ الدُّنيا غيرَ المُتَوجِّهِ إلى الآخِرةِ، والَّذي كُنتُ أَعُدُّه جَمِيلًا، رَأَيتُه وَجهًا قَبِيحًا، وأنَّ وَجهَ الدُّنيا المُتَوجِّهَ إلى الآخِرةِ حَسَنٌ جَمِيلٌ.
فاللَّوحةُ الأُولَى: تُصَوِّرُ دُنيا أَهلِ الغَفلةِ، فقد رَأَيتُ فيها -مِن دُونِ أن أَسكَرَ- شَبَهًا بدُنيا أَهلِ الضَّلالةِ الَّذين أَطبَقَتْ علَيهِم حُجُبُ الغَفلةِ.
اللَّوحةُ الثّانيةُ: تُشِيرُ إلى حَقيقةِ أَهلِ الهِدايةِ وذَوِي القُلُوبِ المُطمَئِنّةِ.
فلم أُبَدّلْ شَيئًا مِن تِلكُما اللَّوحَتَينِ، بل تَرَكتُهما كما كانَتا مِن قَبلُ، وهما وإن كانَتا تُشبِهانِ الشِّعرَ إلّا أنَّهما لَيسا بشِعرٍ.
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى الذَّاتِ المُحَمَّدِيَّةِ، اللَّطِيفَةِ الأَحَدِيَّةِ، شَمسِ سَمَاءِ الأَسرَارِ، ومَظهَرِ الأَنوَارِ، ومَركَزِ مَدَارِ الجَلَالِ، وقُطبِ فَلَكِ الجَمالِ، اللَّهُمَّ بِسِرِّهِ لَدَيكَ وبِسَيرِهِ إلَيكَ، آمِنْ خَوفِي وأَقِل عَثرَتِي وأَذهِب حُزنِي وحِرصِي وكُن لِي، وخُذنِي إلَيكَ مِنِّي وارزُقنِي الفَنَاءَ عَنِّي، ولَا تَجعَلنِي مَفتُونًا بِنَفسِي مَحجُوبًا بِحِسِّي، واكشِفْ لِي عَن كُلِّ سِرٍّ مَكتُومٍ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ
وارحَمنِي وارحَمْ رُفَقَائِي وارحَمْ أَهلَ الإيمَانِ والقُرآنِ.
آمِينَ آمِينَ.. يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ، ويَا أَكرَمَ الأَكرَمِينَ
﴿وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
❀ ❀ ❀