الكلمة الثانية والعشرون
[هذه الكلمة تبين حقيقة التوحيد، ثم تُبيِّن براهين التوحيد فتستعرض موجودات الكون من الذرات إلى المجرات كدلائل شاهدة بالوحدانية]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
![هذا العالَم قصر منيف.. مملكة منتظمة.. مدينة متكاملة.](https://said-nursi.com/wp-content/uploads/2024/12/%D9%82%D8%B5%D8%B1-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A-530x1024.jpg)
الكلمة الثانية والعشرون
(هذه الكلمة عبارة عن مقامَين)
[المقام الأول: اثنا عشر برهانًا على وجود الله ووحدانيته]
المقام الأول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾
﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾
[حكاية تمثيلية]
استَحَمَّ شَخصانِ ذاتَ يومٍ في حَوضٍ كبيرٍ، فغَشِيَهما ما لا طاقةَ لهما به ففَقَدا وَعْيَهما، وما إن أَفاقا حتَّى وَجَدا أنَّهما قد جِيءَ بهما إلى عالَمٍ غيرِ عالَمِهما، إلى عالَمٍ عَجيبٍ، وعَجيبٌ فيه كلٌّ شيءٍ، فهو مِن فَرْطِ انتِظامِه الدَّقيقِ كأنَّه مَملَكةٌ مُنَسَّقةُ الأَطرافِ، ومِن رَوعةِ جَمالِه بمَثابةِ مَدينةٍ عامِرةٍ، ومِن شِدّةِ تَناسُقِ أَركانِه بحُكمِ قَصرٍ بَديعٍ.
وبدَأَا يَنظُرانِ بلَهفةٍ فيما حَولَهما وقدِ امتَلَأَا حَيْرةً وإعجابًا بما رَأَيَا أَمامَهما مِن عالَمٍ عَظيمٍ حقًّا، إذ لو نُظِرَ إلى جانِبٍ مِنه لَشُوهِدَت مَملَكةٌ مُنتَظِمةٌ، وإذا ما نُظِرَ إلَيه مِن جانِبٍ آخَرَ تَراءَت مَدينةٌ كامِلةُ الجَوانبِ، بَينَما إذا نُظِرَ إلَيه مِن جانِبٍ آخَرَ إذا هو بقَصرٍ عَظيمٍ شاهِقٍ يَضُمُّ عالَمًا مَهِيبًا.
وطَفِقا يَتَجوَّلانِ معًا في أَرجاءِ هذا العالَمِ العَجيبِ، فوَقَع نَظَرُهما على مَخلُوقاتٍ يَتَكلَّمُون بكَلامٍ مُعيَّنٍ لا يَفقَهانِه، إلَّا أنَّهما أَدرَكا مِن إشاراتِهم وتَلوِيحاتِهم أنَّهم يُؤَدُّون أَعمالًا عَظيمةً ويَنهَضُون بواجِباتٍ جَليلةٍ.
قال أَحَدُهما للآخَرِ: لا شَكَّ أنَّ لِهذا العالَمِ العَجيبِ مُدبِّـرًا يُدبِّـرُ شُؤُونَه، ولِهذه المَملَكةِ البَديعةِ مالِكًا يَرعاها، ولِهذه المَدينةِ الرّائعةِ سيِّدًا يَتَولَّى أُمُورَها، ولهذا القَصرِ المُنيفِ صانِعًا بَدِيعًا قد أَبدَعَه؛ فأَرَى لِزامًا علَينا أن نَسعَى لِمَعرِفَتِه، إذ يَبدُو أنَّه هو الَّذي قد أَتَى بنا إلى هاهنا، وليس أَحَدٌ غَيرُه؛ فلو لم نَعرِفْه فمَن ذا غَيرُه يُسعِفُنا ويُغيثُنا ويَقضِي حَوائجَنا ونحن في هذا العالَمِ الغَريبِ؟! فهل تَرَى بَصِيصَ أَمَلٍ نَرجُوه مِن هؤلاء العاجِزِين الضُّعَفاءِ ونحن لا نَفقَهُ لِسانَهم ولا هم يُصغُون إلى كَلامِنا؟
ثمَّ إنَّ الَّذي جَعَل هذا العالَمَ العَظيمَ على صُورةِ مَملَكةٍ مُنَسَّقةٍ وعلى هَيئةِ مَدينةٍ رائعةٍ وعلى شَكلِ قَصرٍ بَديعٍ، وجَعَله كَنزًا لِخَوارقِ الأَشياءِ، وجَمَّلَه بأَفضلِ زِينةٍ وأَروَعِ حُسْنٍ، ورَصَّعَ نَواحِيَه كلَّها بمُعجِزاتٍ مُعبِّرةٍ حَكيمةٍ.. أَقُولُ: إنَّ صانِعًا له كلُّ هذه العَظَمةِ والهَيبةِ وقد أَتَى بنا وبمَن حَولَنا إلى هاهنا، لا شَكَّ أنَّ له شأنًا في هذا؛ فوَجَب قبلَ كلِّ شيءٍ أن نَعرِفَه مَعرِفةً جَيِّدةً، وأن نَعلَمَ مِنه ما يُرِيدُ مِنَّا وماذا يَطلُبُ؟
قال له صاحِبُه: دَعْ عنك هذا الكَلامَ، فأنا لا أُصَدِّقُ أنَّ واحِدًا أَحَدًا يُديرُ هذا العالَمَ الغَريبَ!
فأجابَه: مَهْلًا يا صاحِبي.. هلَّا أعَرتَني سَمْعَك؟ فنحن لو أَهمَلْنا مَعرِفَتَه فلا نَكسِبُ شَيئًا قَطُّ، وإن كان في إهمالِنا ضَرَرٌ فضَرَرُه جِدُّ بَليغٍ؛ بَينَما إذا سَعَينا إلى مَعرِفَتِه فليس في سَعيِنا هذا مَشَقّةٌ ولا نَلقَى مِن وَرائِه خَسارةً، بل مَنافِعَ جَليلةً وعَظيمةً.. فلا يَليقُ بنا إذًا أن نَبقَى مُعرِضين هكذا عن مَعرِفَتِه.
ولكنَّ صاحِبَه الغافِلَ قال: أنا لَستُ معَك في كَلامِك هذا، فأنا أَجِدُ راحَتي ونَشوَتي في عَدَمِ صَرْفِ الفِكرِ إلى مِثلِ هذه الأُمُورِ، وفي عَدَمِ مَعرِفةِ ما تدَّعيه عن هذا الصَّانِعِ البَديعِ؛ فلا أَرَى داعِيًا أن أُجهِدَ نَفسِي فيما لا يَسَعُه عَقلي، بل أَرَى هذه الأَفعالَ جَميعَها لَيسَت إلَّا مُصادَفاتٍ وأُمُورًا مُتَداخِلةً مُتَشابِكةً تَجرِي وتَعمَلُ بنَفسِها، فما لي وهذه الأُمُورِ؟!
فرَدَّ علَيه العاقِلُ: أَخشَى أن يُلقِيَ بنا عِنادُك هذا وبالآخَرِين إلى مَصائبَ وبَلايا! ألَم تُهدَمْ مُدُنٌ عامِرةٌ مِن جَرّاءِ سَفاهةِ شَقيٍّ وأَفعالِ فاسِقٍ؟!
ومَرّةً أُخرَى انبَرَى له الغافِلَ قائلًا: لِنَحسِمِ المَوضُوعَ نِهائيًّا، فإمّا أن تُثبِتَ لي إثباتًا قاطِعًا لا يَقبَلُ الشَّكَّ بأنَّ لهذه المَملَكةِ الضَّخمةِ مالِكًا واحِدًا وصانِعًا واحِدًا أَحَدًا، أو تَدَعَني وشَأْني.
أَجابَه صَدِيقُه: ما دُمتَ يا صاحِبي تُصِرُّ على عِنادِك إلى حَدِّ الجُنُونِ والهَذَيانِ مِمّا يَسُوقُنا والمَملَكةَ بكامِلِها إلى الدَّمارِ، فسأَضَعُ بينَ يَدَيك اثنَي عَشرَ بُرهانًا أُثبِتُ بها أنَّ لهذا العالَمِ الرّائعِ رَوعةَ القَصرِ، ولهذه المَملَكةِ المُنتَظِمةِ انتِظامَ المَدينةِ، صانِعًا بَديعًا واحِدًا أَحَدًا هو الَّذي يُدَبِّـرُ الأُمُورَ كلَّها.. فلا تَرَى مِن فُطُورٍ في شيءٍ، ولا تَرَى مِن نَقصٍ في أَمرٍ؛ فذلك الصّانِعُ الَّذي لا نَراه يُبصِرُنا ويُبصِرُ كلَّ شيءٍ، ويَسمَعُ كَلامَ كلِّ شيءٍ، فكلُّ أَفعالِه مُعجِزاتٌ وآياتٌ وخَوارِقُ ورَوائعُ، وما هذه المَخلُوقاتُ الَّتي لا نَفهَمُ أَلسِنَتَهم إلَّا مَأمُورُون ومُوَظَّفُون في مَملَكَتِه.
البُرهان الأول [لا مخلوقَ قادرٌ على الاستقلال بنفسه]
تَعالَ معي يا صاحِبي لِنَتأَمَّل ما حَولَنا مِن أَشياءَ وأُمُورٍ.. ألا تَرَى أنَّ يَدًا خَفِيّةً تَعمَلُ مِن وَراءِ الأُمُورِ جَميعِها؟
أوَلا تَرَى أنَّ ما لا قُوّةَ له أَصلًا ولا يَقوَى على حَملِ نَفسِه1إشَارة إلى البُذُور والنُّوَى التي تَحمِل أشجَارًا ضَخمةً. يَحمِلُ آلافَ الأَرطالِ مِنَ الحِملِ الثَّقيلِ؟
أوَلا تُشاهِدُ أنَّ ما لا إدراكَ له ولا شُعُورَ يقُومُ بأَعمالٍ في غايةِ الحِكمةِ2إشَارة إلى سِيقانِ العِنَب مثلًا، التي تَمُدُّ أَيديَها اللَّطيفةَ وتُعانقُ الأشَجارَ الأُخرَى، لِضَعفِها عن حَملِ عَناقيدِها الغَنِيّة.؟
فهذه الأَشياءُ إذًا لا تَعمَلُ مُستَقِلّةً بنَفسِها، بل لا بُدَّ أنَّ مَولًى عَليمًا وصانِعًا قَديرًا يُدِيرُها مِن وَراءِ الحُجُبِ، إذ لو كانَت مُستقِلّةً بذاتِها، وأَمرُها بيَدِها، لَلَزِمَ أن يكُونَ كلُّ شيءٍ هنا صاحِبَ مُعجِزةٍ خارِقةٍ.. وما هذه إلَّا سَفسَطةٌ لا مَعنَى لها!
البُرهان الثَّاني [شارات السلطان تزين جميع موجودات السلطنة]
تَعالَ معي يا صاحِبي لِنُمعِن النَّظَرَ في هذه الأَشياءِ الَّتي تُزيِّنُ المَيادِينَ والسّاحاتِ، ففي كلِّ زِينةٍ مِنها أُمُورٌ تُخبِرُنا عن ذلك المالِكِ وتَدُلُّنا علَيه كأنَّها سِكَّتُه وخَتْمُه، كما تَدُلُّنا طُغْراءُ السُّلطانِ وخَتْمُه على وُجُودِه، وتُنبِئُنا سِكَّتُه الَّتي على مَسكُوكاتِه عن عَظَمَتِه وهَيبَتِه.
فإن شِئتَ فانظُر إلى هذا الجِسمِ الصَّغيرِ جِدًّا الَّذي لا يَكادُ الإنسانُ يَعرِفُ له وَزنًا3إشارةً إلى البُذُور المُتَنوِّعة، فبُذُورُ البِطِّيخ والخَوخِ وغيرِها تَنسُج أوراقًا أَجمَلَ مِن أَجوَدِ قُماشٍ، وتُقدِّم لنا ثِمارًا طَيِّبةً هي أَلَذُّ مِنَ الحَلْوَى تأتي بها مِن خَزِينةِ الرَّحمةِ الإلٰهِيّة.، قد صَنَع مِنه المَولَى أَطوالًا مِن نَسِيجٍ مُلوَّنٍ بأَلوانٍ زاهِيةٍ ومُزَركَشٍ بزَخارِفَ باهِرةٍ، ويُخرِجُ مِنه ما هو أَلَذُّ مِنَ الحَلْوَياتِ والمُعَجَّناتِ المُعَسَّلة، فلو لَبِسَ آلافٌ مِن أَمثالِنا تلك المَنسُوجاتِ وأَكَل مِن تلك المَأكُولاتِ لَمَا نَفِدَت.
ثمَّ انظُر، إنَّه يَأخُذُ بيَدِه الغَيبيّةِ هذا الحَديدَ والتُّرابَ والماءَ والفَحمَ والنُّحاسَ والفِضّةَ والذَّهَب، ويَصنَعُ مِنها جَميعًا قِطعةَ لَحم4إشارةً إلى خَلقِ جِسمِ الحَيَوانِ مِنَ العَناصِرِ، وإلى إيجادِ الكائنِ الحَيِّ مِنَ النُّطفةِ..
فيا أيُّها الغافِلُ.. هذه الأَشياءُ والأَفعالُ إنَّما تَخُصُّ مَن زِمامُ هذه المَمْلَكةِ بيَدِه، ومَن لا يَعزُبُ عنه شيءٌ، وكلُّ شيءٍ مُنقادٌ لإرادَتِه.
البُرهان الثالث [كل مصنوع نسخة مصغرة]
تَعالَ لِنَنظُر إلى مَصنُوعاتِه العَجِيبةِ المُتحَرِّكةِ5إشَارةً إلى الحَيَواناتِ والإنسانِ، لأنَّ الحَيَوانَ فِهرِسٌ مُصَغَّر لهذا العالَمِ، والماهِيّةُ الإنسانيّةُ مِثالٌ مُصَغَّر للكائناتِ، فما مِن شيءٍ في العالَمِ إلَّا ونَمُوذَجُه في الإنسانِ... فقد صُنِعَ كلٌّ مِنها كأنَّه نُسخةٌ مُصَغَّرةٌ مِن هذا القَصرِ العَظيمِ، إذ يُوجَدُ فيه ما في القَصرِ كلِّه؛ فهل يُمكِنُ أن يُدرِجَ أَحَدٌ هذا القَصرَ مُصَغَّرًا في ماكِينةٍ دَقيقةٍ غيرُ صانِعِه البَديعِ؟ أو هل يُمكِنُ أن تَرَى عَبَثًا أو مُصادَفةً في عالَمٍ ضُمَّ داخِلَ ماكِينةٍ صَغيرةٍ؟
أي إنَّ كلَّ ما تُشاهِدُه مِن مَكائنَ إنَّما هي بمَثابةِ آيةٍ تَدُلُّ على ذلك الصّانِعِ البَديعِ، بل كلُّ ماكِينةٍ دَليلٌ علَيه، وإعلانٌ يُفصِحُ عن عَظَمَتِه، ويقُولُ بلِسانِ الحالِ: نحن مِن إبداعِ مَن أَبدَعَ هذا العالَمَ بسُهُولةٍ مُطلَقةٍ كما أَوجَدَنا بسُهُولةٍ مُطلَقةٍ.
البُرهان الرابع [إما صانعٌ واحد لجميع الموجودات أو صناعٌ كثرٌ بعدد الموجودات]
أيُّها الأَخُ العَنيدُ.. تَعالَ أُرِكَ شَيئًا أَكثَرَ إثارةً للإعجابِ! انظُر، فها قد تَبَدَّلتِ الأُمُورُ في هذه المَملَكةِ، وتَغيَّرَت جَميعُ الأَشياءِ، وها نحن أُولاءِ نَرَى بأَعيُنِنا هذا التَّبدُّلَ والتَّغيُّـرَ، فلا ثَباتَ لِشَيءٍ مِمّا نَراه، بلِ الكُلُّ يَتَغيَّـرُ ويَتَجدَّدُ.
وانظُر إلى هذه الأَجسامِ الجامِدةِ المُشاهَدةِ الَّتي لا نَرَى فيها شُعُورًا، كأنَّ كُلًّا مِنها قدِ اتَّخَذ صُورةَ حاكِمٍ مُطلَقٍ، والآخَرُون مَحكُومُون تحتَ سَيطَرَتِه، وكأنَّ كلًّا مِنها يُسَيطِرُ على الأَشياءِ كُلِّها.
انظُر إلى هذه الماكِينةِ الَّتي بقُربِنا6إشارةً إلى النَّباتات المُثمِرة، لأنَّها تَحمِلُ مِئاتِ المَصانِعِ والمَعامِل الدَّقيقةِ في أَعضَائها الرَّقيقةِ، فتَنسُجُ الأَوراقَ اللَّطيفةَ والأَزهارَ الزّاهِيةَ وتُنضِجُ الثِّمارَ اليانِعةَ وتُقدِّمها إلَينا؛ ومنها أَشجارُ الصَّنَوبَر الشّامِخةُ الَّتي نَصَبَت مَعامِلَها على الصُّخُور الصَّمّاءِ في الجِبالِ. كأنَّها تَأمُرُ فيُهرَعُ إلَيها مِن بَعيدٍ ما تَحتاجُه مِن لَوازِمَ لِزِينَتِها وعَمَلِها.
وانظُر إلى ذلك الجِسمِ الَّذي لا شُعُورَ له7إشارةً إلى الحُبُوبِ والبُذَيراتِ وبُيُوضِ الحَشَراتِ، فتَضَع البَعُوضةُ مثلًا بُيُوضَها على أَوراقِ شَجَرةٍ، فإذا الوَرَقةُ تكُون لها كرَحِمِ الأُمِّ والمَهدِ اللَّطيفِ، وتَمتَلِئُ بغِذاءٍ لَذيذٍ كالعَسَل.. فكأنَّ تلك الشَّجَرةَ غيرَ المُثمِرةِ تُثمِرُ كائناتٍ حَيّةً.، كأنَّه يُسَخِّر بإشارةٍ خَفِيّةٍ مِنه أَضخَمَ جِسمٍ وأَكبَرَه في شُؤُونِه الخاصّةِ ويَجعَلُه طَوْعَ إشارَتِه.. وقِسِ الأُمُورَ الأُخرَى على هذَينِ المِثالَينِ.
فإن لم تُفوِّضْ أَمرَ إدارةِ المَملَكةِ إلى ذلك المالِكِ الَّذي لا نَراه، فعلَيك إذًا أن تُحِيلَ إلى كلِّ مَصنُوعٍ ما للبَدِيعِ مِن إتقانٍ وكَمالاتٍ، حتَّى لو كان حَجَرًا أو تُرابًا أو حَيَوانًا أو إنسانًا أو أيَّ مَخلُوقٍ مِنَ المَخلُوقاتِ.
فإذا ما استَبعَدَ عَقلُك أنَّ بَدِيعًا واحِدًا أَحَدًا هو المالِكُ لهذه المَملَكةِ وهو الَّذي يُدِيرُها، فما عليك إلَّا قَبُولُ مَلايينِ المَلايينِ مِنَ الصَّانِعِين المُبدِعِين، بل بعَدَدِ المَوجُوداتِ! كلٌّ مِنها نِدٌّ للآخَرِ ومَثِيلُه وبَدِيلُه ومُتَدخِّلٌ في شُؤُونِه! مع أنَّ النِّظامَ المُتقَنَ البَديعَ يَقتَضي عدَمَ التَّدَخُّلِ، فلو كان هناك تَدَخُّلٌ مَهما كان طَفيفًا ومِن أيِّ شيءٍ كان، وفي أيِّ أَمرٍ مِن أُمُورِ هذه المَملَكةِ الهائلةِ، لَظَهَر أَثَرُه واضِحًا، إذ تَختَلِطُ الأُمُورُ وتَتَشابكُ إن كان هناك سيِّدانِ في قريةٍ أو مُحافِظانِ في مَدينةٍ أو سُلطانانِ في مَملَكةٍ.. فكيف بحُكَّامٍ لا يُعَدُّون ولا يُحصَون في مَملَكةٍ مُنَسَّقةٍ بَدِيعةٍ؟!
البُرهان الخامس [كل صنعة هي لوحة إعلاناتٍ تُعرِّف بصفات الصانع]
أيُّها الصَّديقُ المُرتابُ.. تَعالَ لِنُدقِّقْ في نُقُوشِ هذا القَصرِ العَظيمِ، وَلْنُمعِنِ النَّظَرَ في تزيِيناتِ هذه المَدِينةِ العامِرةِ، ولْنُشاهِدِ النِّظامَ البَديعَ لِهذه المَملَكةِ الواسِعةِ، ولْنَتأَمَّلِ الصَّنعةَ المُتقَنةَ لِهذا العالَمِ.
فها نحنُ نَرَى أنَّه إن لم تَكُن هذه النُّقُوشُ كِتابةَ قَلَمِ المالِكِ البَديعِ الَّذي لا حَدَّ لِمُعجِزاتِه وإبداعِه، وأُسنِدَت كِتابتُها ونَقشُها إلى الأَسبابِ الَّتي لا شُعُورَ لها، وإلى المُصادَفةِ العَمياءِ، وإلى الطَّبِيعةِ الصَّمّاءِ، لَلَزِم إذًا أن يكُونَ في كلٍّ مِن أَحجارِ هذه المَملَكةِ وعُشبِها مُصَوِّرٌ مُعجِزٌ وكاتِبٌ بَدِيعٌ يَستَطيعُ أن يَكتُبَ أُلُوفَ الكُتُبِ في حَرفٍ واحِدٍ، ويُمكِنُه أن يُدرِجَ مَلايينَ الأَعمالِ المُتقَنةِ البَدِيعةِ في نَقْشٍ واحِدٍ، لأنَّك تَرَى أنَّ هذا النَّقْش الَّذي أَمامَك في هذه اللَّبِنةِ8إشَارةً إلى الإنسَانِ الذي هو ثَمَرةُ الخِلقةِ، وإلى الثَّمَرةِ التي تَحمِلُ فِهرِسَ شَجَرتِها وبَرنامَجَها.. فما كَتَبه قَلَمُ القُدرةِ في كِتابِ العالَمِ الكَبيرِ قد كَتَبه مُجمَلًا في ماهيّةِ الإنسانِ، وما كَتَبه قلَمُ القَدَر في الشَّجَرةِ قد دَرَجَه في ثَمَرتِها الصَّغيرةِ. يَضُمُّ نُقُوشَ جَميعِ القَصرِ، ويَنطَوِي على جَميعِ قَوانينِ المَدِينةِ وأَنظِمَتِها، ويَتَضمَّنُ خُطَطَ أَعمالِها.
أي إنَّ إيجادَ هذه النُّقُوشِ الرّائعةِ مُعجِزةٌ عَظيمةٌ كإيجادِ المَملَكةِ نَفسِها، فكلُّ صَنعةٍ بَدِيعةٍ لَيسَت إلَّا لَوحةَ إعلانٍ تُفصِحُ عن أَوصافِ ذلك الصّانِعِ البَدِيعِ، وكلُّ نَقْشٍ جَميلٍ هو خَتْمٌ واضِحٌ مِن أَختامِه الدّالّةِ علَيه.
فكما أنَّه لا يُمكِنُ لِحَرفٍ إلَّا أن يَدُلَّ على كاتِبِه، ولا يُمكِنُ لِنَقْشٍ إلَّا أن يُنبِئَ عن نَقّاشِه، فكيف يُمكِنُ إذًا ألَّا يَدُلَّ حَرفٌ كُتِبَ فيه كِتابٌ عَظِيمٌ على كاتِبِه، ونَقْشٌ نُقِشَت علَيْه أُلُوفُ النُّقُوشِ على نَقَّاشِه؟ ألَا تكُونُ دَلالَتُه أَظهَرَ وأَوضَحَ مِن دَلالَتِه على نَفسِه؟
البُرهان السادس [برهان التبدلات الحكيمة المنتظمة]
تَعالَ يا صَدِيقي، لِنَذهَب إلى نُزهةٍ نَتَجوَّلُ في هذه الفَلاةِ الواسِعةِ9إشارةً إلى سَطحِ الأرضِ في مَوسِمَيِ الرَّبيعِ والصَّيفِ.. حيث تُخلَقُ مِئاتُ الأُلُوفِ مِنَ المَخلُوقاتِ خَلْقًا مُتَداخِلًا مُتَشابِكًا، وتُكتَبُ على صَحيفةِ الأرضِ دونَ خَطَأٍ ولا قُصُورٍ، وتُبدَّلُ بانتِظامٍ، فتُفرَشُ أُلُوفٌ مِن ضِيافاتِ الرَّحمٰنِ، ثمَّ تُرفَعُ وتُجَدَّدُ.. فكأنَّ كلَّ شَجَرةٍ خادِمُ مَطعَمٍ، وكلَّ بُستانٍ قِدْرٌ لإعدادِ المَأكُولاتِ. المَفرُوشةِ أَمامَنا.. ها هو ذا جَبَلٌ أَشَمُّ، تَعالَ لِنَصَعد علَيه حتَّى نَتَمكَّنَ مِن مُشاهَدةِ جَميعِ الأَطرافِ بسُهُولٍة، ولْنَحمِلْ مَعَنا نَظّاراتٍ مُكبِّرةٍ تُقَرِّبُ لنا ما هو بَعيدٌ عن أَنظارِنا.. فهذه المَملَكةُ فيها مِنَ الأُمُورِ العَجِيبةِ والحَوادِثِ الغَرِيبةِ ما لا يَخطُرُ على بالِ أَحَدٍ.
انظُر إلى تلك الجِبالِ والسُّهُولِ المُنبَسِطةِ والمُدُنِ العامِرةِ، إنَّه أَمرٌ عَجِيبٌ حَقًّا إذ تَتَبدَّلُ جَمِيعًا دُفعةً واحِدةً، بل إنَّ مَلايينَ المَلايينِ مِنَ الأَفعالِ المُتَشابِكةِ تَتَبدَّلُ تَبَدُّلًا بكُلِّ نِظامٍ وبكُلِّ تَناسُقٍ، فكأنَّ مَلايينَ الأَطوالِ مِن مَنسُوجاتٍ مُلَوَّنةٍ رائعةٍ تُنسَجُ أَمامَنا في آنٍ واحِدٍ.
حقًّا إنَّ هذه التَّحَوُّلاتِ عَجيبةٌ جِدًّا! فأَينَ تلك الأَزاهِيرُ الَّتي ابتَسَمَت لنا والَّتي أَنِسْنا بها؟.. لقد غابَتْ عنَّا، وحلَّتْ مَحَلَّها أَنواعٌ مُخالِفةٌ لها صُورةً، مُماثِلةٌ ماهِيّةً؛ وكأنَّ هذه السُّهُولَ المُنبَسِطةَ وهذه الجِبالَ المَنصُوبةَ صَحائفُ كِتابٍ يُكتَبُ في كلٍّ مِنها كُتُبٌ مُختَلِفةٌ في غايةِ الإتقانِ دُونَ سَهْوٍ أو خَطَأٍ، ثم تُمسَحُ تلك الكُتُب ويُكتَبُ غَيرُها.. فهل تَرَى يا صَدِيقي أنَّ تَبَدُّلَ هذه الأَحوالِ وتَحَوُّلَ هذه الأَوضاعِ الَّذي يَتِمُّ بكُلِّ نِظامٍ ومِيزانٍ يَحدُثُ مِن تِلقاءِ نَفسِه؟! ألَيسَ ذلك مُحالًا مِن أَشَدِّ المُحالاتِ؟
فلا يُمكِنُ إحالةُ هذه الأَشياءِ الَّتي أَمامَنا -وهي في غايةِ الإتقانِ والصَّنعةِ- إلى نَفسِها قَطُّ، فذلك مُحالٌ في مُحالٍ؛ بل هي أَدِلّةٌ واضِحةٌ على صانِعِها البَديعِ أَوضَحَ مِن دَلالَتِها على نَفسِها، إذ تُبيِّنُ أنَّ صانِعَها البَديعَ لا يُعجِزُه شيءٌ، ولا يَؤُودُه شيءٌ، فكِتابةُ أَلفِ كِتابٍ أَمرٌ يَسِيرٌ لَدَيه ككِتابةِ حَرفٍ واحِدٍ.
ثمَّ تَأَمَّلْ يا أَخي في الأَرجاءِ كافّةً، تَرَ أنَّ الصّانِعَ الأَعظَمَ قد وَضَع بحِكمةٍ تامّةٍ كلَّ شيءٍ في مَوضِعِه اللّائقِ به، وأَسبَغَ على كلِّ شيءٍ نِعَمَه وكَرَمَه بلُطفِه وفَضْلِه العَمِيمِ.
وكما يَفتَحُ أَبوابَ نِعَمِه وآلائِه العَمِيمةِ أَمامَ كلِّ شيءٍ، يُسعِفُ رَغَباتِ كلِّ شيءٍ، ويُرسِلُ إلَيه ما يُطَمْئِنُه.
وفي الوَقتِ نَفسِه يَنصِبُ مَوائدَ فاخِرةً عامِرةً بالسَّخاءِ والعَطاءِ، بل يُنعِمُ على مَخلُوقاتِ هذه المَملَكةِ كافّةً مِن حَيَوانٍ ونَباتٍ نِعَمًا لا حَدَّ لها، بل يُرسِلُ إلى كلِّ فَردٍ باسمِه ورَسمِه نِعمَتَه الَّتي تُلائمُه دُونَ خَطَأٍ أو نِسيانٍ..
فهل هُناك مُحالٌ أَعظَمُ مِن أن تَظُنَّ أنَّ في هذه الأُمُورَ شيئًا مِنَ المُصادَفةِ مَهما كان ضَئِيلًا؟ أو [ترى فيها] شَيئًا مِنَ العَبَثِ وعَدَمِ الجَدْوَى؟ أو [تحسب] أنَّ أَحَدًا غيرَ الصّانِعِ البَدِيعِ قد تَدَخَّل في أُمُورِ المَملَكةِ؟ أو أن يُتَصَوَّر ألّا يَدِينَ له كلُّ شيءٍ في مُلكِه؟.. فهل تَقدِرُ يا صَدِيقي أن تَجِدَ مُبَـرِّرًا لإنكارِ ما تَراه؟
البُرهان السابع [برهان التعاون بين الموجودات]
لنَدَعِ الجُزئيّاتِ يا صاحِبي، ولْنَتَأمَّلْ في هذا العالَمِ العَجِيبِ، ولْنُشاهِدْ أَوضاعَ أَجزائِه المُتَقابِلِ بَعضُها مع البَعضِ الآخَرِ.. ففي هذا العالَمِ البَدِيعِ مِنَ النِّظامِ الشّامِلِ والِانتِظامِ الكامِلِ كأنَّ كلَّ شيءٍ فاعِلٌ مُختارٌ حَيٌّ يُشرِفُ على نِظامِ المَملَكةِ كُلِّها، ويَتَحرَّكُ مُنسَجِمًا مع ذلك النِّظامِ العامِّ.. حتَّى تَرَى الأَشياءَ المُتَباعِدةَ جِدًّا يَسعَى الواحِدُ مِنها نحوَ الآخَرِ للتَّعاوُنِ والتَّآزُرِ.
انظُر.. إنَّ قافِلةً مَهِيبةً تَنطَلِقُ مِنَ الغَيبِ10وهي قَافلةُ النَّباتاتِ الحامِلةِ لِأَرزاقِ الأَحياءِ كافّةً. مُقبِلةً علَينا، فهي قافِلةٌ تَحمِلُ صُحُونَ أَرزاقِ الأَحياء.
ثمَّ انظُرْ إلى ذلك المِصباحِ الوَضِيءِ11إشَارةً إلى الشَّمس. المُعَلَّقِ في قُبَّةِ المَملَكةِ، فهي تُنِيرُ الجَميعَ وتُنضِجُ المَأكُولاتِ المُعلَّقةَ بخَيطٍ دَقيقٍ12إشَارةً إلى أغصَان الشَّجرَة الدَّقيقَة الحَامِلة للأثمَار اللَّذيذة. والمَعرُوضةَ أَمامَه بِيَدٍ غَيبِيّةٍ.
ألا تَلتَفِتُ معي إلى هذه الحَيَواناتِ النَّحِيفةِ الضَّعِيفةِ العاجِزةِ كيف يَسِيلُ إلى أَفواهِها غِذاءٌ لَطِيفٌ خالِصٌ يَتَدفَّقُ مِن مِضَخّاتٍ13إشَارةً إلى ثَدي الأُمهَات. مُتَدلِّيةٍ فَوقَ رُؤُوسِها، وحَسْبُها أن تُلصِقَ أَفواهَها بها!
نَخلُصُ مِن هذا أنَّه ما مِن شيءٍ في هذا العالَمِ إلَّا كأنَّه يَتَطلَّعُ إلى الآخَرِ فيُغيثُه، أو يَرَى الآخَرَ فيَشُدُّ أَزْرَه ويُعاوِنُه، فيُكَمِّلُ الواحِدُ عَمَلَ الآخَرِ ويكُونُ ظَهِيرَه وسَنَدَه، ويَتَوجَّهُ الجَميعُ جَنْبًا إلى جَنْبٍ في طَريقِ الحَياةِ.. وقِسْ على ذلك.
فهذه الظَّواهِرُ جَميعُها تَدُلُّنا دَلالةً قاطِعةً وبيَقينٍ جازِمٍ إلى أنَّه ما مِن شيءٍ في هذا القَصرِ العَجِيبِ إلَّا وهو مُسَخَّرٌ لِمالِكِه القَديرِ ولِصانِعِه البَدِيعِ، ويَعمَلُ باسمِه وفي سَبِيلِه، بل كلُّ شيءٍ بمَثابةِ جُندِيٍّ مُطِيعٍ مُتَأَهِّبٍ لِتَلَقِّي الأَوامِرِ.. فكُلُّ شيءٍ يُؤَدِّي ما كُلِّف به مِن واجِبٍ بقُوّةِ مالِكِه وحَوْلِه، فيَتَحرَّكُ بأَمرِه، ويَنتَظِمُ بحِكمَتِه، ويَتَعاوَنُ بكَرَمِه وفَضْلِه، ويُغيثُ الآخَرين برَحمَتِه.. فإن كُنتَ تَستَطيعُ يا أخي إبداءَ شيءٍ مِنَ الِاعتِراضِ والشَّكِّ أَمامَ هذا البُرهانِ فهاتِه.
البُرهان الثامن [مَن يملك العناصر الأولية يملك ما يُصنَع منها]
تَعالَ يا صاحِبي المُتَعاقِلَ ويا مَثِيلَ نَفسِي الأَمَّارةِ بالسُّوءِ الَّتي تَعُدُّ نَفسَها رَشِيدةً وتُحسِنُ الظَّنَّ بنَفسِها..
أَراك يا صاحِبي تَرغَبُ عن مَعرِفةِ صاحِبِ هذا القَصرِ البَدِيعِ، مع أنَّ كلَّ شيءٍ يَدُلُّ علَيه، وكلَّ شيءٍ يُشِيرُ إلَيه، وكلَّ شيءٍ يَشهَدُ بوُجُودِه؛ فكيف تَجرُؤُ على تَكذِيبِ هذه الشَّهاداتِ كلِّها؟!
إذًا علَيك أن تُنكِرَ وُجُودَ القَصرِ نَفسِه، بل علَيك أن تُعلِنَ أنَّه لا قَصرَ ولا مَملَكةَ ولا شيءَ في الوُجُودِ؛ بل تُنكِرَ نَفسَك وتَعُدَّها مَعدُومةً لا وُجُودَ لها! أو علَيك أن تَعُودَ إلى رُشْدِك وتُصغِيَ إلَيَّ جيِّدًا، فها أنا أَضَعُ بينَ يدَيك هذا المَنظَرَ:
تَأَمَّل في هذه العَناصِرِ والمَعادِنِ14إشَارَةً إلى عَناصرِ الهَواءِ والمَاءِ التي تُؤدِّي وَظائفَ مُهِمّةً شَتَّى، وتُمِدُّ كلَّ مُحتاجٍ بإذنِ الله، وتَنتَشِر في كلِّ مكانٍ بأمرِ الله، فتُهيِّئُ لَوازِمَ الحياةِ لذَوِي الحياةِ، وهي الأصلُ في خُيُوطِ نَقشِ المَصنُوعاتِ الإلٰهِيّة. الَّتي تَعُمُّ هذه المَملَكةَ، والَّتي تُوجَدُ في كلِّ أَرجاءِ هذا القَصرِ؛ ومَعلُومٌ أنَّه ما مِن شيءٍ يُنتَجُ في هذه المَملَكةِ إلَّا مِن تلك المَوادِّ، فمَن كانَ مالِكًا لتلك المَوادِّ والعَناصِرِ فهو إذًا مالِكٌ لكُلِّ ما يُصنَعُ ويُنتَجُ مِنها، إذ مَن كان مالِكًا للمَزرَعةِ فهو مالِكُ المَحاصِيلِ، ومَن كان مالِكًا للبَحرِ فهو مالِكٌ لِما فيه.
ثمَّ انظُر يا صاحِبي إلى هذه المَنسُوجاتِ والأَقمِشةِ المُلَوَّنةِ المُزدانةِ بالأَزهارِ.. إنَّها تُصنَعُ مِن مادّةٍ واحِدةٍ، فالَّذي هَيَّأ تلك المادّةَ وغَزَلَها لا بدَّ أنَّه واحِدٌ، لأنَّ تلك الصَّنعةَ لا تَقبَلُ الِاشتِراكَ، فالمَنسُوجاتُ المُتقَنةُ تَخُصُّه هو.
ثمَّ الْتَفِت إلى هذا.. إنَّ أَجناسَ هذه المَنسُوجاتِ مَوجُودةٌ في كلِّ جُزءٍ مِن أَجزاءِ هذا العالَمِ العَجِيبِ، وقدِ انتَشَرتِ انتِشارًا واسِعَ النِّطاق، حتَّى إنَّها تُنسَجُ معًا وبتَداخُلٍ في آنٍ واحِدٍ وبنَمَطٍ واحِدٍ في كلِّ مكانٍ، أي إنَّه فِعلُ فاعلٍ واحِدٍ، فالجَميعُ يَتَحرَّكُ بأَمرٍ واحِدٍ؛ وإلَّا فمُحالٌ أن يكُونَ هناك انسِجامٌ تامٌّ وتَوافُقٌ واضِحٌ في العَمَلِ وفي آنٍ واحِدٍ وبنَمَطٍ واحِدٍ وبنَوعِيّةٍ واحِدةٍ وهَيئةٍ واحِدةٍ في جَميعِ الأَنحاءِ..
لِذا فإنَّ كلَّ ما هو مُتقَنُ الصُّنعِ يَدُلُّ دَلالةً واضِحةً على ذلك الفاعِلِ الَّذي لا نَراه، بل كأنَّه يُعلِنُ عنه صَراحة.
بل كأنَّ كلَّ نَسِيجٍ مَغرُوزٌ بالزُّهُورِ، وكلَّ ماكِينةٍ بَديعةٍ، وكلَّ مَأكُولٍ لَذيذٍ، إنَّما هو عَلامةُ الصّانِعِ المُعجِزِ وخاتَمُه وآيتُه وطُغْراؤُه..
فكلٌّ مِنهم يقُولُ بلِسانِ الحالِ: “مَن كُنتُ أنا مَصنُوعَه، فمَوضِعي الَّذي أنا فيه مُلكُه”.
وكلُّ نَقْشٍ يقُولُ: “مَن قامَ بنَسجِي ونَقشِي فلَفيفُ القُماشِ الَّذي أنا فيه هو مَنسُوجُه”.
وكذا كلُّ لُقمةٍ لَذيذةٍ تقُولُ: “مَن يَصنَعُني ويُنضِجُني فالقِدْرُ الَّذي أُطبَخُ فيه مُلكُه”.
وكلُّ ماكِينةٍ تقُولُ: “مَن قامَ بصُنعي فكلُّ ما في العالَمِ مِن أَمثالي مَصنُوعُه وهو مالِكُه.
أي مَن كان مالِكًا للمَملَكةِ والقَصرِ كلِّه فهو الَّذي يُمكِنُه أن يَملِكَنا”، وذلك بمِثلِ مَن أَرادَ أن يَدَّعِيَ تَمَلُّكَ أَزرارِ البِزّةِ العَسكَريّةِ ووَضْعَ شِعارِ الدَّولةِ علَيها، لا بُدَّ أن يكُونَ مالِكًا لِمَصانِعِها كلِّها حتَّى يكُونَ مالِكًا حَقيقيًّا، وإلّا فليس له إلّا الِادِّعاءُ الكاذِبُ، بل يُعاقَبُ على عَمَلِه ويُؤاخَذُ على كَلامِه.
الخُلاصةُ: كما أنَّ عَناصِرَ هذه المَملَكةِ مَوادُّ مُنتَشِرةٌ في جَميعِ أَرجائِها، فمالِكُها إذًا واحِدٌ، يَملِكُ ما في المَملَكةِ كلِّها، كذلك المَصنُوعاتُ المُنتَشِرةُ في أَرجاءِ المَملَكةِ لأنَّها مُتَشابِهةٌ تُظهِرُ علامةً واحِدةً ونامُوسًا واحِدًا، فجَميعُها إذًا تَدُلُّ على ذلك الواحِدِ المُهَيمِنِ على كلِّ شيءٍ.
فيا صَدِيقي.. إنَّ علامةَ الوَحدةِ ظاهِرةٌ في هذا العالَمِ، وآيةَ التَّوحيدِ واضِحةٌ بَيِّنةٌ، ذلك لأنَّ قِسمًا مِنَ الأَشياءِ رَغمَ أنَّه واحِدٌ فهو مَوجُودٌ في العالَمِ كُلِّه، وقِسمًا آخَرَ رَغمَ تَعدُّدِ أَشكالِه فإنَّه يُظهِرُ وَحدةً نَوعيّةً مع أَقرانِه لِتَشابُهِه وانتِشارِه في الأَرجاءِ، وحيثُ إنَّ الوَحدةَ تَدُلُّ على الواحِدِ كما هو مَعلُومٌ، لِذا يَلزَمُ أن يكُونَ صانِعُ هذه الأَشياءِ ومالِكُها واحِدًا أَحَدًا.. زِدْ على هذا فإنَّك تَرَى أنَّه يَخرُجُ حَبلٌ غَلِيظٌ مِن وَراءِ سِتارِ الغَيبِ، فتَتَدلَّى مِنه خُيُوطٌ15الحَبلُ إشَارةٌ إلى الشَّجرةِ المُثمِرة، والخُيوطُ الرَّفيعةُ إشَارةٌ إلى أغصَانِها، أمّا الهَدايَا والمُرصَّعات فَهي إشَارةٌ إلى أَنواعِ الأزهَارِ وأضرَابِ الثِّمار. تَحمِلُ ما هو أَثمَنُ مِنَ الماسِ والزُّمُرُّدِ مِنَ الآلاءِ والإحسانِ.
إذًا فقَدِّر بنَفسِك مَدَى بَلاهةِ مَن لا يَعرِفُ الَّذي يُديرُ هذه الأُمُورَ العَجِيبةَ ويُقَدِّم هذه الهَدايا البَديعةَ! قَدِّر مَدَى تَعاسةِ مَن لا يُؤدِّي شُكرَه علَيها! إذ إنَّ جَهلَه به يُرغِمُه على التَّفَوُّهِ بما هو مِن قَبِيلِ الهَذَيانِ، فيقُولُ مثلًا: إنَّ تلك الحِبالَ هي الَّتي تَصنَعُ تلك اللَّآلِئَ المُرَصَّعاتِ! أي: يُلزِمُه جَهلُه أن يَمنَحَ مَعنَى السُّلطانِ لكُلِّ حَبلٍ مِن تلك الحِبالِ! والحالُ أنَّنا نَرَى أنَّ يَدًا غَيبِيّةً هي الَّتي تَمتَدُّ إلى تلك الحِبالِ فتَصنَعُها وتُقلِّدُها الهَدايا.
أي إنَّ كلَّ ما في هذا القَصرِ يَدُلُّ على صانِعِه المُبدِعِ دَلالةً أَوضَحَ مِن دَلالَتِه على نَفسِه.. فإن لم تَعرِفْه يا صاحِبي حَقَّ المَعرِفةِ فستَهوِي إذًا في دَرْكٍ أَحَطَّ مِنَ الحَيَواناتِ، لأنَّك تُضطَرُّ إلى إنكارِ جَميعِ هذه الأَشياءِ.
البُرهان التاسع [التوحيد سهلٌ معقول، والشرك عسيرٌ محال]
أيُّها الصَّدِيقُ الَّذي يُطلِقُ أَحكامَه جِزافًا، إنَّك لا تَعرِفُ مالِكَ هذا القَصرِ ولا تَرغَبُ في مَعرِفَتِه، فتَستَبعِدُ أن يكُونَ له مالِكٌ، وتَنساقُ إلى إنكارِ أَحوالِه لعَجْزِ عَقلِك عنِ استِيعابِ هذه المُعجِزاتِ الباهِرةَ والرَّوائعَ البَديعةَ، مع أنَّ الِاستِبعادَ الحَقيقيَّ، والمُشكِلاتِ العَوِيصةَ والصُّعُوباتِ الجَمَّةَ في مَنطِقِ العَقلِ إنَّما هو في عَدَمِ مَعرِفةِ المالِكِ، والَّذي يُفضِي بك إلى إنكارِ وُجُودِ هذه المَوادِّ المَبذُولةِ لك بأَثمانِها الزَّهيدةِ ووَفْرَتِها العَظيمةِ.
بَينَما إذا عَرَفْناه يكُونُ قَبُولُ ما في هذا القَصرِ، وما في هذا العالَمِ سَهلًا ومُستَساغًا ومَعقُولًا جِدًّا، كأنَّه شيءٌ واحِدٌ، إذ لو لم نَعرِفْه ولَولاه، لكان كلُّ شيءٍ عِندَئذٍ صَعْبًا وعَسِيرًا، بل لا تَرَى شَيئًا مِمّا هو مُتَوفِّـرٌ ومَبذُولٌ أَمامَك..
فإن شِئتَ فانظُر فحَسْبُ إلى عُلَبِ المُرَبَّيَاتِ16مُعلَّباتُ المُربَّيات، إشَارةً إلى البِطّيخِ والشَّمَّام والرُّمَّان وغَيرِها مِن مُعلَّباتِ القُدرةِ الإلٰهِيّة، وكلُّ ذلك هَدَايا الرَّحمةِ الإلٰهِيّة. المُتَدَلِّيةِ مِن هذه الخُيُوطِ، فلو لم تكُن مِن إنتاجِ مَطبَخِ تلك القُدرةِ المُعجِزةِ، لَمَا كان باستِطاعَتِك الحُصُولُ علَيها ولو بأَثمانٍ باهِظةٍ.
نعم، إنَّ الِاستِبعادَ والمُشكِلاتِ والصُّعُوبةَ والهَلاكَ والمُحالَ إنَّما هو في عَدَمِ مَعرِفَتِه، لأنَّ إيجادَ ثَمَرةٍ -مَثلًا- يكُونُ صَعبًا ومُشكِلًا كالشَّجَرةِ نَفسِها فيما إذا رُبِطَ كلُّ ثَمَرةٍ بمَراكِزَ مُتَعدِّدةٍ وقَوانينَ مُختَلِفةٍ، بَينَما يكُونُ الأَمرُ سَهلًا مُستَساغًا إذا ما كان إيجادُ الثَّمَرةِ بقانُونٍ واحِدٍ ومِن مَركَزٍ واحِدٍ، فيكُونُ إيجادُ آلافِ الأَثمارِ كإيجادِ ثَمَرةٍ واحِدة..
مَثَلُه في هذا كمَثَلِ تَجهِيزِ الجَيشِ بالعَتادِ، فإنْ كان مِن مَصدَرٍ واحِدٍ وبقانُونٍ واحِدٍ ومِن مَعمَلٍ واحِدٍ، فالأَمرُ سَهلٌ ومُستَساغٌ عَقلًا.. بَينَما إذا جُهِّزَ كلُّ جُندِيٍّ بقانُونٍ خاصٍّ ومِن مَصدَرٍ خاصٍّ ومِن مَعمَلٍ يَخُصُّه، فالأَمرُ صَعبٌ ومُشكِلٌ جِدًّا، بل سيَحتاجُ ذلك الجُندِيُّ حِينَئذٍ إلى مَصانِعِ عَتادٍ ومَراكِزِ تَجهِيزاتٍ وقَوانينَ كَثيرةٍ بعَدَدِ أَفرادِ جَيشٍ كامِلٍ.
فعلى غِرارِ هذَينِ المِثالَينِ، فإنَّ إيجادَ هذه الأَشياءِ في هذا القَصرِ العَظيمِ والمَدينةِ الرّائعةِ، وفي هذه المَملَكةِ الرّاقيةِ والعالَمِ المَهِيبِ.. إذا ما أُسنِدَ إلى واحِدٍ أَحَدٍ، فإنَّ الأَمرَ سَهلٌ ومُستَساغٌ، حيثُ يكُونُ ما نَراه مِن وَفرةِ الأَشياءِ وكَثرَتِها واضِحًا؛ بَينَما إن لم يُسنَدِ الأَمرُ إلَيه يكُونُ إيجادُ أيِّ شيءٍ كان عَسِيرًا جِدًّا، بل لا يُمكِنُ إيجادُه أَصلًا حتَّى لو أُعطِيَتِ الدُّنيا كلُّها ثَمَنًا له.
البُرهان العاشر [برهان دوام التعاقب مع دوام النظام والعظَمة]
أيُّها الصَّديقُ، ويا مَن يَتَقرَّبُ شَيئًا فشَيئًا إلى الإنصافِ.. فها نحنُ هنا منذُ خَمسةَ عَشَرَ يَومًا17إشَارةً إلى سِنِّ التَّكليفِ البالِغِ خَمسَ عَشْرةَ سنةً.، فإن لم نَعرِفْ أَنظِمةَ هذه البِلادِ وقَوانينَها ولم نَعرِفْ مَلِيكَها فالعِقابُ يَحِقُّ علَينا، إذ لا مَجالَ لنا بَعدُ للِاعتِذارِ، فلقد أَمهَلُونا طَوالَ هذه الأَيّامِ، ولم يَتَعرَّضُوا لنا بشيءٍ؛ إلّا أنَّنا لا شَكَّ لَسنا طُلَقاءَ سائِبِينَ، فنحنُ في مَملَكةٍ رائعةٍ بَدِيعةٍ فيها مِنَ الدِّقّةِ والرِّقّةِ والعِبرةِ في المَصنُوعاتِ المُتقَنةِ ما يَنُمُّ عن عَظَمةِ مَلِيكِها، فلا بُدَّ أنَّ جَزاءَه شَديدٌ أيضًا.. وتَستَطيعُ أن تَفهَمَ عَظَمةَ المالِكِ وقُدرَتَه مِن هذا:
إنَّه يُنَظِّم هذا العالَمَ الضَّخمَ بسُهُولةِ تَنظِيمِ قَصرٍ مُنيفٍ، ويُدِيرُ أُمُورَ هذا العالَمِ العَجِيبِ بيُسرِ إدارةِ بَيتٍ صَغيرٍ، ويَملَأُ هذه المَدِينةَ العامِرةَ بانتِظامٍ كامِلٍ دُونَ نَقصٍ، ويُخْلِيها مِن سُكّانِها بحِكمةٍ تامّةٍ بمِثل سُهُولةِ مَلْءِ صَحنٍ وإفراغِه، ويَنصِبُ المَوائدَ الفَخمةَ المُتَنوِّعةَ18إشَارةً إلى وَجهِ الأرضِ في الرَّبيعِ والصَّيفِ، حَيث تَخرُج أَطعِمةٌ لَذيذةٌ مُتَنوِّعةٌ مِن مَطبَخِ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ، وتُنْصَبُ مَوائدُ النِّعَم المُتَنوِّعةُ المُختَلِفةُ وتُجَدَّد باستمرارٍ، فكلُّ بُستانٍ مَطبَخٌ، وكلُّ شَجَرةٍ خادِمُ المَطبَخِ.،ويُعِدُّ الأَطعِمةَ اللَّذيذةَ بكَمالِ كَرَمِه بِيَدٍ غَيبِيّة، ويَفْرُشُها مِن أَقصَى العالَمِ إلى أَقصاه، ثمَّ يَرفَعُها بسُهُولةِ وَضعِ سُفرةِ الطَّعامِ ورَفعِها.. فإن كُنتَ فَطِنًا فستَفْهَمُ أنَّ هذه العَظَمةَ والهَيبةَ لا بُدَّ أنَّها تَنطَوِي على كَرَمٍ لا حَدَّ له وسَخاءٍ لا حُدُودَ له.
ثمَّ انظُر.. كما أنَّ هذه الأَشياءَ شاهِدةُ صِدقٍ على عَظَمةِ المالِكِ القَديرِ وعلى هَيمَنَتِه، وعلى أنَّه سُلطانٌ واحِدٌ أَحَدٌ، كذلك القَوافِلُ المُتَعاقبةُ والتَّحَوُّلاتُ المُتَرادِفةُ دَليلٌ على دَوامِ ذلك السُّلطانِ وبَقائِه، لأنَّ الأَشياءَ الزّائلةَ إنَّما تَزُولُ معَها أَسبابُها أيضًا؛ فالأَشياءُ والأَسبابُ تَزُولانِ معًا، بَينَما الَّتي تَعقُبُها تَأْتي جَديدةً ولها آثارٌ كسابِقَتِها، فهي إذًا لَيسَت مِن فِعلِ تلك الأَسبابِ، بل مِمَّن لا يَطرَأُ علَيه الزَّوالُ! فكما أنَّ بَقاءَ اللَّمَعانِ والتَّألُّقِ -بعدَ زَوالِ حَبابِ النَّهرِ الجاري- في الَّتي تَعقُبُها مِن الحَبابِ، يُفَهِّمُنا أنَّ هذا التَّألُّقَ ليس مِنَ الحَبابِ الزّائلةِ، بل مِن مَصدَرِ نُورٍ دائمٍ، كذلك تَبَدُّلُ الأَفعالِ بالسُّرعةِ المُذهِلةِ، وتَلَوُّنُ الَّتي تَعقُبُها وانصِباغُها بصِفاتِها يَدُلُّنا على أنَّ تلك الأَفعالَ إنَّما هي تَجَلِّياتُ مَن هو دائمٌ لا يَزُولُ وقائمٌ لا يَحُولُ.. والأَشياءُ جَميعًا نُقُوشُه ومَراياه وصَنعَتُه ليس إلَّا.
البُرهان الحاديَ عشَر [برهان خاتم ديوان النبوةﷺ]
تَعالَ أيُّها الصَّديقُ لِأُبيِّنَ لك بُرهانًا يَملِكُ مِنَ القُوّةِ ما لِلبَراهينِ العَشَرةِ السّابِقةِ..
دَعْنا نَتَأَهَّبْ لِسَفْرةٍ بَحرِيّةٍ، سنَركَبُ سَفينةً19السَّفينةُ إشارةٌ إلى التَّاريخِ، والجَزيرةُ إشارةٌ إلى خَيرِ القُرُونِ وهو قَرْنُ السَّعادةِ النَّبويّةِ؛ فإذا خَلَعْنا ما أَلْبَسَتنا الحَضارةُ الدَّنِيّة مِن مَلابسَ على ساحِلِ هذا العَصرِ المُظلِمِ، وأَلقَيْنا أَنفُسنَا في بحرِ الزَّمان، ورَكِبنا سفينةَ كُتُبِ التاريخِ والسِّيرةِ الشَّريفة، ووَصَلْنا إلى ساحِلِ جَزِيرةِ عَصرِ السَّعادةِ والنُّورِ، وبَلَغْنا الجَزيرةَ العَربيّةَ، وحَظِينا بالرَّسول الكريمِ (ﷺ) وهو يُزاوِلُ مُهِمّةَ النُّبوّةِ المُقدَّسة، عندَ ذلك نَعلَمُ أنَّ ذلك النبيَّ (ﷺ) إنَّما هو بُرهانٌ باهِرٌ للتَّوحِيدِ ودَليلٌ ساطعٌ عَليه، بحيثُ نوَّرَ سطحَ الأرضِ جَميعًا، وأَضاءَ وَجهَيِ الزَّمانِ المَاضي والمُستقبَلِ، ومَحَا ظُلُماتِ الكُفرِ والضَّلالةِ. لِنَذهَبَ إلى جَزيرةٍ بَعيدةٍ عَنّا.. أَتَعلَمُ لِماذا نَذهَبُ إلَيها؟ إنَّ فيها مَفاتِيحَ أَلغازِ هذا العالَمِ ومَغاليقَ أَسرارِه وأَعاجِيبِه.. ألا تَرَى أَنظارَ الجَميعِ مُحدِقةً بها، يَنتَظِرُون مِنها بَلاغًا ويَتَلقَّون مِنها الأَوامِرَ؟
فها نحن نَبدَأُ بالرِّحلةِ.. وها قد وَصَلنا إلَيها ووَطِئَت أَقدامُنا أَرضَ الجَزيرةِ.. نحنُ الآنَ أَمامَ حَشْدٍ عَظيمٍ مِنَ النّاسِ وقدِ اجتَمَعَ أَشرافُ المَملَكةِ جَميعُهم هنا.. أَمعِنِ النَّظَرَ يا صَدِيقي إلى رَئيسِ الِاجتِماعِ المَهِيبِ.. هلَّا نَتَقرَّبُ إلَيه قَليلًا فنَعرِفَه عن كَثَبٍ.. فها هو ذا مُتَقلِّدٌ أَوْسِمةً راقِيةً تَزِيدُ على الأَلفِ20إشَارةً إلى المُعجِزاتِ الَّتي أَظهَرها الرَّسولُ الكريمُ (ﷺ) وهي ثَابتةٌ عِند أُولِي العِلمِ والتَّحقيقِ.، ويَتَحدَّثُ بكَلامٍ مِلْؤُه الطِّيبُ والثِّقةُ والِاطمِئنانُ.
وحيثُ إنِّي كُنتُ قد تَعَلَّمتُ شيئًا مِمّا يقُولُ خِلالَ خَمسةَ عَشَرَ يَومًا السّابِقةِ فسوف أُعَلِّمُك إيّاه.. إنَّه يَتَحدَّثُ عن سُلطانِ هذه المَملَكةِ ذِي المُعجِزاتِ ويقُولُ: إنَّه هو الَّذي أَرسَلَني إلَيكُم.
انظُر.. إنَّه يُظهِرُ خَوارِقَ عَجِيبةً ومُعجِزاتٍ باهِرةً بحيثُ لا يَدَعُ شُبهةً في أنَّه مُرسَلٌ خِصِّيصًا مِن لَدُنِ السُّلطانِ العَظِيمِ.
أَصْغِ جَيِّدًا إلى حَديثِه وكَلامِه، فجَميعُ المَخلُوقاتِ آذانٌ صاغِيةٌ له، بلِ المَملَكةُ برُمَّتِها تُصغِي إلَيه، حيثُ الجَميعُ يَسعَوْن إلى سَماعِ كَلامِه الطَّيِّبِ، ويَتَلهَّفُون لِرُؤيةِ مُحَيّاه الزّاهِرِ.
أوَتَظُنُّ أنَّ الإنسانَ وَحدَه يُصغِي إلَيه فحَسْبُ؟ بلِ الحَيَواناتُ أَيضًا، بل حتَّى الجِبالُ والجَماداتُ تُصغِي لِأَوامِرِه وتَهتَزُّ مِن خَشْيَتِها وشَوْقِها إلَيه.
انظُر إلى الأَشجارِ كيف تَنقادُ إلى أَوامِرِه وتَذهَبُ إلى ما أَشارَ إلَيه مِن مَواضِعَ، إنَّه يُفَجِّرُ الماءَ أَينَما يُرِيدُ، بل حتَّى مِن بينِ أَصابِعِه، فيَرتَوِي النّاسُ مِن ذلك الماءِ الزُّلالِ.
انظُر إلى ذلك المِصباحِ المُتَدلِّي مِن سَقفِ المَملَكةِ21إشَارةً إلى القَمَر، ومُعجِزةِ شقِّ القَمَر. فَقد قَال مَوْلانا جامي: إنَّ ذلك الأُمِّيَّ الذي لَم يَكتُب في حَياتِه شيئًا غيرَ ما كَتَبه بإصبعِه حرفَ أَلِفٍ على صَحيفةِ السَّماءِ، فشَقَّ به القَمَر شِقَّينِ... إنَّه يَنشَقُّ إلى شِقَّينِ اثنَينِ بمُجَرَّدِ إشارةٍ مِنه.
فكأنَّ هذه المَملَكةَ وبما فيها تَعرِفُه جيِّدًا وتَعلَمُ يَقِينًا أنَّه مُوَظَّفٌ مُرسَلٌ بمُهِمّةٍ مِن لَدُنِ السُّلطانِ، ومُبَلِّغٌ أَمينٌ لِأَوامِرِه الجَليلةِ، فتَراهُم يَنقادُون له انقِيادَ الجُندِيِّ المُطِيعِ، فما مِن راشِدٍ عاقِلٍ مِمَّن حَولَه إلَّا ويقُولُ: إنَّه رَسُولٌ كَريمٌ، ويُصَدِّقُونه ويُذعِنُون لِكَلامِه.
ليس هذا فحَسْبُ، بل يُصَدِّقُه ما في المَملَكةِ مِنَ الجِبالِ والمِصباحِ العَظيمِ22إشَارةً إلى الشَّمسِ التي رَجَعَت عنِ المَغيبِ بعَودةِ الأرضِ مِنَ المَشرِق ، فشُوهِدَت مِن جديدٍ، وبناءً على هذه المُعجِزة أدَّى الإمامُ عليٌّ رَضِيَ الله عَنهُ صَلاةَ العَصرِ التي كَادَت تَفُوتُه، وذلك بِسبَب نَومِ الرسولِ (ﷺ) على فَخِذِه.، والجَميعُ يقُولُون بلِسانِ الحالِ وبخُضُوعٍ: نعم.. نعم إنَّ كلَّ ما يَنطِقُ به صِدقٌ وعَدلٌ وصَوابٌ.
فيا أيُّها الصَّدِيقُ الغافِلُ.. هل تَرَى أنَّه يُمكِنُ أن يكُون هناك أَدنَى احتِمالٍ لِكَذِبٍ أو خِداعٍ في كَلامِ هذا الكَريمِ؟ حاشَ للهِ أن يكُونَ مِن ذلك شيءٌ مِن كَلامِه أَبدًا! وهو الَّذي أَكرَمَه السُّلطانُ بأَلفٍ مِنَ الأَنواطِ والشّاراتِ، وهي عَلاماتُ تَصدِيقِه له، وجَميعُ أَشرافِ المَملَكةِ يُصَدِّقُونه، وكَلامُه كُلُّه ثِقةٌ واطمِئنانٌ، فهو يَبحَثُ في أَوصافِ السُّلطانِ المُعجِزِ وعن أَوامِرِه البَليغةِ، فإن كُنتَ تَجِدُ في نَفسِك شَيئًا مِنِ احتِمالِ الكَذِبِ، فيَلزَمُ علَيك أن تُكَذِّبَ كلَّ الجَماعاتِ المُصَدِّقةِ به، بل تُنكِرَ وُجُودَ القَصرِ والمَصابِيحِ، وتُنكِرَ وُجُودَ كلِّ شيءٍ وتُكَذِّبَ حَقيقَتَهم، وإلَّا فهاتِ ما عِندَك إن كان لَدَيك شيءٌ، فالدَّلائلُ تَتَحدَّى.
البُرهان الثانيَ عشَر [برهان القرآن الكريم]
أيُّها الأَخُ.. لَعلَّك استَرشَدتَ بما قُلنا شَيئًا فشَيئًا، فسأُبيِّنُ لك الآنَ بُرهانًا أَعظَمَ مِن جَميعِ البَراهِينِ السّابقةِ:
انظُر إلى هذه المَرسُومِ السُّلطانِيِّ النّازِلِ مِنَ الأُفُقِ الأَعلَى.. الجَميعُ يُوَقِّـرُونَه ويَنظُرُون إلَيه بإجلالٍ وإعجابٍ، وقد وَقَف ذلك الشَّخصُ الكَريمُ المُجَلَّلُ بالأَوسِمةِ بجانِبِ هذا المَرسُومِ النُّورانيِّ23إشَارةً إلى القُرآنِ الكريمِ، والعَلامةُ المَوضُوعةُ عليه إشَارةٌ إلى إعجَازِه.، ويُفَسِّر للحُشُودِ المُجتَمِعةِ مَعانِيَه.
انظُر إلى أُسلُوبِه.. إنَّه يُشِعُّ ويَسطَعُ حتَّى يَسُوقَ الجَميعَ إلى الإعجابِ والتَّعظيمِ، إذ يَبحَثُ في مَسائلَ جادَّةٍ تُهِمُّ الجَميعَ بحيثُ لا يَدَعُ أَحَدًا إلَّا ويُصْغي إلَيه.
إنَّه يُفَصِّلُ تَفصيلًا كامِلًا شُؤُونَ السُّلطانِ وأَفعالَه وأَوامِرَه وأَوصافَه، فكما أنَّ على ذلك المَرسُومِ السُّلطانِيِّ طُغْراءَ السُّلطانِ نَفسِه، فعلى كلِّ سَطرٍ مِن سُطُورِها أيضًا شارَتُه، بل إذا أَمعَنتَ النَّظَرَ فعلى كلِّ جُملةٍ بل كلِّ حَرفٍ فيها خاتَمُه الخاصُّ، فَضْلًا عن مَعانِيها ومَرامِيها وأَوامِرِها ونَواهِيها.
الخُلاصةُ: إنَّ ذلك المَرسُومَ السُّلطانِيَّ يَدُلُّ على ذلك السُّلطانِ العَظيمِ كدَلالةِ الضَّوءِ على النَّهارِ.
فيا أيُّها الصَّدِيقُ.. أَظُنُّك قد عُدتَ إلى صَوابِك وأَفَقْتَ مِن نَومِ الغَفلةِ، فإنَّ ما ذَكَرناه لك وبَسَطْناه مِن بَراهِينَ لَكافٍ ووافٍ، فإن بَدَا لك شيءٌ فاذكُرْه.
فما كان مِن ذلك المُعانِدِ إلَّا أن قالَ: لا أَقُولُ إلَّا: الحَمدُ للهِ، لقد آمَنتُ وصَدَّقتُ، بل آمَنتُ إيمانًا واضِحًا أَبلَجَ كالشَّمسِ وكالنَّهارِ، ورَضِيتُ بأنَّ لِهذه المَملَكةِ رَبًّا ذا كَمالٍ، ولِهذا العالَمِ مَولًى ذا جَلالٍ، ولِهذا القَصرِ صانِعًا ذا جَمالٍ.. لِيَرضَ اللهُ عنك يا صَدِيقي الحَميمَ، فقد أَنقَذتَني مِن إسارِ العِنادِ والتَّعَصُّبِ المَمقُوتِ الَّذي بَلَغ بي حَدَّ الجُنُونِ والبَلاهةِ.
ولا أَكتُمُك يا أَخي، فإنَّ ما سُقتَه مِن بَراهِينَ، كلُّ واحِدٍ مِنها كان بُرهانًا كافيًا لِيُوصِلَني إلى هذه النَّتيجةِ، إلَّا أنَّني كُنتُ أُصغِي إلَيك لِأَنَّ كلَّ بُرهانٍ مِنها قد فَتَح آفاقًا أَرحَبَ ونَوافِذَ أَسطَعَ إلى مَعرِفةِ اللهِ وإلى مَحَبَّتِه الخالِصةِ.
وهكذا تَمَّتِ الحِكايةُ الَّتي كانَت تُشِيرُ إلى الحَقيقةِ العُظمَى للتَّوحِيدِ والإيمانِ باللهِ.
وسنُبيِّنُ في المَقامِ الثاني بفَضلِ الرَّحمٰنِ وفَيضِ القُرآنِ الكَريمِ ونُورِ الإيمانِ مُقابِلَ ما جاءَ مِنِ اثنَي عَشَرَ بُرهانًا في الحِكايةِ التَّمثيليّةِ اثنَتَي عَشْرةَ لَمعةً مِن لَمَعاتِ شَمسِ التَّوحِيدِ الحَقيقيِّ بعدَ أن نُمَهِّدَ لها بمُقدِّمةٍ.
نَسأَلُ اللهَ التَّوفيقَ والهِدايةَ.
❀ ❀ ❀
![الجهل مجلبة للوساوس، والعلم طارد لها، فبقدر جهلك ترِد عليك الوساوس، وإذا علمتَ ذهبتْ عنك.](https://said-nursi.com/wp-content/uploads/2024/12/%D9%82%D9%84-%D8%A3%D8%B9%D9%88%D8%B0-%D8%A8%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B3.jpg)
[المقام الثاني: اثنتا عشرة لمعةً من التوحيد الحقيقي]
المقام الثاني من الكلمة الثانية والعشرين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾
﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
المقدمة
لقد بيَّنّا إجمالًا في رِسالةِ “قَطرةٌ مِن بَحرِ التَّوحِيدِ” قُطبَ أَركانِ الإيمانِ وهو “الإيمانُ بالله”، وأَثبَتْنا أنَّ كلَّ مَوجُودٍ مِنَ المَوجُوداتِ يَدُلُّ على وُجُوبِ وُجُودِ اللهِ سُبحانَه، ويَشهَدُ على وَحدانيَّتِه بخَمسةٍ وخَمسِين لِسانًا.
وذَكَرنا كذلك في رِسالةِ “نُقطةٌ مِن نُورِ مَعرِفةِ اللهِ جَلَّ جَلالُه” أَربَعةَ بَراهِينَ كُلِّـيّةٍ على وُجُوبِ وُجُودِه سُبحانَه ووَحدانيَّتِه، كلُّ بُرهانٍ مِنها بقُوّةِ أَلفِ بُرهانٍ.
كما ذَكَرنا مِئاتٍ مِنَ البَراهِينِ القاطِعةِ الَّتي تُبيِّنُ وُجُوبَ وُجُودِه سُبحانَه ووَحدانيَّتَه فيما يَقرُبُ مِنِ اثنَتَي عَشْرةَ رِسالةً باللُّغةِ العَرَبيّةِ، لِذا نَكتَفي بما سَبَق ولا نَدخُلُ في تَفاصِيلَ دَقيقةٍ، إلَّا أنَّنا نَسعَى في هذه “الكَلِمةِ الثّانيةِ والعِشرِين” لإظهارِ “اثنَتَيْ عَشْرةَ لَمعةً” مِن شَمسِ “الإيمان بالله”، تلك الَّتي ذَكَرتُها إجمالًا في رسائلِ النُّورِ.
اللَّمعة الأولى [التوحيد قسمان: عامّي ظاهري، وحقيقي]
التَّوحِيدُ تَوحِيدانِ، لِنُوضِّحْ ذلك بمِثالٍ: إذا وَرَدَتْ إلى سُوقٍ أو إلى مَدينةٍ بَضائِعُ مُختَلِفةٌ وأَموالٌ مُتَنوِّعةٌ لِشَخصٍ عَظيمٍ، فهذه الأَموالُ تُعرَفُ مُلكِيَّـتُها بشَكلَينِ اثنَينِ:
الأوَّلُ: شَكلٌ إجماليٌّ عامِّيٌّ (أي: لَدَى العامّةِ مِنَ النّاسِ) وهو “أنَّ مِثلَ هذه الأَموالِ الطّائلةِ ليس بمَقدُورِ أَحَدٍ غيرِه أن يَمتَلِكَها”، ولكِن ضِمنَ نَظرةِ الشَّخصِ العامِّيِّ هذه يُمكِنُ أن يَحدُثَ اغتِصابٌ، فيَدَّعيَ الكَثيرُون امتِلاكَ قِطَعِها.
الثاني: أن تُقرَأَ الكِتابةُ المَوجُودةُ على كلِّ رِزْمةٍ مِن رِزَمِ البِضاعةِ، وتُعرَفَ الطُّغْراءُ المَوجُودةُ على كلِّ طَولٍ، ويُعلَمَ الخَتْمُ المَوجُود على كلِّ مَعْلَمٍ.. أي: كلُّ شيءٍ في هذه الحالةِ يَدُلُّ ضِمنًا على ذلك المالِكِ.
فكما أنَّ البِضاعةَ يُعرَفُ مالِكُها بشَكلَينِ، كذلك التَّوحِيدُ فإنَّه على نَوعَينِ:
الأوَّل: التَّوحِيدُ الظّاهِرِيُّ العامِّيُّ، وهو “أنَّ اللهَ واحِدٌ لا شَرِيكَ له ولا مَثِيلَ، وهذا الكَونُ كلُّه مُلْكُه”.
الثاني: التَّوحِيدُ الحَقيقيُّ، وهو الإيمانُ بيَقينٍ أَقرَبَ ما يكُونُ إلى الشُّهُودِ، بوَحدانيَّتِه سُبحانَه، وبصُدُورِ كلِّ شيءٍ مِن يَدِ قُدرَتِه، وبأنَّه لا شَرِيكَ له في أُلُوهيَّتِه، ولا مُعِينَ له في رُبُوبيَّتِه، ولا نِدَّ له في مُلكِه، إيمانًا يَهَبُ لِصاحِبِه الِاطمِئنانَ الدّائِمَ وسَكِينةَ القَلبِ، لِرُؤيَتِه آيةَ قُدرَتِه وخَتْمَ رُبُوبيَّتِه ونَقْشَ قَلَمِه، على كلِّ شيء.. فيَنفَتِحُ شُبَّاكٌ نافِذٌ مِن كلِّ شيءٍ إلى نُورِه سُبحانَه.
وسنَذكُرُ في هذه “الكَلِمةِ” شُعاعاتٍ تُبيِّنُ ذلك التَّوحِيدَ الحَقيقيَّ الخالِصَ السّامِيَ.
تنبيهٌ ضِمنَ اللَّمعةِ الأُولَى [الأسباب ستائرُ على تصرف القدرة الإلهية]
أيُّها الغافِلُ الغارِقُ في عِبادةِ الأَسبابِ.. اعلَمْ أنَّ الأَسبابَ لَيسَت إلَّا سَتائرَ أَمامَ تَصَرُّفِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ، لأنَّ العِزّةَ والعَظَمةَ تَقتَضِيانِ الحِجابَ، أمّا الفاعِلُ الحَقيقيُّ فهو القُدرةُ الصَّمَدانيّةُ، لِأَنَّ التَّوحِيدَ والجَلالَ يَتَطلَّبانِ هذا، ويَقتَضِيانِ الِاستِقلالَ.
واعلَمْ أنَّ مَأْمُورِي السُّلطانِ الأَزَليِّ ومُوَظَّفِيه ليسوا همُ المُنَفِّذين الحَقيقيِّين لِأُمُورِ سَلْطنةِ الرُّبُوبيّةِ، بل هم دالُّون على تلك العَظَمةِ والسُّلطانِ، والدَّاعُون إلَيها، ومُشاهِدُوها المُعجَبُون، فما وُجِدُوا إلَّا لإظهارِ عِزّةِ الرُّبُوبِيّةِ وقُدرَتِها وهَيبَتِها وعَظَمتِها، وذلك لِئلَّا تَظهَرَ مُباشَرةُ يَدِ القُدرةِ في أُمُورٍ جُزئيّةٍ خَسِيسةٍ لا يُدرِكُ نظَرُ أَكثَرِ الغافِلين حُسْنَها ولا يَعرِفُ حِكمَتَها، فيَشتَـكيَ بغَيرِ حَقٍّ ويَعتَرِضَ بغَيرِ عِلمٍ؛ وهم لَيسُوا كمُوَظَّفي السُّلطانِ البَشَريِّ الَّذي لم يُعيِّنْهم ولم يُشْرِكْهم في سَلطَنَتِه إلّا نَتيجةَ عَجزِه وحاجَتِه.
[لكل شيء وجهان: المُلك والملكوت]
فالأَسبابُ إذًا إنَّما وُضِعَت لِتَبقَى عِزّةُ القُدرةِ مَصُونةً مِن جِهةِ نَظَرِ العَقل الظّاهِريِّ؛ إذ إنَّ لكلِّ شيءٍ جِهَتَينِ كوَجهَيِ المِرآةِ:
إحداهما: جِهةُ “المُلْكِ” الشَّبِيهةُ بالوَجهِ المَطلِيِّ المُلَوَّنِ للمِرآةِ الَّذي يكُونُ مَوضِعَ الأَلوانِ والحالاتِ المُختَلِفة.
والأُخرَى: جِهةُ “المَلَكُوتِ” الشَّبِيهةُ بالوَجهِ الصَّقيلِ للمِرآةِ.
ففي الوَجهِ الظّاهِرِ -أي جِهةِ المُلْكِ– هناك حالاتٌ مُنافيةٌ ظاهِرًا لِعِزّةِ القُدرةِ الصَّمَدانيّةِ وكَمالِها، فوُضِعَتِ الأَسبابُ كي تكُونَ مَرجِعًا لتلك الحالاتِ ووَسائلَ لها؛ أمّا جِهةُ المَلَكُوتِ والحَقيقةِ فكلُّ شيءٍ فيها شَفّافٌ وجَميلٌ ومُلائمٌ لِمُباشَرةِ يَدِ القُدرةِ لها بذاتِها، وليس مُنافيًا لِعِزَّتِها؛ لذا فالأَسبابُ ظاهِرِيّةٌ بَحتةٌ، وليس لها التَّأثيرُ الحَقيقيُّ في المَلَكُوتيّةِ أو في حَقيقةِ الأَمرِ.
[حكمة أخرى لنظام الأسباب]
وهناك حِكمةٌ أُخرَى للأَسبابِ الظّاهِريّةِ، وهي عَدَمُ تَوجِيهِ الشَّكاوَى الجائرةِ والِاعتِراضاتِ الباطِلةِ إلى العادِلِ المُطلَقِ جلَّ وعَلا. أي: وُضِعَتِ الأَسبابُ لِتكُونَ هَدَفًا لتلك الِاعتِراضاتِ وتلك الشَّكاوِي، لأنَّ التَّقصِيرَ صادِرٌ مِنها، ناشِئٌ مِنِ افتِقارِ قابِليَّتِها.
ولقد رُوِيَ لبَيانِ هذا السِّرِّ مِثالٌ لَطِيفٌ ومُحاوَرةٌ مَعنَويّةٌ هي أنَّ عَزرائيلَ عَليهِ السَّلام قال لِرَبِّ العِزّةِ: “إنَّ عِبادَك سوف يَشتَـكُون مِنِّي ويَسخَطُون علَيَّ عِندَ أَدائي لِوَظيفةِ قَبضِ الأَرواحِ”، فقال اللهُ سُبحانَه وتَعالَى له بلِسانِ الحِكمةِ: “سَأَضَعُ بَينَك وبينَ عِبادي سَتائرَ المَصائبِ والأَمراضِ لِتَتَوجَّه شَكاواهم إلى تلك الأَسبابِ”.
وهكذا، تأَمَّلْ: كما أنَّ الأَمراضَ سَتائرُ يَرجِعُ إلَيها ما يُتَوَهَّمُ مِن مَساوِئَ في الأَجَلِ، وكما أنَّ الجَمالَ المَوجُودَ في قَبضِ الأَرواحِ -وهو الحَقيقةُ- يَعُودُ إلى وَظيفةِ عِزرائيلَ عَليهِ السَّلام، فإنَّ عِزرائيلَ عَليهِ السَّلام هو الآخَرُ سِتارٌ، فهو سِتارٌ لِأَداءِ تلك الوَظيفةِ وحِجابٌ للقُدرةِ الإلٰهِيّةِ، إذ أَصبَحَ مَرجِعًا لحالاتٍ تَبدُو ظاهِرًا غيرَ ذاتِ رَحمةٍ، ولا تَليقُ بكَمالِ القُدرةِ الرَّبّانيّةِ.
نعم، إنَّ العِزَّة والعَظَمةَ تَستَدعِيانِ وَضْعَ الأَسبابِ الظّاهِريّةِ أمامَ نَظَرِ العَقلِ، إلَّا أنَّ التَّوحِيدَ والجَلالَ يَرُدَّانِ أَيدِيَ الأَسبابِ عنِ التَّأثيرِ الحَقيقيِّ.
اللَّمعة الثانية [أختام الصانع الجليل على الحياة]
تأمَّلْ في بُستانِ هذه الكائناتِ، وانظُرْ إلى جِنانِ هذه الأَرضِ، وأَنعِمِ النَّظَرَ في الوَجهِ الجَميلِ لِهذه السَّماءِ المُتَلألِئةِ بالنُّجُومِ، تَرَ أنَّ للصّانِعِ الجَليلِ جلَّ جَلالُه خَتْمًا خاصًّا بمَن هو صانِعُ كلِّ شيءٍ على كلِّ مَصنُوعٍ مِن مَصنُوعاتِه، وعَلامةً خاصّةً بمَن هو خالِقُ كلِّ شيءٍ على كلِّ مَخلُوقٍ مِن مَخلُوقاتِه، وآيةً لا تُقَلَّدُ خاصّةً بسُلطانِ الأَزَلِ والأَبَدِ على كلِّ مَنشُورٍ مِن كِتاباتِ قَلَمِ قُدرَتِه على صَحائفِ اللَّيلِ والنَّهارِ وصَفَحاتِ الصَّيفِ والرَّبيعِ.
سنَذكُرُ مِن تلك الأَختامِ والعَلاماتِ بِضعًا مِنها نَمُوذجًا ليس إلَّا.
انظُرْ مِمّا لا يُحصَى مِن عَلاماتِه إلى هذه العَلامةِ الَّتي وَضَعَها على “الحَياةِ“: “إنَّه يَخلُقُ مِن شيءٍ واحِدٍ كلَّ شيءٍ، ويَخلُقُ مِن كلِّ شيءٍ شيئًا واحِدًا“. فمِن ماءِ النُّطفةِ، بل مِن ماءِ الشُّربِ، يَخلُقُ ما لا يُعدُّ مِن أَجهِزةِ الحَيَوانِ وأَعضائِه، فهذا العَمَلُ لا شَكَّ أنَّه خاصٌّ بقَديرٍ مُطلَقِ القُدرةِ.
ثمَّ إنَّ تَحوِيلَ الأَطعِمةِ المُتَنوِّعةِ -سَواءٌ الحَيَوانيّةُ أوِ النَّباتيّةُ- إلى جِسمٍ خاصٍّ بنِظامٍ كامِلٍ دَقيقٍ، ونَسْجَ جِلدٍ خاصٍّ للكائنِ وأَجهِزةٍ مُعيَّنةٍ مِن تلك المَوادِّ المُتَعدِّدةِ لا شَكَّ أنَّه عَمَلُ قَديرٍ على كلِّ شيءٍ، وعَليمٍ مُطلَقِ العِلمِ.
نعم، إنَّ خالقَ المَوتِ والحَياةِ يُديرُ الحَياةَ في هذه الدُّنيا إدارةً حَكِيمةً بقانُونٍ أَمْرِيٍّ مُعجِزٍ، بحيثُ لا يُمكِنُ أن يُطَبِّقَ ذلك القانُونَ ويُنفِّذَه إلّا مَن يُصَرِّفُ جَميعَ الكَونِ في قَبضَتِه.
وهكذا، إن لم تَنطَفِئْ جَذوةُ عَقلِكَ ولم تَفقِدْ بَصيرةَ قَلبِك، فستَفْهَمُ أنَّ جَعْلَ الشَّيءِ الواحِدِ كلَّ شَيءٍ بسُهُولةٍ مُطلَقةٍ وانتِظامٍ كامِلٍ، وجَعْلَ كلِّ شيءٍ شيئًا واحِدًا بمِيزانٍ دَقيقٍ وانتِظامٍ رائعٍ وبمَهارةٍ وإبداعٍ، ليس إلَّا علامةً واضِحةً وآيةً بيِّنةً لِخالقِ كلِّ شيءٍ وصانِعِه.
فلو رَأَيتَ -مثلًا- أنَّ أَحَدًا يَملِكُ أَعمالًا خارِقةً: يَنسُجُ مِن وَزنِ دِرهَمٍ مِنَ القُطنِ مِئةَ طَولٍ مِنَ الصُّوفِ الخالِصِ وأَطوالًا مِنَ الحَريرِ وأَنواعًا مِنَ الأَقمِشةِ، ورَأَيتَ أنَّه يُخرِجُ -عَلاوةً على ذلك- مِن ذلك القُطنِ حَلْوَيَاتٍ لَذيذةً وأَطعِمةً مُتَنوِّعةً كَثيرةً، ثمَّ رَأَيتَ أنَّه يَأخُذُ في قَبضَتِه الحَديدَ والحَجَرَ والعَسَلَ والدُّهنَ والماءَ والتُّرابَ، فيَصنَعُ مِنها الذَّهَبَ الخالِصَ، فستَحكُمُ حَتْمًا أنَّه يَملِكُ مَهارةً مُعجِزةً تَخُصُّه وقُدرةً مُهيمِنةً على التَّصَرُّفِ في المَوجُوداتِ، بحيثُ إنَّ جَميعَ عَناصِرِ الأَرضِ مُسَخَّرةٌ بأَمرِه، وجَميعَ ما يَتَولَّدُ مِنَ التُّرابِ مُنَفِّذٌ لِحُكمِه.
فإنْ تَعْجَبْ مِن هذا فإنَّ تَجَلِّيَ القُدرةِ والحِكْمةِ الإلٰهِيّةِ في “الحَياةِ” لَهُو أَعجَبُ مِن هذا المِثالِ بأَلفِ مَرّةٍ.
فإلَيكَ عَلامةً واحِدةً مِن عَلاماتٍ عَدِيدةٍ مَوضُوعةٍ على الحَياةِ.
اللَّمعة الثالثة [أختام الصانع الجليل على ذوي الحياة]
انظُر إلى “ذَوِي الحَياةِ” المُتَجوِّلةِ في خِضَمِّ هذه الكائناتِ السَّيّالةِ، وبينَ هذه المَوجُوداتِ السَّيّارةِ، تَرَ أنَّ على كلِّ كائنٍ حَيٍّ، أَختامًا كَثيرةً وَضَعَها الحَيُّ القَيُّومُ.. انظُر إلى خَتمٍ واحِدٍ مِنها:
إنَّ ذلك الكائنَ الحَيَّ -ولْيَكُن هذا الإنسانَ- كأنَّه مِثالٌ مُصَغَّـرٌ للكَونِ، وثَمَرةٌ لِشَجَرةِ الخِلْقةِ، ونَواةٌ لهذا العالَمِ، حيثُ إنَّه جامِعٌ لِمُعْظَمِ نَماذِجِ أَنواعِ العَوالِمِ؛ وكأنَّ ذلك الكائِنَ الحَيَّ قَطرةٌ مَحلُوبةٌ مِنَ الكَونِ كُلِّه، مُستَخلَصةٌ بمَوازِينَ عِلمِيّةٍ حَسّاسةٍ، لِذا يَلزَمُ لِخَلْقِ هذا الكائنِ الحَيِّ وتَربِيَتِه ورِعايَتِه أن يكُونَ الكَونُ قاطِبةً في قَبضةِ الخالِقِ وتحتَ تَصَرُّفِه.. فإن لم يكُن عَقْلُك غارِقًا في الأَوهامِ، فستَفْهَمُ أنَّ جَعْلَ النَّحلةِ الَّتي تُمثِّلُ كَلِمةً مِن كَلِماتِ القُدرةِ الرَّبّانيّةِ بمَثابةِ فِهرِسٍ مُصَغَّرٍ لِكَثيرٍ مِنَ الأَشياءِ؛ وكِتابةَ أَغلَبِ مَسائلِ كِتابِ الكَونِ في كِيانِ الإنسانِ الَّذي يُمَثِّلُ صَحيفةً مِن قُدرَتِه سُبحانَه؛ وإدراجَ مِنهاجِ شَجَرةِ التِّينِ الضَّخمةِ في بُذَيراتِها الَّتي تُمَثِّلُ نُقطةً في كِتابِ القُدرةِ؛ وإراءةَ آثارِ الأَسماءِ الحُسنَى المُحيطةِ المُتَجلِّيةِ على صَفَحاتِ هذا الكَونِ العَظيمِ في قَلبِ الإنسانِ الَّذي يُمَثِّلُ حَرْفًا واحِدًا مِن ذلك الكِتابِ؛ ودَرْجَ ما تَضُمُّه مَكتَبةٌ ضَخمةٌ مِن مُفَصَّلِ حَياةِ الإنسانِ في ذاكِرَتِه المُتَناهِيةِ في الصِّغَرِ.. كلُّ ذلك دُونَ شَكٍّ خَتْمٌ يَخُصُّ مَن هو خالِقُ كلِّ شيءٍ ورَبُّ العالَمِين.
فلَئِن أَظهَرَ خَتْمٌ واحِدٌ مِن بينِ أَختامٍ رَبّانيّةٍ كَثيرةٍ، على “ذَوِي الحَياةِ” نُورَه باهِرًا حتَّى استَقْرَأَ آياتِه قِراءةً واضِحةً، فكيف إذا استَطَعتَ أن تَنظُرَ إلى جَميعِ “ذَوِي الحَياةِ”، وتُشاهِدَ تلك الأَختامَ معًا، وأن تَراها دُفعةً واحِدةً، أمَا تقُولُ: “سُبحانَ مَنِ اختَفَى بشِدّةِ ظُهُورِه”؟
اللَّمعة الرابعة [أختام الصانع الجليل في الإحياء]
انظُر إلى هذه المَوجُوداتِ المُلَوَّنةِ الزّاهِيةِ المَبثُوثةِ على وَجهِ الأَرضِ، وإلى هذه المَصنُوعاتِ المُتَنوِّعةِ السّابِحةِ في بَحرِ السَّماواتِ، تَأَمَّلْ فيها جَيِّدًا.. تَرَ أنَّ على كلِّ مَوجُودٍ مِنها طُغْراءَ لا تُقَلَّدُ للمُنوِّرِ الأَزَليِّ جلَّ وعَلا، فكما تُشاهَدُ على “الحَياةِ” آياتُه وشاراتُه، وعلى “ذَوِي الحَياةِ” أَختامُه -وقد رَأَينا بَعضًا مِنها- تُشاهَدُ آياتٌ وشاراتٌ أيضًا على “الإحياءِ“، أي: مَنحِ الحَياةِ؛ سنَنظُرُ إلى حَقيقَتِها بمِثالٍ، إذِ المِثالُ يُقرِّبُ المَعانِيَ العَمِيقةَ للأَفهامِ:
إنَّه يُشاهَدُ على كلٍّ مِنَ السَّيّاراتِ السّابِحةِ في الفَضاءِ، وقَطَراتِ الماءِ، وقِطَعِ الزُّجاجِ الصَّغيرةِ، وبِلَّوراتِ الثَّلجِ البَرّاقةِ.. طُغْراءُ لِصُورةِ الشَّمسِ وخَتمٌ لِانعِكاسِها، وأَثَرٌ نُورانِيٌّ خاصٌّ بها؛ فإن لم تَقبَلْ أنَّ تلك الشُّمَيساتِ المُشرِقةَ على الأَشياءِ غيرِ المَحدُودةِ، هي انعِكاساتُ نُورِ الشَّمسِ وتَجَلِّيها، فستُضطَـرُّ أن تَقبَلَ بوُجُودِ شَمسٍ بالأَصالةِ في كلِّ قَطرةٍ، وفي كلِّ قِطعةِ زُجاجٍ مُعرَّضةٍ للضَّوءِ، وفي كلِّ ذَرّةٍ شَفّافةٍ تُقابِلُ الضَّوءَ، مِمّا يَستَلزِمُ تَرَدِّيَك في مُنتَهَى البَلاهةِ ومُنتَهَى الجُنُونِ!
وهكذا، فلِلَّه سُبحانَه وهو نُورُ السَّماواتِ والأَرضِ تَجَلِّياتٌ نُورانيّةٌ مِن حيثُ “الإحياءُ” وإفاضةُ الحَياةِ، فهو آيةٌ جَلِيّةٌ وطُغْراءُ واضِحةٌ يَضَعُها سُبحانَه على كلِّ ذِي حَياةٍ، بحيثُ لوِ افتُرِضَ اجتِماعُ جَميعِ الأَسبابِ وأَصبَحَ كلُّ سَبَبٍ فاعِلًا مُختارًا فلن تَستَطيعَ مَنحَ حَياةٍ لِمَوجُودٍ. أي إنها تَعجِزُ عَجْزًا مُطلَقًا عن أن تُقَلِّدَ الخَتْمَ الرَّبّانِيَّ في الإحياءِ، ذلك لِأَنَّ كلَّ ذِي حَياةٍ هو بحَدِّ ذاتِه مُعجِزةٌ مِن مُعجِزاتِ القُدرةِ الإلٰهِيّة، إذ هو على صُورةِ نُقطةٍ مَركَزيّةٍ “كالبُؤرةِ” لِتَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى، الَّتي كُلٌّ مِنها بمَثابةِ شُعاعٍ مِن نُورِه سُبحانَه.
فلو لم يُسنَد ما يُشاهَدُ على الكائنِ الحَيِّ مِن صَنعةٍ بَدِيعةٍ في الصُّورةِ، وحِكمةٍ بالِغةٍ في النِّظامِ، وتَجَلٍّ باهِرٍ لِسِرِّ الأَحَديّةِ، إلى الأَحَدِ الصَّمَدِ جلَّ جَلالُه، لَلَزِمَ قَبُولُ قُدرةٍ فاطِرةٍ مُطلَقةٍ غيرِ مُتَناهِيةٍ مُستَتِرةٍ في كلِّ ذِي حَياةٍ، ووُجُودُ عِلمٍ مُحِيطٍ واسِعٍ فيه، معَ إرادةٍ مُطلَقةٍ قادِرةٍ على إدارةِ الكَونِ، بل يَجِبُ قَبُولُ وُجُودِ بَقيّةِ الصِّفاتِ الَّتي تَخُصُّ الخالِقَ سُبحانَه في ذلك الكائِنِ، حتَّى لو كان الكائنُ الحَيُّ ذُبابةً أو زَهرةً! أي: إعطاءُ صِفاتِ الأُلُوهيّةِ لكُلِّ ذَرّةٍ مِن ذَرّاتِ أيِّ كائنٍ! أي: قَبُولُ افتِراضاتٍ مُحالةٍ مِن أَمثالِ هذه الِافتِراضاتِ الَّتي تُوجِبُ السُّقوطَ إلى أَدنَى بَلاهاتِ الضَّلالةِ وحَماقاتِ الخُرافةِ!
ذلك لأنَّه سُبحانَه وتَعالَى قد أَعطَى ذَرّاتِ كلِّ شيءٍ -لا سِيَّما إذا كانَت مِن أَمثالِ البِذرةِ والنَّواةِ- وَضْعًا مُعَيَّنًا، كأنَّ تلك الذَّرّةَ تَنظُرُ إلى ذلك الكائنِ الحَيِّ كُلِّه -رَغمَ أنَّها جُزءٌ مِنه- وتَتَّخِذُ مَوقِفًا مُعيَّنًا وَفقَ نِظامِه، بل تَتَّخِذُ هَيئةً خاصّةً بما يُفيدُ دَوامَ ذلك النَّوعِ، وانتِشارَه ونَصْبَ رايَتِه في كلِّ مَكانٍ، وكأَنَّها تَتَطلَّعُ إلى نَوْعِ ذلك الكائنِ في الأَرضِ عُمُومًا -فتُزوِّدُ البِذرةَ مَثلًا بما يُشبِهُ جُنَيحاتٍ لِأَجلِ الطَّيَرانِ والِانتِشارِ- وتَتَّخِذُ مَوقِفًا يَتَعلَّقُ بجَميعِ مَوجُوداتِ الأَرضِ الَّتي يَحتاجُها ذلك الكائنُ الحَيُّ لإدامةِ حَياتِه وتَربِيَتِه ورِزقِه ومُعامَلاتِه.. فإن لم تكُن تلك الذَّرّةُ مَأمُورةً مِن لَدُنْ قَديرٍ مُطلَقِ القُدرةِ، وقُطِعَت نِسبَتُها مِن ذلك القَديرِ المُطلَقِ، لَزِمَ أن يُعطَى لها بَصَرٌ تُبصِرُ به جَميعَ الأَشياءِ، وشُعُورٌ يُحيطُ بكلِّ شيءٍ!!.
حاصِلُ الكَلامِ: كما أنَّه لو لم تُسنَدْ صُوَرُ الشُمَيساتِ المُشرِقةِ وانعِكاساتُ الأَلوانِ المُختَلِفةِ في القَطَراتِ وقِطَعِ الزُّجاجِ إلى ضَوءٍ الشَّمس، يَنبَغي عِندَئذٍ قَبُولُ شُمُوسٍ لا تُحصَى بَدَلًا مِن شَمسٍ واحِدةٍ، مِمّا يَقتَضِي التَّسليمَ بخُرافةٍ مُحالةٍ؛ كذلك لو لم يُسنَد خَلْقُ كلِّ شيءٍ إلى القَديرِ المُطلَقِ، لَلَزِمَ قَبُولُ آلِهةٍ غيرِ مُتَناهِيةٍ بل بعَدَدِ ذَرّاتِ الكَونِ بَدَلًا مِنَ اللهِ الواحِدِ الأَحَدِ سُبحانَه.. أي: قَبُولُ مُحالٍ بدَرَجةِ مِئةِ مُحالٍ، أي: يَنبَغي السُّقُوطُ إلى هَذَيانِ الجُنُونِ.
[في كل ذرة ثلاث نوافذ مشرعة إلى شمس التوحيد]
نَخلُصُ مِن هذا [إلى] أنَّ في كلِّ ذَرّةٍ ثَلاثةَ شَبابِيكَ نافِذةٍ مُفتَّحةٍ إلى نُورِ وَحدانيّةِ اللهِ جلَّ جَلالُه وإلى وُجُوبِ وُجُودِه سُبحانَه وتَعالَى:
النافِذةُ الأُولَى: [لكل ذرة وظائف وعلاقة بالجميع]
إنَّ كلَّ ذَرّةٍ كالجُندِيِّ الَّذي له عَلاقةٌ مع كلِّ دائرةٍ مِنَ الدَّوائرِ العَسكَريّةِ، أي: مع رَهْطِه وسَرِيَّتِه وفَوجِه ولِوائِه وفِرقَتِه وجَيشِه، وله حَسَبَ تلك العَلاقةِ وَظيفةٌ هناك، وله حَسَبَ تلك الوَظِيفةِ حَرَكةٌ خاصّةٌ ضِمنَ نِطاقِ نِظامِها، فالذَّرّةُ الجامِدةُ الصَّغيرةُ جِدًّا، الَّتي هي في بُؤبُؤِ عَينِك، لها عَلاقةٌ مُعيَّنةٌ ووَظيفةٌ خاصّة في عَينِك ورَأسِك وجِسمِك، وفي القُوَى المُوَلِّدةِ والجاذِبةِ والدّافِعةِ والمُصَوِّرةِ، وفي الأَورِدةِ والشَّرايِينِ والأَعصابِ، بل لها عَلاقةٌ حتَّى مع نَوعِ الإنسانِ.
فوُجُودُ هذه العَلاقاتِ والوَظائفِ للذَّرّةِ، يَدُلُّ بَداهةً لِذَوِي البَصائرِ على أنَّ الذَّرّةَ إنَّما هي أثَرٌ مِن صُنعِ القَديرِ المُطلَقِ، وهي مَأمُورةٌ مُوَظَّفةٌ تحتَ تَصَرُّفِه سُبحانَه وتَعالَى.
النافِذةُ الثانية: [كل ذرة مأمورةٌ مسخَّرة]
إنَّ كلَّ ذَرّةٍ مِن ذَرّاتِ الهَواءِ تَستَطيعُ أن تَزُورَ أيّةَ زَهرةٍ أو ثَمَرةٍ كانَت، وتَتَمكَّنَ مِنَ الدُّخُولِ والعَمَلِ فيها، فلو لم تكُنِ الذَّرّةُ مَأمُورةً مُسَخَّرةً مِن لَدُنِ القَديرِ المُطلَقِ البَصيرِ بكلِّ شيءٍ، لَلَزِمَ أن تكُونَ تلك الذَّرّةُ التّائهةُ عالِمةً بجَميعِ أَجهِزةِ الأَثمارِ والأَزهارِ وبكَيفيّاتِ بِنائِها، ومُدرِكةً صَنْعَتَها الدَّقيقةَ المُتَبايِنةَ، ومُحِيطةً بنَسْجِ وتَفصِيلِ ما قدَّ علَيها مِن صُوَرٍ وأَشكالٍ، ومُتقِنةً صِناعةَ نَسِيجِها إتقانًا تامًّا!!
وهكذا تُشِعُّ هذه الذَّرّةُ شُعاعًا مِن شُعاعاتِ نُورِ التَّوحِيدِ كالشَّمسِ وُضُوحًا.. وقِسِ الضَّوءَ على الهَواءِ، والماءَ على التُّرابِ، حيثُ إنَّ مَنشَأَ الأَشياءِ مِن هذه المَوادِّ الأَربَعةِ.. وقِسْ ما في العُلُومِ الحاضِرةِ مِن مُوَلِّدِ الماءِ ومُولِّدِ الحُمُوضةِ (الأُوكسِجِين والهِيدرُوجِين) والآزُوتِ والكاربُونِ على تلك العَناصِرِ المَذكُورةِ.
النافِذةُ الثالثة: [كل ذرةٍ منتسبةٌ إلى خالقها]
يُمكِنُ أن تكُونَ كُتلةٌ مِنَ التُّرابِ المُرَكَّبِ مِن ذَرّاتٍ دَقيقةٍ مَنشَأً ومَصْدرًا لِنُمُوِّ أيِّ نَباتٍ مِنَ النَّباتاتِ المُزهِرةِ والمُثمِرةِ المَوجُودةِ في الأَرضِ كافّةً، فيما لو وُضِعَت فيها بُذَيراتُها الدَّقيقةُ، تلك البُذَيراتُ المُتَشابِهةُ كالنُّطَفِ، والمُرَكَّبةُ مِنَ الكَربُونِ وآزُوت وأُوكسِجِين وهِيدرُوجِين، فهي مُتَماثِلةٌ ماهِيّةً، رَغمَ أنَّها مُختَلِفةٌ نَوعيّةً، حيثُ أُودِعَ فيها بقَلَمِ القَدَرِ بَرنامَجُ أَصلِها الَّذي هو مَعنَوِيٌّ بَحتٌ.. فإذا ما وَضَعْنا بالتَّعاقُبِ تلك البُذُورَ في سَنَدانةٍ، فستَنمُو كلُّ بِذرةٍ بلا رَيب بشَكلٍ يُبرِزُ أَجهِزَتَها الخارِقةَ وأَشكالَها الخاصّةَ وتَراكيبَها المُعيَّنةَ.
فلو لم تكُن كلُّ ذَرّةٍ مِن ذَرّاتِ التُّرابِ مَأمُورةً ومُوَظَّفةً ومُتَأهِّبةً للعَمَلِ تحتَ إمرةِ عَلِيمٍ بأَوضاعِ كلِّ شيءٍ وأَحوالِه، وقَديرٍ على إعطاءِ كلِّ شيءٍ وُجُودًا يَلِيقُ به ويُدِيمُه، أي: لو لم يكُن كلُّ شيءٍ مُسَخَّرًا أمامَ قُدرَتِه سُبحانَه، لَلَزِم أن تكُونَ في كلِّ ذَرّةٍ مِن ذَرّاتِ التُّرابِ، مَصانِعُ ومَكائِنُ ومَطابِعُ مَعنَويّةٌ، بعَدَدِ النَّباتاتِ، كي تُصبِحَ مَنشَأً لِتلك النَّباتاتِ ذاتِ الأَجهِزةِ المُتَبايِنةِ والأَشكالِ المُختَلِفة! أو يَجِبُ إسنادُ عِلمٍ يُحِيطُ بجَميعِ المَوجُوداتِ إلى كلِّ ذَرّةٍ، وقُدرةٍ تَقدِرُ على القِيامِ بعَمَلِ جَميعِ الأَجهِزةِ والأَشكالِ فيها، كي تكُونَ مَصْدَرًا لِجَميعِها!!
أي إنَّه إذا ما انقَطَع الِانتِسابُ إلى اللهِ سُبحانَه وتَعالَى، يَنبَغي قَبُولُ وُجُودِ آلِهةٍ بعَدَدِ ذَرّاتِ التُّرابِ!! وهذه خُرافةٌ مُستَحِيلةٌ في أَلفِ مُحالٍ ومُحالٍ؛ بَينَما الأَمرُ يكُونُ مُستَساغًا عَقلًا وسَهلًا ومَقبُولًا عِندَما تُصبِحُ كلُّ ذَرّةٍ مَأمُورةً، إذ كما أنَّ جُندِيًّا اعتِيادِيًّا لَدَى سُلطانٍ عَظيمٍ يَستَطيعُ -باسمِ السُّلطانِ واستِنادًا إلى قُوَّتِه- أن يَقُومَ بتَهجِيرِ مَدِينةٍ عامِرةٍ مِن أَهلِها، أو يَصِلَ بينَ بَحرَينِ واسِعَينِ، أو يَأسِرَ قائدًا عَظِيمًا، كذلك تَستَطيعُ بَعُوضةٌ صَغيرةٌ أن تَطرَحَ نَمرُودًا عَظِيمًا على الأَرضِ، وتَستَطيعُ نَملةٌ بَسِيطةٌ أن تُدَمِّر صَرْحَ فِرعَونَ، وتَستَطيعُ بِذرةُ تِينٍ صَغيرةٌ جِدًّا أن تَحمِلَ شَجَرةَ التِّينِ الضَّخمةَ على ظَهرِها.. كلُّ ذلك بأَمرِ سُلطانِ الأَزلِ والأَبدِ، وبفَضلِ ذلك الِانتِسابِ.
[في كل ذرة شاهدان صادقان على الوحدانية]
وكما رَأَينا هذه النَّوافِذَ الثَّلاثَ المُفتَّحةَ على نُورِ التَّوحِيدِ في كلِّ ذَرّةٍ، ففيها أيضًا شاهِدانِ صادِقانِ آخَرانِ على وُجُودِ الصّانِعِ سُبحانَه وتَعالَى وعلى وَحدانيَّتِه.
أوَّلُهما: هو حَملُ الذَّرّةِ على كاهِلِها وَظائفَ عَظيمةً جِدًّا ومُتَنوِّعةً جِدًّا، مع عَجْزِها المُطلَقِ.
والآخَرُ: هو تَوافُقُ حَرَكاتِها بانتِظامٍ تامٍّ وتَناسُقُها معَ النِّظامِ العامِّ، حتَّى تَبدُوَ وكأنَّ فيها شُعُورًا عامًّا كُلِّـيًّا معَ أنَّها جَمادٌ.
أي إنَّ كلَّ ذَرّةٍ تَشهَدُ بلِسانِ عَجزِها على وُجُودِ القَديرِ المُطلَقِ، وتَشهَدُ بإظهارِها الِانسِجامَ التّامَّ معَ نِظامِ الكَونِ العامِّ على وَحدانيّةِ الخالقِ سُبحانَه وتَعالَى.
[في كل حيٍّ آيتان على الأحد الصمد]
وكما أنَّ في كلِّ ذَرّةٍ شاهِدَينِ على أنَّ اللهَ واجِبُ الوُجُودِ وواحِدٌ، كذلك في كلِّ “حَيٍّ” له آيتانِ على أنَّه “أَحَدٌ صَمَدٌ“.
نعم، ففي كلِّ حَيٍّ هناك آيتانِ:
إحداهما: آيةُ الأَحَديّةِ.
والأُخرَى: آيةُ الصَّمَديّةِ.
لأنَّ كلَّ “حَيٍّ” يُظهِرُ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى المُشاهَدةِ في أَغلَبِ الكائناتِ، يُظهِرُها دُفعةً واحِدةً في مِرآتِه، وكأنَّه نُقطةٌ مَركَزِيّة -كالبُؤرةِ- تُبيِّنُ تَجَلِّيَ اسمِ اللهِ الأَعظَمِ: “الحَيُّ القَيُّومُ”، أي إنَّه يَحمِلُ آيةَ الأَحَديّةِ بإظهارِه نَوعًا مِن ظلِّ أَحَديّةِ الذّاتِ تحتَ سِتارِ اسمِ المُحيِي.
ولَمّا كان الكائنُ الحَيُّ بمَثابةِ مِثالٍ مُصَغَّرٍ للكائناتِ، وبمَثابةِ ثَمَرةٍ لِشَجَرةِ الخَليقةِ، فإنَّ إحضارَ حاجاتِه المُتَرامِيةِ في الكائناتِ إلى دائرةِ حَياتِه الصَّغيرةِ جِدًّا، بسُهُولةٍ كامِلةٍ، وبدَفعةٍ واحِدةٍ، يُبْرِزُ للعَيانِ آيةَ الصَّمَديّةِ ويُبيِّنُها، أي إنَّ هذا الوَضْعَ يُبيِّنُ أنَّ لهذا الكائنِ الحَيِّ رَبًّا -نِعمَ الرَّبُّ- بحيثُ إنَّ تَوَجُّهًا مِنه إلَيه يُغنِيه عن كلِّ شيءٍ، ونَظْرةً مِنه إلَيه تَكفِيه عن جَميعِ الأَشياءِ، ولن يَحُلَّ جَميعُ الأَشياءِ مَحَلَّ تَوَجُّهٍ واحِدٍ مِنه سُبحانَه.
“نعم، يَكفِي لكُلِّ شيءٍ شيءٌ عن كلِّ شيءٍ، ولا يَكفي عنه كلُّ شيءٍ ولو لِشَيءٍ واحِدٍ”.
وكذا يُبيِّنُ ذلك الوَضعُ أنَّ رَبَّه ذاك جلَّ شَأنُه كما أنَّه ليس مُحتاجًا إلى شيءٍ أيًّا كان، فإنَّ خَزائِنَه لا يَنقُصُ مِنها شيءٌ أيضًا، ولا يَصعُبُ على قُدرَتِه شيءٌ.. فإلَيك مِثالًا مِن آيةٍ تُظهِرُ ظِلَّ الصَّمَديّةِ، أي إن كلَّ ذِي حَياةٍ يُرَتِّلُ بلِسانِ الحَياةِ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ﴾.
هذا، وإنَّ هناك عِدّةَ نَوافِذَ مُهِمّةٍ أُخرَى عَدا ما ذَكَرناه قد اختُصِرَت هنا فيما فُصِّلَت في أَماكِنَ أُخرَى، فما دامَت كلُّ ذَرّةٍ مِن ذَرّاتِ هذا الكَونِ تَفتَحُ ثَلاثَ نَوافِذَ، وكُوَّتَينِ، والحَياةُ نَفسُها تَفتَحُ بابَينِ دُفعةً واحِدةً إلى وَحدانيّةِ اللهِ سُبحانَه، فلا بُدَّ أنَّك تَستَطيعُ الآنَ قِياسَ مَدَى ما تَنشُرُه طَبَقاتُ المَوجُوداتِ، مِنَ الذَّرّاتِ إلى الشَّمسِ، مِن أَنوارِ مَعرِفةِ اللهِ ذِي الجَلالِ.. فافْهَمْ مِن هذا سَعةَ دَرَجاتِ الرُّقيِّ المَعنَوِيِّ في مَعرِفةِ اللهِ سُبحانَه ومَراتِبَ الِاطمِئنانِ والسَّكِينةِ القَلبِيّةِ، وقِسْ علَيها.
اللَّمعة الخامسة [الكون مكتوبُ قلم القدرة]
مِنَ المَعلُومِ أنَّه يَكفِي لإِخراجِ كِتابٍ مّا، قَلَمٌ واحِدٌ إن كان مَخطُوطًا؛ وتَلزَمُ أَقلامٌ عَدِيدةٌ بعَدَدِ حُرُوفِه إن كان مَطبُوعًا، أي: حُرُوفٌ مَعدِنيّةٌ عَدِيدةٌ؛ ولو كُتِبَ مُعظَمُ ما في الكِتابِ في بعضِ حُرُوفِه بخَطٍّ دَقيقٍ جِدًّا -ككِتابةِ سُورةِ يسٓ مُصَغَّرةً في لَفظِ يسٓ- فيَلزَمُ عِندَئذٍ أن تكُونَ جَميعُ الحُرُوفِ المَعدِنيّةِ مُصَغَّرةً جِدًّا لِطَبعِ ذلك الحَرفِ الواحِدِ.
فكما أنَّ الأَمرَ هكذا في الكِتابِ المُستَنسَخِ أوِ المَطبُوعِ، كذلك كِتابُ الكَونِ هذا، إذا قُلتَ: إنَّه كِتابةُ قَلَمِ قُدرةِ الصَّمَدِ، ومَكتُوبُ الواحِدِ الأَحَدِ، فقد سَلَكتَ إذًا طَريقًا سَهلةً بدَرَجةِ الوُجُوبِ، ومَعقُولةً بدَرَجةِ الضَّرُورةِ؛ ولكن إذا ما أَسنَدتَه إلى الطَّبيعةِ وإلى الأَسبابِ، فقد سَلَكتَ طَرِيقًا صَعبةً بدَرَجةِ الِامتِناعِ، وذاتَ إشكالاتٍ عَوِيصةٍ بدَرَجةِ المُحالِ، وذاتَ خُرافاتٍ لا تَقبَلُها الأَوْهامُ؛ إذ يَلزَمُ أن تُنشِئَ الطَّبِيعةُ في كلِّ جُزءِ تُرابٍ، وفي كلِّ قَطرةِ ماءٍ، وفي كلِّ كُتلةِ هَواءٍ مَلايينَ المَلايينِ مِن مَطابعَ مَعدِنيّةٍ، وما لا يُحَدُّ مِن مَصانِعَ مَعنَويّةٍ، كي يُظهِرَ كلُّ جُزءٍ مِن تلك الأَجزاءِ ويُنشِئَ ما لا يُعَدُّ ولا يُحصَى مِنَ النَّباتاتِ المُزهِرةِ والمُثمِرةِ.. أو تُضطَـرُّ إلى قَبُولِ وُجُودِ عِلمٍ مُحِيطٍ بكلِّ شيءٍ، وقُوّةٍ مُقتَدِرةٍ على كلِّ شيءٍ في كلٍّ مِنها، كي يكُونَ مَصْدرًا حَقيقيًّا لهذه المَصنُوعاتِ، لأنَّ كلَّ جُزءٍ مِن أَجزاءِ التُّرابِ والماءِ والهَواءِ يُمكِنُ أن يكُونَ مَنشَأً لِأَغلَبِ النَّباتاتِ.
والحالُ أنَّ تَركِيبَ كلِّ نَباتٍ مُنتَظِمٌ، ومَوزُونٌ، ومُتَمايزٌ، ومُختَلِفٌ نَوعًا، فكلٌّ مِنه إذًا بحاجةٍ إلى مَعمَلٍ مَعنَويٍّ خاصٍّ به وَحدَه، وإلى مَطبَعةٍ تَخُصُّه هو فقط؛ فالطَّبِيعةُ إذًا إذا خَرَجَت عن كَونِها وَحدةَ قِياسٍ للمَوجُوداتِ إلى مَصدَرٍ لِوُجُودِها، فما علَيها إلّا إحضارُ مَكائنِ جَميعِ الأَشياءِ في كلِّ شيءٍ!!
وهكذا، فإنَّ أَساسَ فِكرةِ عِبادةِ الطَّبيعةِ هذه: خُرافةٌ -بِئسَتِ الخُرافةُ- حتَّى الخُرافيُّون أَنفُسُهم يَخجَلُون مِنها.. فتَأَمَّلْ في أَهلِ الضَّلالةِ الَّذين يَعُدُّون أَنفُسَهم عُقَلاءَ كيف تَمَسَّكُوا بفِكرةٍ غيرِ مَعقُولةٍ بالمَرّةِ.. ثمَّ اعتَبِرْ!!
الخُلاصةُ: إنَّ كلَّ حَرفٍ في أيِّ كِتابٍ كان، يُظهِرُ نَفسَه بمِقدارِ حَرفٍ، ويَدُلُّ على وُجُودِه بصُورةٍ مُعيَّنةٍ، إلَّا أنَّه يُعَرِّفُ كاتِبَه بعَشرِ كَلِماتٍ، ويَدُلُّ علَيه بجَوانِبَ عَدِيدةٍ، فيَقُولُ مَثلًا: إنَّ كاتِبي خَطُّه جَمِيلٌ، وإنَّ قَلَمَه أَحمَرُ، وإنَّه كذا وكذا..
ومِثلُ ذلك كلُّ حَرفٍ مِن كِتابِ العالَمِ الكَبيرِ هذا، يَدُلُّ على ذاتِه بقَدْرِ جِرمِه (مادَّتِه)، ويُظهِرُ نَفسَه بمِقدارِ صُورَتِه، إلَّا أنَّه يُعرِّفُ أَسماءَ “البارِئ المُصَوِّر” سُبحانَه بمِقدارِ قَصيدةٍ، ويُظهِرُ تلك الأَسماءَ الحُسنَى ويُشِيرُ إلَيها بعَدَدِ أَنواعِه شاهِدًا على مُسَمّاه، لِذا لا يَنبَغي أن يَزِلَّ إلى إنكارِ الخالِقِ ذِي الجَلالِ حتَّى ذلك السُّوفسَطائيُّ الأَحمَقُ الَّذي يُنكِرُ نَفسَه ويُنكِرُ الكَونَ.
اللَّمعة السادسة [أختام الوحدة على صحيفة الأرض في الربيع]
إنَّ الخالقَ ذا الجَلالِ كما وَضَع على جَبِينِ كلِّ “فَردٍ” مِن مَخلُوقاتِه وعلى جَبهةِ كلِّ “جُزءٍ” مِن مَصنُوعاتِه آيةَ أَحَدِيَّتِه -وقد رَأَيتَ قِسمًا مِنها في اللَّمَعاتِ السّابِقةِ- فإنَّه سُبحانَه قد وَضَع على كلِّ “نَوعٍ” كَثيرًا مِن آيةِ الأَحَديّةِ بشَكلٍ ساطِعٍ لامِعٍ، وعلى كلِّ “كُلٍّ” عَدِيدًا مِن أَختامِ الواحِدِيّةِ، بل وَضَع على مَجمُوعِ العالَمِ أَنواعًا مِن طُغْراءِ الوَحدةِ.
وإذا تَأَمَّلْنا خَتْمًا واحِدًا مِن تلك الأَختامِ والعَلاماتِ العَدِيدةِ المَوضُوعةِ على صَحِيفةِ سَطحِ الأَرضِ في مَوسِمِ الرَّبيعِ تَبيَّنَ لنا ما يَأتي:
إنَّ البارِئَ المُصَوِّرَ سُبحانَه وتَعالَى قد حَشَر ونَشَر أَكثَرَ مِن ثَلاثِ مِئةِ أَلفِ نَوعٍ مِنَ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ على وَجهِ الأَرضِ في فَصلِ الرَّبيعِ والصَّيفِ بتَميِيزٍ وتَشخِيصٍ بالِغَينِ، وبانتِظامٍ وتَفريقٍ كامِلَينِ، رَغمَ اختِلاطِ الأَنواعِ اختِلاطًا كامِلًا؛ فأَظهَر لنا آيةً واسِعةً ساطِعةً للتَّوحِيدِ، واضِحةً وُضُوحَ الرَّبيعِ.
أي إن إيجادَ ثَلاثِ مِئةِ أَلفِ نَمُوذَجٍ مِن نَماذِجِ الحَشرِ بانتِظامٍ كامِلٍ عِندَ إحياءِ الأَرضِ المَيتةِ في مَوسِمِ الرَّبيعِ، وكِتابةَ الأَفرادِ المُتَداخِلةِ لثَلاثِ مِئةِ أَلفِ نَوعٍ مُختَلِفٍ على صَحِيفةِ الأَرضِ كِتابةً دُونَ خَطَأٍ ولا سَهْوٍ ولا نَقْصٍ، وفي مُنتَهَى التَّوازُنِ والِانتِظامِ، وفي مُنتَهَى الِاكتِمالِ، لا شَكَّ أنَّه آيةٌ خاصّةٌ بمَن هو قَدِيرٌ على كلِّ شيءٍ، بيَدِه مَلَكُوتُ كلِّ شيءٍ، وبيَدِه مَقاليدُ كلِّ شيءٍ، وهو الحَكِيمُ العَليمُ.. هذه الآيةُ مِنَ الوُضُوحِ بحيثُ يُدرِكُها كلُّ مَن له ذَرّةٌ مِن شُعُورٍ.
ولقد بيَّنَ القُرآنُ الكَريمُ هذه الآيةَ السّاطِعةَ في قوله تعالى: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
نعم، إنَّ قُدرةَ الفاطِرِ الحَكيمِ الَّتي أَظهَرَت ثَلاثَ مِئةِ أَلفِ نَوعٍ مِن نَماذِجِ الحَشرِ في إحياءِ الأَرضِ خِلالَ بِضعةِ أَيّامٍ، لا بُدَّ أن يكُونَ حَشْرُ الإنسانِ لَدَيها سَهلًا ويَسِيرًا؛ إذ هل يَصِحُّ أن يُقالَ -مثلًا- لِمَن له خَوارِقُ بحيثُ يُزيلُ جَبَلًا عَظيمًا بإشارةٍ مِنه: هل يَستَطيعُ أن يُزيلَ هذه الصَّخرةَ العَظيمةَ الَّتي سَدَّت طَرِيقَنا مِن هذا الوادِي؟
ومِثلَه كذلك: لا يَجرُؤُ ذُو عَقلٍ أن يقُولَ بصِيغةِ الِاستِبعادِ للقَديرِ الحَكيمِ والكَريمِ الرَّحيمِ الَّذي خَلَق الجِبالَ والسَّماواتِ والأَرضَ في سِتّةِ أَيّامٍ، والَّذي يَملَؤُها ويُفرِغُها حِينًا بعدَ حِينٍ: كيف يَستَطيعُ أن يُزيلَ طَبَقةَ التَّرابِ هذه الَّتي علَينا، والَّتي سَدَّت طَرِيقَنا المَفرُوشةَ إلى مُستَضافِه الخالِد؟
فهذا مِثالُ آيةٍ واحِدةٍ للتَّوحيدِ، تَظهَرُ على سَطحِ الأَرضِ في فَصلِ الرَّبيعِ والصَّيفِ! فتَأَمَّلْ إذًا كيف يَظهَرُ خَتْمُ الواحِدِيّةِ بجَلاءٍ على تَصرِيفِ الأُمُورِ في الرَّبيعِ الهائلِ على سَطحِ الأَرضِ وهو في مُنتَهَى الحِكمةِ والبَصَرِ؛ ذلك لأنَّ هذه الإجراءاتِ المُشاهَدةَ، هي في انتِظامٍ مُطلَقٍ، وخِلْقةٍ تامّةٍ، وصَنْعةٍ كامِلةٍ بَدِيعةٍ، مع أنَّها تَجرِي في سَعةٍ مُطلَقةٍ، ومع هذه السَّعةِ فهي تَتِمُّ في سُرعةٍ مُطلَقةٍ، ومعَ هذه السُّرعةِ فهي تَرِدُ في سَخاءٍ مُطلَق.. ألَا يُوَضِّحُ هذا أنَّه خَتْمٌ جَلِيٌّ بحيثُ لا يُمكِنُ أن يَمتَلِكَه إلَّا مَن يَملِكُ عِلمًا غيرَ مُتَناهٍ وقُدرةً غيرَ مَحدُودةٍ.
نعم، إنَّنا نُشاهِدُ على سَطحِ الأَرضِ كافّةً أنَّ هناك خَلْقًا وتَصَرُّفًا وفَعّاليّةً تَجرِي في سَعةٍ مُطلَقةٍ، ومعَ السَّعةِ تُنجَزُ في سُرعةٍ مُطلَقةٍ، ومعَ السُّرعةِ والسَّعةِ يُشاهَدُ سَخاءٌ مُطلَقٌ في تَكثيرِ الأَفرادِ، ومعَ السَّخاءِ والسَّعةِ والسُّرعةِ تَتَّضِحُ سُهُولةٌ مُطلَقةٌ في الأَمرِ مع انتِظامٍ مُطلَقٍ وإبداعٍ في الصَّنعةِ، وامتِيازٌ تامٌّ رَغمَ الِاختِلاطِ الشَّديدِ والِامتِزاجِ الكامِلِ؛ ويُشاهَدُ كذلك آثارٌ ثَمينةٌ جِدًّا، ومَصنُوعاتٌ نَفيسةٌ جِدًّا رَغمَ الوَفرةِ غيرِ المَحدُودةِ، معَ انسِجامٍ كامِلٍ في نِطاقٍ واسِعٍ جِدًّا، ودِقّةِ الصَّنعةِ وبَدائعِها ورَوعَتِها وهي في مُنتَهَى السُّهُولةِ واليُسرِ.. فإيجادُ كلِّ هذا في آنٍ واحِدٍ، وفي كلِّ مَكانٍ، وبالطِّرازِ نَفسِه، وفي كلِّ فَردٍ، معَ إظهارِ الصَّنعةِ الخارِقةِ والفَعّاليّةِ المُعجِزةِ، لا شَكَّ مُطلَقًا أنَّه بُرهانٌ ساطِعٌ وخَتمٌ يَخُصُّ مَن لا يَحُدُّه مَكانٌ، مِثلَما أنَّه في كلِّ مَكانٍ حاضِرٌ وناظِرٌ رَقيبٌ حَسِيبٌ، ومَن لا يَخفَى علَيه شيءٌ مِثلَما أنَّه لا يُعجِزُه شيءٌ، فخَلْقُ الذَّرّاتِ والنُّجُومِ سَواءٌ أَمامَ قُدرَتِه.
لقد أَحصَيتُ ذاتَ يومٍ عَناقيدَ ساقٍ نَحيفةٍ لِعِنَبٍ مُتَسلِّقٍ بغِلَظِ إصبعَينِ، تلك العَناقيدَ الَّتي هي مُعجِزاتُ الرَّحيمِ ذِي الجَمالِ في بُستانِ كَرَمِه، فكانَت مِئةً وخمسةً وخَمسين عُنقُودًا؛ وأَحصَيتُ حَبَّاتِ عُنقُودٍ واحِدٍ مِنها فكانَت مِئةً وعِشرِين حَبّةً؛ فتَأَمَّلتُ وقُلتُ: لو كانَت هذه السّاقُ الهَزِيلةُ خِزانةَ ماءٍ مُعَسَّلٍ، وكانَت تُعطي ماءً باستِمرارٍ لَمَا كانَت تَكفي أَمامَ لَفْحِ الحَرارةِ ما تُرضِعُه لِمِئاتِ الحَبّاتِ المَملُوءةِ مِن شَرابِ سُكَّرِ الرَّحمةِ.. والحالُ أنَّها قد لا تَنالُ إلَّا رُطُوبةً ضَئيلةً جدًّا، فيَلزَمُ أن يكُونَ القائمُ بهذا العَمَلِ قادِرًا على كلِّ شيءٍ.. فـ “سُبحانَ مَن تَحيَّرَ في صُنعِه العُقولُ!”.
اللَّمعة السابعة [أختام الأحد الصمد في أرجاء كتاب الكون]
كما أنَّك تَتَمكَّنُ مِن رُؤيةِ أَختامِ الأَحَدِ الصَّمَدِ سُبحانَه، المَختُومةِ بها صَحِيفةُ الأَرضِ، وذلك بنَظرةِ إمعانٍ قَليلةٍ، فارْفَعْ رَأسَك وافتَحْ عَينَيك، وأَلقِ نَظرةً على كِتابِ الكَونِ الكَبيرِ، تَرَ أنَّه يُقرَأُ على الكَونِ كلِّه خَتْمُ الوَحدةِ بوُضُوحٍ تامٍّ، بقَدْرِ عَظَمتِه وسَعَتِه؛ ذلك لأنَّ هذه المَوجُوداتِ كأَجزاءِ مَعمَلٍ مُنتَظِمٍ، وأَركانِ قَصرٍ مُعظَّمٍ، وأَنحاءِ مَدينةٍ عامِرةٍ، كلُّ جُزءٍ ظَهيرٌ للآخَرِ، كلُّ جُزءٍ يَمُدُّ يَدَ العَونِ للآخَرِ، ويَجِدُّ في إسعافِ حاجاتِه؛ والأَجزاءُ جَميعًا تَسعَى يدًا بيَدٍ بانتِظامٍ تامٍّ في خِدمةِ ذَوِي الحَياةِ، مُتَكاتِفةً مُتَسانِدةً مُتَوجِّهةً إلى غايةٍ مُعَيَّنةٍ في طاعةِ مُدَبِّرٍ حَكِيمٍ واحِدٍ.
نعم، إنَّ دُستُورَ “التَّعاوُن” الجارِي الظّاهِر، ابتِداءً مِن جَرْيِ الشَّمسِ والقَمَرِ، وتَعاقُبِ اللِّيلِ والنَّهارِ وتَرادُفِ الشِّتاءِ والصَّيفِ.. إلى إمدادِ النَّباتاتِ للحَيَواناتِ الجائعةِ، وإلى سَعْيِ الحَيَواناتِ لِمُساعَدةِ الإنسانِ الضَّعيفِ المُكَرَّمِ، بل إلى وُصُولِ المَوادِّ الغِذائيّةِ على جَناحِ السُّرعةِ لإغاثةِ الأَطفالِ النِّحافِ، وإمدادِ الفَواكِهِ اللَّطيفةِ؛ بل إلى خِدمةِ ذَرَّاتِ الطَّعامِ لِحاجةِ حُجَيراتِ الجِسمِ.. كلُّ هذه الحَرَكاتِ الجارِيةِ وَفقَ دُستُورِ “التَّعاوُنِ” تُرِي لِمَن لم يَفقِدْ بَصِيرتَه كُلِّيًّا أنَّها تَجرِي بقُوّةِ مُرَبٍّ واحِدٍ كَرِيمٍ مُطلَقِ الكَرَمِ، وبأَمرِ مُدَبِّرٍ واحِدٍ حَكِيمٍ مُطلَقِ الحِكمةِ.
فهذا التَّسانُدُ، وهذا التَّعاوُنُ، وهذا التَّجاوُبُ، وهذا التَّعانُقُ، وهذا التَّسخِيرُ، وهذا الِانتِظامُ، الجارِي في هذا الكَونِ، يَشهَدُ شَهادةً قاطِعةً، أنَّ مُدَبِّـرًا واحِدًا هو الَّذي يُدِيرُه، ومُرَبِّيًا أَحَدًا يَسُوقُ الجَميعَ في الكَونِ.
زِدْ عليه، فإنَّ الحِكمةَ العامّةَ الظّاهِرةَ بَداهةً في خَلْقِ الأَشياءِ البَدِيعةِ، وما تَتَضمَّنُه مِن عِنايةٍ تامّةٍ، وما في هذه العِنايةِ مِن رَحمةٍ واسِعةٍ، وما على هذه الرَّحمةِ مِن أَرزاقٍ مَنثُورةٍ تَفي بحاجةِ كلِّ ذِي حَياةٍ وتُعِيشُه وَفقَ حاجاتِه.. كلُّ ذلك خَتمٌ عَظيمٌ للتَّوحيدِ له مِنَ الظُّهُورِ والوُضُوحِ ما يَفهَمُه كلُّ مَن لم تَنطَفِئْ جَذوةُ عَقلِه، ويَراه كلُّ مَن لم يَعْمَ بَصَرُه.
نعم، إنَّ حُلَّةَ “الحِكمةِ” الَّتي يَتَراءَى مِنها القَصدُ والشُّعُورُ والإرادةُ قد أُسبِغَت على الكَونِ كُلِّه وجَلَّلَت كلَّ جَوانبِه.. وخُلِعَتْ على حُلّةِ الحِكمةِ هذه حُلّةُ “العِنايةِ” الَّتي تَشِفُّ عنِ اللُّطْفِ والتَّزيينِ والتَّحسِينِ والإحسانِ.. وعلى هذه الحُلّةِ القَشِيبةِ للعِنايةِ أُلقِيَت حُلّةُ “الرَّحمة” الَّتي يَتَألَّقُ مِنها بَرِيقُ التَّودُّدِ والتَّعرُّفِ والإنعامِ والإكرامِ وهي تَغمُرُ الكَونَ كُلَّه وتَضُمُّه.. وصُفَّت على هذه الحُلّةِ المُنَوَّرةِ للرَّحمةِ العامّةِ “الأَرزاقُ العامّةُ“، ومُدَّت مَوائِدُها الَّتي تَعرِضُ التَّرَحُّمَ والإحسانَ والإكرامَ والرَّأفةَ الكامِلةَ وحُسنَ التَّربيةِ ولُطفَ الرُّبُوبيّةِ.
نعم، إنَّ هذه المَوجُوداتِ ابتِداءً مِنَ الذَّرَّاتِ إلى الشُّمُوسِ، سَواءٌ أكانَت أَفرادًا أم أَنواعًا، وسَواءٌ أكانَت صَغيرةً أم كَبيرةً، قد أُلبِسَت ثَوبًا رائعًا جِدًّا، نُسِجَ هذا الثَّوبُ مِن قُماشِ “الحِكمةِ” المُزَيَّنِ بنُقُوشِ الثَّمَراتِ والنَّتائجِ والغاياتِ والفَوائدِ والمَصالِحِ.. وكُسِيَت بحُلّةِ “العِنايةِ” المُطَرَّزةِ بأَزاهِيرِ اللُّطْفِ والإحسانِ قُدَّت وفُصِّلَت حَسَبَ قامةِ كلِّ شيءٍ ومَقاسِ كلِّ مَوجُودٍ.. وعلى حُلّةِ العِنايةِ هذه قُلِّدَت شاراتُ “الرَّحمةِ” السّاطِعةِ ببَريقِ التَّوَدُّدِ والتَّكَرُّمِ والتَّحَنُّنِ، والمُتَلألِئةِ بلَمَعاتِ الإنعامِ والإفضالِ.. وعلى تلك الشّاراتِ المُرَصَّعةِ المُنَوَّرةِ نُصِبَت مائِدةُ “الرِّزق” العامِّ على امتِدادِ سَطحِ الأَرضِ، بما يَكفِي جَميعَ طَوائفِ ذَوِي الحَياةِ، وبما يَفي سَدَّ جَميعِ حاجاتِهم.
وهكذا، فهذا العَمَلُ يُشِيرُ إشارةً واضِحةً وُضُوحَ الشَّمسِ، إلى حَكِيمٍ مُطلَقِ الحِكمةِ، وكَرِيمٍ مُطلَقِ الكَرَمِ، ورَحِيمٍ مُطلَقِ الرَّحمةِ، ورَزّاقٍ مُطلَقِ الرِّزقِ.
أَحَقًّا أنَّ كلَّ شيءٍ بحاجةٍ إلى الرِّزقِ؟
نعم، كما أنَّنا نَرَى أنَّ كلَّ فَردٍ بحاجةٍ إلى رِزقٍ يُدِيمُ حَياتَه، كذلك جَميعُ مَوجُوداتِ العالَمِ -ولا سِيَّما الأَحياءُ- الكُلِّيُّ مِنها والجُزئيُّ، أوِ الكُلُّ والجُزءُ، لها في كِيانِها، وفي بَقائِها، وفي حَياتِها وإدامَتِها، مَطاليبُ كَثيرةٌ، وضَرُورِيّاتٌ عَدِيدةٌ، مادّةً ومَعنًى. ومعَ أنَّها مُفتَقِرةٌ ومُحتاجةٌ إلى أَشياءَ كَثيرةٍ مِمّا لا يُمكِنُ أن تَصِلَ يَدُها إلى أَدناها، بل لا تَكفي قُوّةُ ذلك الشَّيءِ وقُدرَتُه للحُصُولِ على أَصغَرِ مَطالِبِه، نُشاهِدُ أنَّ جَميعَ تلك المَطالِبِ والأَرزاقِ المادِّيّةِ والمَعنَويّةِ تُسلَّمُ إلى يَدَيه مِن حيثُ لا يَحتَسِبُ، وبانتِظامٍ كامِلٍ وفي الوَقتِ المُناسِبِ تَسلِيمًا مُوافِقًا لِحَياتِه مُتَّسِمًا بالحِكمةِ الكامِلةِ.
ألَا يَدُلُّ هذا الِافتِقارُ، وهذه الحاجةُ في المَخلُوقاتِ، وهذا النَّمَطُ مِنَ الإمدادِ والإعانةِ الغَيبيّةِ، على رَبٍّ حَكيمٍ ذِي جَلالٍ، ومُدَبِّرٍ رَحيمٍ ذِي جَمالٍ؟!
اللَّمعة الثامنة [خاتم الوحدة في كلية العناصر وانتشارها]
مِثلَما أنَّ زِراعةَ بُذُورٍ في حَقلٍ مّا، تَدُلُّ على أنَّ ذلك الحَقلَ هو تحتَ تَصَرُّفِ مالِكِ البِذرةِ، وأنَّ تلك البِذرةَ هي كذلك تحتَ تَصَرُّفِه؛ فإنَّ كُلِّيّةَ العَناصِرِ في مَزرَعةِ الأَرضِ، وفي كلِّ جُزءٍ مِنها، مع أنَّها واحِدةٌ وبَسِيطةٌ، وانتِشارَ المَخلُوقاتِ مِن نَباتاتٍ وحَيَواناتٍ في مُعظَمِ الأَماكِنِ -وهي تُمَثِّـلُ ثَمَراتِ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ ومُعجِزاتِ قُدرَتِه وكَلِماتِ حِكمَتِه- معَ أنَّها مُتَماثِلةٌ ومُتَشابِهةٌ ومُتَوطِّنةٌ في كلِّ طَرَفٍ.. إنَّ هذه الكُلِّيّةَ والِانتِشارَ يَدُلّانِ دَلالةً جَلِيّةً على أنَّهما تحتَ تَصَرُّفِ رَبٍّ واحِدٍ أَحَدٍ، حتَّى كأنَّ كلَّ زَهرةٍ، وكلَّ ثَمَرةٍ، وكلَّ حَيَوانٍ، آيةُ ذلِكُمُ الرَّبِّ الكَريمِ وخَتْمُه وطُغْراؤُه، فأَينَما يَحُلُّ أيٌّ مِنها يقُولُ بلِسانِ حالِه: “مَن كُنتُ آيَتَه، فهذه الأَرضُ مَصنُوعَتُه، ومَن كُنتُ خَتْمَه فهذا المكانُ مَكتُوبُه، ومَن كُنتُ عَلامَتَه فهذا المَوطِنُ مَنسُوجُه..”
فالرُّبُوبيّةُ إذًا على أَدنَى مَخلُوقٍ، إنَّما هي مِن شَأنِ مَن يُمسِكُ في قَبضةِ تَصَرُّفِه جَميعَ العَناصِرِ؛ ورِعايةُ أَدنَى حَيَوانٍ إنَّما هي مِن شَأنِ مَن لا يُعجِزُه تَربِيةُ جَميعِ الحَيَواناتِ والنَّباتاتِ والمَخلُوقاتِ ضِمنَ قَبضةِ رُبُوبيَّتِه! هذه الحَقيقةُ واضِحةٌ لِمَن لم يَعْمَ بَصَرُه!
نعم، إنَّ كُلَّ فَردٍ يقُولُ بلِسانِ مُماثَلَتِه ومُشابَهَتِه معَ سائرِ الأَفرادِ: “مَن كان مالِكًا لِجَميعِ نَوعِي يُمكِنُه أن يكُون مالِكِي، وإلَّا فلا”.
وإنَّ كلَّ نَوعٍ يقُولُ بلِسانِ انتِشارِه معَ سائرِ الأَنواعِ: “مَن كان مالِكًا لِسَطحِ الأَرضِ كُلِّه يُمكِنُه أن يكُونَ مالِكِي، وإلَّا فلا”.
وكذا الأَرضُ تقُولُ بلِسانِ ارتِباطِها بسائرِ السَّيّاراتِ بشَمسٍ واحِدةٍ وتَسانُدِها معَ السَّماواتِ: “مَن كان مالِكًا للكَونِ كُلِّه يُمكِنُه أن يكُونَ مالِكِي، وإلَّا فلا”.
فلو قيلَ لِتُفّاحةٍ ذاتِ شُعُورٍ: “أنتِ مَصنُوعَتي أنا”، فستَـرُدُّ علَيه تلك التُّفّاحةُ بلِسانِ الحالِ قائلةً: “صَهْ.. لوِ استَطَعتَ أن تكُونَ قادِرًا على تَركيبِ ما على سَطحِ الأَرضِ مِن تُفّاحٍ، بل لو أَصبَحْتَ مُتَصرِّفًا فيما على الأَرضِ مِن نَباتاتٍ مُثمِرةٍ مِن جِنسِنا، بل مُتَصرِّفًا في هَدايا الرَّحمٰنِ الَّتي يَجُودُ بها مِن خَزِينةِ الرَّحمةِ؛ فادَّعِ آنَذاك الرُّبُوبيّةَ علَيَّ!” فتَلْطُمُ تلك التُّفّاحةُ بهذا الجَوابِ فَمَ ذلك الأَحمَقِ لَطمةً قَوِيّةً!
اللَّمعة التاسعة [خاتم الوحدة في الأنواع]
لقد أَشَرْنا إلى آياتٍ وأَختامٍ مَوضُوعةٍ على “الجُزءِ والجُزئيِّ”، وعلى “الكُلِّ والكُلِّيِّ”، وعلى “كُلِّ العالَمِ”، وعلى “الحَياةِ” وعلى “ذَوِي الحَياةِ” وعلى “الإحياءِ”، فنُشِيرُ هنا إلى آيةٍ واحِدةٍ مِمّا لا يُحصَى مِنَ الآياتِ في “الأَنواعِ”.
إنَّ تكاليفَ أَثمارٍ عَدِيدةٍ لِشَجرةٍ مُثمِرةٍ تَتَسهَّلُ، ومَصارِيفَها تَتَذلَّلُ، حتَّى تَتَساوَى معَ تكاليفِ ومَصاريفِ ثَمَرةٍ واحِدةٍ تَرَبَّت بأَيدِي الكَثرةِ؛ ذلك لأنَّ الشَّجَرةَ الواحِدةَ المُثمِرةَ تُدارُ مِن مَركَزٍ واحِدٍ، وبتَربِيةٍ واحِدةٍ، وبقانُونٍ واحِدٍ.
أي إن الكَثرةَ وتَعَدُّدَ المَراكِزِ يَستَدعِيانِ أن تكُونَ لكلِّ ثَمَرةٍ مَصارِيفُ وتكاليفُ وأَجهِزةٌ -كَمِيّةً- بقَدرِ ما تَحتاجُه شَجَرةٌ كامِلةٌ. والفَرقُ في النَّوعيّةِ ليس إلَّا. مَثَلُه في هذا مَثَلُ عَمَلِ عَتادٍ لِجُندِيٍّ، وتَوفيرِ تَجهِيزاتِه العَسكَريّةِ، إذ يَحتاجُ مَعامِلَ بقَدْرِ المَعامِلِ الَّتي يَحتاجُها الجَيشُ بأَكمَلِه، فالعَمَلُ إذًا إذا انتَقَلَ مِن يَدِ الوَحدةِ إلى يَدِ الكَثرةِ فإنَّ التَّـكاليفَ تَزدادُ مِن حيثُ الكَمِيّةُ بعَدَدِ الأَفرادِ.
وهكذا فإنَّ ما يُشاهَدُ مِن أَثرِ اليُسْرِ والسُّهُولةِ الظّاهِرةِ في النَّوعِ إنَّما هو ناشِئٌ مِنَ السُّهُولةِ الفائقةِ في الوَحدةِ والتَّوحيدِ.
الخُلاصةُ: كما أنَّ التَّشابُهَ والتَّوافُقَ في الأَعضاءِ الأَساسِ لأَنواعِ جِنسٍ واحِدٍ وأَفرادِ نَوعٍ واحِدٍ، يُثبِتانِ أنَّ تلك الأَنواعَ والأَفرادَ إنَّما هي مَخلُوقاتُ خالقٍ واحِدٍ، كذلك السُّهُولةُ المُطلَقةُ المَشهُودةُ، وانعِدامُ التَّكاليفِ، تَستَلزِمانِ بدَرَجةِ الوُجُوبِ أن يكُونَ الجَميعُ آثارَ صانِعٍ واحِدٍ، لأنَّ وَحْدةَ القَلَمِ ووَحْدةَ السِّكّةِ والخَتْمِ تَقتَضِيانِ هذا، وإلّا لَساقَتِ الصُّعُوبةُ الَّتي هي في دَرَجةِ الِامتِناعِ ذلك الجِنسَ إلى الِانعِدامِ، وذلك النَّوعَ إلى العَدَمِ.
نَحصُلُ مِن هذا أنَّه إذا أُسنِدَ الخَلقُ إلى الحَقِّ سُبحانَه وتَعالَى فإنَّ جَميعَ الأَشياءِ حُكْمُها في سُهُولةِ الخَلقِ كخَلْقِ شيءٍ واحِدٍ، وإن أُسنِدَ إلى الأَسبابِ فإنَّ كلَّ شيءٍ يكُونُ حُكمُه في الخَلقِ صَعبًا كصُعُوبةِ خَلقِ جَميعِ الأَشياءِ.. ولَمَّا كان الأَمرُ هكذا، فالوَفرةُ الفائقةُ المُشاهَدةُ في العالَمِ، والخِصْبُ الظّاهِرُ أمامَ العَينِ يُظهِرانِ كالشَّمسِ آيةَ الوَحدةِ؛ فإن لم تكُن هذه الفَواكِهُ الوَفيرةُ الَّتي نَتَناوَلُها مُلكًا لِواحِدٍ أَحَدٍ، لَمَا أَمكَنَنا أن نَأكُلَ رُمّانةً واحِدةً ولو أَعطَينا ما في الدُّنيا كلِّها ثَمَنًا لِصُنعِها.
اللَّمعة العاشرة [خاتم الوحدة في موت الموجودات وتجدُّدها]
كما أنَّ الحَياةَ الَّتي تُظهِرُ تَجَلِّيَ الجَمالِ الرَّبّانِيِّ هي بُرهانُ الأَحَديّةِ، بل هي نَوعٌ مِن تَجَلِّي الوَحدةِ، فالمَوتُ الَّذي يُظهِرُ تَجَلِّيَ الجَلالِ الإلٰهِيِّ هو الآخَرُ بُرهانُ الواحِدِيّةِ.
فمَثلًا: إنَّ الفُقاعاتِ والزَّبَدَ والحَبابَ المُواجِهةَ للشَّمسِ، والَّتي تَنسابُ مُتَألِّقةً على سَطحِ نَهرٍ عَظيمٍ، والمَوادَّ الشَّفّافةَ المُتَلمِّعةَ على سَطحِ الأَرضِ، شَواهِدُ على وُجُودِ تلك الشَّمسِ، وذلك بإراءَتِها صُورةَ الشَّمسِ وعَكْسِها لِضَوْئِها؛ فدَوامُ تَجَلِّي الشَّمسِ ببَهاءٍ معَ غُرُوبِ تلك القَطَراتِ وزَوالِ لَمَعانِ المَوادِّ، واستِمرارُ ذلك التَّجَلِّي دُونَ نَقصٍ على القَطَراتِ والمَوادِّ الشَّفّافةِ المُقبِلةِ مُجَدَّدًا، لَهِيَ شَهادةٌ قاطِعةٌ على أنَّ تلك الشُّمَيساتِ المِثاليّةَ، وتلك الأَضواءَ المُنعَكِسةَ، وتلك الأَنوارَ المُشاهَدةَ الَّتي تَنطَفِئُ وتُضِيءُ وتَتَغيَّـرُ وتَتَبدَّلُ مُتَجدِّدةً، إنَّما هي تَجَلِّياتُ شَمسٍ باقيةٍ، دائمةٍ، عاليةٍ، واحِدةٍ لا زَوالَ لها..
فتلك القَطَراتُ اللَّمّاعةُ إذًا بظُهُورِها وبمَجِيئِها تَدُلُّ على وُجُودِ الشَّمسِ، وبزَوالِها تَدُلُّ على دَوامِها ووَحْدَتِها.
وعلى غِرارِ هذا المِثالِ -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- نَجِدُ أنَّ هذه المَوجُوداتِ السَّيّالةَ إذ تَشهَدُ بوُجُودِها وحَياتِها على وُجُوبِ وُجُودِ الخالقِ سُبحانَه وتَعالَى، وعلى أَحَديَّتِه، فإنَّها تَشهَدُ بزَوالِها ومَوتِها أيضًا على أَزَليّةِ الخالقِ سُبحانَه وعلى وسَرمَدِيَّتِه وواحِدِيَّتِه.
نعم، إنَّ تَجَدُّدَ المَصنُوعاتِ الجَميلةِ وتَبَدُّلَ المَخلُوقاتِ اللَّطيفةِ، ضِمنَ الغُرُوبِ والشُّرُوقِ، وباختِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ، وبتَحَوُّلِ الشِّتاءِ والصَّيفِ، وتَبَدُّلِ العُصُورِ والدُّهُورِ، كما أنَّها تَشهَدُ على وُجُودِ ذِي جَمالٍ سَرمَدِيٍّ رَفيعِ الدَّرَجاتِ دائمِ التَّجَلِّي، وعلى بَقائِه سُبحانَه ووَحْدَتِه، فإنَّ مَوتَ تلك المَصنُوعاتِ وزَوالَها – بأَسبابِها الظّاهِرةِ – يُبيِّنُ تَفاهةَ تلك الأَسبابِ وعَجْزَها، وكَونَها سِتارًا وحِجابًا ليس إلَّا.. فيُثبِتُ لنا هذا الوَضعُ إثباتًا قاطِعًا أنَّ هذه الخِلْقةَ والصَّنعةَ، وهذه النُّقُوشَ والتَّجَلِّياتِ إنَّما هي مَصنُوعاتٌ ومَخلُوقاتٌ مُتَجدِّدةٌ للخالقِ جلَّ جَلالُه الَّذي جَميعُ أَسمائِه حُسنَى مُقدَّسةٌ، بل هي نُقُوشُه المُتَحوِّلةُ، ومَراياه المُتَحرِّكةُ، وآياتُه المُتَعاقِبةُ، وأَختامُه المُتَبدِّلةُ بحِكمةٍ.
الخُلاصةُ: إنَّ كِتابَ الكَونِ الكَبيرَ هذا إذ يُعلِّمُنا آياتِه التَّكوِينيّةِ الدّالّةِ على وُجُودِه سُبحانَه وعلى وَحْدانيَّتِه، يَشهَد كذلك على جَميعِ صِفاتِ الكَمالِ والجَمالِ والجَلالِ للذّاتِ الجَليلةِ؛ ويُثبِتُ أيضًا كَمالَ ذاتِه الجَليلةِ المُبَرَّأةِ مِن كلِّ نَقصٍ، والمُنزَّهةِ عن كلِّ قُصُورٍ، ذلك لأنَّ ظُهُورَ الكَمالِ في أَثَرٍ مّا يَدُلُّ على كَمالِ الفِعلِ الَّذي هو مَصدَرُه، كما هو بَديهيٌّ.. وكَمالُ الفِعلِ هذا يَدُلُّ على كَمالِ الِاسمِ، وكَمالُ الِاسمِ يَدُلُّ على كَمالِ الصِّفاتِ، وكَمالُ الصِّفاتِ يَدُلُّ على كَمالِ الشَّأْنِ الذّاتِيِّ، وكَمالُ الشَّأنِ الذّاتِيِّ يَدُلُّ على كَمالِ الذّاتِ -ذاتِ الشُّؤُون- حَدْسًا وضَرُورةً وبَداهةً.
فمَثلًا: إنَّ النُّقُوشَ المُتقَنةَ والتَّزييناتِ البَديعةَ لِقَصرٍ كامِلٍ رائعٍ، تَدُلُّ على ما وَراءَها مِن كَمالِ الأَفعالِ التّامّةِ لِبَنّاءٍ ماهِرٍ خَبِيرٍ.. وإنَّ كَمالَ تلك الأَفعالِ وإتقانَها يَنطِقُ بتَكامُلِ الأَسماءِ لرُتَبِ وعَناوِينِ ذلك البَنّاءِ الفاعِلِ، وتَكامُلَ الأَسماءِ والعَناوِينِ يُفصِحُ عن تَكامُلِ صِفاتٍ لا تُحصَى لِذَلك الصّانِعِ مِن جِهةِ صَنْعَتِه، وتَكامُلَ تلك الصِّفاتِ وإبداعَ الصَّنعةِ يَشهَدانِ على تَكامُلِ قابِليّاتِ ذلك الصّانِعِ واستِعداداتِه الذّاتيّةِ المُسَمّاةِ بالشُّؤُونِ، وتَكامُلَ تلك الشُّؤُونِ والقابِليّاتِ الذّاتيّةِ تَدُلُّ على تَكامُلِ ماهِيّةِ ذاتِ الصّانِعِ.
وهكذا الأَمرُ في الصَّنعةِ المُبدَعةِ المُبَرَّأةِ مِنَ النَّقصِ والفُطُورِ في الآثارِ المَشهُودةِ في العالَمِ، وفي هذه المَوجُوداتِ المُنتَظِمةِ في الكَونِ، الَّتي لَفَتَتْ الأَنظارَ إلَيْها الآيةُ الكَريمةُ: ﴿هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾، فهي تَدُلُّ بالمُشاهَدةِ على كَمالِ الأَفعالِ لِمُؤثِّرٍ ذِي قُدرةٍ مُطلَقةٍ، وكَمالُ الأَفعالِ ذاك يَدُلُّ بالبَداهةِ على كَمالِ أَسماءِ الفاعِلِ ذِي الجَلالِ، وذلك الكَمالُ يَدُلُّ ويَشهَدُ بالضَّرُورةِ على كَمالِ صِفاتِ مُسَمًّى ذِي جَمالٍ لتلك الأَسماءِ، وكَمالُ الصِّفاتِ ذاك يَدُلُّ ويَشهَدُ يَقينًا على كَمالِ شُؤُونِ مَوصُوفٍ ذِي كَمالٍ، وكَمالُ الشُّؤونِ ذاك يَدُلُّ بحَقِّ اليَقينِ على كَمالِ ذاتٍ مُقدَّسةٍ ذاتِ شُؤُونٍ، دَلالةً واضِحةً بحيثُ إنَّ ما في الكَونِ مِن أَنواعِ الكَمالاتِ المُشاهَدةِ ليس إلَّا ظِلًّا ضَعيفًا مُنطَفِئًا -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- بالنِّسبةِ لآياتِ كَمالِه ورُمُوزِ جَلالِه وإشاراتِ جَمَالِه سُبحانَه وتَعالَى.
اللَّمعة الحاديةَ عَشْرةَ السّاطعةُ كالشُّموس [شهادة خاتم النبيين]
لقد عُرِف في “الكَلِمةِ التّاسِعةَ عَشْرةَ” بأنَّ أَعظَمَ آيةٍ في كِتابِ الكَونِ الكَبيرِ، وأَعظَمَ اسمٍ في ذلك القُرآنِ الكَبيرِ، وبِذرةَ شَجَرةِ الكَونِ، وأَنوَرَ ثِمارِها، وشَمسَ قَصرِ هذا العالَمِ، والبَدْرَ المُنوَّرَ لعالَمِ الإسلامِ، والدّالَّ على سُلطانِ رُبُوبيّةِ اللهِ، والكَشّافَ الحَكيمَ لِلُغزِ الكائناتِ، هو سيِّدُنا مُحمَّدٌ الأَمينُ علَيه أَفضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ، الَّذي ضَمَّ الأَنبِياءَ جَميعًا تحتَ جَناحِ الرِّسالةِ، وحَمَى العالَمَ الإسلاميَّ تحتَ جَناحِ الإسلامِ، فحَلَّقَ بهما في طَبَقاتِ الحَقيقةِ، مُتَقدِّمًا مَوْكِبَ جَميعِ الأَنبِياءِ والمُرسَلين، وجَميعَ الأَولياءِ والصِّدِّيقين، وجَميعَ الأَصفِياءِ والمُحَقِّقين، مُبيِّنًا الوَحدانيّةَ واضِحةً جَلِيّةً بكُلِّ ما أُوتِيَ مِن قُوّةٍ، فاتِحًا طَرِيقًا سَوِيّةً إلى عَرشِ الأَحَديّةِ، دالًّا على طَرِيقِ الإيمانِ باللهِ، مُثبِتًا الوَحدانيّةَ الحَقّةَ.. فأنَّى لِوَهْمٍ أو شُبهةٍ أن يكُونَ لهما الجُرأةُ لِيَسُدَّا أو يَحجُبا ذلك الطَّرِيقَ السَّوِيَّ؟!
ولَمّا كُنَّا قد بَيَّنّا إجمالًا في “الكَلِمةِ التّاسِعةَ عَشْرةَ” و”المَكتُوبِ التّاسِعَ عشَرَ” ذلك البُرهانَ القاطِعَ مِن مَعرِفَتِه الَّتي هي الماءُ الباعِثُ للحَياةِ بأَربَعَ عَشْرةَ رَشْحةً، وتِسعَ عَشْرةَ إشارةً، معَ بيانِ أَنواعِ مُعجِزاتِه (ﷺ)، لذا نَكتَفي بهذه الإشارةِ هنا، ونَختِمُها بالصَّلاةِ والسَّلامِ على ذلك البُرهانِ القاطِعِ للوَحدانيّةِ، صَلاةً وسَلامًا تُشِيرانِ إلى تلك الأُسُسِ الَّتي تُزَكِّيه وتَشهَدُ على صِدْقِه:
اللَّهُمَّ صَلِّ على مَن دَلَّ على وُجُوبِ وُجُودِك ووَحدانيَّتِك، وشَهِد على جَلالِك وجَمالِك وكَمالِك.. الشَّاهِدُ الصَّادِقُ المُصَدَّق، والبُرهانُ النَّاطِقُ المُحَقَّق.. سيِّدُ الأَنبياءِ والمُرسَلين، الحامِلُ سِرَّ إجماعِهم وتَصدِيقِهم ومُعجِزاتِهم.. وإمامُ الأَولياءِ والصِّدِّيقين الحاوِي سِرَّ اتِّفاقِهم وتَحقيقِهم وكَراماتِهم، ذُو المُعجِزاتِ الباهِرةِ والخَوارِقِ الظّاهِرةِ والدّلائلِ القاطِعةِ المُحَقَّقة المُصَدِّقةِ له.. ذُو الخِصالِ الغاليةِ في ذاتِه، والأَخلاقِ العاليةِ في وَظيفَتِه، والسَّجايا السَّاميةِ في شَرِيعَتِه المُكَمَّلةِ المُنزَّهةِ عنِ الخِلافِ.. مَهبِطُ الوَحيِ الرَّبّانِيِّ بإجماعِ المُنزِلِ والمُنزَلِ والمُنزَلِ عليه.. سَيّارُ عالَمِ الغَيبِ والمَلَكُوتِ.. مُشاهِدُ الأَرواحِ ومُصاحِبُ المَلائكةِ.. أُنمُوذَجُ كَمالِ الكائناتِ شَخصًا ونَوعًا وجِنسًا.. أَنوَرُ ثَمَراتِ شَجَرةِ الخِلْقةِ.. سِراجُ الحَقِّ، بُرهانُ الحَقيقةِ، تِمثالُ الرَّحمةِ، مِثالُ المَحَبّةِ، كَشَّافُ طِلَّسمِ الكائناتِ، دَلَّالُ سَلطَنةِ الرُّبُوبيّةِ، المُرْمِزُ بعُلْويّةِ شَخصِيَّتِه المَعنَويّة إلى أنَّه نُصْبَ عَينِ فاطِرِ العالَمِ في خَلقِ الكائناتِ.. ذُو الشَّرِيعةِ الَّتي هي بوُسْعةِ دَساتيرِها وقُوَّتها تُشِيرُ إلى أنَّها نِظامُ ناظِمِ الكَونِ ووَضْعُ خالقِ الكائناتِ. (نعم، إنَّ ناظِمَ الكائناتِ بهذا النِّظامِ الأَتَمِّ الأَكمَل، هو ناظِمُ هذا الدِّينِ بهذا النِّظامِ الأَحسَنِ الأَجمَل) سيِّدُنا نحن مَعاشِرَ بني آدَمَ، ومُهدِينا إلى الإيمانِ نحن مَعاشِرَ المُؤمِنين: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ علَيه أَفضَلُ الصَّلَواتِ وأَتَمُّ التَّسليماتِ ما دامَتِ الأَرضُ والسَّماواتُ، فإنَّ ذلك الشَّاهِدَ الصّادِقَ المُصَدَّق يَشهَدُ على رُؤُوسِ الأَشهادِ مُنادِيًا، ومُعلِّمًا لِأَجيالِ البَشَرِ خَلفَ الأَعصارِ والأَقطارِ، نِداءً عُلْوِيًّا بجَميعِ قُوَّتِه وبغايةِ جِدِّيَّتِه وبنِهايةِ وُثُوقِه وبقُوّةِ اطمِئنانِه وبكَمالِ إيمانِه: “أَشهَدُ أنْ لا إلٰهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شَرِيكَ له”.
اللَّمعةُ الثانيةَ عَشْرةَ السّاطعةُ كالشُّموس [شهادة القرآن الكلام الإلهي العظيم]
إنَّ هذه اللَّمعةَ الثّانيةَ عَشْرةَ مِن هذه الكَلِمةِ الثّانيةِ والعِشرِين لَهِي بَحرُ الحَقائقِ، ويا لَه مِن بَحرٍ عَظيمٍ! بحيثُ إنَّ الكَلِماتِ الِاثنَتَينِ والعِشرِين السّابقةَ لا تكُونُ إلَّا مُجَرَّدَ اثنَتَينِ وعِشرِين قَطرةً مِنه؛ وهي مَنبَعُ الأَنوارِ، ويا لَه مِن مَنبَعٍ عَظيمٍ! بحيثُ إنَّ تلك الكَلِماتِ الِاثنَتَينِ والعِشرِين لَيسَت سِوَى اثنَتَينِ وعِشرِين لَمْعةً مِن تلك الشَّمسِ!
نعم، إنَّ كلَّ كَلِمةٍ مِن تلك الكَلِماتِ الِاثنَتَينِ والعِشرِين السّابقةِ ما هي إلّا لَمعةٌ واحِدةٌ لِنَجْمِ آيةٍ واحِدةٍ تَسطَعُ في سَماءِ القُرآنِ الكَريمِ، وما هي إلَّا قَطرةٌ واحِدةٌ مِن نَهرِ آيةٍ تَجرِي في بَحرِ الفُرقانِ الكَريمِ، وما هي إلّا لُؤلُؤةٌ واحِدةٌ مِن صُندُوقِ جَواهِرِ آيةٍ واحِدةٍ مِن كِتابِ اللهِ الَّذي هو الكَنزُ الأَعظَمُ..
لِذا ما كانَتِ الرَّشحةُ الرّابعةَ عَشْرةَ مِنَ الكَلِمةِ التّاسِعةَ عَشْرةَ إلّا نُبذةً مِن تَعرِيفِ ذلك الكَلامِ الإلٰهيِّ العَظيمِ، كَلامِ اللهِ الَّذي نَزَل مِنَ الِاسمِ الأَعظَمِ.. مِنَ العَرشِ الأَعظَمِ.. مِنَ التَّجَلِّي الأَعظَمِ للرُّبوبيّةِ العُظمَى، في سَعةٍ مُطلَقةٍ، وسُمُوٍّ مُطلَقٍ، يَربِطُ الأَزَلَ بالأَبدِ، والفَرْشَ بالعَرْشِ، والَّذي يقُولُ بكلِّ قُوَّتِه ويُرَدِّدُ بكلِّ قَطعِيّةٍ آياتِه: “لا إلٰهَ إلَّا هو” مُشهِدًا علَيه الكَونَ قاطِبةً.
حقًّا إنَّ العالَمَ كُلَّه يَنطِقُ معًا: “لا إلٰهَ إلَّا هو”.
فإذا نَظَرتَ إلى ذلك القُرآنِ الكَريمِ ببَصِيرةِ قَلبٍ سَليمٍ، تَرَى أنَّ جِهاتِه السِّتَّ ساطِعةٌ نَيِّرةٌ، وشَفّافةٌ رائقةٌ، بحيثُ لا يُمكِنُ لِظُلمةٍ ولا لِضَلالةٍ ولا لِشُبهةٍ ولا لِحِيلةٍ أيًّا كانَت أن تَرَى لها شَقًّا وفُرجةً للدُّخُولِ في رِحابِه المُقَدَّسِ قَطُّ، حيثُ إنَّ علَيه: شارةَ الإعجازِ، وتَحتَه: البُرهانُ والدَّليلُ، وخَلْفَه (نُقطةُ استِنادِه): الوَحيُ الرَّبّانِيُّ المَحضُ، وأَمامَه: سَعادةُ الدّارَينِ، ويَمينَه: تَصدِيقُ العَقلِ باستِنطاقِه، وشِمالَه: تَثبِيتُ تَسلِيمِ الوِجدانِ باستِشهادِه، وداخِلَه: هِدايةٌ رَحمانيّةٌ خالِصةٌ بالبَداهةِ، وفَوقَه: أَنوارٌ إيمانيّةٌ خالِصةٌ بالمُشاهَدةِ، وثِمارُه: الأَصفِياءُ والمُحَقِّقون والأَولياءُ والصِّدِّيقُون المُتَحلُّون بكَمالاتِ الإنسانيّة بعَينِ اليَقينِ.
فإذا أَلصَقْتَ أُذُنَك إلى صَدرِ لِسانِ الغَيبِ مُصْغِيًا، فإنَّك ستَسمَعُ مِن أَعمَقِ الأَعماقِ صَدًى سَماوِيًّا في غايةِ الإيناسِ والإمتاعِ، وفي مُنتَهَى الجِدِّيّةِ والسُّمُوِّ المُجَهَّز بالبُرهانِ، يُردِّدُ: “لا إلٰهَ إلَّا هو”، ويُكرِّرُها بقَطعيّةٍ جازِمةٍ، ويُفيضُ علَيك مِنَ العِلمِ اليَقينِ بدَرَجةِ عَينِ اليَقينِ بما يَقُولُه مِن حَقِّ اليَقينِ.
زُبدةُ الكَلامِ: إنَّ الرَّسُولَ الكَريمَ (ﷺ)، والفُرقانَ الحَكيمَ اللَّذَينِ كلٌّ مِنهما نُورٌ باهِرٌ، أَظهَرا حَقيقةً واحِدةً؛ هي حَقيقةُ التَّوحِيدِ.
فأَحَدُهما: لِسانُ عالَمِ الشَّهادةِ. أَشارَ إلى تلك الحَقيقةِ بأَصابِعِ الإِسلامِ والرِّسالةِ وبَيَّنَها بجَلاءٍ، بكلِّ ما أُوتِيَ مِن قُوّةٍ مِن خِلالِ أَلفٍ مِن مُعجِزاتِه، وبتَصدِيقِ جَميعِ الأَنبِياءِ والأَصفياءِ.
والآخَرُ: هو بمَثابةِ لِسانِ عالَمِ الغَيبِ. أَظهَر الحَقيقةَ نَفسَها وأَشارَ إلَيها بأَصابعِ الحَقِّ والهِدايةِ، وعَرَضَها بكلِّ جِدٍّ وأَصالةٍ، مِن خِلالِ أَربَعين وَجهًا مِن وُجُوهِ الإعجازِ، وتَصدِيقٍ مِن قِبَلِ جَميعِ الآياتِ التَّكوِينيّةِ للكَونِ.. ألا تكُونُ تلك الحَقيقةُ أَبهَرَ مِنَ الشَّمسِ وأَسطَعَ مِنها، وأَوضَحَ مِنَ النَّهارِ وأَظهَرَ مِنه؟!
أيُّها الإنسانُ الحَقيرُ المُتَمرِّدُ السّادِرُ في الضَّلالةِ24هذا الخِطابُ مُوجَّهٌ للَّذي حاوَلَ رَفْعَ القُرآنِ وإزالَتَه... كيف تَتَمكَّنُ أن تُضارِعَ هذه الشُّمُوسَ بما في رَأسِك مِن بَصيصٍ خافِتٍ هَزِيلٍ؟ وكيف يُمكِنُك الِاستِغناءُ عن تلك الشُّموسِ، وتَسعَى إلى إطفائِها بنَفْخِ الأَفواهِ؟ تَبًّا لِعَقلِك الجاحِدِ، كيف تَجحَدُ ما قالَه لِسانُ الغَيبِ ولِسانُ الشَّهادةِ مِن كَلامٍ باسمِ رَبِّ العالَمِين ومالِكِ الكَونِ، وتُنكِرُ ما دعا إلَيه مِن دَعوةٍ؟!
أيُّها الشَّقِيُّ الأَعجَزُ مِنَ الذُّبابِ والأَحقَرُ مِنه، مَن أنت حتَّى تُوَرِّطَ نَفسَك في تَكذِيبِ مالِكِ الكَونِ ذي الجَلالِ والإكرامِ؟!
❀ ❀ ❀
الخاتمة
أيُّها الصَّدِيقُ، يا ذا العَقلِ المُنَوَّرِ والقَلبِ المُتَيقِّظِ.. إن كُنتَ قد فَهِمتَ هذه “الكَلِمةَ الثّانيةَ والعِشرِين” مِن بِدايَتِها، فخُذْ بيَدِك الِاثنَتَيْ عَشْرةَ لَمعةً دَفعةً واحِدةً، واظفَرْ بها سِراجًا للحَقيقةِ، بقُوّةِ آلافٍ مِنَ المَصابيحِ، واعتَصِمْ بالآياتِ القُرآنيّةِ المُمتَدّةِ مِنَ العَرشِ الأَعظَمِ، وامتَطِ بُراقَ التَّوفيقِ، واعرُجْ في سَماواتِ الحَقائقِ، واصعَدْ إلى عَرْشِ مَعرِفةِ اللهِ سُبحانَه، وقُل: أَشهَدُ أنْ لا إلٰهَ إلّا أنتَ وَحدَك لا شَريكَ لك. وأَعلِنْ في المَسجِدِ الكَبيرِ للعالَمِ على رُؤُوسِ مَوجُوداتِ الكَونِ الوَحدانيّةَ قائلًا:
«لا إلٰهَ إلّا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ لَه، لَهُ المُلكُ، ولَهُ الحَمدُ، يُحيِي ويُميتُ، وهو حَيٌّ لا يَمُوتُ، بيَدِه الخَيرُ، وهُو عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ».
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا
رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا
رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ
وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ *
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مَن أَرسَلتَهُ رَحمَةً لِلعَالَمِينَ، وعَلَى آلِهِ وصَحبِهِ أَجمَعِينَ، وارحَمنَا وارحَم أُمَّتَهُ بِرَحمَتِكَ يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ.. آمِينَ.
﴿وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
❀ ❀ ❀