الكلمات

الكلمة الثامنة عشرة: الذي أحسَنَ كلَّ شيءٍ خَلَقَه.

[هذه الكلمة تتحدث عن الحُسن والجمال في الوجود وفي النفس، وأنه كسوة إلهية من الجميل سبحانه لا كسب المخلوق، وأنه دليلٌ على نبوة محمد ﷺ]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

(الذي أحسَنَ كلَّ شيءٍ خَلَقَه)
(الذي أحسَنَ كلَّ شيءٍ خَلَقَه)

 

الكلمة الثامنة عشرة‌

لهذه الكلمة مقامان، ولم يُكتَب بعدُ المقامُ الثاني‌

والمقام الأول عبارة عن ثلاث نِقاطٍ.‌

النُّقطة الأولى‌ [لَطمةُ تأديب لنفسي الأمَّارةِ بالسوء]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا

فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾

لَطمةُ تأديب لنفسي الأمَّارةِ بالسوء!‌

يا نَفسِي المُغرَمةَ بالفَخْرِ، المُعجَبةَ بالشُّهرةِ، الهائمةَ وَراءَ المَدحِ والثَّناء.. يا نَفسِي الغَوِيَّةَ..

إن كانَت بُذَيرةُ التِّينِ الَّتي هي مَنشَأُ أُلُوفِ الثَّمَراتِ، والسّاقُ النَّحيفةُ الصُّلبةُ الَّتي تَعَلَّقَت بها مِئاتُ العَناقيدِ.. إن كانَت هذه الثَّمَراتُ والعَناقيدُ مِن عَمَلِ تلك البُذَيرةِ والسّاقِ ومِن مَهارَتِهما، لَزِمَ كلَّ مَن يَستَفيدُ مِن تلك النَّتائجِ أن يُبدِيَ المَدْحَ ويُظهِرَ الثَّناءَ لَهما! أقولُ: إن كانَت هذه الدَّعوَى حَقًّا، فلَرُبَّما يكُونُ لكِ يا نفسي حَقٌّ أيضًا في الفَخرِ والغُرُورِ لِما حُمِّلتِ مِن النِّعَمِ.

بَينَما أنتِ لا تَستَحِقِّين إلَّا الذَّمَّ، لأنَّكِ لَستِ كتلك البُذَيرةِ ولا كتلك السّاقِ، وذلك لِما تَحمِلينَ مِن جُزءٍ اختِيارِيّ؛ فتَنتَقِصِينَ بفَخرِكِ وغُرُورِكِ مِن قيمةِ تلك النِّعَمِ وتَبخَسِينَ حَقَّها، وتُبطِلِينَها بكُفرانِكِ النِّعَمَ، وتَغتَصِبِينَها بالتَّمَلُّك.. فليس لكِ الفَخرُ، بلِ الشُّكرُ؛ ولا تَلِيقُ بكِ الشُّهرةُ، بلِ التَّواضُعُ والحَياءُ؛ وما علَيكِ إلَّا الِاستِغفارُ، ومُلازَمةُ النَّدَمِ، لا المَدْحُ، فلَيس كمالُكِ في الأَنانيّةِ، بل في مَعرِفةِ اللهِ.

[التشابه بين الأنا والطبيعة]

نعم، يا نَفسِي.. أنتِ في جِسمي تُشبِهينَ الطَّبِيعةَ في العالَمِ، فأَنتُما “النَّفسُ والطَّبيعةُ” قد خُلِقتُما قابِلَتَينِ للخَيرِ، مَرجِعَينِ للشَّرِّ؛ أي: أَنتُما لَستُما الفاعِلَ ولا المَصدَرَ، بلِ المُنفَعِلَ ومَحَلَّ الفِعلِ، إلَّا أنَّ لكُما تأثيرًا واحِدًا فقط وهو تَسَبُّبُكُما في الشَّرِّ، عِندَ عَدَمِ قَبُولِكُما الخَيرَ الوارِدَ مِنَ الخَيرِ المُطلَقِ قَبُولًا حَسَنًا.

ثمَّ إنَّكُما قد خُلِقتُما سِتارَينِ، كي تُسنَدَ إلَيكُما المَفاسِدُ والقَبائحُ الظّاهِريّةُ الَّتي لا يُشاهَدُ جَمالُها، لِتكُونا وَسِيلَتَينِ لِتَنزيهِ الَّذاتِ الإلٰهِيّةِ الجَليلةِ؛ ولكنَّكُما قد لَبِستُما صُورةً تُخالِفُ وَظيفَتَكُما الفِطرِيّةَ، إذ تَقلِبانِ الخَيرَ إلى شِرٍّ لِافتِقارِكُما إلى القابِلِيّاتِ، فكأَنَّكُما تُشارِكانِ خالِقَكُما في الفِعلِ!

فالَّذي يَعبُدُ النَّفسَ ويَعبُدُ الطَّبِيعةَ إذًا في مُنتَهَى الحَماقةِ ومُنتَهَى الظُّلمِ.

فيا نَفسِي.. لا تَقُولي: إنَّني مَظهَرُ الجَمالِ. فالَّذي يَنالُ الجَمالَ يكُونُ جَميلًا.. كلَّا، إنّكِ لم تَتَمثَّلي الجَمالَ تَمَثُّلًا تامًّا، فلا تكُونينَ مَظهَرًا له بل مَمَرًّا إلَيه.

ولا تَقُولي أيضًا: إنَّني قدِ انتُخِبْتُ مِن دُونِ النّاسِ كُلِّهم، وهذه الثَّمَراتُ إنَّما تَظهَرُ بوَساطَتي، بمَعنَى أنَّ لي فَضْلًا ومَزِيّةً! كلَّا.. وحاشَ لله! بل قد أُعطِيتِ تلك الثَّمَراتِ لأنَّكِ أَحْوَجُ النّاسِ إلَيها، وأَكثَرُهم إفلاسًا وأَكثَرُهم تَأَلُّمًا1حقًّا! إنَّني في هَذه المُنَاظرة، أُعجِبتُ أيَّما إعجابٍ بإلزامِ سعيدٍ الجديدِ نفسَه إلى هذا الحدِّ من الإلزام، فبارَكتُه وهنَّأتُه قَائلًا: بَارك الله فِيك ألفَ مرّةٍ..

النُّقطة الثانية‌ [الذي أحسَنَ كلَّ شيءٍ خَلَقَه]

نُوضِّح سِرًّا مِن أَسرارِ الآيةِ الكَريمةِ: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾

نعم، إنَّ كلَّ شيءٍ في الوُجُودِ، بل حتَّى ما يَبدُو أنَّه أَقبَحُ شيءٍ، فيه جِهةُ حُسنٍ حَقيقيّةٌ، فما مِن شيءٍ في الكَونِ، وما مِن حادِثٍ يَقَعُ فيه إلَّا وهو جَميلٌ بذاتِه، أو جَميلٌ بغَيرِه، أي: جَميلٌ بنَتائجِه الَّتي يُفضِي إلَيها.. فهناك مِنَ الحَوادِثِ الَّتي تَبدُو في ظاهِرِ أَمرِها قَبِيحةً مُضطَرِبةً ومُشَوَّشةً، إلَّا أنَّ تحتَ ذلك السِّتارِ الظّاهِرِيِّ أَنواعًا مِن جَمالٍ رائقٍ، وأَنماطًا مِن نَظْمٍ دَقيقةً.

فتَحْتَ حِجابِ الطِّينِ والغُبارِ والعَواصِفِ والأَمطارِ الغَزِيرةِ في الرَّبيعِ، تَختَبِئُ ابتِساماتُ الأَزهارِ الزّاهِيةِ برَوعَتِها، وتَحتَجِبُ رَشاقةُ النَّباتاتِ الهَيفاءِ السّاحِرةِ الجَميلة.

وفي ثَنايا العَواصِفِ الخَرِيفيّةِ المُدَمِّرةِ المُكتَسِحةِ للأَشجارِ والنَّباتاتِ، والهازّةِ للأَوراقِ الخَضراءِ مِن فَوقِ الأَفنانِ، حامِلةً نُذُرَ البَينِ، وعازِفةً لَحْنَ الشَّجَنِ والمَوتِ والِاندِثارِ، هناك بِشارةُ الِانطِلاقِ مِن أَسْرِ العَمَلِ لِمَلايينِ الحَشَراتِ الرَّقيقةِ الضَّعيفةِ الَّتي تَتَفتَّحُ للحَياةِ في أَوانِ تَفَتُّحِ الأَزهارِ، فتُحافِظُ علَيها مِن قَرِّ الشِّتاءِ وضُغُوطِ طَقْسِه، فَضْلًا عن أنَّ أَنواءَ الشِّتاءِ القاسِيةَ الحَزينةَ تُهيِّئُ الأَرضَ استِعدادًا لِمَقْدَمِ الرَّبيعِ بمَواكِبِه الجَميلةِ الرّائعةِ.

نعم، إنَّ هناك تَفَتُّحًا لِأَزهارٍ مَعنَوِيّةٍ كَثيرةٍ تَختَبِئُ تحتَ سِتارِ عَصْفِ العَواصِفِ إذا عَصَفَت، وزَلزَلةِ الأَرضِ إذا تَزَلزَلَت، وانتِشارِ الأَمراضِ والأَوبِئةِ إذا انتَشَرَت.. فبُذُورُ القابِلِيّاتِ ونُوَى الِاستِعداداتِ الكامِنةِ الَّتي لم تُستَنبَت بَعدُ تَتَسَنبَلُ وتَتَجمَّلُ نَتيجةَ حَوادِثَ تَبدُو قَبيحةً في ظاهِرِ شَأْنِها، حتَّى كأنَّ التَّقَلُّباتِ العامّةَ والتَّحَوُّلاتِ الكُلِّيّةَ في الوُجُودِ إنْ هي إلَّا أَمطارٌ مَعنَوِيّةٌ تَنزِلُ على تلك البُذُورِ لِتَستَنبِتَها.

[معيار الحُسن عائدٌ إلى الخالق لا إلى الأنا]

بَيْدَ أنَّ الإنسانَ المَفتُونَ بالمَظاهِرِ والمُتَشبِّثَ بها، والَّذي لا يَنظُرُ إلى الأُمُورِ والأَحداثِ إلَّا مِن خِلالِ أَنانيَّتِه ومَصلَحَتِه بالذّاتِ، تَراه تَتَوجَّهُ أَنظارُه إلى ظاهِرِ الأُمُورِ، وتَنحَصِرُ فيها، فيَحكُمُ علَيها بالقُبْحِ!.. وحيثُ إنَّه يَزِنُ كلَّ شيءٍ بحَسَبِ نتائجِه المُتَوجِّهةِ إلَيه فحَسْبُ، تَراه يَحكُمُ علَيه بالشَّرِّ! عِلمًا أنَّ الغايةَ مِنَ الأَشياءِ إن كانَتِ المُتَوجِّهةُ مِنها إلى الإنسانِ واحِدةً، فالمُتَوجِّهةُ مِنها إلى أَسماءِ صانِعِها الجَليلِ تُعَدُّ بالأُلُوفِ.

فمَثلًا: الأَشجارُ والأَعشابُ ذاتُ الأَشواكِ الَّتي تُدْمِي يَدَ الإنسانِ المُمتَدّةَ إلَيها، يَتَضايَقُ مِنها الإنسانُ ويَراها شيئًا ضارًّا لا جَدْوَى مِنه، بَينَما هي لتلك الأَشجارِ والأَعشابِ في مُنتَهَى الأَهَمِّيّةِ، حيثُ تَحرُسُها وتَحفَظُها مِمّن يُريدُ مَسَّها بسُوءٍ.

ومَثلًا: انقِضاضُ العُقابِ على العَصافيرِ والطُّيُورِ الضَّعيفةِ يَبدُو مُنافيًا للرَّحمةِ، والحالُ أنَّ انكِشافَ قابِلِيّاتِ تلك الطُّيُورِ الضَّعيفةِ وتَحفيزَها للظُّهُورِ لا يَتَحقَّقُ إلَّا إذا أَحَسَّتْ بالخَطَرِ المُحدِقِ بها، وشَعَرَتْ بقُدرةِ الطُّيُورِ الجارِحةِ على التَّسَلُّطِ علَيها.

ومَثلًا: إنَّ هُطُولَ الثُّلُوجِ الَّذي يَغمُرُ الأَشياءَ في فَصلِ الشِّتاءِ رُبَّما يُثيرُ بعضَ الضِّيقِ لَدَى الإنسانِ، لأنَّه يَحرِمُه مِن لَذّةِ الدِّفْءِ ومَناظرِ الخُضْرةِ، بَينَما تَختَفي في قَلبِ هذا الجَلِيدِ غاياتٌ دافئةٌ جِدًّا، ونَتائجُ حُلْوةٌ يَعجِزُ الإنسانُ عن وَصْفِها.

ثمَّ إنَّ الإنسانَ مِن حيثُ نَظَرُه القاصِرُ يَحكُمُ على كلِّ شيءٍ بوَجهِه المُتَوجِّهِ إلى نَفسِه، لذا يَظُنُّ أنَّ كَثيرًا مِنَ الأُمُورِ الَّتي هي ضِمنَ دائرةِ الآدابِ المَحْضةِ أنَّها مُجافِيةٌ لها، خارِجةٌ عنها.. فالحَديثُ عن عُضوِ تَناسُلِ الإنسانِ مَثلًا مُخجِلٌ فيما يَتَبادَلُه مِن أَحاديثَ مع الآخَرِين؛ فهذا الخَجَلُ مُنحَصِرٌ في وَجهِه المُتَوجِّهِ للإنسانِ، إلَّا أنَّ أَوْجُهَه الأُخرَى، أي: مِن حيثُ الخِلْقةُ ومِن حيثُ الإتقانُ ومِن حيثُ الغاياتُ الَّتي وُجِدَ لِأَجلِها، مَوضِعُ إعجابٍ وتَدَبُّرٍ.. فكُلٌّ مِن هذه الأَوجُهِ الَّتي فُطِرَ علَيها إنَّما هي وَجهٌ جَميلٌ مِن أَوجُهِ الحِكمةِ، وإذا هي -بهذا المِنظارِ- مَحضُ أَدَبٍ لا يَخدِشُ الحَديثُ عنها الذَّوقَ والحَياءَ.

حتَّى إنَّ القُرآنَ الكَريمَ الَّذي هو مَنبَعُ الأَدَبِ الخالِصِ، يَضُمُّ بينَ سُوَرِه تَعابيرَ تُشِيرُ إشاراتٍ في غايةِ اللُّطْفِ والجَمالِ إلى هذه الوُجُوهِ الحَكِيمةِ والسَّتائرِ اللَّطيفةِ، فما نَراه قُبْحًا في بعضِ المَخلُوقاتِ، والآلامُ والأَحزانُ الَّتي تُخَلِّفُها بعضُ الأَحداثِ والوَقائعِ اليَوميّةِ لا تَخلُو أَعماقُها قطعًا مِن أَوجُهٍ جَميلةٍ، وأَهدافٍ خَيِّرةٍ، وغاياتٍ سامِيةٍ، وحِكَمٍ خَبِيئةٍ، تَتَوجَّهُ بكُلِّ ذلك إلى خالِقِها الكَريمِ كما قَدَّر وهَدَى وأَرادَ.. فالكَثيرُ مِنَ الأُمُورِ الَّتي تَبدُو في الظّاهِرِ مُشَوَّشةً مُضطَرِبةً ومُختَلِطةً، إن أَنعَمْتَ النَّظَرَ إلى مَداخِلِها طالَعَتْك مِن خِلالِها كِتاباتٌ رَبّانيّةٌ مُقدَّسةٌ رائعةٌ، وفي غايةِ الجَمالِ والِانتِظامِ والخَيرِ والحِكمةِ.

النُّقطة الثالثة‌ [قل إن كنتم تحبون الله فاتبِعوني يُحبِبْكم الله]

قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه﴾.

ما دامَ حُسنُ الصَّنعةِ مَوجُودًا في الكَونِ، وهو أَمرٌ قَطعيٌّ كما يُشاهَدُ، يَلزَمُ إذًا ثُبُوتُ الرِّسالةِ الأَحمَدِيّةِ علَيه الصَّلاةُ والسَّلامُ بقَطعِيّةٍ يَقينيّةٍ بدَرَجةِ الشُّهُودِ، لأنَّ حُسنَ الصَّنعةِ وجَمالَ الصُّورةِ في هذه المَصنُوعاتِ، يَدُلّانِ على أنَّ في صانِعِها إرادةَ تَحسينٍ وطَلَبَ تَزيِينٍ في غايةِ القُوّةِ، وأنَّ إرادةَ التَّحسينِ وطَلَبَ التَّزيينِ يَدُلّانِ على أنَّ في صانِعِها مَحَبّةً عُلوِيّةً ورَغبةً قُدسِيّةً لإظهارِ كَمالاتِ صَنعَتِه الَّتي في مَصنُوعاتِه، وأنَّ تلك المَحَبّةَ والرَّغبةَ تَقتَضِيانِ قَطعًا تَمَركُزَهما في أَكمَلِ وأَنوَرِ المَصنُوعاتِ وأَبدَعِها، ألَا وهو الإنسانُ، ذلك لأنَّ الإنسانَ هو الثَّمَرةُ المُجَهَّزةُ بالشُّعُورِ والإدراكِ لِشَجَرةِ الخَلْقِ، وإنَّ الثَّمَرةَ هي أَجمَعُ جُزءٍ وأَبعَدُه مِن جَميعِ أَجزاءِ تلك الشَّجَرةِ، وله نَظَرٌ عامٌّ وشُعُورٌ كُلِّيٌّ.

فالفَردُ الَّذي له نَظَرٌ عامٌّ، وشُعُورٌ كُلِّيٌّ هو الَّذي يَصلُحُ أن يكُونَ المُخاطَبَ للصّانِعِ الجَميلِ والماثِلَ في حُضُورِه، ذلك لأنَّه يَصرِفُ كلَّ نَظَرِه العامِّ وعُمُومَ شُعُورِه الكُلِّيِّ إلى التَّعَبُّدِ لِصانِعِه وإلى استِحسانِ صَنعَتِه وتَقدِيرِها، وإلى شُكرِ آلائِه ونَعمائِه.. فبالبَداهةِ يكُونُ ذلك الفَردُ الفَرِيدُ هو المُخاطَبَ المُقَرَّبَ والحَبيبَ المَحبُوبَ.

[دائرتان في الوجود متقابلتان: الربوبية والعبودية]

والآنَ تُشاهَدُ لَوحَتانِ ودائِرَتانِ:

إحداهُما: دائرةُ رُبُوبيّةٍ في مُنتَهَى الِانتِظامِ وغايةِ الرَّوعةِ والهَيبةِ، ولَوحةُ صَنْعةٍ بارِعةُ الجَمالِ وفي غايةِ الإتقانِ.

والأُخرَى: دائرةُ عُبُودِيّةٍ مُنَوَّرةٌ مُزَهَّرةٌ للغايةِ، ولَوحةُ تَفَكُّرٍ واستِحسانٍ وشُكرٍ وإيمانٍ في غايةِ الجامِعِيّةِ والسَّعةِ والشُّمُولِ، بحيثُ إنَّ دائرةَ العُبُودِيّةِ هذه تَتَحرَّكُ بجَميعِ جِهاتِها باسمِ الدّائرةِ الأُولَى، وتَعمَلُ بجَميعِ قُوَّتِها لِحِسابِها.

وهكذا يُفهَمُ بَداهةً أنَّ رَئيسَ هذه الدّائرةِ الَّذي يَخدُمُ مَقاصِدَ الصّانِعِ المُتَعلِّقةَ بمَصنُوعاتِه، تكُونُ عَلاقَتُه معَ الصّانِعِ قَوِيّةً مَتِينةً، ويكُونُ لَدَيه مَحبُوبًا مَرْضِيًّا عِندَه.

فهل يَقبَلُ عَقلٌ ألَّا يُبالِيَ ولا يَهتَمَّ صانِعُ هذه المَصنُوعاتِ المُزَيَّنةِ بأَنواعِ المَحاسِنِ ومُنعِمُ هذه النِّعَمِ، المُراعي لِدَقائقِ الأَذواقِ حتَّى في أَفواهِ الخَلْقِ.. هل يُعقَلُ ألَّا يُبالِيَ بمِثلِ هذا المَصنُوعِ الأَجمَلِ الأَكمَلِ المُتَوجِّهِ إلَيه بالتَّعَبُّدِ، وألَّا يَهتَمَّ بمِثلِ هذا المَخلُوقِ الَّذي هَزَّ العَرشَ والفَرشَ بتَهلِيلاتِ استِحسانِه وتَكبِيراتِ تَقدِيراتِه لِمَحاسِنِ صَنعةِ ذلك الصّانِعِ، فاهْتَزَّ البَرُّ والبَحرُ انتِشاءً مِن نَغَماتِ حَمْدِه وشُكرِه وتَكبِيراتِه لِنَعمِ ذلك الفاطِرِ الجَليلِ؟ وهل يُمكِنُ ألَّا يَتَوَجَّه إلَيه؟ أم هل يُمكِنُ ألَّا يُوحِيَ إلَيه بكَلامِه؟ وهل يُمكِنُ ألَّا يَجعَلَه رَسُولًا؟ وألَّا يُريدَ أن يَسْرِيَ خُلُقُه الحَسَنُ وحالاتُه الجَمِيلةُ إلى الخَلْقِ أَجمَعين؟

كلّا! بل لا يُمكِنُ ألَّا يَمنَحَه كَلامَه، وألَّا يَجعَلَه رَسُولًا للنّاسِ كافّةً.

﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾

﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾

    

[أنين قلبٍ حزينٍ في وقت السَّحَر زمن الأسر والغربة]

أنّاتُ بكاءٍ لقلبٍ آسٍ، فَجْرَ أيّامِ أَسْرٍ مَليئةٍ بالفِراقِ والِاغترابِ‌

 

نَسِيمُ التَّجَلِّي يَهُبُّ وَقتَ الأَسحارِ

فانتَبِهي يا عَيني في السَّحَر

واسأَلي المَولَى العِنايةَ

فالسَّحَرُ مَتَابةُ المُذنِبِين

فهُبَّ يا قَلبي تائبًا في الفَجرِ

مُستَغفِرًا لَدَى بابِ مَولاك.

    

سَحَرْ حَشْرِيسْت، دَرُو هُشْيَارْ دَرْ تَسْبِيحْ هَمَه شَىْ‌

بَخَوابِ غَفْلَتْ سَرْسَمْ نَفْسَمْ حَتَى كَىْ؟‌

عُمُرْ عَصْرِيسْت سَفَرْ بَا قَبِرْ مِى بَايَدْ زِ هَرْ حَىْ‌

بِبَرْخِيزْ نَمَازِى چُو نِيَازِى گُو؛ بِكُنْ آوَازِى چُونْ نَىْ‌

بِگُو: يَارَبْ! پَشِيمَانَمْ، خَجِيلَمْ، شَرْمَسَارَمْ اَزْ گُنَاه بِى شُمَارَمْ، پَرِيشَانَمْ، ذَلِيلَمْ، اَشْك بَارَمْ اَزْ حَيَاتْ بِى قَرَارَمْ، غَرِيبَمْ، بِى كَسَمْ، ضَعِيفَمْ،‌

نَا تُوَانَمْ، عَلِيلَمْ، عَاجِزَمْ، اِخْتِيَارَمْ، بِى اِخْتِيَارَمْ، اَلاَمَان گُويَمْ،‌

عَفو جُويَمْ، مَدَدْ خَواهَمْ زِ دَرْ كَاهَتْ اِلَهِى.‌

    

[الترجمة:

السَّحَر حشْرٌ، ينتبه فيه كُلُّ شيءٍ من رُقاده مُسَبِّحًا

فإلى متى يا نفسي الغارقةَ في نوم الغفلة؟

والعُمْرُ قد مالت شمسُه إلى الغروب، وكلُّ حيٍّ مسافرٌ إلى القبر لا محالة

فَعَجَّلْ بالصلاة والابتهال.. وأطلِقْ أنينَك مثل الناي

قُلْ: يا ربِّ أنا آسفٌ.. أنا خَجِلٌ.. أنا نادمٌ من ذنوبٍ لا تُعَد..

ذليلٌ أنا.. أبكي من حياةٍ تتقلب بي بلا قرار

غريبٌ أنا يا ربي.. وحيدٌ ليس لي أحد.. ضعيفٌ بلا حولٍ ولا سَنَد..

عَليلٌ كَلِيلٌ بلا اقتدار.. هَرِمٌ لا حَوْلَ لي ولا اختيار

أنا في بابك يا إلهي أَنشُد الأمان.. .. أسأل العفو والغفران.. وأطلب المدد.

في بابك يا إلهي].

    

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى