الكلمة التاسعة عشرة: محمد رسول الله.
[هذه الكلمة تقدِّم تعريفًا بالجناب النبوي الشريف وبشخصيته المعنوية مع شذرة من دلائل نبوته ﷺ]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
![فهو الآية الكبرى في كتاب الكون.. وهو خاتم ديوان النبوة ﷺ.](https://said-nursi.com/wp-content/uploads/2024/12/%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B9%D8%AF-%D8%A3%D9%85%D9%8A%D9%86-e1734078213368.jpg)
الكلمة التاسعة عشرة
تَخُصُّ الرسالة الأَحمَديّة
وما مَدَحتُ مُحمَّدًا بمَقالَتي * ولكن مَدَحتُ مَقالَتي بمُحمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام.
نعم، إنَّ هذه الكَلِمةَ جميلةٌ.. ولكنَّ الشَّمائلَ المُحمَّديةَ الَّتي تَفُوقُ الحُسنَ هي الَّتي جَمَّلَتها.
تَتَضمَّنُ هذه الكَلِمةُ (اللَّمعةُ الرّابعةَ عَشْرةَ) أَربعَ عَشْرةَ رَشحةً:
الرَّشحةُ الأُولى [الشخصية المعنوية للنبي ﷺ]
إنَّ ما يُعرِّفُ لَنا رَبَّنا هو ثلاثةُ مُعَرِّفين أَدِلَّاءَ عِظامٍ:
أَوَّلُه: كتابُ الكَونِ، الَّذي سَمِعنا شَيئًا مِن شَهادَتِه في ثَلاثَ عَشْرةَ لَمعةً مِن لَمَعاتِ “المَثنَوِيِّ العَرَبيِّ النُّورِيِّ.”
ثانيه: هو الآيةُ الكُبْرَى لِهذا الكِتابِ العَظيمِ، وهو خاتَمُ دِيوانِ النُّبُوّةِ (ﷺ).
ثالِثُه: القُرآنُ الحَكِيمُ.
فعلَينا الآنَ أن نَعرِفَ هذا البُرهانَ الثّانِيَ النّاطِقَ -وهو خاتَمُ الأَنبِياءِ وسَيِّدُ المُرسَلين (ﷺ)- ونُنصِتَ إلَيه خاشِعِينَ.
اعلَمْ أنَّ ذلك البُرهانَ النّاطِقَ له شَخصِيّةٌ مَعنَوِيّةٌ عَظِيمةٌ.
فإن قُلتَ: ما هو؟ وما ماهِيَّتُه؟
قيلَ لك:
هو الَّذي لِعَظَمَتِه المَعنَوِيّةِ صارَ سَطحُ الأَرضِ مَسجِدَه، ومَكّةُ مِحرابَه، والمَدِينةُ مِنبَـرَه.
وهو إمامُ جَميعِ المُؤمِنين يَأْتَمُّون به صافِّينَ خَلْفَه.
وخَطِيبُ جَميعِ البَشَرِ يُبيِّنُ لهم دَساتيرَ سَعاداتِهم.
ورَئيسُ جَميعِ الأَنبِياءِ يُزَكِّيهم ويُصَدِّقُهم بجامِعِيّةِ دِينِه لِأَساساتِ أَديانِهم.
وسَيِّدُ جَميعِ الأَولياءِ يُرشِدُهم ويُرَبِّيهم بشَمسِ رِسالَتِه.
وقُطْبٌ في مَركَزِ دائرةِ حَلْقةِ ذِكرٍ تَرَكَّبَتْ مِنَ الأَنبِياءِ والأَخيارِ والصِّدِّيقين والأَبرارِ المُتَّفِقِين على كَلِمَتِه، النّاطِقِين بها.
وشَجَرةٌ نُورانيّةٌ، عُرُوقُها الحَيَويّةُ المَتِينةُ هي الأَنبِياءُ بأَساساتِهمُ السَّماوِيّةِ، وأَغصانُها الخَضِرةُ الطَّرِيّة، وثَمَراتُها اللَّطيفةُ النَّيِّرةُ هي الأَولياءُ بمَعارِفِهمُ الإلهاميّةِ.
فما مِن دَعوَى يَدَّعيها إلَّا ويَشهَدُ له جَميعُ الأَنبِياءِ مُستَنِدين بمُعجِزاتِهم، وجَميعُ الأَولياءِ مُستَنِدين بكَراماتِهم؛ فكَأنَّ على كلِّ دَعوَى مِن دَعاوِيه خَواتِمَ جَميعِ الكامِلِين، إذ بَينَما تَراه قال: “لا إلٰهَ إلّا اللهُ” وادَّعَى التَّوحِيدَ، فإذا نَسمَعُ مِنَ الماضِي والمُستَقبَلِ مِنَ الصَّفَّينِ النُّورانيَّينِ -أي: شُمُوسِ البَشَرِ ونُجُومِه القاعِدِين في دائرةِ الذِّكرِ- عَينَ تلك الكَلِمةِ، فيُكرِّرُونَها ويَتَّفِقُون علَيها، مع اختِلافِ مَسالِكِهم وتَبايُنِ مَشارِبِهم.. فكَأنَّهم يَقُولُون بالإجماعِ: “صَدَقْتَ، وبالحَقِّ نَطَقْتَ”.
فأنَّى لِوَهْمٍ أن يَمُدَّ يَدَه لِرَدِّ دَعوَى تَأَيَّدَتْ بشَهاداتِ مَن لا يُحَدُّ مِنَ الشّاهِدِين الَّذين تُزَكِّيهم مُعجِزاتُهم وكَراماتُهم؟!
الرَّشحةُ الثّانية [لمحة من دلائل نبوته ﷺ]
اعْلَمْ أنَّ هذا البُرهانَ النُّورانِيَّ الَّذي دَلَّ على التَّوحيدِ وأَرشَدَ البَشَرَ إلَيه، كما أنَّه يَتَأيَّدُ بقُوّةِ ما في جَناحَيهِ نُبُوّةً ووِلايةً مِنَ الإجماعِ والتَّواتُرِ..
كذلك تُصَدِّقُه مِئاتُ إشاراتِ الكُتُبِ السَّماوِيّةِ مِن بِشاراتِ التَّوراةِ والإنجِيلِ والزَّبُورِ وزُبُرِ الأَوَّلِين.. ﴿(حاشية): لقد استَخرَجَ “حُسين الجسر” مِئةً وأَربعَ عَشْرةَ بِشارةً من بُطُونِ تلك الكُتُب، وضَمَّنها في “الرِّسَالة الحَمِيديّة”؛ فَلئِن كَانت البِشارَاتُ بَعد التَّحريفِ إلى هذا الحَدِّ، فلا شكَّ أن صُراحاتٍ كَثيرةً كَانت مَوجودةً قبلَه.﴾
وكذلك تُصَدِّقُه رُمُوزُ أُلُوفِ الإرهاصاتِ الكَثيرةِ المَشهُودة.
وكذا تُصَدِّقُه دَلالاتُ مُعجِزاتِه مِن أَمثالِ: شَقِّ القَمَرِ، ونَبَعانِ الماءِ مِنَ الأَصابعِ كالكَوثَرِ، ومَجِيءِ الشَّجَرِ بدَعوَتِه، ونُزُولِ المَطَرِ في آنِ دُعائِه، وشِبَعِ الكَثيرِ مِن طَعامِه القَليلِ، وتَكَلُّمِ الضَّبِّ والذِّئبِ والظَّبيِ والجَمَلِ والحَجَرِ.. إلى أَلفٍ مِن مُعجِزاتِه كما بَيَّنَها الرُّواةُ والمُحَدِّثُون المُحَقِّقون..
وكذا تُصَدِّقُه الشَّريعةُ الجامِعةُ لِسَعاداتِ الدّارَينِ.
واعْلَمْ أنَّه كما تُصَدِّقُه هذه الدَّلائلُ الآفاقيّةُ، كذلك هو كالشَّمسِ يَدُلُّ على ذاتِه بذاتِه، فتُصَدِّقُه الدَّلائلُ الأَنفُسِيّةُ، إذِ اجتِماعُ أَعالي جَميعِ الأَخلاقِ الحَميدةِ في ذاتِه بالِاتِّفاقِ.. وكذا جَمعُ شَخصِيَّتِه المَعنَوِيّةِ في وَظِيفَتِه أَفاضِلَ جَميعِ السَّجايا الغالِيةِ والخَصائلِ النَّزيهةِ.. وكذا قُوّةُ إيمانِه بشَهادةِ قُوّةِ زُهدِه وقُوّةِ تَقواه وقُوّةِ عُبُودِيَّتِه.. وكذا كَمالُ وُثُوقِه بشَهادةِ سِيَرِه، وكَمالُ جِدِّيَّتِه وكَمالُ مَتانَتِه، وكذا قُوّةُ أُمنِيَّتِه في حَرَكاتِه بشَهادةِ قُوّةِ اطمِئْنانِه.. تُصَدِّقُه كالشَّمسِ السّاطِعةِ في دَعوَى تَمَسُّكِه بالحَقِّ ومُلازَمَتِه الحَقِيقةَ.
الرَّشحةُ الثالثة [رحلة إلى زمانه الشريف ﷺ]
اعْلَمْ أنَّ للمُحيطِ الزَّمانِيِّ والمَكانِيِّ تَأثيرًا عَظِيمًا في مُحاكَماتِ العُقُولِ، فإن شِئتَ فتَعالَ نَذْهَبْ إلى خَيرِ القُرُونِ وعَصرِ السَّعادةِ النَّـبَويّةِ لِنَحظَى بزِيارَتِه الكَريمةِ (ﷺ) -ولو بالخَيالِ- وهو على رَأسِ وَظيفَتِه يَعمَلُ.
فافْتَحْ عَينَيك وانظُرْ، فإنَّ أَوَّلَ ما يَتَظاهَرُ لنا مِن هذه المَملَكةِ: شَخصٌ خارِقٌ، له حُسنُ صُورةٍ فائقٍ، في حُسنِ سِيرةٍ رائقٍ.
فها هو آخِذٌ بيَدِه كِتابًا مُعجِزًا كَريمًا، وبلِسانِه خِطابًا مُوجَزًا حَكِيمًا، يُبلِّغُ خُطبةً أَزَليّةً ويَتلُوها على جَميعِ بَني آدَمَ، بل على جَميعِ الجِنِّ والإنسِ، بل على جَميعِ المَوجُوداتِ.
فيا لَلعَجَبِ! ما يَقُولُ؟
نعم، إنَّه يتَحَدَّثُ عن أَمرٍ جَسيمٍ، ويَبحَثُ عن نَبأٍ عَظيمٍ، إذ يَشرَحُ ويَحُلُّ اللُّغزَ العَجيبَ في سِرِّ خِلْقةِ العالَمِ، ويَفتَحُ ويَكشِفُ الطِّلَسمَ المُغلَقَ في سِرِّ حِكمةِ الكائناتِ، ويُوَضِّحُ ويَبحَثُ عنِ الأَسئلةِ الثَّلاثةِ المُعضِلةِ الَّتي شَغَلَتِ العُقُولَ وأَوقَعَتْها في الحَيرةِ، إذ هي الأَسئِلةُ الَّتي يَسأَلُ عنها كلُّ مَوجُودٍ، وهي: مَن أنتَ؟ ومِن أين؟ وإلى أين؟
الرَّشحة الرابعة [كونه سراجًا منيرًا ﷺ]
انظُرْ إلى هذا الشَّخصِ النُّورانِيِّ كيف يَنشُرُ مِنَ الحَقيقةِ ضِياءً نَوّارًا، ومِنَ الحَقِّ نُورًا مُضِيئًا، حتَّى صَيَّر لَيلَ البَشَرِ نَهارًا وشِتاءَه رَبِيعًا؛ فكَأنَّ الكائناتِ تَبَدَّلَ شَكلُها فصارَ العالَمُ ضاحِكًا مَسرُورًا بعدَما كان عَبُوسًا قَمطَرِيرًا.
فإذا ما نَظَرتَ إلى الكائناتِ خارِجَ نُورِ إرشادِه، تَرَى في الكائناتِ مَأْتَمًا عُمُوميًّا، وتَرَى مَوجُوداتِها كالأَجانبِ الغُرَباءِ والأَعداءِ، لا يَعرِفُ بعضٌ بعضًا، بل يُعادِيه، وتَرَى جامِداتِها جَنائزَ دَهّاشةً، وتَرَى حَيَواناتِها وأَناسِيَّها أَيتامًا باكِينَ تحتَ ضَرَباتِ الزَّوالِ والفِراقِ.
فهذه هي ماهِيّةُ الكائناتِ عِندَ مَن لم يَدخُل في دائرةِ نُورِه.
فانظُرِ الآنَ بنُورِه، وبمِرصادِ دِينِه، وفي دائرةِ شَرِيعَتِه، إلى الكائناتِ.. كيف تَراها؟ فانظُر! قد تَبَدَّلَ شَكلُ العالَمِ، فتَحَوَّلَ بَيتُ المَأْتَمِ العُمُوميِّ إلى مَسجِدٍ للذِّكرِ والفِكرِ، ومَجلِسٍ للجَذبةِ والشُّكرِ، وتَحَوَّلَ الأَعداءُ الأَجانِبُ مِنَ المَوجُوداتِ إلى أَحبابٍ وإخوانٍ، وتَحَوَّل كلٌّ مِن جامِداتِها المَيتةِ الصّامِتةِ حتَّى غدا كلٌّ مِنها كائنًا حَيًّا مُؤنِسًا مَأمُورًا مُسَخَّرًا تاليًا لِسانُ حالِه آياتِ خالِقِه، وتَحَوَّل ذَوُو الحَياةِ مِنها (الأَيتامُ الباكُونَ الشّاكُونَ) ذاكِرِينَ في تَسبِيحاتِهم، شاكِرِين لِتَسرِيحِهم عن وَظائفِهم.
الرَّشحة الخامسة [كونه رحمةً للعالمين ﷺ]
لقد تَحَوَّلَتْ بذلك النُّورِ حَرَكاتُ الكائناتِ وتَنَوُّعاتُها وتَغَيُّراتُها مِنَ العَبَثيّةِ والتَّفاهةِ ومَلعَبةِ المُصادَفةِ إلى مَكاتِيبَ رَبّانيّةٍ، وصَحائفِ آياتٍ تَكوِينيّةٍ، ومَرايا أَسماءٍ إلٰهِيّةٍ.. حتَّى تَرَقَّى العالَمُ وصارَ كِتابًا للحِكمةِ الصَّمَدانيّةِ.
وانظُرْ إلى الإنسانِ كيف تَرَقَّى مِن حَضِيضِ الحَيَوانيّةِ الَّذي هَوَى إلَيه بعَجْزِه وفَقْرِه، وبعَقْلِه النّاقِلِ لِأَحزانِ الماضِي ومَخاوِفِ المُستَقبَلِ، تَرَقَّى إلى أَوْجِ الخِلافةِ بتَنَوُّرِ ذلك العَقلِ والعَجزِ والفَقرِ.. فانظُرْ كيف صارَتْ أَسبابُ سُقُوطِه -مِن عَجزٍ وفَقرٍ وعَقل- أَسبابَ صُعُودِه بسَبَبِ تَنَوُّرِها بنُورِ هذا الشَّخصِ النُّورانِيِّ.
فعلى هذا، لو لم يُوجَد هذا الشَّخصُ لَسَقَطَتِ الكائناتُ والإنسانُ، وكلُّ شيءٍ إلى دَرَجةِ العَدَم، لا قِيمةَ ولا أَهَمِّيّةَ لها.
فيَلزَمُ لِمِثلِ هذه الكائناتِ البَدِيعةِ الجَمِيلةِ مِن مِثلِ هذا الشَّخصِ الخارِقِ الفائقِ المُعَرِّفِ المُحَقِّق، فإذا لم يكن هذا فلا تكُنِ الكائناتُ، إذ لا مَعنَى لها بالنِّسبةِ إلَينا.
الرَّشحة السادسة [التعرف على دعوته ﷺ]
فإن قُلتَ: مَن هذا الشَّخصُ الَّذي نَراه قد صارَ شَمسًا للكَونِ، كاشِفًا بدِينِه عن كَمالاتِ الكائناتِ؟ وما يقُولُ؟
قيلَ لك: انظُرْ واستَمِعْ إلى ما يقُولُ: ها هو يُخبِرُ عن سَعادةٍ أَبَديّةٍ ويُبَشِّرُ بها، ويَكشِفُ عن رَحمةٍ بلا نِهايةٍ، ويُعلِنُها ويَدعُو النّاسَ إلَيها.. وهو دَلَّالُ مَحاسِنِ سَلْطَنةِ الرُّبُوبيّةِ ونَظَّارُها، وكَشّافُ مَخْفِيَّاتِ كُنُوزِ الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ ومُعَرِّفُها.
فانظُرْ إلَيه مِن جِهةِ وَظيفَتِه (رِسالَتِه)، تَرَهُ بُرهانَ الحَقِّ وسِراجَ الحَقيقةِ وشَمسَ الهِدايةِ ووَسيلةَ السَّعادةِ.
ثمَّ انظُرْ إلَيه مِن جِهةِ شَخصِيَّتِه (عُبُودِيَّتِه)، تَرَهُ مِثالَ المَحَبّةِ الرَّحمانيّةِ وتِمثالَ الرَّحمةِ الرَّبّانيّةِ، وشَرَفَ الحَقيقةِ الإنسانيّةِ، وأَنورَ أَزهَرِ ثَمَراتِ شَجَرةِ الخِلقةِ.
ثمَّ انظُرْ كيفَ أَحاطَ نُورُ دِينُه بالشَّرقِ والغَربِ في سُرعةِ البَرقِ الشّارِقِ، وقد قَبِل -بإذعانِ القَلبِ- ما يَقرُبُ مِن نِصفِ الأَرضِ ومِن خُمُسِ بَني آدَمَ هَدِيّةَ هِدايَتِه، بحيثُ تُفدِي لها أَرواحَها.
فهل يُمكِنُ للنَّفسِ والشَّيطانِ أن يُناقِشا بلا مُغالَطةٍ في مُدَّعَياتِ مِثلِ هذا الشَّخصِ، لا سِيَّما في دَعوَى هي أَساسُ كلِّ مُدَّعَياتِه، وهي: “لا إلٰهَ إلا اللهُ” بجَميعِ مَراتِبِها؟
الرَّشحة السابعة [في أنه مؤيَّدٌ بقوةٍ قدسية ﷺ]
فإن شِئتَ أن تَعرِفَ أنَّ ما يُحَرِّكُه إنَّما هو قُوّةٌ قُدسِيّةٌ، فانظُرْ إلى إجراءاتِه في هذه الجَزِيرةِ الواسِعةِ.. ألَا تَرَى هذه الأَقوامَ المُختَلِفةَ البِدائيّةَ في هذه الصَّحراءِ الشّاسِعةِ، المُتَعصِّبِين لِعاداتِهم، المُعانِدِين في عَصَبِيَّتِهم وخِصامِهم، كيف رَفَعَ هذا الشَّخصُ جَميعَ أَخلاقِهمُ السَّيِّئةِ البِدائيّةِ وقَلَعَها في زَمانٍ قَليلٍ دُفعةً واحِدةً؟ وجَهَّزَهم بأَخلاقٍ حَسَنةٍ عالِيةٍ؛ فصَيَّرَهم مُعَلِّمي العالَمِ الإنسانِيِّ وأَساتِيذَ الأُمَمِ المُتَمَدِّنةِ.
فانظُرْ، لَيسَت سَلطَنَتُه على الظّاهِرِ فقط، بل ها هو يَفتَحُ القُلُوبَ والعُقُولَ، ويُسَخِّرُ الأَرواحَ والنُّفُوسَ، حتَّى صارَ مَحبُوبَ القُلُوبِ ومُعَلِّمَ العُقُولِ ومُرَبِّيَ النُّفُوسِ وسُلطانَ الأَرواحِ.
الرَّشحة الثامنة [نموذج من خوارق إجراءاته ﷺ]
مِنَ المَعلُومِ أنَّ رَفْعَ عادةٍ صَغيرةٍ -كالتَّدخِينِ مَثلًا- مِن طائفةٍ صَغيرةٍ بالكُلِّـيّةِ، قد يَعْسُرُ على حاكِمٍ عَظيمٍ، بهِمّةٍ عَظِيمةٍ، مع أنّا نَرَى هذا النَّبيَّ الكَريمَ (ﷺ) قد رَفَعَ بالكُلِّـيّةِ عاداتٍ كثيرةً، مِن أَقوامٍ عَظيمةٍ مُتَعَصِّبِين لِعاداتِهم، مُعانِدِين في حِسِّيَّاتِهم.. رَفَعَها بقُوّةٍ جُزئيّةِ، وهِمَّةٍ قَليلةٍ في ظاهِرِ الحالِ، وفي زَمانٍ قَصيرٍ، وغَرَسَ بدَلَها برُسُوخٍ تامٍّ في سَجِيَّتِهم عاداتٍ عاليةً، وخَصائلَ غاليةً.. فيَتَراءَى لنا مِن خَوارِقِ إجراءاتِه الأَساسيّةِ أُلُوفُ ما رَأَينا.
فمَن لم يَرَ هذا العَصرَ السَّعيدَ نُدخِلْ في عَينِه هذه الجَزِيرةَ العَرَبيّةَ ونَتَحدّاه، فليُجَرِّبْ نَفسَه فيها.. فلْيَأخُذُوا مِئةً مِن فَلاسِفَتِهم، ولْيَذهَبُوا إلَيها ولْيَعمَلُوا مِئةَ سنةٍ، هل يَتَيسَّرُ لهم أن يَفعَلُوا جُزءًا مِن مِئةِ جُزءٍ مِمّا فَعَلَه (ﷺ) في سَنةٍ بالنِّسبةِ إلى ذلك الزَّمانِ؟!
الرَّشحة التاسعة [في أن ما يصدُر عنه ﷺ وحيٌ منزَّهٌ عن الكذب والتصنع]
اعْلَمْ -إن كُنتَ عارِفًا بسَجِيّةِ البَشَرِ- أنَّه لا يَتَيسَّرُ لِعاقِلٍ أن يَدَّعِيَ -في دَعوَى فيها مُناظَرةٌ- كَذِبًا يَخجَلُ بظُهُورِه، وأن يقُولَه بلا حَرَجٍ وبلا تَرَدُّدٍ وبلا اضطِرابٍ يُشِيرُ إلى حِيلَتِه، وبلا تَصَنُّعٍ وتَهَيُّجٍ يُومِيان إلى كَذِبِه، أمامَ أَنظارِ خُصُومِه النَّقّادةِ، ولو كانَ شَخصًا صَغيرًا، ولو في وَظِيفةٍ صَغِيرةٍ، ولو بمَكانةٍ حَقِيرةٍ، ولو في جَماعةٍ صَغيرةٍ، ولو في مَسأَلةٍ حَقِيرة.
فكيف يُمكِنُ تَداخُلُ الحِيلةِ ودُخُولُ الخِلافِ في مُدَّعَياتِ مِثلِ هذا الشَّخصِ الَّذي هو مُوَظَّفٌ عَظيمٌ، في وَظِيفةٍ عَظِيمةٍ، بِحَيثيّةٍ عَظِيمةٍ، مع أنَّه يَحتاجُ لِحِمايةٍ عَظِيمةٍ، وفي جَماعةٍ عَظِيمةٍ، مُقابِلَ خُصُومةٍ عَظيمةٍ، وفي مَسأَلةٍ عَظِيمةٍ، وفي دَعوَى عَظيمةٍ؟
وها هو يقُولُ ما يقُولُ بلا مُبالاةٍ بمُعتَرِضٍ، وبلا تَرَدُّدٍ وبلا تَحَرُّجٍ وبلا تَخَوُّفٍ وبلا اضطِرابٍ، وبصَفوةٍ صَمِيميّةٍ، وبجِدِّيّةٍ خالِصةٍ، وبطَرْزٍ يُثيرُ أَعصابَ خُصُومِه، بتَزيِيفِ عُقُولِهم وتَحقيرِ نُفُوسِهم وكَسْرِ عِزَّتِهم، بأُسلُوبٍ شَدِيدٍ عُلْوِيٍّ.
فهل يُمكِنُ تَداخُلُ الحِيلةِ في مِثلِ هذه الدَّعوَى مِن مِثلِ هذا الشَّخصِ، في مِثلِ هذه الحالةِ المَذكُورةِ؟
كلَّا! ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.
نعم، إنَّ الحَقَّ أَغْنَى مِن أن يُدَلَّسَ، ونَظَرَ الحَقيقةِ أَعلَى مِن أن يُدَلَّسَ علَيه.
نعم، إنَّ مَسلَكَه الحَقَّ مُستَغنٍ عنِ التَّدليسِ، ونَظَرَه النَّفّاذَ مُنَزَّهٌ مِن أن يَلتَبِسَ علَيه الخَيالُ بالحَقيقةِ.
الرَّشحة العاشرة [إخباراتُه العظيمة وبشاراتُه الجميلة ﷺ]
انظُرْ واستَمِعْ إلى ما يقُولُ.. ها هو يَبحَثُ عن حَقائقَ مُدهِشةٍ عَظيمةٍ، ويَبحَثُ عن مَسائلَ جاذِبةٍ للقُلُوبِ، جالِبةٍ للعُقُولِ إلى الدِّقّةِ والنَّظَرِ؛ إذ مِنَ المَعلُومِ أنَّ شَوقَ كَشْفِ حَقائقِ الأَشياءِ قد ساقَ الكَثِيرينَ مِن أَهلِ حُبِّ الِاستِطلاعِ واللَّهفةِ والِاهتِمامِ إلى فِداءِ الأَرواحِ.
ألَا تَرَى أنَّه لو قيلَ لك: إن فَدَيتَ نِصفَ عُمُرِك، أو نِصفَ مالِك، لَنَزَل مِنَ القَمَرِ أوِ المُشتَرِي شَخصٌ يُخبِرُك بغَرائبِ أَحوالِهما، ويُخبِرُك بحَقيقةِ مُستَقبَلِ أَيّامِك؟ أَظُنُّك تَرضَى بالفِداء.
فيا لَلعَجَبِ! تَرضَى لِدَفعِ ما تَتَلهَّفُ إلَيه بنِصفِ العُمُرِ والمالِ، ولا تَهتَمُّ بما يقُولُ هذا النَّبيُّ الكَريمُ (ﷺ) ويُصَدِّقُه إجماعُ أَهلِ الشُّهُودِ وتَواتُرُ أَهلِ الِاختِصاصِ مِنَ الأَنبِياءِ والصِّدِّيقين والأَولياءِ والمُحَقِّقين! بَينَما هو يَبحَثُ عن شُؤُونِ سُلطانٍ، ليس القَمَرُ في مَملَكَتِه إلّا كذُبابٍ يَطيرُ حولَ فَراشٍ، وهذا يَحُومُ حَولَ سِراجٍ مِن بينِ أُلُوفٍ مِنَ القَنادِيلِ الَّتي أَسرَجَها في مَنزِلٍ مِن بينِ أُلُوفِ مَنازِلِه الَّذي أَعَدَّه لِضُيُوفِه.
وكذا يُخبِرُ عن عالَمٍ هو مَحَلُّ الخَوارِقِ والعَجائبِ، وعنِ انقِلابٍ عَجِيبٍ، بحيثُ لوِ انفَلَقَتِ الأَرضُ وتَطايَرَت جِبالُها كالسَّحابِ ما ساوَتْ عُشْرَ مِعْشارِ غَرائبِ ذلك الِانقِلابِ.. فإن شِئتَ فاستَمِعْ مِن لِسانِه أَمثالَ السُّوَرِ الجَليلةِ: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ و﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ وإِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ و﴿الْقَارِعَةُ﴾.
وكذا يُخبِرُ بصِدقٍ عن مُستَقبَلٍ، ليس مُستَقبَلُ الدُّنيا بالنِّسبةِ إلَيه إلَّا كقَطْرةِ سَرابٍ بلا طائلٍ بالنِّسبةِ إلى بَحرٍ بلا ساحِلٍ.
وكذا يُبَشِّرُ -عن شُهُودٍ- بسَعادةٍ، لَيسَت سَعادةُ الدُّنيا بالنِّسبةِ إلَيها إلَّا كبَرْقٍ زائلٍ بالنِّسبةِ إلى شَمسٍ سَرْمَدِيّةٍ.
الرَّشحة الحاديةَ عَشْرة [في أن جميع إخباراته ﷺ ثمرة شهودٍ وعِيان]
إنَّ تحتَ حِجابِ هذه الكائناتِ ذاتِ العَجائبِ والأَسرارِ، تَنتَظِرُنا أُمُورٌ أَعجَبُ، ولا بُدَّ للإخبارِ عن تلك العَجائبِ والخَوارِقِ مِن شَخصٍ عَجِيبٍ خارِقٍ يُستَشَفُّ مِن أَحوالِه أنَّه يُشاهِدُ ثمَّ يَشهَدُ، ويُبصِرُ ثمَّ يُخبِرُ.
نعم، نُشاهِدُ مِن شُؤُونِه وأَطوارِه أنَّه يُشاهِد ثمَّ يَشهَدُ فيُنذِرُ ويُبشِّرُ.. وكذا يُخبِرُ عن مَرضِيّاتِ رَبِّ العالَمِين الَّذي غَمَرَنا بنِعَمِه الظّاهِرةِ والباطِنةِ، ومَطالِبِه مِنَّا، وهكذا.
فيا حَسرةً على الغافِلين! ويا خَسارةً على الضّالِّين! ويا عَجَبًا مِن بَلاهةِ أَكثَرِ النَّاسِ! كيف تَعامَوا عن هذا الحَقِّ وتَصامُّوا عن هذه الحَقيقةِ؟! لا يَهتَمُّون بكَلامِ هذا النَّبيِّ الكَريمِ (ﷺ) مع أنَّ مِن شَأْنِ مِثلهِ أن تُفْدَى له الأَرواحُ، ويُسرَعَ إلَيه بتَركِ الدُّنيا وما فيها؟
الرَّشحة الثانيةَ عَشْرة [كونه ﷺ برهانًا قاطعًا على وجود السعادة الأبدية]
اعلَمْ أنَّ هذا النَّبيَّ الكَريمَ (ﷺ) المَشهُودَ لنا بشَخصِيَّتِه المَعنَوِيّةِ، المَشهُورَ في العالَمِ بشُؤُونِه العُلوِيّةِ، كما أنَّه بُرهانٌ ناطِقٌ صادِقٌ على الوَحدانيّةِ، ودَليلُ حَقٍّ بدَرَجةِ حَقّانيّةِ التَّوحِيدِ، كذلك هو بُرهانٌ قاطِعٌ ودَليلٌ ساطِعٌ على السَّعادةِ الأَبَديّةِ.
بل كما أنَّه بدَعوَتِه وبِهِدايَتِه سَبَبُ حُصُولِ السَّعادةِ الأَبَديّةِ ووَسيلةُ وُصُولِها، كذلك بدُعائِه وعُبُودِيَّتِه سَبَبُ وُجُودِ تلك السَّعادةِ الأَبَديّةِ ووَسيلةُ إيجادِها.
[إمامتُه العظمى ببني آدم في الصلاة الكبرى عبر العصور]
ولِمُناسَبةِ المَقامِ نُكَرِّرُ هذا السِّرَّ الَّذي وَرَد في مَبحَثِ الحَشرِ.. فإن شِئتَ فانظُرْ إلَيه وهو في الصَّلاةِ الكُبْرَى، الَّتي بعَظَمةِ وُسْعَتِها صَيَّرَتْ هذه الجَزيرةَ بلِ الأَرضَ مُصَلِّين بتلك الصَّلاةِ الكُبْرَى.. ثم انظُرْ إلَيه وهو يُصَلِّي تلك الصَّلاةَ بهذه الجَماعةِ العُظمَى، بدَرَجةٍ كأنَّه هو إمامٌ في مِحرابِ عَصرِه واصْطَفَّ خَلْفَه مُقتَدِين به جَميعُ أَفاضِلِ بَني آدَمَ، مِن آدَمَ عَليهِ السَّلام إلى هذا العَصرِ إلى آخِرِ الدُّنيا في صُفُوفِ الأَعصارِ مُؤتَمِّينَ به ومُؤَمِّنين على دُعائِه.
[دعاؤه الكليّ ﷺ]
ثمَّ استَمِع إلى ما يَفعَلُ في تلك الصَّلاةِ بتلك الجَماعةِ.. فها هو يَدعُو لِحاجةٍ شَديدةٍ عَظِيمةٍ عامّةٍ بحيثُ تَشتَرِكُ معه في دُعائِه الأَرضُ بلِ السَّماءُ بل كلُّ المَوجُوداتِ، فيَقُولُون بأَلسِنةِ الأَحوالِ: نعم يا رَبَّنا تَقَبَّلْ دُعاءَه؛ فنحن أيضًا بل مع جَميعِ ما تَجَلَّى علَينا مِن أَسمائِك نَطلُبُ حُصُولَ ما يَطلُبُ هو.
ثمَّ انظُر إلى طَوْرِه في طَرْزِ تَضَرُّعاتِه كيف يَتَضرَّعُ بافتِقارٍ عَظيمٍ، في اشتِياقٍ شَديدٍ، وبحُزنٍ عَمِيقٍ، في مَحبُوبيّةٍ حَزِينةٍ؛ بحيثُ يُهَيِّجُ بُكاءَ الكائناتِ فيُبكِيها فيُشرِكُها في دُعائِه.
ثمَّ انظُر لِأَيِّ مَقصَدٍ وغايةٍ يَتَضرَّعُ؟ ها هو يَدعُو لِمَقصَدٍ، لولا حُصُولُ ذاك المَقصَدِ لَسَقَط الإنسانُ، بلِ العالَمُ، بل كلُّ المَخلُوقاتِ إلى أَسفَلِ سافِلينَ لا قِيمةَ لها ولا مَعنَى. وبمَطلُوبِه تَتَرقَّى المَوجُوداتُ إلى مَقاماتِ كَمالاتِها.
ثمَّ انظُرْ كيف يَتَضرَّعُ باستِمدادٍ مَديدٍ، في غِياثٍ شَديدٍ، في استِرحامٍ بتَوَدُّدٍ حَزينٍ، بحيثُ يُسمِعُ العَرشَ والسَّماواتِ، ويُهَيِّجُ وَجْدَها، حتَّى كأنَّ العَرشَ والسَّماواتِ يقُولُ: آمِينَ اللَّهمَّ آمِينَ.
ثمَّ انظُر مِمَّن يَطلُبُ مَسؤُولَه.. نعم، يَطلُبُ مِنَ القَديرِ السَّميعِ الكَريمِ ومِنَ العَليمِ البَصيرِ الرَّحيمِ، الَّذي يَسمَعُ أَخفَى دُعاءٍ مِن أَخفَى حَيَوانٍ في أَخفَى حاجةٍ، إذ يُجِيبُه بقَضاءِ حاجَتِه بالمُشاهَدةِ، وكذا يُبصِرُ أَدنَى أَمَلٍ في أَدنَى ذي حَياةٍ في أَدنَى غايةٍ، إذ يُوصِلُه إلَيها مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ بالمُشاهَدةِ، ويُكرِمُ ويَرحَمُ بصُورةٍ حَكيمةٍ، وبطَرْزٍ مُنتَظِمٍ.. لا يَبقَى رَيبٌ في أنَّ هذه التَّربيةَ والتَّدبيرَ مِن سَميعٍ عَليمٍ ومِن بَصيرٍ حَكيمٍ.
الرَّشحة الثالثةَ عَشْرة [دعاؤه وثمرات شجرته عبر العصور ﷺ]
فيا لَلعَجبِ! ما يَطلُبُ هذا الَّذي قام على الأَرضِ، وجَمَعَ خَلفَه جَميعَ أَفاضِلِ بني آدَمَ، ورَفَع يدَيهِ مُتَوجِّهًا إلى العَرشِ الأَعظَمِ يَدعُو دُعاءً يُؤَمِّنُ علَيه الثَّقَلانِ؛ ويُعلَمُ مِن شُؤُونِه أنَّه شَرَفُ نَوعِ الإنسانِ، وفَرِيدُ الكَونِ والزَّمانِ، وفَخرُ هذه الكائناتِ في كلِّ آنٍ، ويَستَشفِعُ بجَميعِ الأَسماءِ القُدسيّةِ الإلٰهِيّةِ المُتَجلِّيةِ في مَرايا المَوجُوداتِ، بل تَدعُو وتَطلُبُ تلك الأَسماءُ عَينَ ما يَطلُبُ هو؟
فاستَمِعْ! ها هو يَطلُبُ البَقاءَ واللِّقاءَ، والجَنّةَ والرِّضَى.. فلو لم يُوجَد ما لا يُعَدُّ مِنَ الأَسبابِ المُوجِبةِ لإعطاءِ السَّعادةِ الأَبَديّةِ مِنَ الرَّحمةِ والعِنايةِ والحِكمةِ والعَدالةِ المَشهُوداتِ -المُتَوقِّفِ كَونُها رَحمةً وعِنايةً وحِكمةً وعَدالةً على وُجُودِ الآخِرةِ- وكذا جَميعُ الأَسماءِ القُدسِيّةِ أسبابًا مُقتَضِيةً لها، لَكَفَى دُعاءُ هذا الشَّخصِ النُّورانِيِّ لِأَنْ يَبنيَ رَبُّه له ولِأَبناءِ جِنسِه الجَنّةَ، كما يُنشِئُ لنا في كلِّ رَبيعٍ جِنانًا مُزَيَّنةً بمُعجِزاتِ مَصنُوعاتِه.
فكما صارَت رِسالَتُه سَببًا لِفَتحِ هذه الدّارِ الدُّنيا للِامتِحانِ والعُبُودِيّةِ، كذلك صار دُعاؤُه في عُبُودِيَّتِه سَببًا لِفَتحِ دارِ الآخِرةِ للمُكافآتِ والمُجازاةِ.
فهل يُمكِنُ أن يَقبَلَ هذا الِانتِظامُ الفائقُ، في هذه الرَّحمةِ الواسِعةِ، في هذه الصَّنعةِ الحَسَنةِ بلا قُصُورٍ، في هذا الجَمالِ بلا قُبحٍ -بدَرَجةٍ أَنطَقَ أَهلَ التَّحقيقِ والعَقلِ بـ”ليس في الإمكانِ أَبدَعُ مِمّا كان “- أن تَتَغيَّرَ هذه الحَقائقُ إلى قُبحٍ خَشِينٍ، وظُلمٍ مُوحِشٍ، وتَشَوُّشٍ عَظيمٍ، أي: بعَدَمِ مَجِيءِ الآخِرةِ؟ إذ سَماعُ أَدنَى صَوتٍ مِن أَدنَى خَلقٍ في أَدنَى حاجةٍ وقَبُولُها بأَهمِّيّةٍ تامّةٍ، مع عَدَمِ سَماعِ أَرفَعِ صَوتٍ ودُعاءٍ في أَشَدِّ حاجةٍ، وعَدَمِ قَبُولِ أَحسَنِ مَسؤُولٍ، في أَجمَلِ أَمَلٍ ورَجاءٍ؛ قُبحٌ ليس مِثلَه قُبحٌ، وقُصُورٌ لا يُساوِيه قُصُورٌ، حاشا ثمَّ حاشا وكلَّا.. لا يَقبَلُ مِثلُ هذا الجَمالِ المَشهُودِ بلا قُصُورٍ مِثلَ هذا القُبحِ المَحْضِ.
[ثمرات شجرته ﷺ عبر العصور]
فيا رَفيقي في هذه السِّياحةِ العَجِيبةِ.. ألَا يَكفيك ما رَأَيتَ؟ فإن أَرَدتَ الإحاطةَ فلا يُمكِنُ، بل لو بَقِينا في هذه الجَزيرةِ مِئةَ سنةٍ ما أَحَطْنا ولا مَلَلْنا مِنَ النَّظَرِ بجُزءٍ واحِدٍ مِن مِئةِ جُزءٍ مِن عَجائبِ وَظائفِه، وغَرائبِ إجراءاتِه.
فلْنَرجِعِ القَهْقَرَى، ولْنَنظُرْ عَصرًا عَصرًا، كيف اخْضَرَّت تلك العُصُورُ واستَفاضَت مِن فَيضِ هذا العَصرِ؟
نعم، تَرَى كلَّ عَصرٍ تَمُرُّ علَيه قدِ انفَتَحَت أَزاهِيرُه بشَمسِ عَصرِ السَّعادةِ، وأَثمَرَ كلُّ عَصرٍ مِن أَمثالِ أبي حَنيفةَ والشّافعيِّ وأبي يَزيدَ البِسطامِيّ والجُنَيدِ والشَّيخِ عبدِ القادِرِ الگيلانِيّ.. والإمامِ الغَزّاليِّ والشّاهِ النَّقْشَبَندِ والإمامِ الرَّبَّانِيِّ ونَظائرِهم أُلُوفَ ثَمَراتٍ مُنَوَّراتٍ مِن فيضِ هِدايةِ ذلك الشَّخصِ النُّورانِيِّ.
[صلواتٌ عليه ﷺ]
فلْنُؤخِّر تَفصِيلاتِ مَشهُوداتِنا في رُجُوعِنا إلى وَقتٍ آخَرَ؛ ولْنُصَلِّ ونُسَلِّمْ على ذلك الذّاتِ النُّورانِيِّ الهادي ذي المُعجِزاتِ، بصَلَواتٍ وسَلامٍ تُشِيرُ إلى قِسمٍ مِن مُعجِزاتِه:
﴿عَلَى مَن أُنزِلَ عَلَيهِ القُرآنُ الحَكِيمُ مِنَ الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ مِنَ العَرشِ العَظِيمِ.. سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ أَلفُ ألفِ صَلَاةٍ وسَلَامٍ بِعَدَدِ أنفَاسِ أُمَّتِهِ﴾.
﴿عَلَى مَن بَشَّرَ بِرِسَالَتِهِ التَّورَاةُ والإنجِيلُ والزَّبُورُ والزُّبُرُ، وبَشَّرَ بِنُبُوَّتِهِ الإِرهَاصَاتُ وهَوَاتِفُ الجِنِّ وكَوَاهِنُ البَشَرِ وانشَقَّ بِإِشَارَتِهِ القَمَرُ.. سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ أَلفُ أَلفِ صَلَاةٍ وَسَلَامٍ بِعَدَدِ حَسَنَاتِ أُمَّتِهِ﴾.
﴿عَلَى مَن جَاءَت لِدَعوَتِهِ الشَّجَرُ، ونَزَلَ سُرعَةً بِدُعَائِهِ المَطَرُ، وأَظَلَّتهُ الغَمَامَةُ مِنَ الحَرِّ، وشَبِعَ مِن صَاعٍ مِن طَعَامِهِ مِئاتٌ مِنَ البَشَرِ، ونَبَعَ المَاءُ مِن بَينِ أصَابِعِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَالكَوثَرِ، وأَنطَقَ اللهُ لَهُ الضَّبَّ والظَّبيَ والذِّئبَ والجِذعَ والذِّرَاعَ والجَمَلَ والجَبَلَ والحَجَرَ والمَدَرَ والشَّجَرَ.. صَاحِبِ المِعرَاج ومَا زَاغَ البَصَرُ..﴾
﴿سَيِّدِنَا وشَفِيعِنَا مُحَمَّدٍ أَلفُ أَلفِ صَلَاةٍ وسَلَامٍ بِعَدَدِ كُلِّ الحُرُوفِ المُتَشَكِّلَةِ فِي الكَلِمَاتِ المُتَمَثِّلَةِ بِإِذنِ الرَّحمٰنِ فِي مَرَايَا تَمَوُّجَاتِ الهَوَاءِ عِندَ قِرَاءَةِ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ القُرآنِ مِن كُلِّ قَارِئٍ مِن أوَّلِ النُّزُولِ إلَى آخِرِ الزَّمَانِ.. واغفِر لَنَا وارحَمنَا يَا إلٰهَنَا بِكُلِّ صَلَاةٍ مِنهَا.. آمِينَ﴾.
[دلائل النبوة لا تحصى]
(اعلَمْ أنَّ دَلائلَ النُّبوّةِ الأَحمَديّةِ لا تُعَدُّ ولا تُحَدُّ، ولقد صَنَّف في بَيانِها أَعاظِمُ المُحقِّقين؛ وأنا مع عَجْزِي وقُصُوري قد بَيَّنتُ شُعاعاتٍ مِن تلك الشَّمسِ في رسالةٍ تُركيّةٍ مُسَّماةٍ بـ “شُعاعاتُ مَعرِفة النَّبيِّ (ﷺ)”، وفي “المَكتُوبِ التّاسِعَ عَشَر”، وكذا بَيَّنتُ إجمالًا وُجُوهَ إعجازِ مُعجِزَتِه الكُبْرَى -أي القُرآن-، وقد أَشَرتُ بفَهمي القاصِرِ إلى أَربعين وَجهًا مِن وُجُوهِ إعجازِ القُرآنِ في رسالةِ “اللَّوامِع”، وقد بَيَّنتُ مِن تلك الوُجُوهِ واحِدًا هو البلاغةُ الفائقةُ النَّظمِيّةُ في مِقدارِ أَربعِين صَحيفةً مِن تَفسِيرِي العَرَبيِّ المُسمَّى بـ “إشارات الإعجاز”، فإن شِئتَ فارجِعْ إلى هذه الكُتُبِ الثّلاثةِ).
الرَّشحة الرابعةَ عَشْرة [القرآن الكريم أعظم دلائل النبوة]
اعلَمْ أنَّ القُرآنَ الكَريمَ الَّذي هو بَحرُ المُعجِزاتِ والمُعجِزةُ الكُبْرَى يُثبِتُ النُّبوّةَ الأَحمَديّةَ والوَحدانيّةَ الإلٰهِيّةَ إثباتًا، ويُقيمُ حُجَجًا ويَسُوقُ بَراهينَ ويُبْرِزُ أَدِلّةً تُغني عن كلِّ بُرهانٍ آخَرَ؛ فنحن هنا سنُشِيرُ إلى تَعريفِه، ثمَّ نُشِيرُ إلى لَمَعاتٍ مِن إعجازِه تلك الَّتي أَثارَت تَساؤُلًا لَدَى البَعضِ.
[تعريف القرآن الكريم]
فالقُرآنُ الحَكيمُ الَّذي يُعرِّفُ رَبَّنا لنا:
هو التَّرجَمةُ الأَزَليّةُ لهذه الكائناتِ، والتَّرجُمانُ الأَبَديُّ لِأَلسِنَتِها التّالِياتِ للآياتِ التَّكوينيّةِ، ومُفَسِّرُ كتابِ العالَمِ.
وكذا هو كَشَّافٌ لِمَخْفيَّاتِ كُنُوزِ الأَسماءِ المُستَتِرةِ في صَحائفِ السَّماواتِ والأَرضِ.
وكذا هو مِفتاحٌ لِحَقائقِ الشُّؤُونِ المُضْمَرةِ في سُطُورِ الحادِثاتِ.
وكذا هو لِسانُ الغَيبِ في عالَمِ الشَّهادةِ.
وكذا هو خَزينةُ المُخاطَباتِ الأَزَليّةِ السُّبحانيّةِ والِالتِفاتاتِ الأَبَديّةِ الرَّحمانيّةِ.
وكذا هو أَساسٌ وهَندَسةٌ وشَمسٌ لهذا العالَمِ المَعنَويِّ الإسلاميِّ.
وكذا هو خَرِيطةٌ للعالَمِ الأُخرَوِيِّ.
وكذا هو قَولٌ شارِحٌ وتَفسِيرٌ واضِحٌ وبُرهانٌ قاطِعٌ وتَرجُمانٌ ساطِعٌ لِذاتِ اللهِ وصِفاتِه وأَسمائِه وشُؤُونِه.
وكذا هو مُرَبٍّ للعالَمِ الإنسانِيِّ
وكالماءِ وكالضِّياءِ للإنسانيّةِ الكُبْرَى الَّتي هي الإسلاميّةُ.
وكذا هو الحِكمةُ الحَقيقيّةُ لِنَوعِ البَشَرِ، وهو المُرشِدُ الهادي إلى ما خُلِقَ البَشَرُ له.
وكذا هو للإنسانِ: كما أنَّه كتابُ شَريعةٍ كذلك هو كتابُ حِكمةٍ، وكما أنَّه كتابُ دُعاءٍ وعُبُوديّةٍ كذلك هو كتابُ أَمرٍ ودَعوةٍ، وكما أنَّه كتابُ ذِكرٍ كذلك هو كتابُ فِكرٍ، وكما أنَّه كتابٌ واحِدٌ، لكن فيه كُتُبٌ كَثيرةٌ في مُقابَلةِ جَميعِ حاجاتِ الإنسانِ المَعنَويّةِ، كذلك هو كمَنزِلٍ مُقدَّسٍ مَشحُونٍ بالكُتُبِ والرَّسائلِ.. حتَّى إنَّه أَبرَزَ لِمَشرَبِ كلِّ واحِدٍ مِن أَهلِ المَشارِبِ المُختَلِفةِ، ولِمَسلَكِ كلِّ واحِدٍ مِن أَهلِ المَسالِكِ المُتَبايِنةِ مِنَ الأَولياءِ والصِّدِّيقين ومِنَ العُرَفاءِ والمُحَقِّقين رِسالةً لائقةً لِمَذاقِ ذلك المَشرَبِ وتَنوِيرِه، ولِمَساقِ ذلك المَسلَكِ وتَصوِيرِه حتَّى كأنَّه مَجمُوعةُ الرَّسائلِ.
[التكرار في القرآن لمعةٌ من لمعات إعجازه]
فانظُرْ إلى بَيانِ لَمعةِ الإعجازِ في تَكراراتِ القُرآنِ الَّتي يَتَوهَّمُها القاصِرُون نَقصًا في البَلاغةِ.
[التكرير تنوير وتقرير وتأكيد]
اعلَمْ أنَّ القُرآنَ لأنَّه كتابُ ذِكرٍ، وكتابُ دُعاءٍ، وكتابُ دَعوةٍ، يكُونُ تَكرارُه أَحسَنَ وأَبلَغَ بل أَلزَمَ، وليس كما ظَنَّه القاصِرُون، إذِ الذِّكرُ يُكَرَّرُ، والدُّعاءُ يُرَدَّدُ، والدَّعوةُ تُؤَكَّد.. إذ في تكريرِ الذِّكرِ تَنوِيرٌ، وفي تَردِيدِ الدُّعاءِ تَقريرٌ، وفي تكرارِ الدَّعوةِ تأكيدٌ.
[تكرار المقاصد في كل سورة]
واعلَمْ أنَّه لا يُمكِنُ لكلِّ أَحَدٍ في كلِّ وَقتٍ قِراءةُ تَمامِ القُرآنِ الَّذي هو دَواءٌ وشِفاءٌ لِكلِّ أَحَدٍ في كلِّ وَقتٍ؛ فلِهذا أَدْرَجَ الحَكيمُ الرَّحيمُ أَكثَرَ المَقاصِدِ القُرآنيّةِ في أَكثَرِ سُوَرِه، لا سِيَّما الطَّويلةِ مِنها، حتَّى صارَت كلُّ سُورةٍ قُرآنًا صَغيرًا، فسَهَّل السَّبيلَ لكلِّ أَحَدٍ، دُونَ أن يَحرِمَ أَحَدًا، فكَرَّرَ التَّوحيدَ والحَشرَ وقِصَّةَ مُوسَى عَليهِ السَّلام.
[التكرار لتكرر الاحتياج]
اعلَمْ أنَّه كما أنَّ الحاجاتِ الجِسمانيّةَ مُختَلِفةٌ في الأَوقاتِ، كذلك الحاجاتُ المَعنَويّةُ الإنسانيّةُ أَيضًا مُختلِفةُ الأَوقاتِ؛ فإلى قِسمٍ في كلِّ آنٍ كـ”هو اللهُ” للرُّوحِ -كحاجةِ الجِسمِ إلى الهَواءِ-، وإلى قِسمٍ في كلِّ ساعةٍ كـ”بِاسمِ اللهِ”، وهكذا فقِسْ.
فتَكرارُ الآياتِ والكَلِماتِ إذًا للدَّلالةِ على تَكَرُّرِ الِاحتِياجِ، وللإشارةِ إلى شِدّةِ الِاحتِياجِ إلَيها، ولِتَنبِيه عِرقِ الِاحتِياجِ وإيقاظِه، وللتَّشوِيقِ على الِاحتِياجِ، ولِتَحرِيكِ اشتِهاءِ الِاحتِياجِ إلى تلك الأَغذِيةِ المَعنَويّةِ.
[التكرار تثبيت وتأييد]
اعلَمْ أنَّ القُرآنَ مُؤسِّسٌ لهذا الدِّينِ العَظيمِ المَتينِ، وأَساساتٌ لهذا العالَمِ الإسلاميِّ، ومُقَلِّبٌ لِاجتِماعيّاتِ البَشَرِ ومُحَوِّلُها ومُبَدِّلُها؛ وجَوابٌ لِمُكَرَّراتِ أَسئِلةِ الطَّبَقاتِ المُختَلِفةِ للبَشَريّةِ بأَلسِنةِ الأَقوالِ والأَحوالِ.. ولا بُدَّ للمُؤسِّسِ مِنَ التَّكريرِ للتَّثبيتِ، ومِنَ التَّرديدِ للتَّأكيدِ، ومِنَ التَّـكرارِ للتَّقريرِ والتَّأييدِ.
[التكرار للتنويع]
اعلَمْ أنَّ القُرآنَ يَبحَثُ عن مَسائلَ عَظِيمةٍ ويَدعُو القُلُوبَ إلى الإيمانِ بها، وعن حَقائقَ دَقيقةٍ ويَدعُو العُقُولَ إلى مَعرِفَتِها؛ فلا بُدَّ لِتَقرِيرِها في القُلُوبِ وتَثبِيتِها في أَفكارِ العامّةِ مِنَ التَّكرارِ في صُورٍ مُختَلِفةٍ وأَساليبَ مُتَنوِّعةٍ.
[التكرار صوري]
اعلَمْ أنَّ لكلِّ آيةٍ ظَهْرًا وبَطْنًا وحَدًّا ومَطلِعًا، ولكلِّ قِصّةٍ وُجُوهًا وأَحكامًا وفَوائدَ ومَقاصِدَ، فتُذكَرُ في مَوضِعٍ لِوَجهٍ، وفي آخَرَ لِأُخرَى، وفي سُورةٍ لِمَقصَدٍ، وفي أُخرَى لآخَرَ.. وهكذا. فعلى هذا لا تَكرارَ إلَّا في الصُّورةِ.
[إجمال القرآن الحديث في المسائل الكونية لمعةٌ من لمعات إعجازه]
أمَّا إجمالُ القُرآنِ الكَريمِ بعضَ المَسائلِ الكَونيّةِ وإبهامَه في بعضٍ آخَرَ، فهو لَمعةُ إعجازٍ ساطِعٍ، وليس كما تَوَهَّمَه أَهلُ الإلحادِ مِن قُصُورٍ ومَدارِ نَقْدٍ.
[القرآن يتحدث عن المسائل الكونية بالتبع لا بالأصالة]
فإن قُلتَ: لأَيِّ شيءٍ لا يَبحَثُ القُرآنُ عنِ الكائناتِ كما يَبحَثُ عنها فَنُّ الحِكمةِ والفَلسَفةِ.. فيَدَعُ بعضَ المَسائلِ مُجمَلًا، ويَذكُرُ أُخرَى ذِكرًا يَنسَجِمُ مع شُعُورِ العَوامِّ وأَفكارِهم، فلا يَمَسُّها بأَذًى ولا يُرهِقُها بل يَذكُرُها سَلِسًا بَسِيطًا في الظّاهِرِ؟
نقُولُ جَوابًا: لأنَّ الفَلسَفةَ عَدَلَتْ عن طَريقِ الحَقيقةِ وضَلَّت عنها، وقد فَهِمتَ حَتمًا مِنَ الدُّرُوسِ والكَلِماتِ السّابِقةِ أنَّ القُرآنَ الكَريمَ إنَّما يَبحَثُ عنِ الكائناتِ استِطرادًا، للِاستِدلالِ على ذاتِ اللهِ وصِفاتِه وأَسمائِه الحُسنَى، أي: يُفهِمُ مَعانـيَ هذا الكِتابِ، كِتابِ الكَونِ العَظيمِ كي يُعَرِّفَ خالِقَه.
أي إنَّ القُرآنَ الكَريمَ يَستَخدِمُ المَوجُوداتِ لِخالِقِها لا لأَنفُسِها، فَضلًا عن أنَّه يُخاطِبُ الجُمهُورَ.
وعلى هذا: فما دامَ القُرآنُ يَستَخدِمُ المَوجُوداتِ دَليلًا وبُرهانًا، فمِن شَرطِ الدَّليلِ أن يكُونَ ظاهِرًا وأَظهَرَ مِنَ النَّتيجةِ أَمامَ نَظَرِ الجُمهُورِ.
[القرآن يراعي نظر جمهور مخاطَبيه]
ثمَّ إنَّ القُرآنَ ما دامَ مُرشِدًا فمِن شَأْنِ بَلاغةِ الإرشادِ مُماشاةُ نَظَرِ العَوامِّ، ومُراعاةُ حِسِّ العامّةِ ومُؤانَسةُ فِكرِ الجُمهُورِ، لِئلّا يَتَوحَّشَ نَظَرُهم بلا طائلٍ، ولا يَتَشوَّشَ فِكرُهم بلا فائدةٍ، ولا يَتَشرَّدَ حِسُّهم بلا مَصلَحةٍ، فأَبلَغُ الخِطابِ معَهم والإرشادِ أن يكُونَ ظاهِرًا بَسِيطًا سَهلًا لا يُعجِزُهم، وَجِيزًا لا يُمِلُّهم، مُجمَلًا فيما لا يَلزَمُ تَفصِيلُه لهم، ويَضرِبُ بالأَمثالِ لِتَقريبِ ما دَقَّ مِنَ الأُمُورِ إلى فَهمِهم.
ولِأنَّ القُرآنَ مُرشِدٌ لكُلِّ طَبَقاتِ البَشَرِ، تَستَلزِمُ بَلاغةُ الإرشادِ ألّا يَذكُرَ ما يُوقِعُ الأَكثَريّةَ في المَغْلَطةِ والمُكابَرةِ مع البَدِيهيّاتِ في نَظَرِهِمُ الظّاهِرِيّ، وألّا يُغيِّرَ بلا لُزُومٍ ما هو مُتَعارَفٌ مَحسُوسٌ عِندَهم، وأن يُهمِلَ أو يُجمِلَ ما لا يَلزَمُ لهم في وَظيفَتِهِمُ الأَصلِيّةِ.
[نموذج من بيان القرآن في شؤون الكون]
فمَثلًا: يَبحَثُ عنِ الشَّمسِ لا للشَّمسِ، ولا عن ماهِيَّتِها، بل لِمَن نَوَّرَها وجَعَلَها سِراجًا، وعن وَظيفَتِها بصَيرُورَتِها مِحوَرًا لِانتِظامِ الصَّنعةِ ومَركَزًا لِنِظامِ الخِلقةِ، وما الِانتِظامُ والنِّظامُ إلا مَرايا مَعرِفةِ الصّانِعِ الجَليلِ؛ فيُعرِّفُنا القُرانُ بإراءةِ نِظامِ النَّسجِ وانتِظامِ المَنسُوجاتِ كَمالاتِ فاطِرِها الحَكيمِ وصانِعِها العَليمِ، فيَقُولُ: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي﴾، ويُفَهِّم بها ويُنبِّهُ إلى تَصَرُّفاتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ العَظيمةِ في اختِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ وتَناوُبِ الصَّيفِ والشِّتاءِ؛ وفي لَفْتِ النَّظَرِ إلَيها تَنبيهُ السّامِعِ إلى عَظَمةِ قُدرةِ الصّانِعِ وانفِرادِه في رُبُوبيَّتِه.. فمَهما كانَت حَقيقةُ جَرَيانِ الشَّمسِ وبأَيِّ صُورةٍ كانَت لا تُؤَثِّـرُ تلك الحَقيقةُ في مَقصَدِ القُرآنِ في إراءةِ الِانتِظامِ المَشهُودِ والمَنسُوجِ معًا.
ويقُولُ أيضًا: ﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾، ففي تَعبِيرِ السِّراجِ تَصويرُ العالَمِ بصُورةِ قَصْرٍ، وتَصويرُ الأَشياءِ المَوجُودةِ فيه في صُورةِ لَوازِمِ ذلك القَصرِ، ومُزَيَّناتِه، ومَطعُوماتِه لِسُكّانِ القَصرِ ومُسافِرِيه، وإحساسٌ أنَّه قد أَحضَرَتْها لِضُيُوفِه وخُدَّامِه يَدُ كَريمٍ رَحيمٍ.. وما الشَّمسُ إلَّا مَأمُورٌ مُسَخَّرٌ وسِراجٌ مُنَوَّرٌ.. ففي تَعبيرِ السِّراجِ تَنبِيهٌ إلى رَحمةِ الخالِقِ في عَظَمةِ رُبُوبيَّتِه، وإفهامُ إحسانِه في سَعةِ رَحمَتِه، وإحساسُ كَرَمِه في عَظَمةِ سَلطَنَتِه.
[نموذج من بيان الفلسفة في شؤون الكون]
فالآنَ استَمِعْ ماذا يقُولُ الفَلسَفيُّ الثَّرثارُ في الشَّمسِ.. يقُولُ: “هي كُتلةٌ عَظيمةٌ مِنَ المائِعِ النّارِيِّ تَدُورُ حولَ نَفسِها في مُستَقَرِّها، تَطايَرَت مِنها شَراراتٌ وهي أَرضُنا وسَيّاراتٌ أُخرَى، فتَدُورُ هذه الأَجرامُ العَظيمةُ المُختَلِفةُ في الجَسامةِ.. ضَخامَتُها كذا.. ماهِيَّـتُها كذا”.
فانظُرْ ماذا أَفادَتْك هذه المَسأَلةُ غيرَ الحَيرةِ المُدهِشةِ والدَّهشةِ المُوحِشة؟! فلَمْ تُفِدْك كَمالًا عِلْميًّا، ولا ذَوْقًا رُوحِيًّا، ولا غايةً إنسانيّةً، ولا فائدةً دِينيّةً.
فقِسْ على هذا لِتُقَدِّرَ قِيمةَ المَسائلِ الفَلسَفيّةِ الَّتي ظاهِرُها مُزَخرَفةٌ وباطِنُها جَهالةٌ فارِغةٌ.. فلا يَغُرَّنَّك تَشَعشُعُ ظاهِرِها وتُعرِضُ عن بَيانِ القُرآنِ المُعجِزِ.
﴿اللَّهُمَّ اجعَلِ القُرآنَ شِفَاءً لَنَا ولِكَاتِبِهِ وأمثَالِهِ مِن كُلِّ دَاءٍ، ومُؤنِسًا لَنَا ولَهُم فِي حَيَاتِنَا وبَعْدَ مَوْتِنَا، وفِي الدُّنيَا قَرِينًا، وفِي القَبرِ مُؤنِسًا، وفِي القِيَامَةِ شَفِيعًا، وعَلَى الصِّرَاطِ نُورًا، ومِنَ النَّارِ سِترًا وحِجَابًا، وفِي الجَنّةِ رَفِيقًا، وإلَى الخَيرَاتِ كُلِّهَا دَلِيلًا وإمَامًا، بِفَضْلِكَ وجُودِكَ وكَرَمِكَ ورَحمَتِكَ يَا أَكرَمَ الأَكْرَمِينَ ويَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ آمِينَ﴾.
﴿اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عَلَى مَن أُنزِلَ عَلَيهِ الفُرقَانُ الحَكِيمُ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أجمَعِينَ.. آمِينَ، آمِينَ﴾.
تنبيه:
لقد ذَكَرنا في المَثنَوِيِّ العَرَبيِّ النُّورِيِّ خَمسةَ عَشَرَ نَوعًا مِن أَنواعِ إعجازِ القُرآنِ البالِغِ أَربعين نَوعًا، وذلك في سِتِّ قَطَراتٍ للرَّشحةِ الرّابعةَ عَشْرةَ، ولا سِيَّما النُّكَتِ الدَّقيقةِ السِّتِّ للقَطرةِ الرّابعةِ.. لذا أَجمَلْنا هنا مُكتَفِين بما ذَكَرناه هناك، فمَن شاء فليُراجِعْه.
❀ ❀ ❀