الكلمة السادسة عشرة: إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون.
[هذه الكلمة تُبيِّن -بأمثلة توضيحية باهرة- كيف أن الله تعالى أقربُ إلى خلقه من أنفسهم، ومتعالٍ عنهم منزَّه عن مشابهتهم في نفس الوقت]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
الكلمة السادسة عشرة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
[أربعة شعاعات تُبدِّد أربع ظلمات]
كتبتُ هذه الكلمةَ لِتَمنَحَ نفسي العَمياءَ بَصِيرةً، ولِتُبدِّدَ الظُّـلُماتِ مِن حَولِها، ولِتكُونَ مَبعَثًا لِاطمِئْنانِها، وذلك بإراءَتها أربعَ أَشِعّاتٍ مِن نُورِ هذه الآيةِ الكريمةِ.
الشُّعاعُ الأوَّلُ
[التوفيق بين تَعالي الله تعالى ومَظاهر قُربه من خلقه]
يا نَفسِي الجاهِلةَ..
تَقُولينَ: إنَّ أَحَديّةَ ذاتِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى مع كُلِّـيَّةِ أَفعالِه..
ووَحْدةَ ذاتِه معَ عُمُوميّةِ رُبُوبيَّتِه دُونَ مُعِينٍ..
وفَردِيَّتَه مع شُمُولِ تَصَرُّفاتِه دُونَ شَريك..
وحُضُورَه في كلِّ مَكانٍ معَ تَنَزُّهِه عنِ المَكان..
ورِفعَتِه المُطلَقةِ مع قُربِه إلى كلِّ شيءٍ..
ووَحدانِيَّتَه معَ أنَّ كلَّ شيءٍ في قَبضَتِه بالذّاتِ.. جَميعُها مِنَ الحَقائقِ القُرآنيّةِ.
وتَقُولينَ: إنَّ القُرآنَ حَكيمٌ، والحَكيمُ لا يُحَمِّلُ العَقلَ ما لا يَقبَلُه.
بَيْدَ أنَّ العَقلَ يَرَى مُنافاةً ظاهِرةً في هذه الأُمُورِ؛ لِذا أَطلُبُ إيضاحًا يَسُوقُ العَقلَ إلى التَّسلِيمِ.
الجَوابُ: ما دامَ الأَمرُ هكذا، وتَطلُبِينَ ذلك لِبُلُوغِ الِاطمِئنانِ، فإنَّنا نَقُولُ مُستَنِدين إلى فَيضِ القُرآنِ الكَريمِ: إنَّ اسمَ “النُّور” -وهو مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى- قد حَلَّ كَثيرًا مِن مُشكِلاتِنا، ويَحُلُّ بإذنِ اللهِ هذه المَسأَلةَ أَيضًا.
نقُولُ كما قالَ الإمامُ الرَّبَّانِيُّ أَحمَدُ الفارُوقيُّ السِّرهِندِيّ، مُنتَقِين طَريقَ التَّمثِيلِ الواضِحِ للعَقلِ والمُنَوِّرِ للقَلبِ:
نَه شَبَمْ نَه شَبْ پَرَسْتَمْ مَنْ غُلاٰمِ شَمْسَمْ اَزْ شَمْسِ مِى گُويَمْ خَبَرْ
[الترجمة: وإني غلامُ الشمس أَروي حديثَها … فما لي ولليلِ فأروي حديثَه؟!]
لَمّا كان التَّمثيلُ أَسطَعَ مِرآةٍ عاكِسةٍ لإعجازِ القُرآنِ، فنحنُ أيضًا سنَنظُرُ إلى هذا السِّرِّ مِن خِلالِ التَّمثيلِ.
وذلك: أنَّ شَخصًا واحِدًا يَكسِبُ صِفةً كُلِّـيَّةً بواسِطةِ مَرايا مُختَلِفةٍ، فبَينَما هو جُزئيٌّ حَقيقيٌّ يُصبِحُ بمَثابةِ كُلِّيٍّ مالِكٍ لشُؤُونٍ شامِلةٍ عامّةٍ.
فمثلًا: الشَّمسُ، وهي جُزئيٌّ مُشَخَّصٌ، ولكن بواسِطةِ الأَشياءِ الشَّفّافةِ تُصبِحُ بحُكمِ الكُلِّيِّ، حتَّى إنَّها تَملَأُ سَطحَ الأَرضِ بصُوَرِها وانعِكاساتِها، بل تكُونُ لها مِنَ الجَلَواتِ بعَدَدِ القَطَراتِ والذَّرّاتِ السّاطِعةِ؛ وحَرارةُ الشَّمسِ وضِياؤُها، وما فيه مِن أَلوانٍ سَبعةٍ، يُحيطُ كلٌّ مِنها بالأَشياءِ الَّتي تُقابِلُها ويَشمَلُها ويَعُمُّها، وفي الوَقتِ نَفسِه فإنَّ كلَّ شيءٍ شَفّافٍ يُخبِّئُ في بُؤْبُؤِ عَينِه -مع صُورةِ الشَّمسِ- الحَرارةَ والضِّياءَ والأَلوانَ السَّبعةَ أَيضًا، جاعِلًا مِن قَلبِه الطّاهِرِ عَرشًا لها.
بمَعنَى أنَّ الشَّمسَ مِثلَما تُحِيطُ بصِفةِ واحِدِيَّتِها بجَمِيعِ الأَشياءِ الَّتي تُقابِلُها، فهي مِن حَيثُ أَحَدِيَّتُها تُوجَدُ بنَوعٍ مِن تَجَلِّي ذاتِها في كلِّ شيءٍ مع “خاصِّيَّتِها” وأَوصافِها الكَثيرةِ.
[ثلاثةُ أنواعٍ من التمثُّل]
وما دُمنا قدِ انتَقَلنا مِنَ التَّمثيلِ إلى التَّمَثُّل، فسَنُشِيرُ إلى ثلاثةِ أنواعٍ مِنَ التَّمَثُّلِ لِيكُونَ مِحوَرَ مَسأَلتِنا هذه:
[صُور الماديات الكثيفة]
أوَّلُها: الصُّوَرُ المُنعَكِسةُ للأَشياءِ المادِّيّةِ الكَثيفةِ، هي غيرٌ ولَيسَت عَينًا، وهي مَواتٌ ولَيسَت مالِكةً لِأَيّةِ خاصِّيّةٍ غيرِ هُوِيَّتِها الصُّورِيّةِ الظّاهِرِيّة.
فمثلًا: إذا دَخَلتَ -يا سعيدُ- إلى مَخزَنِ المَرايا، فيكُونُ سَعيدٌ واحِدٌ أَلفَ سَعيدٍ، ولكنَّ الَّذي يَملِكُ الحَياةَ مِن هذه الأُلُوفِ، هو أنت فقط لا غيرُ، والبَقِيّةُ أَمواتٌ لَيسَت لهم خَواصُّ الحَياةِ.
[صُور النورانيات المادية]
ثانيها: الصُّوَرُ المُنعَكِسةُ للنُّورانيَّاتِ المادِّيّةِ؛ هذه الصُّوَرُ المُنعَكِسةُ لَيسَت عَينًا، ولَيسَت غَيرًا في الوَقتِ نَفسِه، إذ لا تَستَوعِبُ ماهِيّةَ النُّورانِيِّ المادِّيّةَ؛ ولكِنَّها مالِكةٌ لِأَكثَرِ خَواصِّ ذلك النُّورانِيِّ؛ فتُعتَبَرُ ذاتَ حَياةٍ مِثلَه.
فمثلًا: عِندَما تَنشُرُ الشَّمسُ أَشِعَّتَها على الكُرةِ الأَرضِيّةِ تَظهَرُ صُورَتُها في كلِّ مِرآةٍ، فكلُّ صُورةٍ مُنعَكِسةٍ مِنها تَحمِلُ ما يُماثِلُ خَصائصَ الشَّمسِ، مِن ضَوءٍ وأَلوانٍ سَبعةٍ؛ فلَوِ افتُرِضَتِ الشَّمسُ ذاتَ شُعُورٍ، وأَصبَحَت حَرارَتُها عَينَ قُدرَتِها، وضِياؤُها عَينَ عِلمِها، وأَلوانُها السَّبعةُ صِفاتِها السَّبعَ، لكانَت تُوجَدُ تلك الشَّمسُ الوَحيدةُ الفَريدةُ في كلِّ مِرآةٍ في اللَّحظةِ نَفسِها، ولَاتَّخَذَت مِن كلٍّ مِنها عَرشًا لها يخُصُّها، ومِن كلٍّ مِنها نَوعًا مِن هاتِفٍ؛ فلا يَمنَعُ شيءٌ شيئًا؛ ولَأَمكَنَها أن تُقابِلَ كُلًّا مِنّا بالمِرآةِ الَّتي في أَيدِينا، ومع أنَّنا بَعيدُون عنها؛ فإنَّها أَقرَبُ إلَينا مِن أَنفُسِنا.
[صُور الأرواح النورانية]
ثالثُها: الصُّوَرُ المُنعكِسةُ للأرواحِ النُّورانيّةِ؛ هذه الصُّوَرُ حَيّةٌ، وهي عَينٌ في الوَقتِ نَفسِه، ولكن لِأَنَّ ظُهُورَها يكُونُ وَفقَ قابِلِيّاتِ المَرايا، فالمِرآةُ لا تَسَعُ ماهِيّةَ الرُّوحِ بالذّاتِ.
فمثلًا: في الوَقتِ الَّذي كان سَيِّدُنا جِبْرِيلُ عَليهِ السَّلام يَحضُرُ في مَجلِسِ النُّبوّةِ على صُورةِ الصَّحابيِّ دِحيةَ الكَلبِيّ؛ كان يَسجُدُ في الحُضُورِ الإلٰهِيِّ بأَجنِحَتِه المَهيبةِ أمامَ العَرشِ الأَعظَمِ، وهو في اللَّحظةِ نَفسِها مَوجُودٌ في أَماكِنَ لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، إذ كان يُبلِّغُ الأَوامِرَ الإلٰهِيّةَ.. فما كان فِعلٌ يَمنَعُ فِعلًا.
ومِن هذا السِّرِّ نَفهَمُ كيف يَسمَعُ الرَّسُولُ (ﷺ) صَلَواتِ أُمَّتِه كلَّها، في الأَنحاءِ كافّةً، في الوَقتِ نَفسِه، إذ ماهيَّـتُه نُورٌ وهُوَيتُه نُورانيّةٌ.
ونَفهَمُ كذلك كيفَ أنه (ﷺ) يُقابِلُ الأَصفِياءَ يومَ القِيامةِ في وَقتٍ واحِدٍ، فلا يَمنَعُ الواحِدُ الآخَرَ.
بل حتَّى الأَولياءُ الَّذين اكتَسَبُوا مَزِيدًا مِنَ النُّورانيّةِ والَّذين يُطلَقُ علَيهمُ اسمُ “الأَبدال”، هذا القِسمُ يُقال: إنَّهم يُشاهَدُون في اللَّحظةِ نَفسِها، في أَماكِنَ مُتَعدِّدة. ويُروَى عنهم أن الشَّخصَ نَفسَه يُنجِزُ أَعمالًا مُتَبايِنةً كَثيرةً جدًّا.
إذ كما يُصبحُ الزُّجاجُ والماءُ وأَمثالُهما مِنَ المَوادِّ مَرايا للأَجسامِ المادِّيّةِ، كذلك يُصبِحُ الهَواءُ والأَثيرُ ومَوجُوداتٌ مِن عالَمِ المِثالِ، بمَثابةِ مَرايا للرُّوحانيّاتِ، ووَسائطَ سَيرٍ وتَجْوالٍ لها في سُرعةِ البَرْقِ والخَيالِ.. فتَتجَوَّلُ تلك الرُّوحانيّاتُ وتَسِيحُ في تلك المَنازِلِ اللَّطيفةِ والمَرايا النَّظيفةِ بسُرعةِ الخَيالِ، فتَدخُلُ في أُلُوفِ الأَماكِنِ في آنٍ واحِدٍ.
فمَخلُوقاتٌ عاجِزةٌ ومُسَخَّرةٌ كالشَّمسِ، ومَصنُوعاتٌ شِبهُ نُورانيّةٍ مُقَيَّدةٌ بالمادّةِ كالرُّوحانِيِّ يُمكِنُ أن يُوجَدَ في عِدّةِ مَواضِعَ، مع أنَّه في مَوضِعٍ واحِدٍ، بسِرِّ النُّورانيّةِ، إذ بَينَما هو جُزئيٌّ مُقيَّدٌ يَكسِبُ حُكمًا كُلِّـيًّا مُطلَقًا، يَفعَلُ باختِيارٍ جُزئيٍّ أَعمالًا كَثيرةً في آنٍ واحِدٍ.. فكيفَ إذًا بمَن هو مُجَرَّدٌ عنِ المادّةِ ومُقَدَّسٌ عنها، ومَن هو مُنزَّهٌ عنِ التَّحديدِ بالقَيدِ وظُلمةِ الكَثافةِ ومُبَـرَّأٌ عنها.. بل ما هذه الأَنوارُ والنُّورانيّاتُ كلُّها إلّا ظِلالٌ كَثيفةٌ لِأَنوارِ أَسمائِه الحُسنَى، بل ما جَميعُ الوُجُودِ والحَياةُ كلُّها، وعالَمُ الأَرواحِ وعالَمُ المِثالِ إلّا مَرايا شِبهُ شَفّافةٍ لإظهارِ جَمالِ ذلك القُدُّوسِ الجَليلِ الَّذي صِفاتُه مُحِيطةٌ بكلِّ شيءٍ، وشُؤُونُه شامِلةٌ كلَّ شيء؟!
تُرَى أيُّ شيءٍ يَستَطيعُ أن يَتَستَّر عن تَوَجُّهِ أَحَدِيَّتِه الَّتي هي ضِمنَ تَجَلِّي صِفاتِه المُحيطةِ وتَجَلِّي أَفعالِه بإرادَتِه الكُلِّـيّة وقُدرَتِه المُطلَقةِ وعِلمِه المُحيطِ.. وأيُّ شيءٍ يَصعُبُ علَيه.. وأيُّ شيءٍ يَستَطيعُ أن يَتَخفَّى عنه.. وأيُّ فردٍ يُمكِنُه أن يَظَلَّ بَعِيدًا عنه.. وأيّةُ شَخصِيّةٍ يُمكِنُها أن تَقتَرِبَ مِنه دُونَ أن تَكتَسِبَ الكُلِّـيّةَ؟!
نعم، إنَّ الشَّمسَ بوَساطةِ نُورِها الطَّلِيقِ غَيرِ المُقيَّدِ، وبواسِطةِ صُورَتِها المُنعَكِسةِ غيرِ المادِّيّةِ، أَقرَبُ إلَيك مِن بُؤْبُؤِ عَينِك، ومع هذا فأنتَ بَعيدٌ عنها بُعْدًا مُطلَقًا، لأنَّك مُقَيَّدٌ، فيَلزَمُ التَّجَرُّدُ مِن كَثيرٍ مِنَ القُيُودِ، وقَطعُ كَثيرٍ مِنَ المَراتِبِ الكُلِّـيّةِ وتَجاوُزُها كي تَتقَرَّبَ إلَيها، وهذا يَستَلزِمُ أن تَكبَرَ كِبَرَ الكُرةِ الأَرضِيّةِ وتَعلُوَ عُلُوَّ القَمَرِ، ومِن بعدِ ذلك يُمكِنُ أن تَتَقرَّبَ مِنَ المَرتَبةِ الأَصلِيّةِ للشَّمسِ إلى حَدٍّ مّا، وتَتَقابلَ معَها دُونَ حِجابٍ.
فكما أنَّ الأَمرَ هكذا في الشَّمسِ، كذلك في الجَليلِ ذِي الجَمالِ، والجَميلِ ذِي الكَمالِ -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى-، فهو أَقرَبُ إلَيك مِن كلِّ شيءٍ، وأنت بَعيدٌ عنه سُبحانَه بُعْدًا لا حَدَّ له.. فإن كانَت لك قُوّةٌ في القَلبِ، وعُلُوٌّ في العَقلِ، فحاوِلْ أن تُطَـبِّقَ النِّقاطَ الوارِدةَ في التَّمثِيلِ على الحَقيقةِ.
الشُّعاع الثاني
[التوفيق بين التدرُّج في الخلق وبين أمر كن فيكون]
قولُه تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
وقولُه تعالى: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾.
يا نَفسِي الغافِلةَ..
تَقُولِينَ: إنَّ هذه الآياتِ الكَريمةَ وأَمثالَها تُفيدُ أنَّ الأَشياءَ خُلِقَت بمُجَرَّدِ أَمرٍ إلٰهِيٍّ، وظَهَرت للوُجُودِ دُفعةً واحِدةً، بَينَما الآياتُ الكَريمةُ الآتيةُ: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ و﴿أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ وأَمثالُها مِنَ الآياتِ تُبيِّنُ أنَّ الأشياءَ وُجِدَت تَدرِيجِيًّا، بقُدرةٍ عَظيمةٍ، وعِلمٍ مُحيطٍ، وإتقانٍ في الصُّنعِ ضِمنَ حِكمةٍ بالغةٍ.. فأينَ وَجْهُ التَّوفيقِ بَينَهما؟
الجوابُ: نقولُ مُستَنِدين إلى فَيضِ القُرآنِ:
أوَّلًا: لا مُنافاةَ بينَ الآياتِ، إذ قِسمٌ مِنَ المَوجُوداتِ يُخلَق كما في الآياتِ الأخِيرةِ، كالإيجادِ في البَدءِ، وقِسمٌ آخَرُ يكونُ كما في الآياتِ الأُولَى كإعادةِ المِثلِ.
ثانيًا: إنَّ ما يُشاهَدُ في المَوجُوداتِ مِن مُنتَهَى النِّظامِ وغايةِ الإتقانِ ومُنتَهَى الحُسنِ في الصَّنعةِ وكَمالِ الخِلقةِ، ضِمنَ سُهُولةٍ وسُرعةٍ وكَثرةٍ وسَعةٍ، يَشهَدُ بوُجُودِ حَقائقِ هذَينِ القِسمَينِ مِنَ الآياتِ شَهادةً مُطلَقةً؛ لِذا لا داعيَ لأن يكونَ مَدارُ البَحثِ تَحَقُّقَ هذه الأُمُورِ في الخارجِ، وإنَّما يَصِحُّ أن يُقالَ: ما سِرُّ حِكمةِ هذَينِ القِسمَينِ مِنَ الإيجادِ والخَلقِ؟
لِذا نُشِيرُ إلى هذه الحِكمةِ بقِياسٍ تَمثِيليٍّ؛ فنَقُولُ مَثَلًا:
إنَّ صانِعًا ماهِرًا -كالخَيَّاطِ مَثَلًا- يَصرِفُ مَبالِغَ ويَبذُلُ جُهدًا ويُزاوِلُ مَهارةً وفَنًّا، لكي يُوجِدَ شيئًا جَمِيلًا يَخُصُّ صَنعَتَه، فيَعمَلُ مِنه أُنمُوذَجًا (مُودِيلًا) لِمَصنُوعاتِه، إذ يُمكِنُه أن يَعمَلَ أَمثالَ تلك الصَّنعةِ بلا مَصارِيفَ ولا تكاليفَ وفي سُرعةٍ تامّةٍ، بل قد يكونُ الأَمرُ أَحيانًا سَهلًا ويَسيرًا إلى دَرَجةٍ كأنَّه يَأمُرُ والعَمَلُ يُنجَزُ، وذلك لأنَّه قد كَسَبَ انتِظامًا واطِّرادًا دَقيقًا كالسّاعةِ، وكأنَّ العَمَلَ يَتِمُّ بمُجرَّدِ الأَمرِ له. وهكذا -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- فإنَّ الصّانِعَ الحَكيمَ والمُصوِّرَ العَليمَ، قد أَبدَعَ قَصرَ العالَمِ معَ جَميعِ ما فيه، ثمَّ أَودَعَ في كلِّ شيءٍ فيه، جُزئيًّا كان أم كُلِّـيًّا، جُزءًا كان أم كُلًّا، مِقدارًا مُعَيَّنًا، بنِظامٍ قَدَرِيٍّ شَبِيهٍ بنَمُوذَجِ ذلك الشَّيءِ.
فإن تَأَمَّلتَ في أَعمالِه سُبحانَه وهو المُصَوِّرُ الأَزَليُّ، تَراه يَجعَلُ مِن كلِّ عَصرٍ أُنمُوذَجًا (مُودِيلًا) يُلبِسُه عالَمًا بِكْرًا جَديدًا لَطِيفًا مُزَيَّنًا بمُعجِزاتِ قُدرَتِه، ويَجعَلُ مِن كلِّ سنةٍ مِقياسًا يَنسُجُ -بخَوارِقِ رَحمَتِه- كائناتٍ بِكْرًا على قَدِّها، ويَجعَلُ مِن كلِّ يومٍ سَطرًا يَكتُبُ فيه مَوجُوداتٍ بِكرًا جَديدةً مُزَيَّنةً بدَقائقِ حِكمَتِه.
ثمَّ إنَّ ذلك القَديرَ المُطلَقَ كما جَعَل كلَّ عَصرٍ وكلَّ سنةٍ وكلَّ يومٍ أُنمُوذَجًا، فإنَّه قد جَعَل سَطْحَ الأَرضِ أيضًا، بل كلَّ جَبَلٍ وصَحراءَ، وكلَّ حَدِيقةٍ وبُستانٍ وكلَّ شَجَرٍ وزَهْرٍ أُنمُوذَجًا، ويُنشِئُ كائناتٍ جَديدةً غَضّةً مُتَجَدِّدةً مُتَرادِفةً على الأَرضِ، فيَخلُقُ دُنيا جَديدةً، ويأتي بعالَمٍ منَسَّقٍ جَديدٍ بعد أن سَحَب ما سَبَق مِن عالَمٍ.
وهكذا يُظهِرُ في كلِّ مَوسِمٍ مُعجِزاتٍ بِكْرًا لِقُدرَتِه المُطلَقةِ، ويُبرِزُ هَدايا مُجدَّدةً لِرَحمَتِه في كلِّ حَديقةٍ وبُستانٍ، فيَكتُبُ كِتابَ حِكمةٍ جَديدةٍ بِكْرًا، ويَنصِبُ مَطبَخَ رَحمَتِه مُتَجَدِّدًا، ويُلبِسُ الوُجُودَ حُلَّةً بَديعةً جَديدةً، ويَخلَعُ على كلِّ شَجَرٍ في كلِّ رَبيعٍ وِشاحَ السُّندُسِ، ويُزَيِّنُه بمُرَصَّعاتٍ جَديدةٍ بِكرٍ كالنُّجُومِ المُتَلألِئةِ، ويَملَأُ أَيديَها بهَدايا الرَّحمةِ.
فالَّذي يَقُومُ بهذه الأَعمالِ في مُنتَهَى الإتقانِ وكَمالِ الِانتِظامِ، والَّذي يُبَدِّلُ هذه العَوالِمَ السَّيّارةَ المَنشُورةَ على حَبْلِ الزَّمانِ، يَعقُبُ بعضُها بعضًا، وهي في مُنتَهَى الحِكمةِ والعِنايةِ، وفي مُنتَهَى القُدرةِ والإتقانِ، لا رَيبَ أنَّه قَديرٌ مُطلَقٌ وحَكيمٌ مُطلَقٌ وبَصيرٌ مُطلَقٌ وعَلِيمٌ مُطلَقٌ، لا يُمكِنُ بحالٍ مِنَ الأَحوالِ أن تَبدُوَ مِنه المُصادَفةُ قَطعًا؛ فذَلِكُمُ الخالقُ الجَليلُ يقولُ: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون﴾ و﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾، فيُعلِنُ قُدرَتَه المُطلَقةَ ويُبيِّنُ أنَّ الحَشرَ والقِيامةَ بالنِّسبةِ لتلك القُدرةِ هي في مُنتَهَى السُّهُولةِ واليُسرِ، وأنَّ الأشياءَ كلَّها مُسَخَّرةٌ لِأَوامِرِه ومُنقادةٌ إلَيها كَمالَ الِانقِيادِ، وأنَّه يَخلُقُ الأَشياءَ دُونَ مُعالَجةٍ ولا مُزاوَلةٍ ولا مُباشَرةٍ، ولِأَجلِ الإفادةِ عنِ السُّهُولةِ المُطلَقةِ في إيجادِ الأَشياءِ عَبَّر القُرآنُ المُبِينُ أنَّه سُبحانَه وتَعالَى يَفعَلُ ما يُريدُ بمُجَرَّدِ الأَمرِ.
والخُلاصةُ: أنَّ قِسمًا مِنَ الآياتِ الكَريمةِ يُعلِنُ مُنتَهَى الإتقانِ وغايةَ الحِكمةِ في خَلقِ الأَشياءِ ولا سِيَّما في بِدايةِ الخَلْقِ؛ وقِسمًا آخَرَ يُبيِّنُ السُّهُولةَ المُطلَقةَ والسُّرعةَ المُطلَقةَ ومُنتَهَى الِانقِيادِ وعَدَمَ الكُلفةِ في إيجادِ الأَشياءِ ولا سِيَّما في تَكرارِ إيجادِها وإعادَتِها.
الشُّعاعُ الثالثُ
[التوفيق بين القرب الإلهي منا وبُعدِنا عنه]
يا نَفسِي المُوَسوِسةَ.. يا مَن تَجاوَزْتِ حَدَّكِ!
إنَّك تَقُولين: إنَّ قَولَه تَعالَى: ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾، وكذا قولُه تَعالَى: ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، وكذا قولُه تَعالَى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾، هذه الآياتُ الجَليلةُ تُبيِّنُ مُنتَهَى القُربِ الإلٰهِيِّ، بَينَما آياتٌ أُخرَى مِثلُ قولِه تَعالَى: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾، وكذا قَولُ الرَّسُولِ الكَريمِ (ﷺ) في الحَديثِ الشَّريفِ: “..سبعين أَلفَ حِجابٍ”، وكذا حَقيقةُ المِعراجِ.. كلُّ هذه تُبيِّنُ مُنتَهَى بُعْدِنا عنه سُبحانَه.. فأُرِيدُ إيضاحًا لِتَقريبِ هذا السِّرِّ الغامِضِ إلى الأَذهانِ؟
الجوابُ: ولهذا استَمِعْ:
أوَّلًا: لقد ذَكَرنا في خِتامِ الشُّعاعِ الأَوَّلِ أنَّ الشَّمسَ بنُورِها غيرِ المُقيَّدِ، ومِن حيثُ صُورَتُها المُنعَكِسةُ غيرُ المادِّيّةِ، أَقرَبُ إلَيك مِن بُؤْبُؤِ عَينِك الَّتي هي مِرآةٌ لها ونافِذةٌ لِرُوحِك، إلّا أنَّك بَعيدٌ عنها غايةَ البُعدِ، لأنَّك مُقيَّدٌ ومَحبُوسٌ في المادّةِ؛ ولا يُمكِنُك أن تَمَسَّ إلّا قِسمًا مِن صُوَرِها المُنعَكِسةِ وظِلالِها، ولا تُقابِلَ إلّا نَوعًا مِن جَلَواتِها الجُزئيّةِ، ولا تَتَقرَّبَ إلّا لِأَلوانِها الَّتي هي في حُكمِ صِفاتِها، ولِطائفةٍ مِن أَشِعَّتِها ومَظاهِرِها الَّتي هي بمَثابةِ طائفةٍ مِن أَسمائِها. ولو أَرَدتَ أن تَتَقرَّبَ إلى المَرتَبةِ الأَصلِيّةِ للشَّمسِ، وأَرَدتَّ أن تُقابِلَها بذاتِها، لَزِمَ علَيك التَّجَرُّدُ عن كَثيرٍ جِدًّا مِنَ القُيُودِ، والمُضِيُّ مِن مَراتِبَ كُلِّـيّةٍ كثيرةٍ جدًّا، وكأنَّك تَكْبُرُ مَعنًى -مِن حيثُ التَّجَرُّدُ- بقَدْرِ الكُرةِ الأَرضِيّةِ وتَنبَسِطُ رُوحًا كالهَواءِ، وتَرتَفِعُ عاليًا كالقَمَرِ، وتُقابِلُ الشَّمسَ كالبَدْرِ.. ومِن بعدِ ذلك يُمكِنُك أن تَدَّعِيَ نَوعًا مِنَ القُربِ دُونَ حِجابٍ.
وهكذا -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- فالجَليلُ ذُو الكَمالِ، الجَمِيلُ بغَيرِ مِثالٍ، ذلك الواجِبُ الوُجُودِ، المُوجِدُ لكُلِّ مَوجُودٍ، النُّورُ السَّرْمدُ، سُلطانُ الأَزَلِ والأَبدِ، أَقرَبُ إلَيك مِن نَفسِك، وأنت بَعيدٌ عنه بُعدًا مُطلَقًا.. فإن كانَت لَدَيك قُوّةُ الِاستِنباطِ، فطَبِّقْ ما في التَّمثيلِ مِنَ الدَّقائقِ على الحَقائقِ.
ثانيًا: إنَّ اسمَ القائدِ -مثلًا- مِن بينِ أَسماءِ السُّلطانِ الكَثيرةِ يَظهَرُ في دَوائرَ مُتَداخِلةٍ في دَولَتِه، فابتِداءً مِنَ الدّائرةِ الكُلِّـيَّةِ للقائدِ العامِّ العَسكَرِيِّ ودائرةِ المُشِيرِ والفَريقِ حتَّى يَبلُغَ دائرةَ المُلازِمِ والعَريفِ.. أي: إنَّ تَجَلِّيَ ظُهُورِهِ يكونُ في دَوائرَ واسِعةٍ ودَوائرَ ضَيِّقةٍ وبشَكلٍ كُلِّيٍّ وجُزئيٍّ.
فالجُندِيُّ أَثناءَ خِدمَتِه العَسكَريّةِ يَتَّخِذُ مِن مَقامِ العَرِيفِ مَرجِعًا له، لِما فيه من ظُهُورٍ جُزئيٍّ جِدًّا للقِيادةِ، ويَتَّصِلُ بقائدِه الأَعلَى بهذا التَّجَلِّي الجُزئيِّ لِاسمِه، ويَرتَبِطُ به بعَلاقةٍ.. ولكن لو أَرادَ هذا الجُندِيُّ أن يَتَّصِلَ بالقائدِ الأَعلَى باسمِه الأَصلِيِّ، وأن يُقابِلَه بذلك العُنوانِ، يَنبَغي له الصُّعُودُ وقَطعُ المَراتِبِ كُلِّها مِن مَرتَبةِ العَرِيفِ إلى المَرتَبةِ الكُلِّـيَّةِ للقائدِ العامِّ؛ أي: إنَّ السُّلطانَ قَريبٌ مِن ذلك الجُندِيِّ باسمِه وحُكمِه وقانُونِه وعِلمِه وهاتِفِه وتَدبِيرِه؛ وإن كان ذلك السُّلطانُ نُورانيًّا ومِنَ الأَولياءِ الأَبدالِ، فإنَّه يكونُ قَرِيبًا إلَيه بحُضُورِه بالذّاتِ، إذ لا يَمنَعُ شيءٌ مِن ذلك ولا يَحُولُ دُونَه شيءٌ.. ومع أنَّ ذلك الجُندِيَّ بَعيدٌ عنِ السُّلطانِ غايةَ البُعدِ، وهناك الأُلُوفُ مِنَ المَراتبِ الَّتي تَحُولُ بينَه وبينَ السُّلطانِ، وهناك الأُلُوفُ مِنَ الحُجُبِ تَفصِلُه عنه، ولكنَّ السُّلطانَ يُشفِقُ أَحيانًا على أَحَدِ الجُنُودِ، فيَأخُذُه إلى حُضُورِ دِيوانِه خِلافَ المُعتادِ، ويُسبغُ عليه مِن أَفضالِه وأَلطافِه.
وهكذا -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- فالمالكُ لِأَمرِ: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ المُسخِّرُ للشُّمُوسِ والنُّجُومِ كالجُنُودِ المُنقادةِ؛ فهو سُبحانَه وتَعالَى أَقرَبُ إلى كلِّ شيءٍ مِن أيِّ شيءٍ كان، مع أنَّ كلَّ شيءٍ بعيدٌ عنه بُعدًا لا حُدُودَ له؛ وإذا أُرِيدَ الدُّخُولُ إلى دِيوانِ قُربِه وحُضُورِه المُقَدَّسِ بلا حِجابٍ، فإنَّه يَستَلزِمُ المُرُورَ مِن بينِ سَبعِين أَلفَ حِجابٍ مِنَ الحُجُبِ النُّورانيّةِ والمُظلِمةِ، أي: المادِّيّةِ والكَونيّةِ والأَسمائيّةِ والصِّفاتيّةِ، ثمَّ الصُّعُودَ إلى كلِّ اسمٍ مِنَ الأَسماءِ بما له من أُلُوفِ دَرَجاتِ التَّجلِّياتِ الخُصُوصيّةِ والكُلِّـيّةِ، والمُرُورَ إلى طَبَقاتِ صِفاتِه الجَليلةِ والرَّفيعةِ، ثمَّ العُرُوجَ إلى عَرشِه الأَعظَمِ الَّذي حَظِيَ بالِاسمِ الأَعظَمِ؛ فإن لم يكن هناك جَذْبٌ ولُطْفٌ إلٰهِيٌّ يَلزَمُ أُلُوفًا مِن سِنِيْ العَمَلِ والسُّلُوكِ.
مثالٌ: إذا أَرَدتَّ أن تَتَقرَّبَ إلَيه سُبحانَه باسمِ “الخالقِ” فعلَيك الِارتباطَ وتكوينَ علاقةٍ أَوَّلًا مِن حيثُ إنَّه خالِقُك الخاصُّ، ثمَّ مِن حيثُ إنَّه خالِقُ جَميعِ النّاسِ، ثمَّ بعُنوانِ أنَّه خالقُ جَميعِ الكائناتِ الحَيّةِ، ثمَّ باسمِ خالقِ المَوجُوداتِ كلِّها.. لذا فإن لم تَتَدرَّجْ هكذا تَبقَ في الظِّلِّ ولا تَجِدْ إلّا جَلْوةً جُزئيّةً.
تنبيهٌ: إنَّ السُّلطانَ المَذكُورَ في المِثالِ السّابقِ قد وَضَع في مَراتِبِ اسمِ القِيادةِ وَسائطَ كالمُشِيرِ والفَرِيقِ، وذلك لِعَجْزِه عنِ القِيامِ بالأَعمالِ بنَفسِه.. أمَّا الَّذي بِيَدِه مَلَكُوتُ كلِّ شيءٍ، وذلك القَديرُ، فهو مُستَغنٍ عنِ الوَسائطِ، بل لَيسَتِ الوَسائطُ إلّا أُمُورًا ظاهِرِيّةً بَحْتةً، تُمَثِّلُ سِتارَ العِزّةِ والعَظَمةِ، ودَلائلَ تُشِيرُ إلى سُلطانِ الرُّبُوبيّةِ مِن خِلالِ عُبُودِيّةٍ وعَجْزٍ وافتِقارٍ وانبِهارٍ أَمامَ العَظَمةِ الإلٰهِيّةِ، ولَيسَت تلك الوَسائطُ مُعِينةً له سُبحانَه ولا يُمكِنُها أن تكُونَ شَريكةً في سَلْطَنةِ الرُّبُوبيّةِ قَطعًا، لأَنَّها لَيسَت إلّا وَسائلَ للمُشاهَدةِ والتَّفَرُّجِ.
الشُّعاع الرابع
[معنى كون الصلاة معراجًا للمؤمن]
يا نَفسِي الكَسُولةَ.. إنَّ حَقيقةَ الصَّلاةِ الَّتي هي مِعراجُ المُؤمِنِ شَبِيهةٌ بقَبُولِ دُخُولِ جُندِيٍّ بَسِيطٍ إلى دِيوانِ السُّلطانِ الأَعظَمِ بمَحْضِ لُطفِه -كما ذُكِرَ في المِثالِ السّابِق- فقَبُولُ مُثُولِك أمامَ جَلالِه سُبحانَه إنَّما هو بمَحْضِ لُطفِ الجَليلِ ذِي الجَمالِ والمَعبُودِ ذِي الجَلالِ؛ فأنت عِندَما تقُولُ: “اللهُ أكبرُ”، تَمضِي مَعنًى وتَقطَعُ خَيالًا أو نِيّةً الدُّنيا والآخِرةَ حتَّى تَتَجرَّدَ عن القُيُودِ المادِّيّةِ، فتَصعَدُ مُكتَسِبًا مَرتَبةَ عُبُودِيّةٍ كُلِّـيّةٍ أو ظِلًّا مِن ظِلالِ المَرتَبةِ الكُلِّـيّةِ أو بصُورةٍ مِن صُوَرِها، وتَتَشرَّفُ بنَوعٍ مِنَ الحُضُورِ القَلبيِّ والمُثُولِ بينَ يدَيهِ تَعالَى، فتَنالُ حُظوةً عُظمَى بخِطابِ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ كلٌّ حَسَبَ دَرَجَتِه.
حقًّا إنَّ كَلِمةَ “اللهُ أكبرُ.. اللهُ أكبرُ” وتَكرارَها في حَرَكاتِ الصَّلاةِ وأَفعالِها، هي إشارةٌ لِقَطْعِ المَراتِبِ والعُرُوجِ إلى مَراتِبِ الرُّقيِّ المَعنَويِّ، والصُّعُودِ مِنَ الدَّوائرِ الجُزئيّةِ إلى الدَّوائرِ الكُلِّـيّة، فهي عُنوانٌ لِمُجمَلِ كَمالاتِ كِبرِياءِ اللهِ سُبحانَه، والَّتي هي خارِجَ نِطاقِ مَعرِفَتِنا، وكأنَّ كلَّ كَلِمةٍ مِن: “اللهُ أكبرُ” إشارةٌ إلى قَطْعِ مَرتَبةٍ مِن مَراتبِ المِعراجِ.
وهكذا فإنَّ البُلُوغَ إلى ظِلٍّ أو شُعاعٍ مِن حَقيقةِ الصَّلاةِ هذه -مَعنًى أو نيّةً أو تَصَوُّرًا أو خَيالًا- لهو نِعمةٌ عُظمَى وسَعادةٌ كُبْرَى.. ولِأَجلِ هذا يُرَدَّدُ ذِكرُ: “اللهُ أَكبرُ” في الحَجِّ بكَثرةٍ هائلةٍ، لأنَّ الحَجَّ عبادةٌ في مَرتَبةٍ كلِّيّة لكُلِّ حاجٍّ بالأَصالةِ.
فالجُندِيُّ البَسِيطُ يَذهَبُ إلى الحُضُورِ المَلَكيِّ في يومٍ خاصٍّ -كالعِيدِ- مِثلَما يَذهَبُ الفَريقُ فيَنالُ لُطْفَ مَليكِه وكَرَمَه.. كذلك الحاجُّ -مهما كان مِنَ العوامِّ- فهو مُتَوجِّهٌ إلى رَبِّه الجَليلِ بعُنوانِ رَبِّ العالَمين، كالوَليِّ الَّذي قَطَع المَراتبَ، فهو مُشَرَّفٌ بعُبُودِيّةٍ كُلِّـيّةٍ، فلا بُدَّ أنَّ المَراتِبَ الكُلِّـيّةَ للرُّبُوبيّةِ الَّتي تُفتَحُ بمِفتاحِ الحَجِّ، وآفاقَ عَظَمةِ الأُلُوهيّةِ الَّتي تُشاهَدُ بمِنظارِ الحَجِّ، ودَوائرَ العُبُوديّةِ الَّتي تَتَوسَّعُ في قَلبِ الحاجِّ وخَيالِه، كلَّما قامَ وأَدَّى مَناسِكَ الحجِّ، ومَراتِبَ الكِبْرِياءِ والعَظَمةِ وأُفُقَ التَّجَلِّياتِ الَّتي تَمنَحُ حَرارةَ الشَّوقِ، والإعجابَ والِانبِهارَ أمامَ عَظَمةِ الأُلُوهيّةِ وهَيبةِ الرُّبُوبيّةِ، لا يُسَكَّنُ إلّا بـ “اللهُ أَكبرُ.. اللهُ أَكبرُ” ! وبه يُمكِنُ أن يُعلَنَ عنِ المَراتِبِ المُنكَشِفةِ المَشهُودةِ أو المُتَصَوَّرةِ.
وهذه المَعاني العُلْويّةُ والكُلِّيّةُ تَتَجلَّى بعدَ الحَجِّ في صَلاةِ العِيدِ، وفي صَلاةِ الِاستِسقاءِ وصَلاةِ الكُسُوفِ والخُسُوفِ وصَلاةِ الجَماعةِ بدَرَجاتٍ مُتَفاوِتةٍ. ومِن هذا تَظهَرُ أَهَمِّيّةُ الشَّعائرِ الإسلاميّةِ حتَّى لو كانَت مِن قَبيلِ السُّنَنِ النَّبَويّةِ.
سُبحانَ مَن جَعَل خَزائنَه بينَ الكافِ والنُّونِ.
﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾
وصَلِّ وسَلِّم عَلَى رَسُولِكَ الأَكرَمِ، مَظْهَرِ اسمِكَ الأَعظَمِ، وعَلَى آلِهِ وأَصحَابِهِ وإخوَانِهِ وأَتبَاعِهِ.
آمِينَ يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ.
❀ ❀ ❀
ذَيلٌ صَغيرٌ
[قدرة الله في اطراد القوانين، ومشيئة الله في شذوذ القوانين]
إنَّ القَديرَ العَليمَ والصّانِعَ الحَكيمَ، يُظهِرُ قُدرَتَه وحِكمَتَه، وعَدَمَ تَدَخُّلِ المُصادَفةِ في أيِّ فِعلٍ مِن أَفعالِه قَطعًا، بالنِّظامِ والتَّناسُقِ الَّذي تُظهِرُه عاداتُه الَّتي هي على صُورةِ القَوانينِ الكَونيّةِ.
وكذا يُظهِرُ سُبحانَه بشَواذِّ القَوانينِ الكَونيةِ، وبخَوارِقِ عاداتِه، وبالتَّغيُّراتِ الظّاهِرِيّةِ، وباختِلافِ التَّشَخُّصاتِ، وبتَبَدُّلِ زَمانِ النُّزُولِ والظُّهُورِ.. يُظهِرُ مَشِيئتَه وإرادَتَه، وأنَّه الفاعِلُ المُختارُ، وأنَّ اختِيارَه لا يَرضَخُ لأيِّ قَيدٍ كانَ، مُمَزِّقًا بهذا سِتارَ الرَّتابةِ والِاطِّراد.
فيُعلِمُ: أنَّ كلَّ شيءٍ، في كلِّ آنٍ، في كلِّ شَأْنٍ مِن شُؤُونِه، في كلِّ ما يَخُصُّه ويَعُودُ إلَيه، مُحتاجٌ إلَيه سُبحانَه، مُنقادٌ لِرُبُوبيَّتِه.. وبهذا يُشَتِّتُ الغَفلةَ، ويَصرِفُ الأَنظارَ، أَنظارَ الجِنِّ والإنسِ عنِ الأَسبابِ إلى مُسَبِّبِ الأَسباب، وعلى هذا الأساسِ تَتَوجَّهُ بَياناتُ القُرآنِ الكَريمِ.
فمثلًا: يَحدُثُ في أَغلَبِ الأَماكِنِ، أنَّ قِسمًا مِنَ الأَشجارِ المُثمِرةِ، تُثمِرُ سَنةً، أي: تُعطَى إلَيها مِن خَزِينةِ الرَّحمةِ، وهي بدَورِها تُسَلِّمُها إلَينا.. ولكنَّ السَّنةَ التّالِيةَ لا تَتَسلَّمُ الثَّمَرةَ ولا تُعطِينا إيّاها رَغمَ وُجُودِ الأَسبابِ الظّاهِرِيّةِ للإثمارِ.
ومثلًا: إنَّ أَوقاتَ نُزُولِ المَطَرِ -بخِلافِ الأُمُورِ اللّازِمةِ الأُخرَى- مُتَحوِّلةٌ ومُتغَيِّرةٌ إلى دَرَجةٍ دَخَلَت ضِمنَ المُغيَّباتِ الخَمسةِ، إذ إنَّ أَهَمَّ مَوقعٍ في الوُجُودِ هو للحَياةِ والرَّحمةِ، والمَطَرُ مَنشَأُ الحَياةِ والرَّحمةِ الخالِصةِ، لذا فإنَّ ذلك الماءَ الباعِثَ على الحَياةِ، والرَّحمةَ المُهداةَ، لا يَدخُلُ ضِمنَ القاعِدةِ المُطَّرِدةِ الَّتي تَحجُبُ عنِ اللهِ وتُورِثُ الغَفلةَ، بل تكُونُ في قَبضةِ ذِي الجَلالِ مُباشَرةً مِن دُونِ حِجابٍ، وضِمنَ تَصَرُّفِ المُنعِمِ المُحيِي الرَّحمٰنِ الرَّحيمِ.. وذلك لكي تَبقَى أَبوابُ الدُّعاءِ والشُّكرِ مَفتُوحةً دائمًا.
ومثلًا: إنَّ إعطاءَ الرِّزقِ، وتَشخِيصَ سِيماءِ الإنسانِ ومَلامِحِه وصُورَتِه، إنَّما هو إحسانٌ إلٰهِيٌّ يُوهَبُ مِن حيثُ لا يُحتَسَبُ، مِمّا يُبيِّنُ بجَلاءٍ طَلاقةَ المَشِيئةِ الإلٰهِيّةِ والِاختِيارِ الرَّبّانِيِّ.
وقِسْ على هذا تَصرِيفَ الرِّياحِ وتَسخِيرَ السَّحابِ وأَمثالَها مِنَ الشُّؤُونِ الإلٰهِيّةِ.
❀ ❀ ❀