الكلمة الخامسة عشرة: ولقد زينّا السماء الدنيا بمصابيح.
[هذه الكلمة تفسر آية: ﴿وجعلناها رجومًا للشياطين﴾، وتُبيِّن معقوليتها وأنها أوسع من النظر السطحي لعلم الفَلَك، وتَعرِض للحديث عن الملائكة]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
الكلمة الخامسة عشرة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾
يا مَن تَعلَّمَ في المَدارِسِ الحَدِيثةِ مَسائلَ فاقِدةً للرُّوحِ في عِلمِ الفَلَكِ، فضاقَ ذِهنُه، وانحَدَر عَقلُه إلى عَينِه حتَّى استَعْصَى علَيه استِيعابُ السِّرِّ العَظيمِ لهذه الآيةِ الجَليلةِ.. اعلَمْ أنَّ للصُّعُودِ إلى سَماءِ هذه الآيةِ الكَريمةِ سُلَّمًا ذا سَبْعِ دَرَجاتٍ ومَراتِبَ، هيَّا نَصْعَدْ إلَيها معًا.
[سبع مراتب لفهم آية: ﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾]
المَرتَبةُ الأُولى: [الحكمة تقتضي أن يكون للسماء سكانٌ يناسبونها]
إنَّ الحَقيقةَ والحِكمةَ تَقتَضِيانِ أن يكُونَ للسَّماءِ أَهلُون يُناسِبُونَها -كما هي الحال في الأَرضِ- ويُسَمَّى في الشَّريعةِ أُولَئك الأَجناسُ المُختَلِفةُ: المَلائكةَ والرُّوحانيّاتِ.
نعم، الحَقيقةُ تَقتَضي هكذا، إذ إنَّ مَلءَ الأَرضِ، مع صِغَرِها وحَقارَتِها بالنِّسبةِ إلى السَّماءِ، بذَوِي حَياةٍ وإدراكٍ، وإعمارَها حِينًا بعدَ حِينٍ بذَوِي إداركِ آخَرِين بعدَ إخلائِها مِنَ السّابِقِين، يُشِيرُ -بل يُصَرِّح- بامتِلاءِ السَّماواتِ ذاتِ البُرُوجِ المُشَيَّدةِ، تلك القُصُورِ المُزَيَّنةِ بذَوِي إدراكٍ وشُعُورٍ؛ فهؤلاء كالجِنِّ والإنسِ، مُشاهِدُو قَصرِ هذا العالَمِ، مُطالِعُو كِتابِ الكَونِ، أَدِلَّاءُ إلى عَظَمةِ الرُّبُوبيّةِ ومُنادُون إلَيها؛ لِأَنَّ تَزيِينَ العالَمِ وتَجمِيلَه بما لا يُعَدُّ ولا يُحصَى مِنَ التَّزيِيناتِ والمَحاسِنِ والنُّقُوشِ البَدِيعةِ، يَقتَضِي -بَداهةً- جَلْبَ أَنظارِ مُتَفكِّرين مُستَحسِنين ومُقَدِّرِين مُعجَبِين، إذ لا يُظْهَرُ الحُسنُ إلّا لِعاشِقٍ، كما لا يُعطَى الطَّعامُ إلّا لِجائعٍ، معَ أنَّ الإنسَ والجِنَّ لا يَستَطِيعانِ القِيامَ إلّا بواحِدٍ مِن مِليُونٍ مِن هذه الوَظائفِ غَيرِ المَحدُودةِ، فَضْلًا عنِ الإشرافِ المَهِيبِ والعُبُودِيّةِ الواسِعةِ.. بمَعنَى أنَّ هذه الوَظائفَ المُتَنوِّعةَ غيرَ المُتَناهِيةِ وهذه العِبادةَ الَّتي لا نِهايةَ لها تَحتاجُ إلى ما لا يُعَدُّ مِن أَنواعِ المَلائكةِ وأَجناسِ الرُّوحانِيّاتِ، وكذا، بِناءً على إشارةِ بعضِ الرِّواياتِ والآثارِ، وبمُقتَضَى حِكمةِ انتِظامِ العالَمِ يَصِحُّ القَولُ:
إنَّ قِسمًا مِنَ الأَجسامِ السَّيّارة، ابتِداءً مِنَ الكَواكِبِ السَّيّارةِ وانتِهاءً بالقَطَراتِ الدَّقيقةِ، مَراكِبُ لِقِسمٍ مِنَ المَلائكةِ، فهم يَركَبُون تلك الأَجسامَ بإِذنٍ إلٰهِيٍّ، ويَتَجوَّلُون في عالَمِ الشَّهادةِ ويَتَفرَّجُون علَيه.
ويَصِحُّ القَولُ أيضًا: إنَّ قِسمًا مِنَ الأَجسامِ الحَيَوانيّةِ ابتِداءً مِن طُيُورِ الجَنّةِ المَوصُوفةِ بـ”طَيْرٍ خُضْرٍ” -كما وَرَد في الحَديثِ الشَّرِيف- وانتِهاءً بالذُّبابِ والبَعُوضِ في الأَرضِ، طَيّاراتٌ لِجِنسٍ مِنَ الأَرواحِ، تَدخُلُ تلك الأَرواحُ في أَجوافِها باسمِ اللهِ “الحَقِّ”، وتُشاهِدُ عالَمَ الجِسمانِيّاتِ، وتُطِلُّ مِن نَوافِذِ حَواسِّ تلك المَخلُوقات، مُشاهِدةً مُعجِزاتِ الفِطرةِ الجِسمانيّةِ.
فالخالقُ الكَريمُ الَّذي يَخلُقُ باستِمرارٍ مِنَ التُّرابِ الكَثيفِ والماءِ العَكِرِ مَخلُوقاتٍ ذَواتِ إدراكٍ مُنَوَّرةٍ، وحياةٍ نُورانيّةٍ لَطِيفةٍ، لا رَيبَ أنَّ له مَخلُوقاتٍ ذَواتَ إدراكٍ وشُعُورٍ يَخلُقُها مِن بَحرِ النُّورِ بل مِن بَحرِ الظُّلُماتِ، مِمّا هو أَلْيَقُ للرُّوحِ والحَياةِ وأَنسَبُ لهما، بل هي مَوجُودةٌ بكَثرةٍ هائلةٍ.
فإن شِئتَ فراجِع رِسالةَ “نُقطةٌ مِن نُورِ مَعرِفةِ اللهِ جَلَّ جَلالُه”، و”الكَلِمةَ التّاسِعةَ والعِشرين” فيما يَخُصُّ إثباتَ وُجُودِ المَلائكةِ والرُّوحانيّاتِ، فقد أَثبَتْنا وُجُودَهم إثباتًا جازِمًا قاطِعًا.
المَرتَبةُ الثانية: [بين السماء والأرض علاقةٌ وحركةٌ في الاتجاهين]
إنَّ الأَرضَ والسَّماواتِ ذاتُ عَلاقةٍ بَعضُها ببَعضٍ، كعَلاقةِ مَملَكَتَينِ لِدَولةٍ واحِدةٍ، فبَينَهما ارتِباطٌ وَثيقٌ ومُعامَلاتٌ مُهِمّةٌ، فما هو ضَرُوريٌّ للأَرضِ مِنَ الضِّياءِ والحَرارةِ والبَرَكةِ والرَّحمةِ وما شابَهها، تأتي كُلُّها مِنَ السَّماءِ إلى الأَرضِ، أي: تُرسَلُ مِن هُناك.
كذلك فبإِجماعِ جَميعِ الأَديانِ السَّماوِيّةِ المُستَنِدةِ إلى الوَحْيِ الإلٰهِيِّ، وبالتَّواتُرِ الحاصِلِ مِن شُهُودِ جَميعِ أَهلِ الكَشْفِ، إنَّ المَلائكةَ والرُّوحانيّاتِ يَأتُون مِنَ السَّماءِ إلى الأَرضِ.
فبالحَدْسِ القَطْعِيِّ -أَقرَبَ إلى الِاستِشعارِ والإحساسِ- إنَّ لِسَكَنةِ الأَرضِ طَريقًا يَصعَدُون بها إلى السَّماءِ؛ إذ كما يَرنُو عَقلُ كلِّ فَردٍ وخَيالُه ونَظَرُه إلى السَّماءِ في كلِّ حِينٍ، كذلك أَرواحُ الأَنبِياءِ والأَولِياءِ الَّذين خَفُّوا بوَضعِ أَثقالِهم، وأَرواحُ الأَمواتِ الَّذين خَلَعُوا أَجسادَهم يَصعَدُون بإذنٍ إلٰهِيٍّ إلى السَّماءِ.
وحيثُ إنَّ الَّذين خَفُّوا ولَطُفُوا يَذهَبُون إلى هناك، فلا بُدَّ أنَّ الَّذين يَلبَسُون جَسَدًا مِثالِيًّا، واللَّطِيفِين الخَفِيفِين لَطافةَ الرُّوحِ وخِفَّتَها مِن سَكَنةِ الأَرضِ والهَواءِ، يُمكِنُهُمُ الذَّهابُ إلى السَّماءِ.
المَرتَبةُ الثالثة: [سكون السماء وانتظامها دليلٌ على أن أهلها مطيعون بخلاف أهل الأرض]
إنَّ سُكُونَ السَّماءِ وسُكُوتَها وانتِظامَها واطِّرادَها ووُسْعَتَها ونُورانِيَّتَها يَدُلُّ على أنَّ أَهلَها لَيسُوا كأَهلِ الأَرضِ، بل كلُّ أَهلِ السَّماءِ مُطِيعُون يَفعَلُون ما يُؤمَرُون، فلَيسَ هناك ما يُوجِبُ المُزاحَمةَ والِاختِلافاتِ، لأنَّ المَملَكةَ واسِعةٌ فَسِيحةٌ جِدًّا، وهم مَفطُورُون على الصَّفاءِ والنَّقاءِ، مَعصُومُون لا ذَنبَ لهم، ومَقامُهم ثابتٌ بخِلافِ الأَرضِ الَّتي فيها اجتِماعُ الأَضدادِ واختِلاطُ الأَشرارِ بالأَبرارِ، مِمّا وَلَّد الِاختِلافاتِ المُؤَدِّيةَ إلى الِاضطِراباتِ والقَلاقِلِ والمُشاجَراتِ، وانفَتَح بذلك بابُ الِامتِحانِ والمُسابَقةِ، وظَهَرَت مَراتِبُ الرُّقِيِّ ودَرَكاتُ التَّدَنِّي.
وحِكمةُ هذه الحَقيقةِ هي أنَّ الإنسانَ هو الثَّمَرةُ النِّهائيّةُ لِشَجَرةِ الخِلْقةِ، ومِنَ المَعلُومِ أنَّ الثَّمَرةَ هي أَبعَدُ أَجزاءِ الشَّجَرةِ وأَجمَعُها وأَلطَفُها، لِذا فالإنسانُ هو ثَمَرةُ العالَمِ، وأَجمَعُ وأَبدَعُ مَصنُوعاتِ القُدرةِ الرَّبّانيّةِ، وأَكثَرُها عَجْزًا وضَعْفًا ولُطْفًا.
ومِن هنا فإنَّ مَهْدَ هذا الإنسانِ ومَسكَنَه -وهو الأَرضُ- كُفْءٌ للسَّماء مَعنًى وصَنْعةً، ومعَ صِغَرِ الأَرضِ وحَقارَتِها بالنِّسبةِ إلى السَّماءِ فهي قَلْبُ الكَونِ ومَركَزُه.. ومَشهَرُ جَميعِ مُعجِزاتِ الصَّنعةِ الرَّبّانيّةِ.. ومَظهَرُ جَميعِ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى وبُؤرَتُها.. ومَعكِسُ الفَعَالِيّاتِ الرَّبّانيّةِ المُطلَقةِ ومَحشَرُها.. وسُوقُ عَرْضِ المَخلُوقاتِ الإلٰهِيّةِ بجُودٍ مُطلَقٍ، ولا سِيَّما عَرْضُها لِكَثرةٍ كاثِرةٍ مِنَ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ.. وهي نَمُوذَجٌ مُصَغَّرٌ لِما يُعرَضُ في عَوالِمِ الآخِرةِ مِن مَصنُوعاتٍ.. ومَصنَعٌ يَعمَلُ بسُرعةٍ فائقةٍ لِإِنتاجِ المَنسُوجاتِ الأَبَديّةِ والمَناظِرِ السَّرْمَدِيّةِ المُتَبَدِّلةِ بسُرعةٍ.. وهي مَزرَعةٌ ضَيِّقةٌ مُؤَقَّتةٌ لِاستِنباتِ بُذُورِ البَساتينِ الدّائمةِ الخالِدةِ.
[لماذا يعادل القرآن بين السماء والأرض مع أن السماء منها أضخم بما لا يقاس؟]
ومِن هذه العَظَمةِ المَعنَوِيّةِ للأَرضِ1نَعم، إنَّ الأرضَ مع صِغَرِها يُمكِن أن تَعدِلَ السَّماواتِ، لأنه يَصِحُّ القولُ: إنَّ نَبْعًا دَائمَ العَطاءِ هو أكبْرُ مِن بُحَيرة لا يَرِدُها شيءٌ. ثم إنَّه إذا كِيلَ شيء مّا بمِكْيالٍ، ووُضِع جَانبًا، ثمَّ كِيلَت مَحاصيلُه بالمِكيالِ نفسِه، ووُضعَت إلى جَانبٍ آخَرَ، فمَهما كَانت هَذه المَوادُّ أَضخمَ وأكبَرَ من المِكيالِ نفسِه، ولو بأُلوفِ المَرَّات ظَاهرًا، إلّا أنَّ المِكيالَ يُمكِنُ أن يُعادلَ ذلك الجِسمَ ويُقارَن مَعه. كَذلك الأرضُ، فَقد خلَقَها سُبحَانه وتَعَالى: مَشهَرَ صَنعتِه، مَحشَرَ إيجادِه، مَدارَ حِكمَتِه، مَظهَرَ قُدرتِه، مَزهَرَ رَحمَتِه، مَزرَعةَ جَنَّتِه، مَكيل المَوجُودَات وخَلقها نبعًا فياضًا تَسيلُ منه “المَوجوداتُ” إلى بِحَارِ المَاضي وإلى عالَم الغَيبِ. وخَلَقها بحيثُ يُبدِّل عليها سَنَويًّا أثوابَها المَنسُوجةَ ببَدائعِ صُنعِه، يُبدِّلُها الواحدةَ تِلْوَ الأُخرَى، بِمئاتِ الأُلوف مِن الأَنوَاع والأَشكَال. والآنَ خُذ أمَامَ نَظَرِك تِلك العَوالِمَ الكَثيرةَ الَّتي تَصُبُّ في عالَمِ الغَيبِ، وتِلك الأَثوَابَ الكَثيرةَ جِدًّا التي تَلبَسُها الأرضُ وتَنزِعُها، أي: افتَرِضْ جَميعَ مَا في المَاضِي حَاضرًا، ثمَّ قابِلْها مَع السَّماوات التي هِي عَلى وَتيرةٍ واحدةٍ، وبَساطةٍ غيرِ مُعقَّدةٍ، ووَازِن بينهما، تَرَ أن الأرضَ، إنْ لم تَثقُلْ على كَفّة السَّماواتِ فَلا تَبقَى قَاصرةً عنها.. ومِن هُنا تَفهَمُ سِرَّ الآية الكَريمة: ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾. وأَهَمِّيَّتِها مِن حَيثُ الصَّنعةُ، جَعَلَها القُرآنُ الكَريمُ كُفْئًا للسَّماواتِ وعَدْلًا لَها، معَ أنَّها بالنِّسبةِ للسَّماواتِ كالثَّمَرةِ الصَّغيرةِ بشَجَرتِها الضَّخمةِ، فيَجعَلُها في كَفّةٍ والسَّماواتِ في كَفّةٍ أُخرَى، فيُكَرِّر الآيةَ الكَريمةَ: ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.
ثمَّ إنَّ تَحَوُّلَ الأَرضِ السَّرِيعَ، وتَغَيُّرَها الدّائِمَ -بِناءً على هذه الحِكَمِ المَذكُورةِ- يَقتَضِي أن تَطْرَأَ على أَهلِيها أَيضًا تَحَوُّلاتٌ مُماثِلةٌ لها.
وكذا إنَّ الأَرضَ مع مَحدُودِيَّتِها، نالَتْ مِن تَجَلِّياتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ المُطلَقةِ، وذلك بعَدَمِ تَحدِيدِ قُوَى أَهلِيها ذَوِي الشَّأْنِ -وهُما الجِنُّ والإنسُ- بحَدٍّ فِطرِيٍّ أو قَيْدٍ خَلقِيٍّ كما هو في سائرِ ذَوِي الحَياةِ.. لذا غَدَتِ الأَرضُ مَعرِضًا لِرُقيٍّ لا نِهايةَ له، ولِتَدَنٍّ لا غايةَ له؛ فابتِداءً مِنَ الأَنبِياءِ والأَولِياءِ وانتِهاءً بالنَّمارِدةِ الطُّغاةِ والشَّياطينِ مَيدانٌ واسِعٌ جِدًّا للِامتِحانِ والِاختِبارِ. ولَمّا كانَ الأَمرُ هكذا، فإنَّ الشَّياطِينَ المُتَفَرعِنةَ ستَقذِفُ السَّماءَ وأَهلَها بشَراراتِها غيرِ المَحدُودةِ.
المَرتَبةُ الرّابعة: [لله تعالى أسماء تقتضي وجود المتقابلات والمبارزة بينها]
إنَّ لِرَبِّ العالَمين وخالِقِها ومُدَبِّرِ أَمرِها ذي الجَلالِ والإكرامِ، أَسماءً حُسنَى كَثيرةً، مُتَغايِرةً أَحكامُها، مُتَفاوِتةً عَناوِينُها.. فالِاسمُ والعُنوانُ والصِّفةُ الَّتي تَقتَضِي إرسالَ المَلائكةِ للقِتالِ في صَفِّ الصَّحابةِ الكِرامِ مع الرَّسولِ (ﷺ) لَدَى مُحارَبةِ الكُفّارِ، هو الِاسمُ نَفسُه والعُنوانُ نَفسُه والصِّفةُ نَفسُها الَّتي تَقتَضِي أن تكُونَ هناك مُحارَبةٌ بينَ المَلائكةِ والشَّياطينِ، وأن تكُونَ هناك مُبارَزةٌ بينَ السَّماوِيِّين الأَخيارِ والأَرضِيِّين الأَشرارِ.
إنَّ القَديرَ الجَليلَ المالِكَ لِأَرواحِ الكُفّارِ وأَنفاسِهم ونُفُوسِهم في قَبضةِ قُدرَتِه لا يُفنِيهم بأَمرٍ مِنه، ولا بصَيحةٍ، بل يَفتَحُ مَيدانَ امتِحانٍ ومُبارَزةٍ، بعُنوانِ الرُّبُوبيّةِ العامّةِ، وبأَسمائِه الحُسنَى: “الحَكِيمِ”، “المُدَبِّر”.
فمثلًا -ولا مُشاحّةَ في الأَمثالِ-: نَرَى أنَّ السُّلطانَ له عَناوينُ مُختَلِفةٌ وأَسماءٌ مُتَنوِّعةٌ حَسَبَ دَوائرِ حُكُومَتِه، فالدّائرةُ العَدلِيّةُ تَعرِفُه باسمِ “الحاكِمِ العادِلِ”، والدّائرةُ العَسكَريّةُ تُعَرِّفُه باسمِ “القائدِ العامِّ”، بَينَما دائرةُ المَشْيَخةِ تَذكُرُه باسمِ “الخَلِيفةِ”، والدّائرةُ الرَّسمِيّةُ تَعَرِّفُه باسمِ “السُّلطانِ”، والأَهْلُون المُطِيعُون للسُّلطانِ يَذكُرُونه باسمِ “السُّلطانِ الرَّحيمِ”، بَينَما العُصاةُ يقُولُون: إنَّه “الحاكِمُ القَهَّارُ”.. وقِسْ على هذا..
فإنَّ ذلك السُّلطانَ الجَليلَ المالِكَ لِناصِيةِ الأَهلِينَ كافّةً، لا يُعدِمُ بأَمرٍ مِنه شَخْصًا عاجِزًا عاصِيًا ذَلِيلًا، بل يَسُوقُه إلى المَحكَمةِ باسمِ الحاكِمِ العادِلِ؛ ثمَّ إن ذلك السُّلطانَ الجَليلَ لا يَلتَفِتُ الْتِفاتةَ تَكريمٍ إلى أَحَدٍ مِن مُوَظَّفيه الجَدِيرين بها حَسَبَ عِلْمِه به ولا يُكرِمُه بهاتِفِه الخاصِّ، بل يَفتَحُ مَيدانَ مُسابَقةٍ، ويُهيِّئُ له استِقبالًا رَسْمِيًّا، يَأْمُرُ وَزيرَه ويَدعُو الأَهلِينَ إلى مُشاهَدةِ المُسابَقةِ، ثم يُكافِئُ ذلك المُوَظَّفَ بعُنوانِ هَيئةِ الدَّولةِ وإدارةِ الحُكُومةِ، فيُعلِنُ مُكافَأتَه في ذلك المَيدانِ نَظِيرَ استِقامَتِه، أي: يُكرِمُه ويَتَفضَّلُ عليه أمامَ جُمُوعٍ غَفيرةٍ مِن أَشخاصٍ سامِينَ، بعدَ امتِحانٍ مَهِيبٍ، لإثباتِ جَدارَتِه أَمامَهم.
وهكذا -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- فلِلَّهِ سُبحانَه وتَعالَى أَسماءٌ حُسنَى كَثيرةٌ، وله شُؤُونٌ وعَناوِينُ كَثيرةٌ جِدًّا، وله تَجَلِّياتٌ جَلالِيّةٌ وظَواهِرُ جَمالِيّةٌ.. فالِاسمُ والعُنوانُ والشَّأنُ الَّذي يَقتَضِي وُجُودَ النُّورِ والظَّلامِ، والصَّيفِ والشِّتاءِ، والجَنّةِ والنّارِ، يَقتَضِي شُمُولَ قانُونِ المُبارَزةِ نَوعًا مّا وتَعمِيمَه أيضًا، كقانُونِ التَّناسُلِ وقانُونِ المُسابَقةِ وقانُونِ التَّعاوُنِ كأَمثالِه مِنَ القَوانينِ العامّةِ الشّامِلةِ، أي: يَقتَضِي شُمُولَ قانُونِ المُبارَزةِ ابتِداءً مِنَ المُبارَزةِ بينَ الإلهاماتِ والوَساوِسِ الدّائرةِ حَولَ القَلبِ، وانتِهاءً إلى المُبارَزةِ الحاصِلةِ بينَ المَلائكةِ والشَّياطِينِ في آفاقِ السَّماواتِ.
المَرتَبةُ الخامِسة: [الشُّهُب علامةٌ على المبارزة بين الأرواح الطيبة والأرواح الخبيثة]
لَمّا كان هناك ذَهابٌ مِنَ الأَرضِ إلى السَّماءِ وعَودةٌ مِنها، فالنُّزولُ مِنَ السَّماءِ والصُّعُودُ إلَيها وارِدٌ أيضًا، بلِ اللَّوازِمُ والضَّرُورِيّاتُ الأَرضِيّةُ تُرسَلُ مِن هُناك؛ وحيثُ إنَّ الأَرواحَ الطَّيِّبةَ تَنطَلِقُ إلى السَّماءِ مِنَ الأَرضِ، فلا بُدَّ أن تَتَشبَّثَ الأَرواحُ الخَبيثةُ وتُحاوِلَ تَقلِيدَ الطَّيِّبين مِنها في الذَّهابِ إلى السَّماواتِ، وذلك لِلَطافَتِها وخِفَّتِها، ولا بُدَّ ألّا يَقبَلَها أَهلُ السَّماءِ، بل يَطْرُدُونَها لِما في طَبْعِها مِن شُؤْمٍ وشَرٍّ.
ثمَّ لا بُدَّ مِن وُجُودِ علامةٍ على هذه المُعامَلةِ المُهِمّةِ وهذه المُبارَزةِ المَعنَويّةِ في عالَمِ الشَّهادةِ، لأنَّ عَظَمةَ الرُّبُوبيّةِ تَقتَضي أن تَضَع إشارةً على التَّصَرُّفاتِ الغَيبِيّةِ الإلٰهِيّةِ المُهِمَّةِ وعلامةً علَيها، لِيُبصِرَها ذَوُو الإدراكِ والشُّعورِ ولا سِيَّما الإنسانُ الحامِلُ لِأَجَلِّ وَظيفةٍ وهي المُشاهَدةُ والشَّهادةُ والدَّعوةُ والإشرافُ؛ فكما أنه سُبحانَه قد جَعَل المَطَرَ إشارةً إلى مُعجِزاتِ الرَّبيعِ، وجَعَل الأَسبابَ الظّاهِرةَ علامةً على خَوارِقِ صَنعَتِه، جاعِلًا أَهلَ عالَمِ الشَّهادةِ شاهِدِين علَيها؛ فلا رَيْبَ أنَّه يَجلِبُ أَنظارَ جَميعِ أَهلِ السَّماءِ وأَهلِ الأَرضِ إلى ذلك المَشهَدِ العَظيمِ العَجيبِ، فيُظهِرُ تلك السَّماءَ العَظيمةَ كالقَلعةِ الحَصِينةِ الَّتي زُيِّنَت بُرُوجُها بحُرّاسٍ مُصطَفِّين حَوْلَها، أو كالمَدِينةِ العامِرةِ الَّتي تُشوِّقُ أَهلَ الفِكْرِ إلى التَّأمُّلِ فيها.
فما دامَ إعلانُ هذه المُبارَزةِ الرَّفيعةِ ضَرُورةً تَقتَضِيها الحِكمةُ، فلا بُدَّ مِن وُجُودِ إشارةٍ علَيها، بَينَما لا تُشاهَدُ أيَّةُ حادِثةٍ كانَت ضِمنَ الحادِثاتِ الجَوِّيةِ والسَّماوِيّةِ تُلائِمُ هذا الإعلانَ وتُناسِبُه.. فإنَّ ما ذَكَرناه إذًا هو أَنسَبُ علامةٍ علَيها، لأنَّ الحادِثاتِ النَّجمِيّةَ، مِن رَمْيِ الشُّهُبِ الشَّبِيهِ برَمْيِ المَجانيقِ، وإطلاقِ طَلَقاتِ التَّنوِيرِ مِنَ القِلاعِ العالِيةِ وبُرُوجِها الحَصِينةِ، مِمّا يُفهِمُ بَداهةً مَدَى مُناسَبَتِها ومُلاءَمَتِها بِرَجمِ الشَّياطينِ بالشُّهُبِ، مع أنَّه لا تُعرَفُ لهذه الحادِثةِ -رَجمِ الشَّياطِينِ- غيرُ هذه الحِكمةِ، ولا تُعرَفُ لها غايةٌ تُناسِبُها غيرَ الَّتي ذَكَرناها، خِلافًا للحادِثاتِ الأُخرَى؛ فَضْلًا عن أنَّ هذه الحِكْمةَ مَشهُورةٌ مُنذُ زَمَنِ سيِّدِنا آدَمَ عَليهِ السَّلام، ومَشهُودةٌ لَدَى أَهلِ الحَقيقةِ.
المَرتَبةُ السادسة: [إظهار عظَمةِ الألوهية إزاء عجز المخلوق المتمرد]
لَمّا كان الإنسُ والجِنُّ يَحمِلانِ استِعدادًا لا نِهايةَ له للشَّرِّ والجُحُودِ، فهما قادِرانِ على تَمَرُّدٍ وطُغيانٍ لا نِهايةَ لهما، لِذا يَزجُرُ القرآنُ الكَريمُ ببَلاغَتِه المُعجِزةِ، وبأَساليبَ باهِرةٍ سامِيةٍ ويَضرِبُ الأَمثالَ الرَّفيعةَ القَيِّمةَ ويَذكُرُ مَسائلَ دَقيقةً، يَزجُرُ بها الإنسَ والجِنَّ مِنَ الطُّغيانِ والعِصيانِ زَجْرًا عَنِيفًا يَهُزُّ الكَوْنَ كُلَّه.
فمثلًا: قولُه تعالَى:
﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ﴾.
تأَمَّلِ النَّذيرَ العَظيمَ والتَّهديدَ المُريعَ والزَّجرَ العَنيفَ في هذه الآيةِ، وكيفَ تَكسِرُ تَمَرُّدَ الجِنِّ والإنسِ ببَلاغةٍ مُعجِزةٍ، مُعلِنةً عَجْزَهما، مُبيِّنةً مَدَى ما فيهما مِن ضَعْفٍ أمامَ عَظَمةِ سُلطانِه وسَعةِ رُبُوبيَّتِه جلَّ وعلا.. فكأنَّ الآيةَ الكَريمةَ، وكذا الآيةَ الأُخرَى: ﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾ تُخاطِبانِ هكذا:
“أيُّها الإنسُ والجانُّ.. أيُّها المَغرُورُون المُتمَرِّدُون، المُتوَحِّلُون بعَجزِهم وضَعفِهم.. أيُّها المُعانِدُون الجامِحُون المُتمَرِّغُون في فَقرِهم وضَعفِهم.. إنَّكم إن لم تُطيعُوا أَوامِري، فهيَّا اخرُجُوا مِن حُدُودِ مُلكِي وسُلطاني إنِ استَطَعتُم! فكيفَ تَتَجرَّؤُون إذًا على عِصيانِ أَوامِرِ سُلطانٍ عَظيمٍ.. النُّجُومُ والأَقمارُ والشُّمُوسُ في قَبضَتِه، تَأْتَمِرُ بأَوامِرِه، كأنَّها جُنُودٌ مُتأَهِّبُون.. فأَنتُم بطُغيانِكم هذا إنما تُبارِزُون حاكِمًا عَظيمًا جَليلًا له جُنُودٌ مُطيعُون مَهِيبُون، يَستَطِيعُون أن يَرجُمُوا بقَذائفَ كالجِبالِ حتَّى شياطِينَكم لو تَحَمَّلَت.. وأنتُم بكُفرانِكُم هذا إنَّما تَتمَرَّدُون في مَملَكةِ مالِكٍ عَظيمٍ جَليلٍ، له جُنُودٌ عِظامٌ يَستَطِيعُون أن يَقصِفُوا أَعداءً كَفَرةً -ولو كانُوا في ضَخامةِ الأَرضِ والجِبال- بقَذائفَ مُلتَهِبةٍ وشَظايا مِن لَهيبٍ كأَمثالِ الأَرضِ والجِبالِ، فيُمَزِّقُوكم ويُشَتِّتُوكم! فكيفَ بمَخلُوقاتٍ ضَعيفةٍ أَمثالِكم؟.. وأنتُم تُخالِفُون قانونًا صارِمًا يَرتَبِطُ به مَن له القُدرةُ -بإذنٍ اللهِ- أن يُمطِرَ علَيكم قَذائفَ وراجِماتٍ أَمثالَ النُّجُومِ.
نعم إنَّ في القُرآنِ الكَريمِ تَحشِيداتٍ ذاتَ أَهَمِّيّةٍ بالِغةٍ، فهي لَيسَت ناتِجةً مِن قُوّةِ الأَعداءِ، بل مِن أَسبابٍ أُخرَى كإظهارِ عَظَمةِ الأُلُوهيّةِ وفَضْحِ العَدُوِّ وشَناعَتِه.
ثمَّ أَحيانًا تُحَشِّدُ الآيةُ الكَريمةُ أَعظَمَ الأَسبابِ وأَقواها لِأَصغَرِ شيءٍ وأَضعَفِه، وتَقرِنُ بَينَهما دُونَ تَجاوُزٍ للضَّعيفِ، وذلك إظهارًا لِكَمالِ الِانتِظامِ وغايةِ العَدلِ ونِهايةِ العِلمِ وقُوّةِ الحِكمةِ؛ فقَولُه تَعالَى: ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ يُبيِّنُ مَدَى الِاحتِرامِ اللّائقِ الَّذي حَظِيَ به النَّبيُّ الكَريمُ (ﷺ)، ومَدَى الرَّحمةِ الواسِعةِ الَّتي تَشمَلُ حُقُوقَ الزَّوجاتِ.
فهذه الحُشُودُ إنَّما تُفيدُ إفادةً رَحيمةً في إظهارِ عَظَمةِ النَّبيِّ (ﷺ) وعُلُوِّ مَكانَتِه عندَ اللهِ، وبيانِ أَهمِّيّةِ شَكوَى زَوجَتَينِ ضَعيفَتَينِ ومَدَى الرِّعايةِ لِحُقُوقِهما.
المَرتَبة السابعة: [ما من موجود إلا له وظيفةٌ يؤديها]
تَتبايَنُ النُّجومُ فيما بَينَها تَبايُنًا كَبيرًا، كما هي الحالُ في المَلائكةِ والأَسماكِ، فمِنها في غايةِ الصِّغَرِ، ومِنها في غايةِ الكِبَرِ، حتَّى أُطلِقَ على كلِّ ما يَلمَعُ في وَجهِ السَّماءِ بالنَّجْمِ.
وهكذا فنَوعٌ مِن أَنواعِ أَجناسِ النُّجُومِ هو لِتَزيِينِ وَجهِ السَّماءِ اللَّطيفِ، وكأنَّ الفاطِرَ الجَليلَ والصّانِعَ الجَميلَ قد خَلَقَها كالثِّمارِ النَّـيِّرةِ لِتلك الشَّجَرةِ، أو كالأَسماكِ المُسَبِّحةِ للهِ لذلك البَحرِ الواسِعِ.. وكالأُلُوفِ مِنَ المَنازِلِ لِمَلائكَتِه، وخَلَق أَيضًا نَوْعًا صَغِيرًا مِنَ النُّجُومِ أَداةً لِرَجْمِ الشَّياطِينِ.
فالشُّهُبُ الَّتي تُرسَلُ لِرَجْمِ الشَّياطِينِ قد تَحمِلُ ثَلاثةَ مَعانٍ:
المَعنَى الأوَّل: أنَّه رَمزٌ وعَلامةٌ على جَرَيانِ قانُونِ المُبارَزةِ في أَوسَعِ دائرةٍ مِن دَوائرِ الوُجُودِ.
المَعنَى الثَّاني: أنَّ في السَّماواتِ حُرَّاسًا يَقِظِينَ وأَهلِينَ مُطِيعينَ، فهذه الشُّهُبُ إشارةٌ وإعلانٌ عنِ امتِعاضِ جُنُودِ اللهِ مِنِ اختِلاطِ الأَرضِيِّينَ الشِّرِّيرينَ بهم واستِراقِ السَّمعِ مِنهم.
المَعنَى الثَّالث: أنَّ هذه الشُّهُبَ وكأنَّها مَجانيقُ وقَذائفُ تَنوِيرٍ هي لإرهابِ جَواسِيسِ الشَّياطينِ الَّذين يَستَرِقُون السَّمعَ، والَّذين يُمَثِّلُون المَساوِئَ الأَرضِيّةَ أَسوَأَ تَمثِيلٍ، وطَردِهم مِن أَبوابِ السَّماءِ، وذلك لِئَلَّا يُلَوِّثُوا السَّماءَ الطّاهِرةَ الَّتي هي سُكنَى الطّاهِرِين، ولِيَحُولُوا بَينَهم وبينَ القِيامِ بالتَّجَسُّسِ لِحِسابِ النُّفُوسِ الخَبِيثةِ.
أيُّها الفَلَكيُّ المُعتَمِدُ على عَقلِه القاصِرِ، الَّذي لا يَتَجاوَزُ نُورُه نُورَ اليَراعةِ.. ويا مَن يُغمِضُ عَينَه عن نُورِ شَمسِ القُرآنِ المُبِينِ.. تَأَمَّلْ في هذه الحَقائقِ الَّتي تُشِيرُ إلَيها هذه المَراتِبُ السَّبعُ، تَأَمَّلْها دُفعةً واحِدةً.. أَبْصِرْ.. دَعْ عنك بَصِيصَ عَقلِك، وشاهِدْ مَعنَى الآيةِ الكَريمةِ في نُورِ إعجازِها الواضِحِ وُضُوحَ النَّهارِ، وخُذْ نَجْمَ حَقيقةٍ واحِدةٍ مِن سَماءِ تلك الآيةِ الكَريمةِ، واقْذِفْ بها الشَّيطانَ القابِعَ في ذِهنِك وارْجُمْه بها.. ونحنُ كذلك نَفعَلُ هذا. ولْنَقُلْ معًا:
﴿رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ.﴾
.. فلِلّهِ الحُجّةُ البالِغةُ والحِكمةُ القاطِعةُ..
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
❀ ❀ ❀
ذيل الكلمة الخامسة عَشْرة
[حُجّة القرآنِ على الشَّيطانِ وحِزبِه]
المبحث الأول من المكتوب السادس والعشرين
بِاسْمِه سُبحانَه.. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
حُجّة القرآنِ على الشَّيطانِ وحِزبِه
[مناظرة بيني وبين الشيطان]
إنَّ هذا المَبحَثَ الأَوَّلَ الَّذي يُلزِمُ إِبلِيسَ ويُفحِمُ الشَّيطانَ ويُسكِتُ أَهلَ الطُّغيانِ، نَتِيجةَ حادِثةٍ وقَعَت فِعلًا، رَدًّا على دَسِيسةٍ شَيطانيّةٍ رَهِيبةٍ، ساقَها ضِمنَ مُحاكَمةٍ عَقلِيّةٍ حِيادِيّةٍ؛ وقد كَتَبتُ تلك الحادِثةَ قَبلَ عَشرِ سَنَواتٍ كِتابةً مُجمَلةً في كِتابِ “اللَّوامِعِ” وأَذكُرُها الآنَ:
قَبلَ تَألِيفِ هذه الرِّسالةِ بإِحدَى عَشْرةَ سَنةً كُنتُ أُنصِتُ يَومًا إلى القُرآنِ الكَرِيمِ مِن حُفّاظٍ كِرامٍ في جامِعِ بايَزِيدَ بإسطَنبُولَ، وذلك في أَيّامِ شَهرِ رَمَضانَ المُبارَكِ، وإذا بي أَسمَعُ كأنَّ صَوتًا مَعنَوِيًّا، صَرَفَ ذِهنِي إلَيْه، دُونَ أن أَرَى شَخْصَه بالذّاتِ، فأَعَرتُ له السَّمعَ خَيالًا، ووَجَدتُه يقُولُ:
إنَّك تَرَى القُرآنَ سامِيًا جِدًّا ولامِعًا جِدًّا، فهَلّا نَظَرتَ إلَيْه نَظْرةً حِيادِيّةً، ووازَنتَه بمِيزانِ مُحاكَمةٍ عَقلِيّةٍ حِيادِيّةٍ؛ أَعنِي: اِفرِضِ القُرآنَ قَولُ بَشَرٍ، ثمَّ انظُر إلَيْه بَعدَ هذا الفَرضِ هل تَجِدُ فيه تلك المَزايا والمَحاسِنَ؟!
اغتَرَرتُ به في الحَقِيقةِ، فافتَرَضتُ القُرآنَ قَولَ بَشَرٍ، ونَظَرتُ إلَيْه مِن تلك الزّاوِيةِ، وإذا بي أَرَى نَفسِي في ظَلامٍ دامِسٍ، فقدِ انطَفَأَت أَضواءُ القُرآنِ السّاطِعةُ، وعَمَّ الظَّلامُ الأَرْجاءَ كما يَعُمُّ الجامِعَ كُلَّه إذا مَسَّ أَحَدُهُم مِفتاحَ الكَهرَباءِ.
فعَلِمتُ عِندَها أنَّ المُتَكلِّمَ مَعِي هو شَيْطانٌ يُرِيدُ أن يُوقِعَني في هاوِيةٍ، فاستَعصَمتُ بالقُرآنِ الكَرِيمِ نَفسِه، وإذا بنُورٍ يَقذِفُه اللهُ سُبحانَه في قَلبِي، أَجِدُ نَفسِي به، قَوِيًّا قادِرًا على الدَّفاعِ.. وحِينَها بَدَأَتِ المُناظَرةُ معَ الشَّيطانِ على النَّحوِ الآتي:
[شرط المحاكمة الحيادية]
قُلتُ: أيُّها الشُّيطانُ، إنَّ المُحاكَمةَ الحِيادِيّةَ دُونَ انحِيازٍ إلى أَحَدِ الطَّرَفَينِ -هي التِزامُ مَوضِعٍ وَسَطٍ بَينَهُما، بَيدَ أنَّ المُحاكَمةَ الحِيادِيّةَ الَّتي تَدعُو إلَيْها أَنتَ وتَلامِيذُك مِنَ الإِنسِ- إنَّما هي التِزامُ الطَّرَفِ المُخالِفِ، فهِي لَيسَت حِيادِيّةً، بل خُرُوجٌ عنِ الدِّينِ مُؤَقَّتًا، ذلك لِأنَّ النَّظَرَ إلى القُرآنِ أنَّه كَلامُ بَشَرٍ وإِجراءُ مُحاكَمةٍ عَقلِيّةٍ في ضَوءِ هذا الفَرضِ ما هو إلّا اتِّخاذُ الطَّرَفِ المُخالِفِ أَساسًا، والتِزامٌ لِلباطِلِ أَصلًا، ولَيسَ أَمرًا حِيادِيًّا، بل هو انحِيازٌ لِلباطِلِ ومُوالاةٌ له.
[القرآن لا يقبل أن يكون في منزلةٍ وسطى]
فقال الشَّيطانُ: افْرِضْه كَلامًا وَسَطًا، لا تَقُل: إنَّه كَلامُ اللهِ، ولا كَلامُ بَشَرٍ.
قُلتُ: وهذا أَيضًا لا يُمكِنُ أن يكُونَ قَطعًا، لِأنَّه إذا وُجِدَ مالٌ مُنازَعٌ فيه، وكان المُدَّعِيانِ مُتَقارِبَينِ، أي: قَرِيبَينِ مِن بَعضِهِما مَكانًا، حِينَئذٍ يُوضَعُ ذلك المالُ لَدَى شَخصِ غَيرِهِما، أو في مَكانٍ تَنالُه أَيدِيهِما؛ فأيُّما الطَّرَفَينِ أَقامَ الحُجّةَ على الآخَرِ، وأَثبَتَ دَعواه، أَخَذ المالَ، ولكِن لو كان المُدَّعِيانِ مُتَباعِدَينِ، أَحَدُهُما عنِ الآخَرِ غايةَ البُعدِ، كأَن يكُونَ أَحَدُهُما في المَشرِقِ والآخَرُ في المَغرِبِ، عِندَئِذٍ يُتْرَكُ المالُ لَدَى “ذِي اليَدِ” مِنهُما، حَسَبَ القاعِدةِ المَعرُوفةِ، ذلك لِأنَّه لا يُمكِنُ تَركُ المالِ في مَوضِعٍ وَسَطٍ بَينَهُما.
وهكذا فالقُرآنُ الكَرِيمُ مَتاعٌ ثَمِينٌ وبِضاعةٌ سامِيةٌ ومالٌ رَفِيعٌ للهِ، والبُعدُ بَينَ الطَّرَفَينِ بُعدٌ مُطلَقٌ لا يَحُدُّه حَدٌّ، إذ هُو البُعدُ ما بَينَ كَلامِ رَبِّ العالَمِينَ وكَلامِ بَشَرٍ؛ ولِهذا لا يُمكِنُ وَضعُ المالِ وَسَطَ الطَّرَفَينِ، إذ لا وَسَطَ بَينَهُما إِطلاقًا، لِأنَّهُما كالوُجُودِ والعَدَمِ، فلا وَسَطَ بَينَهُما؛ لِذا فإنَّ صاحِبَ اليَدِ لِلقُرآنِ هو الطَّرَفُ الإلٰهِيُّ؛ ولِهذا يَنبَغِي أن يُقبَلَ الأَمرُ هكَذا وسَوقُ الأَدِلّةِ في ضَوْئِها، أي: أنَّه بِيَدِه سُبحانَه؛ إلّا إذا استَطاعَ الطَّرَفُ الآخَرُ دَحَضَ جَمِيعَ البَراهِينِ المُشِيرةِ إلى أنَّه كَلامُ اللهِ، وتَفنِيدَها الواحِدَ تِلوَ الآخَرِ، عِندَئذٍ يُمكِنُه أن يَمُدَّ يَدَه إلَيْه، وإلّا فلا.
هَيْهاتَ! مَن ذا يَستَطِيعُ أن يُزَحزِحَ تلك الدُّرّةَ الغاليةَ المُثبَّتةَ بالعَرشِ الأَعظَمِ بآلافٍ مِن مُثبِتاتِ البَراهِينِ الدّامِغةِ، وأنَّى لِأَحَدٍ الجُرأةُ على هَدْمِ دَلائِلِ الأَعمِدةِ القائِمةِ، لِيُسقِطَ تلك الدُّرّةَ النَّفِيسةَ مِنَ العَرشِ السّامِي.
فيا أَيُّها الشَّيطانُ، إنَّ أَهلَ الحَقِّ والإِنصافِ يُحاكِمُونَ الأُمُورَ مُحاكَمةً عَقلِيّةً سَلِيمةً على هذه الصُّورةِ رَغمَ أَنفِك، بل يَزدادُونَ إِيمانًا بالقُرآنِ بأَصغَرِ دَلِيلٍ.
أمّا الطَّرِيقُ الَّذي تَدُلُّ علَيْه أَنتَ وتَلامِيذُك، أي: لوِ افتُرِضَ القُرآنُ كَلامَ بَشَرٍ، ولو لِمَرّةٍ واحِدةٍ، أي: لو أُسقِطَت تلك الدُّرّةُ العَظِيمةُ الثّابِتةُ بالعَرشِ إلى الأَرضِ، فيَلزَمُ وُجُودُ بُرهانٍ قَوِيٍّ وعَظِيمٍ يَعلُو جَمِيعَ البَراهِينِ ويتَّسِعُ لِجَمِيعِ الدَّلائِلِ، كي يَقوَى على الِارتِفاعِ بها مِنَ الأَرضِ ويُثبِتُها في العَرشِ المَعنَوِيِّ، وبذلِك وَحدَه يَنجُو مِن ظُلُماتِ الكُفرِ وأَوْهامِه ويَبلُغُ نُورَ الإِيمانِ ويُدرِكُه، وهذا أَمرٌ عَسِيرٌ قلَّما يُوفَّقُ المَرءُ إلَيْه في هذا الزَّمانِ، ومِن هُنا يَفقِدُ الكَثِيرُونَ في هذا الزَّمانِ إِيمانَهُم بدَسِيسَتِك المُلفَّعةِ باسمِ المُحاكَمةِ العَقلِيّةِ الحِيادِيّةِ.
[ضرورة أن يكون القرآن على نمط حوار البشر]
انبَرَى الشَّيطانُ قائِلًا: إنَّ سِياقَ الكَلامِ في القُرآنِ شَبِيهٌ بكَلامِ البَشَرِ، فهُو يُجرِي مُحاوَراتِه في أُسلُوبِ مُحاوَرةِ البَشَرِ، فإِذًا هو كَلامُ بَشَرٍ، إذ لو كانَ كلامَ اللهِ لَكانَ خارِقًا لِلعادةِ في كلِّ جِهاتِه، بما يَلِيقُ باللهِ، ولا يُشبِهُ كَلامَ البَشَرِ، مِثلَما لا تُشبِهُ صَنْعةُ اللهِ صَنْعةَ بَشَرٍ!
فقُلتُ جَوابًا: إِنَّ رَسُولَنا الأَعظَمَ (ﷺ) ظَلَّ في طَورِ بَشَرِيَّتِه في أَفعالِه وأَحوالِه وأَطوارِه كُلِّها -فيما سِوَى مُعجِزاتِه وخَصائِصِه- فانقادَ انقِيادَ طاعةٍ لِسُنَنِ اللهِ وأَوامِرِه التَّكوِينيّةِ، كأَيِّ إِنسانٍ آخَرَ، فكان يُقاسِي البَردَ ويُعانِي الأَلمَ.. وهكذا لم يُوهَب له خَوارِقُ غيرُ عادِيّةٍ في أَحوالِه وأَطوارِه كُلِّها، وذلك لِيكُونَ قُدوةً لِلأُمّةِ بأَفعالِه، ومُرشِدًا لَهُم بأَطوارِه، وهادِيًا لِلنّاسِ كافّةً بحَرَكاتِه وسَكَناتِه، إذ لو كانَ خارِقًا لِلعادةِ في كلِّ أَطوارِه لَمَا تَسَنَّى له أن يكُونَ إِمامًا لِلنّاسِ كافّةً، وقُدْوةً لَهُم في جَمِيعِ شُؤُونِه بالذّاتِ، ولَمَا كان مُرشِدًا لِلنّاسِ كافّةً، ولَمَا كان رَحْمةً لِلعالَمِينَ في جَمِيعِ أَحوالِه.
كَذلِك الأَمرُ في القُرآنِ الحَكِيمَ، إذ هو إِمامُ أَربابِ الشُّعُورِ ومُرشِدُ الجِنِّ والإِنسِ وهادِي الكامِلِينَ ومُعلِّمُ أَهلِ الحَقِيقةِ، فالضَّرُورةُ تَقتَضِي أن يكُونَ على نَمَطِ مُحاوَرةِ البَشَرِ وأُسلُوبِه، لِأنَّ الإِنسَ والجِنَّ يَستَلهِمُونَ مُناجاتَهُم مِنه، ويَتَعلَّمُونَ دَعَواتِهِم مِنه، ويَذكُرُونَ مَسائِلَهُم بلِسانِه، ويَتَعرَّفُونَ مِنه آدابَ مُعاشَرَتِهِم.. وهكذا يَتَّخِذُه كلُّ مُؤمِنٍ به إِمامًا له ومَرجِعًا يَرجِعُ إلَيْه.
فلَو كانَ القُرآنُ على نَمَطِ الكَلامِ الإلٰهِيِّ الَّذي سَمِعَه سَيِّدُنا مُوسَى عَليهِ السَّلام في “جَبَلِ الطُّورِ” لَمَا أَطاقَ البَشَرُ سَماعَه ولا قَدَر على الإِنصاتِ إلَيْه، ولا استَطاعَ أن يَجعَلَه مَرجِعًا لِشُؤُونِه كافّةً؛ فسَيِّدُنا مُوسَى عَليهِ السَّلام، وهُو مِن أُولِي العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ، ما استَطاعَ أن يَتَحمَّلَ إلّا سَماعَ بَعضٍ مِن كَلامِه سُبحانَه، حَيثُ قال: أَهكَذا كَلامُك؟ قال اللهُ: لي قُوّةُ جَمِيعِ الأَلسِنةِ.
[هل يمكن للبشر أن يأتوا بشيء يشبه القرآن؟]
ولكِنَّ الشَّيطانَ عادَ قائِلًا: كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ يَذكُرُونَ مَسائِلَ دِينيّةً شَبِيهةً بما في القُرآنِ، ألا يُمكِنُ لِبَشَرٍ أن يَأْتِيَ بشَيءٍ شَبِيهٍ بالقُرآنِ بِاسمِ الدِّينِ؟
فقُلتُ مُستَلهِمًا مِن فَيضِ القُرآنِ الكَرِيمِ:
أوَّلًا:
إنَّ ذا الدِّينَ يُبيِّنُ الحَقَّ ويقُولُ: الحَقُّ كذا، الحَقِيقةُ هكذا، وأَمرُ اللهِ هذا.. يقُولُه بدافِعِ حُبِّه لِلدِّينِ، ولا يَتكَلَّمُ بِاسمِ اللهِ حَسَبَ هَواه، ولا يَتَجاوَزُ طَوْرَه بما لا حَدَّ له، بأن يَدَّعِيَ أنَّه يَتَكلَّمُ بِاسمِ اللهِ أو يَتَكلَّمُ عنه فيُقلِّدُه في كَلامِه سُبحانَه، بل تَرتَعِدُ فَرائِصُه أَمامَ الدُّستُورِ الإلٰهِيِّ: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ﴾.
ثانيًا:
إنَّه لا يُمكِنُ بحالٍ مِنَ الأَحوالِ أن يقُومَ بَشَرٌ بهذا العَمَلِ ثمَّ يُوَفَّقَ فيه، بل هذا مُحالٌ في مِئةِ مُحالٍ، لِأنَّ أَشخاصًا مُتَقارِبِينَ يُمكِنُهُم أن يُقلِّدَ أَحَدُهُمُ الآخَرَ، ورُبَّما يُمكِنُ لِمَن هم مِن جِنسٍ واحِدٍ أو صِنفٍ واحِدٍ أن يَتَقمَّصَ أَحَدُهُم شَخصِيّةَ الآخَرِ، فيَستَغفِلُوا النّاسَ مُؤَقَّتًا. ولكِن لا يُمكِنُ أن يَستَغفِلَ أَحَدُهُمُ النّاسَ بصُورةٍ دائِمةٍ، إذ سيَظهَرُ لِأَهلِ العِلمِ والمَعرِفةِ مَدَى التَّصَنُّعِ والتَّكلُّفِ في أَطْوارِه وأَفعالِه لا مَحالةَ؛ ولا بُدَّ أن يَنكَشِفَ كَذِبُه يَومًا، فلا تَدُومُ حِيلَتُه قَطُّ، وإن كان الَّذي يُرِيدُ التَّقلِيدَ بَعِيدًا غايةَ البُعدِ، كأَنْ يكُونَ شَخْصًا اعتِيادِيًّا يُرِيدُ أن يُقلِّدَ ابنَ سِينا في العِلمِ، أو راعِيًا يُرِيدُ أن يَظهَرَ بمَظهَرِ السُّلطانِ في مُلكِه، فلا يَتَمكَّنُ أن يَخدَعَ أَحَدًا مِنَ النّاسِ، بل يكُونُ مَوضِعَ استِهزاءٍ وسُخرِيةٍ، إذ كلُّ حالٍ مِن أَحوالِه سيَصرُخُ: إنَّ هذا خَدّاعٌ.
فكما أنَّه مُحالٌ ظُهُورُ اليَراعةِ (ذُبابةُ اللَّيلِ) لِأَهلِ الرَّصْدِ والفَلَكِ بمَظهَرِ نَجمٍ حَقِيقيٍّ، طَوالَ أَلفِ سَنةٍ، دُونَ تكَلُّفٍ!
وكما أنَّه مُحالٌ ظُهُورُ الذُّبابِ بمَظهَرِ الطّاوُوسِ لِذَوِي الأَبصارِ، طَوالَ أَلفِ سَنةٍ دُونَ تَصَنُّعٍ!
وكذا كما أنَّه مُحالٌ تَقَمُّصُ جُندِيٍّ اعتِيادِيٍّ طَوْرَ مُشِيرٍ في الجَيشِ واعتِلاءُ مَقامِه مُدّةً مَدِيدةً، مِن دُونِ أن يَكشِفَ أَحَدٌ خِداعَه!
وكما أنَّه مُحالٌ ظُهُورُ مُفتَرٍ كاذِبٍ لا إِيمانَ له في طَوْرِ أَصدَقِ النّاسِ وأَكثَرِهِم إِيمانًا وأَرسَخِهِم عَقِيدةً، طَوالَ حَياتِه، أَمامَ أَنظارِ المُتَفحِّصِينَ المُدَقِّقينَ، بلا تَرَدُّدٍ ولا اضطِرابٍ، ويُخفِي تَصَنُّعَه عن أَنظارِ الدُّهاةِ.
فكما أنَّ هذه الأَمثِلةَ مُحالةٌ في مِئةِ مُحالٍ، ولا يُمكِنُ أن يُصَدِّقَها كلُّ مَن يَملِكُ مُسكةً مِن عَقلٍ، بل لا بُدَّ أن يَحكُمَ أنَّها هَذَيانٌ وجُنُونٌ..
كَذلِك افتِراضُ القُرآنِ كَلامَ بَشَرٍ -حاشَ للهِ أَلفَ أَلفِ مَرّةٍ حاشَ للهِ- إذ يَستَلزِمُ عدَّ ماهِيّةِ الكِتابِ المُبِينِ الَّذي هو نَجمُ الحَقِيقةِ اللّامِعُ، بل شَمسُ الكَمالاتِ السّاطِعةِ، تُشِعُّ دَومًا أَنوارَ الحَقائِقِ في سَماءِ عالَمِ الإِسلامِ، كما هو مُشاهَدٌ.. يَستَلزِمُ الفَرضُ عَدَّ ذلك النُّورِ السّاطِعِ بَصِيصًا يَحمِلُه مُتَصنِّعٌ، يَصُوغُه مِن عِندِ نَفسِه بالخُرافاتِ (حاشَ للهِ أَلفَ أَلفِ مَرّةٍ) والأَقرَبُونَ مِنه والمُدَقِّقُونَ لِأَحوالِه لا يُمَيِّـزُونَ ذلك، بل يَرَونَه نَجْمًا عالِيًا ومَنبَعًا ثَرًّا لِلحَقائِقِ! وما هذا إلّا مُحالٌ في مِئةِ مُحالٍ؛ فَضْلًا عن ذلك فإنَّك أيُّها الشَّيطانُ، إن تَمادَيتُ في خُبثِك ودَسائِسِك أَضعافَ أَضعافِ ما أَنتَ علَيْه الآنَ، فلن تَستَطِيعُ أن تَجعَلَ هذا المُحالَ مُمكِنًا، ولن تُقنِعَ به عَقلًا سَلِيمًا قَطُّ، ولكِنَّك تُغَرِّرُ بالنّاسِ بإِراءَتِهِمُ الأُمُورَ مِن بَعِيدٍ، فتُرِيهِمُ النَّجمَ اللّامِعَ صَغِيرًا كاليَراعةِ.
ثالثًا:
إنَّ افتِراضَ القُرآنِ كَلامَ بَشَرٍ يَستَلزِمُ أن تكُونَ حَقائِقُ وأَسرارُ الفُرقانِ الحَكِيمِ ذِي المَزايا السّامِيةِ والبَيانِ المُعجِزِ، الجامِعِ لِكُلِّ رَطبٍ ويابِسٍ، الَّذي له آثارٌ جَلِيلةٌ في عالَمِ الإِنسانيّةِ، وتَجَلِّياتٌ باهِرةٌ وتَأثِيراتٌ طَيِّبةٌ مُبارَكةٌ ونَتائِجُ قَيِّمةٌ -كما هو مُشاهَدٌ- إذ هو الَّذي يَنفُثُ في البَشَرِيّةِ الرُّوحَ ويَبعَثُ فيها الحَياةَ ويُوصِلُها إلى السَّعادةِ الخالِدةِ.. يَستَلزِمُ الفَرضُ أن يكُونَ هذا الفُرقانُ الحَكِيمُ وحَقائِقُه الجَلِيلةُ مِنِ اختِلاقِ وافتِراءِ إِنسانٍ لا عِلمَ له ولا مُعِينَ، ويَلزَمُ ألّا يُشاهِدَ علَيْه أُولَئِك الدُّهاةُ الفَطِنُونَ القَرِيبُونَ مِنه المُتَفحِّصُونَ لِأَحوالِه، أيّةَ عَلامةٍ مِن عَلائِمِ الخِداعِ والتَّموِيهِ، بل يَرَونَ دائِمًا إِخلاصَه وثَباتَه وجِدِّيَّتَه.
وهذا مُحالٌ في مِئةِ مُحالٍ، فَضْلًا عن أنَّ الَّذي أَظهَرَ في أَحوالِه وأَقوالِه وحَرَكاتِه كُلِّها طَوالَ حَياتِه الأَمانةَ والإِيمانَ والأَمانَ والإِخلاصَ والصِّدقَ والِاستِقامةَ، وأَرشَدَ إلَيْها ورَبَّى الصِّدِّيقِينَ على تلك الصِّفاتِ السّامِيةِ والخِصالِ الرَّفِيعةِ.. يَلزَمُ أن يكُونَ -بذلك الِافتِراضِ- مِمَّن لا يُوثَقُ به، ولا إِخلاصَ له ولا يَحمِلُ عَقِيدةً.. وما ذلك إلّا رُؤيةُ المُحالِ في المُحالِ المُضاعَفِ حَقِيقةً واقِعةً! وما ذلك إلّا هَذَيانٌ فِكْرِيٌّ يَخجَلُ مِنه حتَّى الشَّيطانُ نَفسُه.. ذلك لِأنَّ المَسأَلةَ لا وَسَطَ لها، إذ لو لم يَكُنِ القُرآنُ الكَرِيمُ -بفَرْضِ مُحالٍ- كَلامَ اللهِ، فإنَّه يَهوِي ساقِطًا مِنَ العَرشِ الأَعظَمِ إلى الأَرضِ. ولا يَبقَى في الوَسَطِ، فيَكُونُ مَنبَعَ الخُرافاتِ، وهو مَجمَعُ الحَقائِقِ المَحْضةِ.
وكذا فإنَّ الَّذي أَظهَرَ ذلك الأَمرَ الرَّبّانِيَّ الخالِدَ لو لم يكُن رَسُولًا -حاشَ للهِ ثمَّ حاشَ للهِ- يَلزَمُ بهذا الِافتِراضِ أنْ يَهوِيَ مِن أَعلَى عِلِّيِّينَ إلى أَسفَلِ سافِلِينَ، ومِن دَرَجةِ مَنبَعِ الكَمالاتِ والفَضائِلِ إلى مَعدِنِ الدَّسائِسِ، ولا يَبقَى في الوَسَطِ.. ذلك لِأنَّ الَّذي يَفتَرِي على اللهِ ويَكذِبُ علَيْه يَسقُطُ إلى أَدنَى الدَّرَكاتِ.
إنَّ رُؤْيةَ الذُّبابِ طاوُوسًا رُؤْيةً دائِمةً، ومُشاهَدةَ أَوْصافِ الطَّاوُوسِ الرَّفيعةِ في ذلك الذُّبابِ، كما أنَّها مُحالٌ فهذه المَسأَلةِ أيضًا مُحالٌ مِثلُها، ولا يُمكِنُ أن يُعطِيَها احتِمالًا قَطُّ إلّا مَن كان سِكِّيرًا فاقِدَ العَقلِ.
رابعًا:
إنَّ افتِراضَ القُرآنِ الكَرِيمِ كَلامَ بَشَرٍ يَلزَمُ مِنه أنْ يكُونَ القُرآنُ الَّذي هو القائِدُ المُقدَّسُ والنُّورُ الهادِي لِلأُمّةِ المُحمَّدِيّةِ، المُمَثِّلةِ لِأَعظَمِ جَماعةٍ وجَيشٍ في بَنِي آدَمَ، والَّذي يَستَطِيعُ بقَوانِينِه الرَّصِينةِ ودَساتِيرِه الرّاسِخةِ وأَوامِرِه النّافِذةِ أن يَغزُوَ بذلك الجَيشِ العَظِيمِ كِلا العالَمَينِ ويَفتَحَ الدُّنيا والآخِرةَ، بما أَعطاهُم مِن نِظامٍ لِتَسيِيرِ أَحوالِهِم وتَنسِيقِ شُؤُونِهِم، وبما جَهَّزَهُم به مِن أَعتِدةٍ مَعنَوِيّةٍ ومادِّيّةٍ، وعَلَّم عُقُولَ الأَفرادِ -كلًّا حَسَبَ دَرَجَتِه- ورَبَّى قُلُوبَهُم وسَخَّر أَرواحَهُم وطَهَّر وِجْدانَهُم واستَخْدَم جَوارِحَهُم -كما هو مُشاهَدٌ- فيَلزَمُ بذلك الِافتِراضِ أن يكُونَ كَلامًا مُلَفَّقًا لا قُوّةَ له ولا أَهَمِّيّةَ ولا أَصلَ -حاشَ للهِ ثمَّ حاشَ للهِ- أي: يَلزَمُ قَبُولُ مِئةِ مُحالٍ في مُحالٍ.
فَضْلًا عن أن يكُونَ الَّذي أَمضَى حَياتَه مُنقادًا لِقَوانينِ اللهِ ومُرشِدًا إلَيْها، وعَلَّم البَشَرِيّةَ دَساتِيرَ الحَقِيقةِ، بأَفعالِه الخالِصةِ، وأَظهَرَ أُصُولَ الِاستِقامةِ وطَرِيقَ السَّعادةِ بأَقوالِه الطَّيِّبةِ المَعقُولةِ، وكان أَخشَى النّاسِ للهِ وأَعرَفَهُم به، وأَكثَرَ مَن عَرَّفَهُم به بشَهادةِ سِيرَتِه العَطِرةِ، حتَّى انضَوَى تَحتَ لِوائِه خُمُسُ البَشَرِيّةِ ونِصفُ الكُرةِ الأَرضِيّةِ طَوالَ أَلفٍ وثَلاثِ مِئةٍ وخَمسِينَ عامًا، فكانَ فيها قائِدًا رائِدًا لِلأُمّةِ، حتَّى إنَّه هَزَّ العالَمَ أَجمَعَ وأَصبَحَ حَقًّا فَخرَ البَشَرِيّةِ، بل فَخرَ العالَمِينَ.. فيَلزَمُ بهذا الِافتِراضِ أن يكُونَ غيرَ عارِفٍ باللهِ ولا يَخشَى عَذابَه وفي مُستَوَى إِنسانٍ عادِيٍّ، أي: يَلزَمُ ارتِكابُ مُحالٍ في مِئةِ مُحالٍ، لِأنَّ المَسأَلةَ لا وَسَطَ لها، إذ لو لم يكُنِ القُرآنُ الكَرِيمُ كَلامَ اللهِ، وسَقَط مِنَ العَرشِ الأَعظَمِ، لا يَقدِرُ أن يَظَلَّ في الوَسَطِ بل يَلزَمُ أن يكُونَ بِضاعةَ أَحَدِ الكَذّابِينَ في الأَرضِ.
ومِن هُنا فيا أيُّها الشَّيطانُ، لو تَضاعَفَت دَسائِسُك مِئةَ ضِعفٍ لَمَا أَقنَعتَ بهذا الِافتِراضِ مَن يَملِكُ عَقلًا لم يَفسُد وقَلبًا لم يَتَفسَّخ.
[كيف استطاع الشيطانُ إضلالَ منكري القرآن والنبوة؟]
انبَرَى الشَّيطانُ قائِلًا: كَيفَ لا أَستَطِيعُ أن أُغوِيَهُم؟ فلَقد دَفَعتُ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ والعُقَلاءِ المَشهُورِينَ مِنهُم خاصّةً إلى إِنكارِ القُرآنِ وإِنكارِ نُبُوّةِ مُحمَّدٍ!
الجَوابُ:
أوَّلًا: إذا نُظِرَ إلى أَكبَرِ شَيءٍ مِن مَسافةٍ بَعِيدةٍ، يَظهَرُ كأنَّه شَيءٌ صَغِيرٌ لِلغايةِ. حتَّى يُمكِنُ لِمَن يَنظُرُ إلى نَجمٍ أن يقُولَ: إنَّ ضَوْءَه كالشَّمْعةِ.
ثانيًا: إنَّ النَّظَرَ التَّبَعِيَّ أوِ السَّطحِيَّ يَرَى المُحالَ كالمُمكِنِ، يُروَى أنَّ شَيخًا كَبِيرًا نَظَر إلى السَّماءِ لِرُؤيةِ هِلالِ رَمَضانَ، وقد نَزَلَت شَعْرةٌ بَيضاءُ مِن حاجِبِه أَمامَ عَينِه، فظَنَّها الهِلالَ، فقال: لقد شاهَدتُ الهِلالَ!!
وهكذا فمِنَ المُحالِ أنْ تكُونَ تلك الشَّعْرةُ هِلالًا، ولكِن لِأنَّه قَصَد في رُؤْيتِه الهِلالَ بالذّاتِ وتَراءَت تلك الشَّعْرةُ أَمامَه فظَهَرَت له ظُهُورًا تَبَعيًّا -أي: ثانَوِيًّا- لِذا تَلقَّى ذلك المُحالَ مُمكِنًا.
ثالثًا: إنَّ الإِنكارَ شَيءٌ وعَدَمَ القَبُولِ أوِ الرَّفضَ شَيءٌ آخَرُ، إذ إنَّ عَدَمَ القَبُولِ هو عَدَمُ مُبالاةٍ، فهُو إِغماضُ العَينِ أَمامَ الحَقائِقِ ونَفيٌ بجَهالةٍ، ولَيسَ بحُكمٍ؛ وبهذا يُمكِنُ أن يَستَتِرَ كَثِيرٌ مِنَ المُحالاتِ تَحتَ هذا السِّتارِ، إذ لا يَشغَلُ عَقلَه بتلك الأُمُورِ.
أمّا الإِنكارُ فهُو لَيسَ بعَدَمِ قَبُولٍ، بل هو قَبُولُ العَدَمِ، فهُو حُكمٌ، يُضطَرُّ صاحِبُه إلى إِشغالِ عَقلِه وإِعمالِ فِكرِه.
وعلى هذا يُمكِنُ لِشَيطانٍ مِثلِك أن يَسلُبَ مِنه العَقلَ، ثمَّ يَخدَعَه بالإِنكارِ.
ثمَّ إنَّك أيُّها الشَّيطانُ قد خَدَعتَ أُولَئِك الشُّقاةِ مِنَ الأَنعامِ الَّذين هُم في صُوَرِ الأَناسِيِّ، فمَهَّدتَ لَهُمُ الكُفرَ والإِنكارَ اللَّذَينِ يُولِّدانِ كَثِيرًا جِدًّا مِنَ المُحالاتِ، بالغَفْلةِ والضَّلالةِ والسَّفسَطةِ والعِنادِ والمُغالَطةِ والمُكابَرةِ والإِغفالِ والتَّقلِيدِ وأَمثالِها مِنَ الدَّسائِسِ الَّتي تُرِي الباطِلَ حَقًّا والمُحالَ مُمكِنًا.
رابعًا: إنَّ افتِراضَ القُرآنِ الكَرِيمِ كَلامَ بَشَرٍ يَستَلزِمُ أن يُتَصوَّرَ كِتابٌ يُرشِدُ -كما هو مُشاهَدٌ- الأَصفِياءَ والصِّدِّيقِينَ والأَقطابِ الَّذين يَتَلألَؤُونَ كالنُّجُومِ في سَماءِ الإنسانيّةِ، ويُعلِّمُ بالبَداهةِ الحَقَّ والعَدلَ والصِّدقَ والِاستِقامةَ والأَمنَ والأَمانَ لِجَمِيعِ أَهلِ الكَمالِ، ويُحَقِّقُ سَعادةَ الدّارَينِ بحَقائِقِ أَركانِ الإيمانِ ودَساتيرِ أَركانِ الإسلامِ، وهُو الكِتابُ الحَقُّ المُبِينُ والحَقِيقةُ الزَّكِيّةُ الطّاهِرةُ، وهُو الصِّدقُ بعَينِه والقَولُ الفَصلُ الَّذي لا يَأْتيه الباطِلُ مِن بَينِ يَدَيه ولا مِن خَلفِه.. يَستَلزِمُ أن يُتَصوَّرَ -بهذا الِافتِراضِ- خِلافُ أَوصافِه وتَأثِيراتِه وأَنوارِه، أي: يَستَلزِمُ تَصَوُّرَه افتِراءً مِن خَدّاعٍ.. وما هذا إلّا مُحالٌ شَنِيعٌ يَخجَلُ مِنه حتَّى السُّوفسَطائيُّونَ والشَّياطِينُ أَنفُسُهُم، إذ هو هَذَيانٌ فِكرِيٌّ تَرتَعِدُ مِنه الفَرائصُ.
زِدْ على ذلك يَلزَمُ بذلك الِافتِراضِ أن يكُونَ مَن هو أَرسَخُ عَقِيدةً وأَمتَنُ إِيمانًا وأَصدَقُ كَلامًا وآمَنُ قَلْبًا، بشَهادةِ الشَّرِيعةِ الغَرّاءِ الَّتي أَتَى بها وبدَلالةِ ما أَظهَرَه بالِاتِّفاقِ -مِنَ التَّقوَى الخارِقةِ، والعُبُودِيّةِ الخالِصةِ، وبمُقتَضَى أَخلاقِه الفاضِلةِ المُتَّفَقِ علَيْها بَينَ الأَولياءِ والأَعداءِ، وبتَصدِيقِ مَن رَبّاهُم مِن أَهلِ العِلمِ والتَّحقِيقِ وأَهلِ الحَقِيقةِ وأَربابِ الكَمالِ.. يَلزَمُ بذلك الِافتِراضِ- أن يكُونَ فاقِدًا لِلعَقِيدةِ، لا يُوثَقُ به، ولا يَخشَى اللهَ (حاشَ للهِ ثمَّ أَلفُ أَلفِ مَرّةٍ حاشَ للهِ)، وما هذا إلّا ارتِكابٌ لِأَقبَحِ مُحالٍ مَمجُوجٍ وضَلالةٌ مُوغِلةٌ في الظُّلمِ والظُّلُماتِ.
نَحصُلُ مِمّا سَبَق: مِثلَما ذُكِر في “الإشارةِ الثّامِنةَ عَشْرةَ” مِنَ “المَكتُوبِ التّاسِعَ عَشَرَ” أنَّ الَّذي لا يَملِكُ إلّا قُدرةَ الِاستِماعِ في فَهمِ إِعجازِ القُرآنِ قد قال: إذا قِيسَ القُرآنُ معَ جَمِيعِ ما سَمِعتُه مِن كُتُبٍ، نَراه لا يُشبِهُ أيًّا مِنها، ولَيسَ في مُستَوَى تلك الكُتُبِ؛ لِذا فالقُرآنُ: إمّا أنَّه تَحتَ الجَمِيعِ، أو فَوقَ الجَمِيعِ؛ أمّا الشِّقُّ الأَوَّلُ، فمَعَ كَونِه مُحالًا لا يَستَطِيعُ حتَّى الأَعداءُ -بل حتَّى الشَّيطانُ نَفسُه- قَوْلَه، لِذا فالقُرآنُ أَرفَعُ وأَسمَى مِن جَمِيعِ تلك الكُتُبِ، أي: أنَّه مُعجِزةٌ.
[احتمالان لا ثالث لهما]
وعلى غِرارِ هذا نقُولُ مُستَنِدِينَ إلى حُجّةٍ قاطِعةٍ وهي الَّتي تُسَمَّى (بالسَّبْرِ والتَّقسِيمِ) حَسَبَ عِلمِ الأُصُولِ وعِلمِ المَنطِقِ:
أيُّها الشَّيطانُ، ويا تَلامِيذَ الشَّيطانِ..
إنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ إمّا أنَّه كَلامُ اللهِ آتٍ مِنَ العَرشِ الأَعظَمِ، مِنَ الِاسمِ الأَعظَمِ، أو أنَّه افتِراءُ شَخصٍ لا يَخشَى اللهَ ولا يتَّقِيه ولا يَعتَقِدُ به ولا يَعرِفُه (حاشَ للهِ أَلفَ أَلفِ مَرّةٍ حاشَ للهِ)، وهذا الكَلامُ لا تَقدِرُ أن تَقُولَه ولن تَقُولَه قَطعًا حَسَبَ الحُجَجِ السّابِقةِ القاطِعةِ؛ لِذا وبالضَّرُورةِ وبلا أَدنَى شُبهةٍ يكُونُ القُرآنُ الكَرِيمُ كَلامَ رَبِّ العالَمِينَ، ذلك لِأنَّه لَيسَ هُناك وَسَطٌ في المَسأَلةِ، إذ هو مُحالٌ لا يُمكِنُ أن يَحدُثَ قَطُّ، كما أَثْبَتْناه إِثباتًا قاطِعًا، وقد شاهَدتَه بنَفسِك واستَمَعتَ إلَيْه.
وكذا فإنَّ مُحمَّدًا (ﷺ) إمّا أنَّه رَسُولُ اللهِ وسَيِّدُ المُرسَلِينَ وأَفضَلُ الخَلقِ أَجمَعِينَ، أو يَلزَمُ افتِراضُه (حاشَ للهِ ثمَّ حاشَ للهِ) بَشَرًا مُفتَرِيًا على اللهِ لا يَعرِفُه ولا يَعتَقِدُ به ولا يُؤمِنُ بعَذابِه، فسَقَط إلى أَسفَلِ سافِلِينَ، ﴿(حاشية): اضطُرِرتُ إلى استِعمالِ هذه التَّعابِيرِ بفَرضِ المُحالِ وفَرائصِي تَرتَعِدُ، وذلك إظهارًا لِمُحاليّةِ فِكرِ أَهلِ الضَّلالِ الكُفرِيِّ وبَيانِ فَسادِه بالمَرّةِ، استِنادًا إلى ذِكرِ القُرآنِ الكَرِيمِ لكُفرِيّاتِ الكافِرِين، وتَعابِيرِهِمُ الغَلِيظةِ المَمجُوجةِ، لِأَجلِ دَحضِها.﴾ وهذا ما لا تَقدِرُ على قَولِه يا إِبلِيسُ، لا أَنتَ ولا مَن تَعتَـزُّ بهم مِن فَلاسِفةِ أَورُوبّا ومُنافِقِي آسِيا، لِأنَّه لَيسَ هُناك أَحَدٌ في العالَمِ يَسمَعُ مِنك هذا الكَلامِ ثمَّ يُصَدِّقُه قَطُّ.
لِأَجلِ هذا فإنَّ أَشَدَّ الفَلاسِفةِ فَسادًا وأَفسَدَ أُولَئِك المُنافِقِينَ وِجْدانًا يَعتَرِفُونَ بأنَّ مُحمَّدًا (ﷺ) كان فَذًّا في العَقلِ وآيةً في الأَخلاقِ.
فما دامَتِ المَسأَلةُ مُنحَصِرةً في شِقَّينِ فقط، وأنَّ الشِّقَّ الثّانِيَ مُحالٌ قَطعًا، لا يَدَّعِيه أَحَدٌ، وأنَّ المَسأَلةَ لا وَسَطَ فيها -كما أَثْبَتْنا ذلك بحُجَجٍ قاطِعةٍ- فلا بُدَّ وبالضَّرُورةِ ورَغمَ أَنفِك ورَغمَ أَنفِ حِزبِك أَيُّها الشَّيطانُ، وبالبَداهةِ وبحَقِّ اليَقِينِ فإنَّ مُحمَّدًا (ﷺ) رَسُولُ اللهِ وسَيِّدُ المُرسَلِينَ وفَخرُ العالَمِينَ وأَفضَلُ الخَلقِ أَجمَعِينَ علَيْه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعَدَدِ المَلَكِ والإنسِ والجانِّ.
اعتِراضٌ ثانٍ تافِهٌ للشَّيطانِ [حول بلاغة القرآن]
﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾
عِندَما كُنتُ أَتلُو هذه الآياتِ الكَرِيمةَ مِن سُورةِ (قٓ) قال الشَّيطانُ:
إنَّكُم تَرَونَ سَلاسةَ القُرآنِ ووُضُوحَه أَهَمَّ رُكنٍ في فَصاحَتِه، بَينَما النَّقَلاتُ بَعِيدةٌ والطَّفَراتُ هائِلةٌ في هذه الآياتِ؛ فتَرَى الآيةَ تَعبُرُ مِن سَكَراتِ المَوتِ إلى القِيامةِ، وتَنتَقِلُ مِن نَفخِ الصُّورِ إلى خِتامِ المُحاسَبةِ، ومِن هُناك تَذكُرُ الإلقاءَ في جَهَنَّمَ.. أيَبقَى لِلسَّلاسةِ مَوضِعٌ ضِمنَ هذه النَّقَلاتِ العَجِيبةِ؟ وفي القُرآنِ في أَغلَبِ مَواضِعِه نَرَى مَجمُوعةً مِن هذه المَسائِلِ البَعِيدةِ الواحِدةِ عنِ الأُخرَى، فأَينَ مَوقِعُ السَّلاسةِ والفَصاحةِ مِن هذا؟
[الإيجاز أساسُ الإعجاز]
الجَوابُ: إنَّ أَهَمَّ أَساسٍ في إِعجازِ القُرآنِ المُبِينِ هو الإيجازُ بَعدَ بَلاغَتِه الفائِقةِ، فالإيجازُ أَهَمُّ أَساسٍ لإعجازِ القُرآنِ وأَقواه، فهذا الإيجازُ المُعجِزُ في القُرآنِ الكَرِيمِ كَثِيرٌ ولَطِيفٌ جِدًّا في الوَقتِ نَفسِه، بحَيثُ يَنبَهِرُ أَمامَه أَهلُ العِلمِ والتَّدقِيقِ.
فمَثلًا قَولُه تَعالَى:
﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.﴾
فهذه الآيةُ الكَرِيمةُ تُبيِّنُ في بِضعِ جُمَلٍ قَصِيرةٍ حادِثةَ الطُّوفانِ العَظِيمةَ ونَتائِجَها، وتُوضِحُها بإِيجازٍ مُعجِزٍ في الوَقتِ نَفسِه، حتَّى ساقَتِ الكَثِيرِينَ مِن أَهلِ البَلاغةِ إلى السُّجُودِ لِرَوْعةِ بَلاغَتِها.
وكذا قَولُه تَعالَى:
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾
تُبيِّنُ هذه الآياتُ بَيانًا مُعجِزًا، في إِيجازٍ بَلِيغٍ، في بِضعِ جُمَلٍ قَصِيرةٍ، الحَوادِثَ العَجِيبةَ الَّتي حَدَثَت لِقَومِ ثَمُودَ وعاقِبةَ أَمرِهِم، تُبيِّنُها بإِيجازٍ مِن دُونِ إِخلالٍ بالفَهمِ وفي سَلاسةٍ ووُضُوحٍ.
[أسلوب القرآن في طيِّ جُمَلٍ بين جملتَين]
ومَثلًا: قَولُه تَعالَى:
﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾
إنَّ ما بَينَ قَولِه تَعالَى: ﴿أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ إلى جُملةِ: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾ هُنالِك كَثِيرٌ مِنَ الجُمَلِ المَطوِيّةِ؛ فتلك الجُمَلُ غَيرُ المَذكُورةِ لا تُخِلُّ بالفَهمِ ولا تُسِيءُ إلى سَلاسةِ الآيةِ، إذ تَذكُرُ الآيةُ الكَرِيمةُ الحَوادِثَ المُهِمّةَ في حَياةِ سَيِّدِنا يُونُسَ عَليهِ السَّلام وتُحِيلُ البَقِيّةَ إلى العَقلِ.
وكَذلِك في سُورةِ يُوسُفَ، فإنَّ ما بَينَ كَلِمةِ ﴿فَأَرْسِلُونِ﴾ إلى ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾ هُناك ما يَقرُبُ مِن ثَماني جُمَلٍ قدِ انطَوَت، ولكِن دُونَ إِخلالٍ بالمَعنَى ولا إِفسادٍ لِسَلاسةِ الآيةِ.
وأَمثالُ هذه الأَنماطِ مِنَ الإِيجازِ المُعجِزِ كَثِيرةٌ جِدًّا في القُرآنِ الكَرِيمِ، وهي لَطِيفةٌ جِدًّا في الوَقتِ نَفسِه.
[أسلوب القرآن في تسريع المَشاهد]
أمّا الآياتُ المُتَصدِّرةُ الَّتي هي في سُورةِ (قٓ) فإنَّ إِيجازَها عَجِيبٌ ومُعجِزٌ، إذ تُشِيرُ إلى مُستَقبَلِ الكُفّارِ الرَّهِيبِ جِدًّا والمَدِيدِ جِدًّا، حتَّى إنَّ يَومًا مِنه خَمسُونَ أَلفَ سَنةٍ، فتَذكُرُ الآيةُ ما يَحدُثُ فيه مِنِ انقِلاباتٍ وتَحَوُّلاتٍ وحَوادِثَ جَلِيلةٍ تُصِيبُ الكُفّارَ في مُستَقبَلِهِم، حتَّى إنَّها تُسَيِّـرُ الفِكْرَ بسُرعةٍ مُذهِلةٍ كالبَرقِ فَوقَ تلك الحَوادِثِ الرَّهِيبةِ، وتَجعَلُ ذلك الزَّمانَ الطَّوِيلَ جِدًّا كأنَّه صَحِيفةٌ حاضِرةٌ أَمامَ الإنسانِ. وتُحِيلُ الحَوادِثَ غَيرَ المَذكُورةِ إلى الخَيالِ، فتُبيِّنُها بسَلاسةٍ فائِقةٍ، ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ فيا أيُّها الشَّيطانُ، قُل ما بَدا لك!
[حزبُ الشيطان]
يقُولُ الشَّيطانُ: إنَّني لا أَستَطِيعُ أن أُقاوِمَ هذه الدَّلائِلَ والبَراهِينَ ولا أَتَمكَّنُ مِنَ الدِّفاعِ تِجاهَها، ولكِن هناك حَمْقَى كَثِيرُونَ يُنصِتُونَ إلَيَّ وكَثِيرُونَ مِن شَياطِينِ الإنسِ يَمُدُّونَني ويُعاوِنُونَني، ومُعظَمُ الفَلاسِفةِ المُتَفَرعِنِينَ المَغرُورِينَ يَتَلقَّوْن مِنِّي الدُّرُوسَ الَّتي تُلاطِفُ غُرُورَهُم وتَنفُخُ فيه.
ولهذا لا أَستَسلِمُ، ولا أُسلِّمُ لك السِّلاحَ!
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
❀ ❀ ❀