الكلمة الرابعة العاشرة: الر * كتاب أحكمت آياته ثم فصِّلت.
[هذه الكلمة تُبيِّن بعضَ الحقائق العالية الواردة في القرآن والحديث مما قد يَستشكلُها النظر القاصر، ومنها: “خلق السموات والأرض في ستة أيام”، ومعنى “كن فيكون”، ومعنى “ولا لاطب ولا يابس إلا في كتاب مبين”.. وأمثالها]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
الكلمة الرابعة عشرة
[بيانٌ لحقائق عُلْوية لقلوبٍ ينقصها التسليم]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾
سنُشِيرُ إلى نَظائرِ قِسمٍ مِنَ الحَقائقِ السّامِيةِ الرَّفيعةِ للقُرآنِ الحَكيمِ، ولِمُفَسِّرِه الحَقيقيِّ الحَديثِ الشَّريفِ، وذلك لتكُونَ بمَثابةِ دَرَجاتِ سُلَّمٍ للصُّعُودِ إلى تلك الحَقائقِ، لكي تُسعِفَ القُلُوبَ الَّتي يَنقُصُها التَّسليمُ والِانقيادُ.
وفي خاتِمةِ الكَلِمةِ سيُبيَّنُ دَرسٌ للعِبرةِ وسِرٌّ مِن أَسرارِ العِنايةِ الإلٰهِيّةِ.
ونكتَفي هنا بذِكرِ نَماذِجَ لخَمسِ مَسائلَ فحَسْبُ مِن تلك الحَقائقِ الجَليلةِ؛ حيثُ إنَّ النَّظائرَ الَّتي تَخُصُّ الحَشْرَ والقِيامةَ قد ذُكِرَت في “الكَلِمةِ العاشِرةِ“، ولا سِيَّما في “الحَقيقةِ التاسِعةِ” مِنها، ولا داعيَ للتَّكرارِ.
أُولاها: [خلق السموات والأرض في ستة أيام]
مثالٌ: قولُه تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾.
هذه الآيةُ الكَريمةُ تُشيرُ إلى أنَّ دُنيا الإنسانِ وعالَمَ الحَيَوانِ يَعيشانِ سِتّةَ أيّامٍ مِنَ الأَيّامِ القُرآنيةِ الَّتي هي زَمَنٌ مَدِيدٌ، ولَرُبَّما هو كأَلفِ سَنةٍ أو كخَمسِين أَلفَ سَنةٍ.. فلِأَجلِ الِاطمِئنانِ القَلبيِّ والِاقتِناعِ التّامِّ بهذه الحَقيقةِ السّامِيةِ نُبيِّنُ للأَنظارِ ما يَخلُقُه الفاطِرُ الجَليلُ مِن عَوالِمَ سَيَّالةٍ وكائناتٍ سَيَّارةٍ ودُنًى عابِرةٍ، في كلِّ يومٍ، في كلِّ سَنةٍ، في كلِّ عَصْرٍ، الَّذي هو بحُكْمِ يومٍ واحِدٍ.
حقًّا، كأنَّ الدُّنى ضُيُوفٌ عابِرةٌ أيضًا كالنّاسِ، فيَمتَلِئُ العالَمُ بأَمرِ الفاطِرِ الجَليلِ كلَّ مَوسِمٍ ويُخْلَى.
ثانيتُها: [ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين]
مثالٌ: قولُه تَعالَى: ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾، ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
وأَمثالُها مِنَ الآياتِ الكَريمةِ الَّتي تُفيدُ أنَّ الأَشياءَ جَميعَها وبأَحوالِها كلِّها، كُتِبَت وتُكتَبُ قبلَ وُجُودِها وبعدَ وُجُودِها، وبعدَ ذَهابِها مِنَ الوُجُودِ.
نُبيِّنُ أمامَ الأَنظارِ ما يَأتي لِيَصِلَ القَلبُ إلى الِاطمِئنانِ: أنَّ البارِئَ المُصَوِّرَ الجَليلَ سُبحانَه يُدْرِجُ فَهارِسَ وُجُودِ ما لا يُحَدُّ مِنَ المَخلُوقاتِ المُنَسَّقةِ وتَواريخِ حَياتِها ودَساتيرِ أَعمالِها، يُدرِجُها إدْراجًا مَعنَويًّا مُحافِظًا علَيها في بُذُورِ تلك المَخلُوقاتِ ونُواها وأُصُولِها الَّتي يُبَدِّلُها في كلِّ مَوْسِمٍ، على صَحيفةِ الأَرضِ كافّةً، ولا سِيَّما في الرَّبيعِ؛ كما أنَّه سُبحانَه يُدرِجُها بقَلَمِ القَدَرِ نَفسِه إدْراجًا مَعنَويًّا -بعدَ زَوالِ تلك المَخلُوقاتِ- في ثَمَراتِها وفي بُذَيراتِها الدَّقيقةِ، حتَّى إنَّه سُبحانَه يَكتُبُ كلَّ ما هو رَطْبٌ ويابِسٌ مِن مَخلُوقاتِ الرَّبيعِ السّابقِ في بُذُورِها المَحدُودةِ الصَّلبةِ كِتابةً في غايةِ الإتقانِ، ويُحافِظُ علَيها في مُنتَهَى الِانتِظامِ، حتَّى لَكَأنَّ الرَّبيعَ بمَثابةِ زَهرةٍ واحِدةٍ وهي في مُنتَهَى التَّناسُقِ والإبداعِ، تَضَعُها يدُ الجَميلِ الجَليلِ على هامةِ الأَرضِ ثمَّ تَقطِفُها مِنها.
ولَمّا كانَتِ الحَقيقةُ هي هذه؛ ألَيسَ مِنَ العَجَبِ أن يَضِلَّ الإنسانُ أَعْجَبَ ضَلالةٍ، وهي إطلاقُه اسمَ الطَّبيعةِ على هذه الكِتابةِ الفِطرِيّةِ، وهذه الصُّورةِ البَدِيعةِ، وهذه الحِكمةِ المُنفَعِلةِ المُسَطَّرةِ على وَجهِ الأَرضِ كافّةً والَّتي هي انعِكاسٌ لِتَجَلٍّ مِن تَجَلِّياتِ ما سُطِّـرَ في اللَّوحِ المَحفُوظِ الَّذي هو صَحِيفةُ قَلَمِ القَدَرِ الإلٰهِيِّ! أَليسَ مِنَ العَجَبِ أن يَعتَقِدَ الإنسانُ بالطَّبيعةِ وأنَّها مُؤثِّرةٌ ومَصدَرٌ فاعِلٌ؟
أين الحَقيقةُ الجَلِيّةُ مِمّا يَظُنُّه أَهلُ الغَفلةِ؟ أين الثَّرَى مِنَ الثُّرَيَّا؟ !
ثالثتُها: [عَظَمة الملائكة المسبِّحين]
إنَّ الُمخبِرَ الصّادِقَ (ﷺ) قد صَوَّر -مَثَلًا- المَلائكةَ المُوَكَّلِين بحَملِ العَرْشِ، وكذا حَمَلةَ الأَرضِ والسَّماواتِ، أو مَلائكةً آخَرين، بأنَّ لِلمَلَك أَربَعين أَلفَ رَأسٍ، في كلِّ رَأسٍ أَربَعُون أَلفَ لِسانٍ، كلُّ لِسانٍ يُسَبِّحُ بأَربَعين أَلفَ نَوعٍ مِن أَنواعِ التَّسبِيحاتِ.
هذه الحَقيقةُ الرَّفيعةُ في أَمثالِ هذه الأَحادِيثِ الشَّريفةِ تُعَبِّـرُ عنِ انتِظامِ العِبادةِ وكُلِّـيَّتِها وشُمُولِها لَدَى المَلائكةِ، فلِأَجلِ الصُّعُودِ إلى هذه الحَقيقةِ السّامِيةِ نُبيِّنُ أمامَ الشُّهُودِ الآياتِ الكَريمةَ التّالِيةَ، ونَدعُو إلى التَّدَبُّرِ فيها، وهي:
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾، ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾، ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ﴾، وأَمثالُها مِنَ الآياتِ الجَليلةِ الَّتي تُصَرِّحُ أنَّ لِأَضخَمِ المَوجُوداتِ وأَكثَرِها سَعةً وشُمُولًا تَسبِيحًا خاصًّا مُنسَجِمًا مع عَظَمَتِه وكُلِّـيَّتِه؛ والأَمرُ واضِحٌ ومُشاهَدٌ، إذِ السَّماواتُ الشّاسِعةُ مُسَبِّحةٌ للهِ، وكَلِماتُها التَّسبِيحيّةُ هي الشُّمُوسُ والأَقمارُ والنُّجُومُ، كما أنَّ الأَرضَ الطّائرةَ في جَوِّ السَّماءِ مُسَبِّحةٌ حامِدةٌ للهِ، وأَلفاظُها التَّحمِيدِيّةُ هي الحَيَواناتُ والنَّباتاتُ والأَشجارُ.
بمَعنَى أنَّ لِكُلِّ شَجَرةٍ ولِكُلِّ نَجْمٍ تَسبِيحاتُه الجُزئيّةُ الخاصّةُ به، مِثلَما أنَّ للأَرضِ بِرُمَّتِها تَسبِيحاتِها الخاصّةَ بها؛ فهي تَسبِيحاتٌ كُلِّـيّةٌ تَضُمُّ تَسبِيحاتِ كلِّ جُزءٍ وقِطعةٍ مِنها بل كلِّ وادٍ وجَبَلٍ وكُلِّ بَحْرٍ وبَـرٍّ فيها. فكما أنَّ للأَرضِ تَسبِيحاتِها بأَجزائِها وكُلِّـيَّتِها كذلك للسَّماواتِ والأَبراجِ والأَفلاكِ تَسبِيحاتُها الكُلِّـيّةُ.
فهذه الأَرضُ الَّتي لها أُلُوفُ الرُّؤُوسِ، ومِئاتُ الأُلُوفِ مِنَ الأَلسِنةِ لكُلِّ رَأسٍ، لا شَكَّ أنَّ لها مَلَكًا مُوَكَّلًا بها يُناسِبُها، يُتَرجِمُ أَزاهِيرَ تَسبِيحاتِ كُلِّ لِسانٍ وثَمَراتِ تَحمِيداتِه الَّتي تَربُو على مِئةِ أَلفِ نَمَطٍ مِن أَنماطِ التَّسبِيحِ والتَّحمِيدِ، يُتَرجِمُها ويُبَيِّـنُها في عالَمِ المِثالِ، ويُمَثِّلُها ويُعلِنُ عنها في عالَمِ الأَرواحِ.. إذ لَو دَخَلَت أَشياءُ مُتَعدِّدةٌ في صُورةِ جَماعةٍ أو مَجمُوعةٍ، لَتَشَكَّلَتْ لها شَخصِيّةٌ مَعنَوِيّةٌ، وإذا امتَزَجَت تلك المَجمُوعةُ واتَّحَدَت، تكُونُ لها شَخصِيّةٌ مَعنَوِيّةٌ تُمثِّلُها، ونَوعٌ مِن رُوحِها المَعنَويّةِ، ومَلَكٌ مُوَكَّلٌ يُؤَدِّي وَظِيفَتَها التَّسبِيحِيّةَ.
فانظُر مثلًا إلى هذه الشَّجَرةِ المُنتَصِبةِ أمامَ غُرفَتِنا، وهي شَجَرةُ الدُّلْبِ ذاتُ الأَغصانِ الثّلاثةِ؛ فهي تُمَثِّـلُ كَلِمةً عَظِيمةً يَنطِقُ بها لِسانُ هذا الجَبَلِ المَوجُودِ في فَمِ “بارلا”، ألا تَرَى كم مِن مِئاتِ أَلسِنةِ الأَغصانِ لكلِّ رَأْسٍ مِن رُؤُوسِ الشَّجَرةِ الثّلاثةِ، وكم مِن مِئاتِ ثَمَراتِ الكَلِماتِ المَوزُونةِ المُنتَظِمةِ في كلِّ لِسانٍ؟ وكم مِن مِئاتِ حُرُوفِ البُذَيراتِ المُجَنَّحةِ في كلِّ ثَمَرةٍ مِنَ الثَّمَراتِ؟ ألا يُسَبِّحُ كلٌّ مِن تلك الرُّؤُوسِ والأَلسِنةِ لِمالِكِ المُلْكِ الَّذي له أَمرُ ﴿كُنْ فَيَكُونُ؟﴾ ألَا يُسَبِّحُ بكَلامٍ فَصِيحٍ، وبثَناءٍ بَلِيغٍ واضِحٍ، حتَّى إنَّك تُشاهِدُ تَسبِيحاتِها وتَسمَعُها؟!
فالمَلَكُ المُوَكَّلُ بها أيضًا يُمَثِّـلُ تلك التَّسبِيحاتِ في عالَمِ المَعنَى بأَلسِنةٍ مُتَعدِّدة، بلِ الحِكمةُ تَقتَضي أن يكُونَ الأَمرُ هكذا!
رابعَتُها: [كن فيكون.. ونحن أقرب إليه من حبل الوريد]
مثلًا: قولُه تَعالَى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾، ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾، ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾، وأَمثالُ هذه الآياتِ الكَريمةِ الَّتي تُعَبِّـرُ عنِ الحَقيقةِ السّامِيةِ الآتِيةِ، وهي: أنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى، القَدِيرَ على كلِّ شيءٍ، يَخلُقُ الأَشياءَ بسُهُولةٍ مُطلَقةٍ في سُرعةٍ مُطلَقةٍ دُونَ أَيّةِ مُعالَجةٍ أو مُباشَرةٍ، حتَّى تَبدُوَ الأَشياءُ كأنَّها تُوجَدُ بمُجَرَّدِ الأَمرِ.
ثمَّ إنَّ ذلك الصَّانِعَ الجَليلَ قَريبٌ جِدًّا إلى المَصنُوعاتِ، بَينَما المَصنُوعاتُ بَعيدةٌ عنه غايةَ البُعدِ؛ ثمَّ إنَّه سُبحانَه معَ كِبرِيائِه المُطلَقِ، لا يَدَعُ أَحقَرَ الأَشياءِ وأَكثَرَها جُزئيّةً وخِسَّةً خارِجَ إتقانِه!
هذه الحَقيقةُ القُرآنيةُ يَشهَدُ لها جَرَيانُ الِانتِظامِ الأَكمَلِ في المَوجُوداتِ وبسُهُولةٍ مُطلَقةٍ، كما أنَّ التَّمثِيلَ الآتِيَ بَيَّنَ سِرَّ حِكمَتِها:
فمثلًا -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- : إنَّ الوَظائفَ الَّتي قَلَّدَها الأَمرُ الرَّبّانِيُّ والتَّسخِيرُ الإلٰهِيُّ للشَّمسِ الَّتي تُمَثِّـلُ مِرآةً كَثيفةً لِاسمِ النُّورِ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى، تُقَـرِّبُ هذه الحَقيقةَ إلى الفَهْمِ؛ وذلك أنَّه معَ عُلُوِّ الشَّمسِ ورِفْعَتِها، قَرِيبةٌ جِدًّا مِنَ المَوادِّ الشَّفّافةِ واللّامِعةِ، بل إنَّها أَقرَبُ إلى ذَواتِ تلك الأَشياءِ مِن أَنفُسِها. وعلى الرَّغمِ مِن أنَّ الشَّمسَ تَجعَلُ الأَشياءَ تَتأثَّرُ بها بجَلَواتِها وبضَوئِها وبجِهاتٍ أُخرَى شَبِيهةٍ بالتَّصَرُّفِ فيها، إلّا أنَّ تلك المَوادَّ الشَّفّافةَ بَعِيدةٌ عنها بأُلُوفِ السِّنينَ، فلا تَستَطيعُ أن تُؤَثِّرَ فيها قَطعًا، بل لا يُمكِنُها ادِّعاءُ القُرْبِ مِنها.
وكذا يُفهَمُ مِن رُؤيةِ انعِكاسِ ضَوْءِ الشَّمسِ وما يُشبِهُ صُورَتَها مِن كلِّ ذَرّةٍ شَفّافةٍ حَسَبَ قابِلِيَّتِها ولَونِها: أنَّ الشَّمسَ كأنَّها حاضِرةٌ في كلِّ ذَرّةٍ مِنها، وناظِرةٌ أينَما بَلَغَتْ أَشِعَّتُها؛ وكذا فإنَّ نُفُوذَ أَشِعّةِ الشَّمسِ وشُمُولَها وإحاطَتَها تَزدادُ بعِظَمِ نُورانِيَّتِها؛ فعَظَمةُ النُّورانيّةِ هي الَّتي تَضُمُّ كلَّ شيءٍ داخِلَ إحاطَتِها الشّامِلةِ حتَّى لا يَستَطيعُ شيءٌ مهما صَغُرَ أن يَختَبِئَ عنها أو يَهرُبَ مِنها؛ أي: إنَّ عَظَمةَ كِبْرِيائِها لا تَرمِي إلى الخارِج حتَّى الأَشياءَ الصَّغيرةَ الجُزئيّةَ، بلِ العكسُ هو الصَّحيحُ، أي: أنَّها تَضُمُّ جَميعَها بسِرِّ النُّورانيّةِ ضِمنَ دائرةِ إحاطَتِها.
فلو فَرَضْنا الشَّمسَ -فَرْضًا مُحالًا- أنَّها فاعِلةٌ مُختارةٌ فيما نالَت مِن وَظائفَ وجَلَواتٍ، فإنَّنا نَستَطيعُ أن نَتَصوَّرَ أنَّ أَفعالَها تَسرِي بإذنٍ إلٰهِيٍّ في مُنتَهَى السُّهُولةِ ومُنتَهَى السُّرعةِ ومُنتَهَى السَّعةِ والشُّمُولِ، ابتِداءً مِنَ الذَّرّاتِ إلى القَطَراتِ، وإلى وَجْهِ البَحرِ وإلى الكَواكِبِ السَّيّارةِ، فتكُونُ الذَّرّةُ والكَوكَبُ السَيّارُ سِيَّانِ تِجاهَ أَمرِها، إذِ الفَيضُ الَّذي تَبُثُّه إلى سَطحِ البَحرِ تُعطِيه بانتِظامٍ كامِلٍ أيضًا للذَّرّةِ الواحِدةِ حَسَبَ قابلِيَّتِها.
فهذه الشَّمسُ الَّتي هي فُقاعةٌ صَغيرةٌ جِدًّا مُضِيئةٌ لَمَّاعةٌ على سَطحِ بَحرِ السَّماءِ، وهي مِرآةٌ صَغيرةٌ كَثيفةٌ تَعكِسُ تَجَلِّيَ اسمِ النُّورِ للقَديرِ على كلِّ شيءٍ.. هذه الشَّمسُ تُبيِّنُ نَماذِجَ الأُسُسِ الثَّلاثةِ لهذه الحَقيقةِ القُرآنيّةِ، إذ لا شَكَّ أنَّ ضَوءَ الشَّمسِ وحَرارَتَها كَثيفةٌ كَثافةَ التُّرابِ بالنِّسبةِ لِعِلمِ وقُدرةِ مَن هو نُورُ النُّورِ ومُنَوِّرُ النُّورِ ومُقَدِّرُ النُّورِ.
فذلك الجَميلُ الجَليلُ إذًا قَريبٌ إلى كلِّ شيءٍ قُرْبًا مُطلَقًا بعِلمِه وقُدرَتِه، وهو حاضِرٌ عِندَه وناظِرٌ إلَيه، بَينَما الأَشياءُ بَعِيدةٌ عنه بُعْدًا مُطلَقًا؛ وإنَّه يَتَصرَّفُ في الأَشياءِ بلا تَكَلُّفٍ ولا مُعالَجةٍ، وفي سُهُولةٍ مُطلَقةٍ بحَيثُ يُفهَمُ أنَّه يَأْمُرُ -مُجرَّدَ الأَمرِ- والأشياءُ تُوجَدُ بيُسْرٍ وسُرعةٍ مُطلَقَينِ، وأنَّه ليس هناك شيءٌ مَهما كان جُزئيًّا أو كُلِّـيًّا، صَغيرًا أو كَبيرًا، خارِجَ دائرةِ قُدرَتِه، وبَعِيدًا عن إحاطةِ كِبْرِيائه جَلَّ جَلالُه. هكذا نَفهَمُ، وهكذا نُؤمِنُ إيمانًا يَقينِيًّا وبدَرَجةِ الشُّهُودِ، بل يَنبَغي أن نُؤمِنَ هكذا.
خامِسَتُها: [التوفيق بين التهديدات والزواجر الإلهية الشديدة وبين ضآلة الإنسان وعجزه]
إنَّ أَمثالَ الآياتِ الكَريمةِ التّاليةِ تُبيِّنُ عَظَمَتَه سُبحانَه وتَعالَى وكِبْرِياءَه المُطلَقَينِ: فابتِداءً مِن قَولِه تَعالَى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ إلى قَولِه تَعالَى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾، ومِن قَولِه تَعالَى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ إلى قَولِه تَعالَى: ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾، ومِن قَولِه تَعالَى ﴿خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إلى قَولِه تَعالَى: ﴿خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾، ومِن قَولِه تَعالَى: ﴿مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ إلى قَولِه تَعالَى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ..﴾.
هذه الآياتُ الجَليلةُ تُبيِّنُ إحاطةَ حُدُودِ عَظَمةِ رُبُوبيَّتِه سُبحانَه وكِبْرِياءَ أُلُوهِيَّتِه بكُلِّ شيءٍ.. هذا السُّلطانُ الجَليلُ، سُلطانُ الأَزَلِ والأَبَدِ يُهَدِّدُ بشِدّةٍ ويُعَنِّفُ ويَزجُرُ ويَتَوعَّدُ هذا الإنسانَ الَّذي هو في مُنتَهَى العَجْزِ ومُنتَهَى الضَّعفِ ومُنتَهَى الفَقْرِ، والَّذي لا يَملِكُ إلّا جُزءًا ضَئِيلًا مِن إرادةٍ اختِياريّةٍ وكَسْبًا فقط، فلا قُدرةَ له على الإيجادِ قَطعًا.
والسُّؤالُ الوارِدُ هو: ما أَساسُ الحِكمةِ الَّتي تُبنَى علَيها تلك الزَّواجِرُ والتَّهديداتُ المُرعِبةُ والشَّكاوَى القُرآنيّةُ الصّادِرةُ مِن عَظَمَتِه الجَليلةِ تِجاهَ هذا الإنسانِ الضَّعيفِ، وكيفَ يَتِمُّ الِانسِجامُ والتَّوفيقُ بَينَهما؟
أَقُولُ: لِأَجلِ بُلُوغِ الِاطمِئنانِ القَلبِيِّ، انظُرْ إلى هذه الحَقيقةِ العَميقةِ جِدًّا والرَّفيعةِ جِدًّا في الوَقتِ نَفسِه مِن زاوِيةِ المِثالَينِ الآتِيَينِ:
[مثالان على أن جناية الإنسان كليةٌ لا فردية]
المِثالُ الأَوَّلُ: [قيِّم البستان الملَكي]
بُستانٌ عَظيمٌ جِدًّا يَحوِي ما لا يُعَدُّ ولا يُحصَى مِنَ الأَثمارِ اليانِعةِ والأَزاهيرِ الجَميلةِ، عُيِّنَ عَدَدٌ كَبيرٌ مِنَ العامِلين والمُوَظَّفين للقِيامِ بخِدْماتِ تلك الحَديقةِ الزّاهِرةِ؛ إلّا أنَّ المُكَلَّفَ بفَتحِ المَنفَذِ الَّذي يَجرِي مِنه الماءُ للشُّربِ وسَقْيِ البُستانِ، تَكاسَلَ عن أَداءِ مُهِمَّتِه ولم يَفتَحِ المَنفَذَ، فلم يَجْرِ الماءُ، بمَعنَى أنَّه أَخَلَّ بكُلِّ ما في البُستانِ أو تَسَبَّبَ في جَفافِه! وعندَها فإنَّ لِجَميعِ العامِلين في البُستانِ، ولِنَظارةِ الشُّهُودِ المَلَكيِّ لِلسُّلطانِ حَقَّ الشَّكوَى مِن ذلك العامِلِ المُتَقاعِسِ عنِ العَمَلِ، فَضلًا عن شَكاوَى الصَّنْعةِ الرَّبّانيّةِ للخالِقِ الكَريمِ، بل حتَّى للتُّرابِ والهَواءِ والضِّياءِ حَقُّ الشَّكوَى مِن ذلك العامِلِ الكَسلانِ، لِما سَبَّبَ مِن بَوارِ مُهِمّاتِهم وعُقْمِ خِدْماتِهم أو إِخلالٍ بها على الأَقَلِّ!
المِثالُ الثّاني: [راكبُ السفينة السلطانية]
سَفِينةٌ عَظِيمةٌ للسُّلطانِ، إن تَرَك فيها عامِلٌ بَسِيطٌ وَظِيفَتَه الجُزئيّةَ، فسيُؤَدِّي تَرْكُه هذا إلى إخلالِ نَتائجِ أَعمالِ جَميعِ العامِلِين في السَّفِينةِ وإهدارِها؛ لِأَجلِ ذلك فإنَّ صاحِبَ السَّفينةِ، -وهو السُّلطانُ العَظيمُ- سيُهَدِّدُ ذلك المُقَصِّرَ تَهديدًا شَديدًا باسمِ جَميعِ العامِلِين في السَّفينةِ، في حينِ لا يَقدِرُ ذلك المُقَصِّرُ على القَولِ: مَن أنا حتَّى أَستَحِقَّ كلَّ هذا التَّهديدِ المُرَوِّعِ؟! وما عَمَلي إلّا إهمالٌ تافِهٌ جُزئيٌّ! ذلك لأنَّ عَدَمًا واحِدًا يُؤَدِّي إلى ما لا يَتَناهَى مِن أَنواعِ العَدَمِ، بَينَما الوُجُودُ يُثمِرُ ثَمَراتٍ حَسَبَ نَوعِه، لأنَّ وُجُودَ الشَّيءِ يَتَوقَّفُ على وُجُودِ جَميعِ الأَسبابِ والشُّرُوطِ، بَينَما انعِدامُ ذلك الشَّيءِ وانتِفاؤُه مِن حيثُ النَّتيجةُ إنَّما هو بانتِفاءِ شَرطٍ واحِدٍ فقط وبانعِدامِ جُزءٍ مِنه.
ومِن هنا غَدَا “التَّخريبُ أَسهَلُ مِنَ التَّعميرِ” دُستُورًا مُتَعارَفًا لَدَى النّاسِ، ولَمَّا كانَت أُسُسُ الكُفرِ والضَّلالِ والطُّغيانِ والمَعصِيةِ، إنكارًا ورَفضًا وتَركًا للعَمَلِ وعَدَمَ قَبُولٍ، فصُورَتُها الظّاهِريّةُ مَهْمَا بَدَتْ إيجابِيّةً وذاتَ وُجُودٍ، إلّا أنَّها في حَقِيقَتِها انتِفاءٌ وعَدَمٌ، لذا فهي جِنايةٌ سارِيةٌ.
فهذه الأُمُورُ مِثلَما تُخِلُّ بنَتائجِ أَعمالِ المَوجُوداتِ كافّةً، فإنَّها تُسدِلُ سِتارًا أمامَ التَّجَلِّياتِ الجَمالِيّةِ للأَسماءِ الحُسنَى وتَحجُبُها عنِ الأَنظارِ.
وهكَذا، فالمَوجُوداتُ لها حَقُّ الشَّكوَى بلا حُدُودٍ، وأنَّ سُلطانَها الجَليلَ يُهَدِّدُ باسمِها هذا الإنسانَ العاصِيَ ويَزجُرُه أَشَدَّ الزَّجْرِ؛ وهذا هو عَينُ الحِكمةِ، لأنَّ ذلك العاصِيَ يَستَحِقُّ بلا رَيبٍ ذلك التَّهديدَ الرَّهيبَ كما يَستَحِقُّ أنواعًا مِنَ الوَعيدِ المُرْعِبِ.
❀ ❀ ❀
خاتمة
[درسُ عبرةٍ وصفعةٌ على الرأس الغافل]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾
(درسٌ للعِبرة وصَفعةٌ قويّةٌ على رأسِ الغَفلةِ)
يا نَفسِي.. أيَّتُها السّادِرةُ في الغَفلةِ.. يا مَن تَرَينَ هذه الحَياةَ حُلْوةً لَذِيذةً فتَطلُبِين الدُّنيا وتَنسَيْنَ الآخِرةَ.. هل تَدرِينَ ماذا تُشْبِهِينَ؟ إنَّكِ لَتُشبِهينَ النَّعامةَ.. تلك الَّتي تَرَى الصَّيّادَ فلا تَستَطِيعُ الطَّيَرانَ، بل تُقحِمُ رَأْسَها في الرِّمالِ تارِكةً جِسمَها الضَّخمَ في الخارِجِ ظَنًّا مِنها أنَّ الصَّيّادَ لا يَراها، إلّا أنَّ الصَّيّادَ يَرَى، ولكِنَّها هي وَحدَها الَّتي أَطْبَقَتْ جَفْنَيها تحتَ الرِّمالِ فلم تَعُدْ تَرَى!
فيا نَفسِي.. انظُرِي إلى هذا المِثالِ وتَأَمَّلي فيه، كيفَ أنَّ حَصْرَ النَّظَرِ كُلِّه في الدُّنيا يُحَوِّلُ اللَّذّةَ الحُلوةَ إلى أَلَمٍ مَريرٍ!
هَبْ أنَّه في هذه القَريةِ “بارلا” رَجُلانِ اثنانِ: أَحَدُهما قد رَحَلَ تِسعةٌ وتِسعُون بالمِئةِ مِن أَحِبَّتِه إلى إسطَنبُولَ وهم يَعِيشُون هناك عِيشةً طَيِّبةً جَميلةً، ولم يَبْقَ مِنهم هُنا سِوَى شَخصٍ واحِدٍ فقط، وهو أيضًا في طَرِيقِه إلى الِالتِحاقِ بهم، لذا فإنَّ هذا الرَّجُلَ مُشتاقٌ إلى إسطَنبُولَ أَشَدَّ الِاشتِياقِ بل يُفَكِّرُ بها، ويَرغَبُ في أن يَلتَقِيَ الأَحبابَ دائمًا.. فلو قِيلَ له في أيِّ وَقتٍ مِنَ الأَوقاتِ: “هَيَّا اذْهَبْ إلى هُناك”، فإنَّه سيَذهَبُ فَرِحًا باسِمًا..
أمَّا الرَّجُلُ الثّاني فقد رَحَلَ مِن أَحِبَّتِه تِسعةٌ وتِسعُون بالمِئةِ، ويَظُنُّ أنَّ بَعضَهم فَنِيَ، ومِنهم مَنِ انزَوَى في أَماكِنَ لا تُرَى، فهَلَكُوا وتَفَرَّقُوا حَسَبَ ظَنِّه؛ فهذا الرَّجُلُ المِسكِينُ ذُو داءٍ عُضالٍ يَبحَثُ عن أَنيسٍ وعن سُلْوانٍ حتَّى عندَ سائِحٍ واحِدٍ، بَدَلًا مِن أُولئك جَميعًا، ويُريدُ أن يُغَطِّيَ به على أَلَمِ الفِراقِ الشَّديدِ.
فيا نَفسِي.. إنَّ أَحِبَّتَكِ كُلَّهم، وعلى رَأْسِهم وفي مُقَدِّمَتِهم حَبِيبُ اللهِ (ﷺ)، هُمُ الآنَ في الطَّرَفِ الآخَرِ مِنَ القَبْرِ، فلم يَبْقَ هنا إلّا واحِدٌ أوِ اثنانِ، وهم أيضًا مُتَأَهِّبُون للرَّحِيلِ؛ فلا تُدِيرِنَّ رَأسَكِ جَفِلةً مِنَ المَوتِ، خائِفةً مِنَ القَبْرِ، بل حَدِّقي في القَبْرِ وانظُرِي إلى حُفرَتِه بشَهامةٍ واستَمِعي إلى ما يَطلُبُ، وابتَسِمِي بوَجهِ المَوتِ برُجُولةٍ، وانظُرِي ماذا يُريدُ؟ وإيّاكِ أن تَغفُلي فتَكُوني أَشْبَهَ بالرَّجُلِ الثّاني!
يا نَفسِي.. لا تَقُولي أَبَدًا بأَنَّ الزَّمانَ قد تَغَيَّر، وأنَّ العَصرَ قد تَبَدَّلَ، وأنَّ النّاسَ قدِ انغَمَسُوا في الدُّنيا وافتُتِنُوا بحَياتِها، فهم سُكارَى بهُمُومِ العَيشِ.. ذلك لأنَّ المَوتَ لا يَتغَيَّـرُ، وأنَّ الفِراقَ لا يَنقَلِبُ إلى بقاءٍ فلا يَتَغيَّـرُ أيضًا، وأنَّ العَجْزَ الإنسانِيَّ والفَقْرَ البَشَريَّ هما أيضًا لا يَتَغيَّرانِ بل يَزدادانِ، وأنَّ رِحلةَ البَشَريّةِ لا تَنقَطِعُ، بل تَحُثُّ السَّيرَ وتَمضِي.
ثمَّ لا تَقُولي كذلك: “أنا مِثلُ كلِّ النّاسِ”، ذلك لأنَّه ما مِن أَحَدٍ مِنَ النّاسِ يُصاحِبُكِ إلّا إلى عَتَبةِ بابِ القَبْرِ.. لا غَيرُ، ولو ذَهَبْتِ تَنشُدِينَ السُّلوانَ فيما يُقالُ عن مُشارَكةِ الآخَرين معَكِ في المُصيبةِ ومَعِيَّتِهم لك، فإنَّ هذا أَيضًا لا حَقيقةَ له ولا أَساسَ مُطلَقًا في الطَّرَفِ الآخَرِ مِنَ القَبْرِ!
ولا تَظُنِّي نَفسَكِ سارِحةً مُفلَتةَ الزِّمامِ، ذلك لأنَّكِ إذا ما نَظَرْتِ إلى دارِ ضِيافةِ الدّنيا هذهِ نَظَرَ الحِكمةِ والرَّوِيّةِ.. فلن تَجِدِي شَيئًا بلا نِظامٍ ولا غايةٍ، فكيفَ تَبقَيْنَ إذًا وَحْدَك بلا نِظامٍ ولا غايةٍ؟! فحتَّى الحَوادِثُ الكَونيّةُ والوَقائعُ مِن أَمثالِ الزَّلازِلِ لَيسَت أُلعُوبةً بِيَدِ الصُّدفةِ.
فمثلًا: في الوَقتِ الَّذي تُشاهِدِين فيه أنَّ الأَرضَ قد أُلبِسَت حُلَلًا مُزَركَشةً بَعضُها فوقَ بعضٍ مُكتَنِفًا بعضُها البَعضَ الآخَرَ مِن أَنواعِ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ في مُنتَهَى النِّظامِ وفي غايةِ النَّقْشِ والجَمالِ، وتَرَيْنَها مُجَهَّزةً كلَّها مِن قِمّةِ الرَّأْسِ إلى أَخمَصِ القَدَمِ بالحِكَمِ، ومُزَيَّنةً بالغاياتِ؛ وفي الوَقتِ الَّذي تَدُورُ بما يُشبِهُ جَذبةَ حُبٍّ وشَوقٍ مَولَوِيّةٍ بكَمالِ الدِّقّةِ والنِّظامِ ضِمنَ غاياتٍ سامِيةٍ.. ففي الوَقتِ الَّذي تَشهَدِين هذا، وتَعلَمِين ذلك، فكيف يَسُوغُ إذًا أن تكُونَ الزَّلْزَلةُ الشَّبِيهةُ بهَـزِّ عِطْفِ كُرةِ الأَرضِ1كُتِبَ البَحثُ بمُناسَبةِ الزِّلزالِ الذي حَدَث في إزْمِير. مُظهِرةً بها عَدَمَ رِضاها عن ثُقْلِ الضِّيقِ المَعنَوِيِّ النّاشِئِ مِن أَعمالِ البَشَرِ، ولا سِيَّما أَهلِ الإيمانِ مِنهم، كيف يُمكِنُ أن تكُونَ تلك الحادِثةُ الحَيَويّةُ المَلِيئةُ بالمَوتِ، بلا قَصدٍ ولا غايةٍ؟ كما نَشَرَه مُلحِدٌ ظَـنًّا مِنه أنَّها مُجَرَّدُ مُصادَفةٍ، مُرتَكِبًا بذلك خَطَأً فاحِشًا، ومُقتَرِفًا ظُلمًا قَبِيحًا؟ إذ صَيَّرَ جَميعَ ما فَقَدَه المُصابُون مِن أَموالٍ وأَرواحٍ هَباءً مَنثُورًا، قاذِفًا بهم في يَأْسٍ أَليمٍ.. والحالُ أنَّ مِثلَ هذه الحَوادِثِ تَدَّخِرُ دائمًا أَموالَ أَهلِ الإيمانِ، مُحَوِّلةً إيّاها بأَمرِ الحَكيمِ الرَّحيمِ إلى صَدَقةٍ لهم، وهي كَفَّارةٌ لِذُنُوبٍ ناشِئةٍ مِن كُفرانِ النِّعَمِ.
فلَسَوف يأتي ذلك اليَومُ الَّذي تَجِدُ فيه الأَرضُ المُسَخَّرةُ وَجْهَها المُزَيَّنَ بآثارِ البَشَرِيّةِ، دَمِيمًا قَبِيحًا بما لُطِّخَ مِن شِرْكِ أَعمالِ البَشَرِ وما لُوِّثَ مِن كُفرانِهم، فتَمسَحُ عِندَئذٍ وَجْهَها بزَلْزَلةٍ عَظِيمةٍ بأَمرِ الخالِقِ، وتُطَهِّـرُه مُفْرِغةً أَهلَ الشِّركِ بأَمرِ اللهِ في جَهَنَّمَ، وداعِيةً أَهلَ الشُّكرِ: “هَيّا تَفَضَّلوا إلى الجَنّةِ.”
❀ ❀ ❀
ذيل الكلمة الرّابعةَ عَشْرةَ
[مبحث الزلزلة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا *
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ إلى آخِرِ السُّورة.
هذه السُّورةُ الجَليلةُ تُبيِّنُ بَيانًا قاطِعًا أنَّ الأَرضَ في حَرَكاتِها وزِلْزالِها، وحتَّى في اهتِزازاتِها أحيانًا، إنَّما هي تحتَ أَمرِ اللهِ ووَحْيِه.
لقد وَرَدَتْ إلى القَلبِ أَجوِبةٌ -بمُعاوَنةِ تَنبِيهٍ مَعنَوِيٍّ- عن بِضعةِ أَسئِلةٍ تَدُورُ حَولَ الزِّلزالِ الَّذي حَدَثَ حالِيًّا، ورَغمَ أنِّي عَزَمتُ على كِتابةِ تلك الأَجوِبةِ كِتابةً مُفَصَّلةً عِدّةَ مَرّاتٍ، فلم يُؤذَنْ لي، لذا ستُكتَبُ مُختَصَرةً ومُجمَلةً.
السُّؤالُ الأوَّلُ: [ما سبب هذا العذاب؟]
لقد أَذاقَت هذه الزَّلزَلةُ العَظِيمةُ النّاسَ مُصِيبةً مَعنَوِيّةً أَدهَى مِن مُصِيبَتِها المادِّيّةِ الفَجِيعةِ، تلك هي الخَوفُ والهَلَعُ واليَأْسُ والقُنُوطُ الَّتي استَوْلَت على النُّفُوسِ، حيثُ إنَّها استَمَرَّت ودامَت حتَّى سَلَبَتْ راحةَ أَغلَبِ النّاسِ لَيلًا، وعَمَّ القَلَقُ والِاضطِرابُ أَغلَبَ مَناطِقِ البِلادِ.. تُرَى ما مَنشَأُ هذا العَذابِ الأَليمِ وما سَبَبُه؟
بمُعاوَنةِ تَنبِيهٍ مَعنَوِيٍّ كذلك، كان الجَوابُ هو الآتِيَ: إنَّ ما يُقتَرَفُ في أَرجاءِ هذه البِلادِ الَّتي كانَت مَركَزًا طَيِّـبًا للإِسلامِ، مِن مُجُونٍ وعَرْبَدةٍ جِهارًا نَهارًا، وفي شَهرٍ مُبارَكٍ جَليلٍ كشَهرِ رَمَضانَ، وفي أَثناءِ إقامةِ صَلَواتِ التَّراويحِ، وإِسماعَ النّاسِ أَغانِيَ مُثِيرةً وأَحيانًا بأَصواتِ نِساءٍ، عَبْرَ المِذْياعِ وغيرِه.. قد وَلَّدَ إذاقةَ عَذابِ الخَوفِ والهَلَعِ هذا.
السُّؤالُ الثّاني: [لماذا يَنزل هذا العذاب بالمسلمين دون الكافرين؟]
لِماذا لا يَنزِلُ هذا العَذابُ الرَّبّانِيُّ والتَّأدِيبُ الإلٰهِيُّ ببِلادِ الكُفرِ والإلحادِ، ويَنزِلُ بِهؤلاءِ المَساكِينِ المُسلِمين الضُّعَفاءِ؟
الجَوابُ: مِثلَما تُحالُ الجَرائمُ الكَبِيرةُ إلى مَحاكِمِ جَزاءٍ كُبْرَى، وتُعهَدُ إلَيها عُقُوبَتُها بالتَّأخِيرِ، بَينَما تُحْسَمُ الجِناياتُ الصَّغيرةُ والجُنَحُ في مَراكِزِ الأَقضِيةِ والنَّواحي؛ كذلك فإنَّ القِسمَ الأَعظَمَ مِن عُقُوباتِ أَهلِ الكُفرِ وجَرائمِ كُفرِهم وإلحادِهم يُؤَجَّلُ إلى المَحكَمةِ الكُبْرَى في الحَشرِ الأَعظَمِ، بَينَما يُعاقَبُ أَهلُ الإيمانِ على قِسمٍ مِن خَطِيئاتِهم في هذه الدُّنيا، وذلك بمُقتَضَى حِكمةٍ رَبّانيّةٍ مُهِمّةٍ2وكَذا فَإنَّ تركَ الرُّوسِ وأمثالِهم دِينًا مُحرَّفًا ومنسُوخًا واستهانَتَهم به لا يَمَسُّ غَيرةَ الله، مِثلَما تَمَسُّها الِاستِهانةُ بدِينٍ حقٍّ خَالدٍ وغيرِ قابلٍ للنَّسخِ.. لذا تُمهِلُ الأرضُ أُولئك وتَغضَبُ عَلى هَؤلاء..
السُّؤالُ الثالثُ: [لماذا عَمَّت المصيبةُ مع أن العصاة قِلَّة]
لِماذا تَعُمُّ هذه المُصِيبةُ البِلادَ كلَّها، عِلمًا أنَّها مُصِيبةٌ ناجِمةٌ مِن أَخطاءٍ يَرتَكِبُها بعضُ النّاسِ؟
الجوابُ: إنَّ أَغلَبَ النّاسِ يكُونُون مُشتَرِكين معَ أُولَئك القِلّةِ الظَّلَمةِ، إمّا مُشارَكةً فِعلِيّةً، أوِ التِحاقًا بصُفُوفِهم، أوِ الْتِزامًا بأَوامِرِهم، أي: يكُونُون معَهم مَعنًى، مِمّا يُكسِبُ المُصِيبةَ صِفةَ العُمُوميّةِ، إذ تَعُمُّ المُصِيبةُ بمَعاصِي الأَكثَرِيّةِ.
السُّؤال الرّابع: [لماذا يصطلي الأبرياء بنار المصيبة]
ما دامَت هذه الزَّلزَلةُ قد نَشَأَت مِنِ اقْتِرافِ الخَطايا والمَفاسِدِ، ووَقَعَت كَفّارةً للذُّنوبِ، فلِماذا تُصِيبُ الأَبرِياءَ إذًا، ويَحتَرِقُون بِلَظاها وهم لم يَقْرَبُوا الخَطايا والذُّنُوبَ، وكيف تَسمَحُ العَدالةُ الرَّبّانيّةُ بهذا؟
وكذلك بمُعاوَنةِ تَنبِيهٍ مَعنَوِيٍّ كان الجوابُ هو الآتِيَ: إنَّ هذه المَسأَلةَ مُتَعلِّقةٌ بسِرِّ القَدَرِ الإلٰهِيِّ، لذا نُحِيلُها إلى “رِسالةِ القَدَرِ”، ونَكتَفي بالآتي: قال تَعالَى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ،﴾ وسِرُّ هذه الآيةِ ما يأتي:
إنَّ هذه الدُّنيا دارُ امتِحانٍ واختِبارٍ، ودارُ مُجاهَدةٍ وتَكليفٍ، والِاختِبارُ والتَّكليفُ يَقتَضِيانِ أن تَظَلَّ الحَقائقُ مَستُورةً ومَخفِيّةً، كي تَحصُلَ المُنافَسةُ والمُسابَقةُ، ولِيَسْمُوَ الصِّدِّيقُون بالمُجاهَدةِ إلى أَعلَى عِلِّيِّين معَ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، ولِيَتَردَّى الكَذّابُون إلى أَسفلِ سافِلِين معَ أبي جَهْلٍ؛ فلو سَلِمَ الأَبرِياءُ مِنَ المُصِيبةِ ولم يَمَسَّهم سُوءٌ ولا أَذًى، لَأَصْبَح الإيمانُ بَدِيهيًّا، أي: لَاستَسْلَمَ الكُفّارُ والمُؤمِنُون معًا على حَدٍّ سَواءٍ، ولَانتَفَى التَّكلِيفُ وانسَدَّ بابُه، ولم يَبْقَ سَبِيلٌ إلى الرُّقِيِّ والسُّمُوِّ في مَراتِبِ الإيمانِ.
فما دامَتِ المُصِيبةُ تُصِيبُ كلًّا مِنَ الظّالِمين والمَظلُومين معًا، وَفْقَ الحِكمةِ الإلٰهِيّةِ، فما نَصِيبُ أُولَئك المَظلُومين مِنَ عَدالةِ اللهِ ورَحمَتِه الواسِعةِ؟
الجوابُ: إنَّ هناك تَجَلِّـيًا للرَّحمةِ في ثَنايا ذلك الغَضَبِ والبَلاءِ، لأنَّ أَموالَ أُولَئك الأَبرِياءِ الفانِيةَ ستُخَلَّدُ لهم في الآخِرةِ، وتُدَّخَرُ صَدَقةً لهم، أمّا حَياتُهُمُ الفانِيةُ فتَتَحوَّلُ إلى حياةٍ باقِيةٍ بما تَكسِبُ نَوعًا مِنَ الشَّهادةِ.. أي: إنَّ تلك المُصِيبةَ والبَلاءَ بالنِّسبةِ لِأُولَئك الأَبرِياءِ نَوعٌ مِن رَحمةٍ إلٰهِيّةٍ ضِمنَ عذابٍ أَليمٍ مُؤقَّتٍ، حيثُ تَمنَحُ لهم بمَشَقّةٍ وعَذابٍ مُؤَقَّتَينِ وقَلِيلَينِ نِسبِيًّا، غَنِيمةً دائِمةً وعَظِيمةً.
السُّؤالُ الخامسُ: [لماذا لا يعاقب اللهُ تعالى على الذنوب الخاصة بعقوبات خاصة؟]
إنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى، وهو العادِلُ الرَّحيمُ، والقَديرُ الحَكيمُ، لا يُجازِي الذُّنُوبَ الخاصّةَ بعُقُوباتٍ خاصّةٍ، وإنَّما يُسَلِّطُ عُنصُرًا جَسِيمًا كالأَرضِ، للتَّأدِيبِ والعِقابِ؛ فهل هذا يُوافِقُ شُمُولَ قُدرَتِه وجَمالَ رَحمَتِه سُبحانَه؟
الجوابُ: لقد أَعطَى القَديرُ الجَليلُ كلَّ عُنصُرٍ مِنَ العَناصِرِ وَظائفَ كَثيرةً، ويُنشِئُ على كلٍّ مِن تلك الوَظائفِ نَتائجَ كَثيرةً، فلو ظَهَرَتْ نَتيجةٌ واحِدةٌ قَبيحةٌ -أي: شَرٌّ ومُصِيبةٌ وبَلاءٌ- مِن عُنصُرٍ مِنَ العَناصِرِ في وَظيفةٍ مِن وَظائفِه الكَثيرةِ، فإنَّ سائرَ النَّتائجِ الجَميلةِ والحَسَنةِ المُتَرَتِّبةِ على ذلك العُنصُرِ، تَجعَلُ هذه النَّتيجةَ الوَخِيمةَ في حُكْمِ الحَسَنِ والجَميلِ، إذ لو مُنِعَ ذلك العُنصُرُ الغاضِبُ على الإنسانِ مِن تلك الوَظيفةِ للحَيلُولةِ دُونَ مَجِيءِ تلك النَّتيجةِ الوَحيدةِ البَشِعةِ للوُجُودِ، لَتُرِكَتْ إذًا خَيراتٌ كَثيرةٌ بعَدَدِ النَّتائجِ الخَيِّرةِ المُتَرَتِّبةِ على سائرِ وَظائفِ ذلك العُنصُرِ؛ أي: تَحصُلُ شُرورٌ كثيرةٌ بعَدَدِ تلك النَّتائجِ الخَيِّرةِ، حيثُ إنَّ عَدَمَ القِيامِ بخَيرٍ ضَرُورِيٍّ إنَّما هو شَرٌّ كما هو مَعلُومٌ.. كلُّ ذلك للحَيلُولةِ دُونَ مَجِيءِ شَرٍّ واحِدٍ! وما هذا إلّا مُنافاةٌ للحِكمةِ، وهو قُبْحٌ واضِحٌ، ومُجافاةٌ للحَقيقةِ، وقُصُورٌ مُشِينٌ؛ بَينَما الحِكمةُ والقُدرةُ والحَقيقةُ مُنَـزَّهةٌ عن كلِّ نَقْصٍ وقُصُورٍ.
ولَمّا كان قِسمٌ مِنَ المَفاسِدِ هو عِصيانًا شامِلًا وتَعَدِّيًا فاضِحًا على حُقُوقِ كَثيرٍ مِنَ المَخلُوقاتِ وإهانةً لها واستِخفافًا بها حتَّى يَستَدْعي غَضَبَ العَناصِرِ ولا سِيَّما الأَرضَ، فيُثيرُ غَيْظَها، فلا شَكَّ أنَّ الإيعازَ إلى عُنصُرٍ عَظِيمٍ بأن يُؤَدِّبَ أُولَئك العُصاةَ، إظهارًا لِبَشاعةِ عِصيانِهم وجَسامةِ جِنايَتِهم، إنَّما هو عَينُ الحِكمةِ والعَدالةِ، وعَينُ الرَّحمةِ للمَظلُومِين في الوَقتِ نَفسِه.
السُّؤالُ السّادس: [يقول أهل الغفلة: إن الزلزلة حادثة تصادفية لا مقصد لها]
يُشِيعُ الغافِلُون في الأَوساطِ أنَّ الزَّلْزَلةَ ما هي إلّا نَتيجةُ انقِلاباتِ المَعادِنِ واضطِراباتِها في جَوْفِ الأَرضِ، فيَنظُرُون إلَيها نَظَرَ حادِثةٍ نَجَمَت مِن غَيرِ قَصْدٍ، ونَتيجةَ مُصادَفةٍ وأُمُورٍ طَبيعيّةٍ، ولا يَرَون الأَسبابَ المَعنَوِيّةَ لهذه الحادِثةِ ولا نَتائجَها، كي يُفِيقُوا مِن غَفْلَتِهم، ويَنتَبِهُوا مِن رَقْدَتِهم.. فهل مِن حَقيقةٍ لِما يَستَنِدُون إلَيه؟
الجوابُ: لا حَقيقةَ له غَيرُ الضَّلالِ، لأنَّنا نُشاهِدُ أنَّ كلَّ نَوعٍ مِن آلافِ أَنواعِ الأَحياءِ الَّتي تَزِيدُ على خَمسِين مِليُونًا على الكُرةِ الأَرضِيّةِ، يَلبَسُ أَقمِصَتَه المُزَركَشةَ المُنَسَّقةَ ويُبَدِّلُها كلَّ سَنةٍ، بل لا يَبقَى جَناحٌ واحِدٌ وهو عُضوٌ واحِدٌ مِن مِئاتِ أَعضاءِ الذُّبابِ الَّذي لا يُعَدُّ ولا يُحصَى… لا يَبقَى هذا العُضوُ هَمَلًا ولا سُدًى، بل يَنالُ نُورَ القَصْدِ والإِرادةِ والحِكمةِ؛ مِمّا يَدُلُّ على أنَّ الأَفعالَ والأَحوالَ الجَليلةَ للكُرةِ الأَرضِيّةِ الضَّخمةِ الَّتي هي مَهْدُ ما لا يُحَدُّ مِن ذَوِي المَشاعِرِ وحَضارَتُهم ومَرجِعُهم ومَأواهم، لا تَبقَى خارِجَ الإرادةِ والِاختِيارِ والقَصْدِ الإلٰهِيِّ، بل لا يَبقَى أيُّ شيءٍ خارِجَها، جُزئيًّا كان أم كُلِّـيًّا.. ولكِنَّ القَدِيرَ المُطلَقَ قد جَعَلَ الأَسبابَ الظّاهِرةَ سَتائرَ أَمامَ تَصَرُّفاتِه بمُقتَضَى حِكمَتِه المُطلَقةِ، إذ حالَما تَتَوَجَّهُ إرادَتُه إلى إحداثِ الزَّلْزَلةِ، يَأمُرُ أَحيانًا مَعدِنًا مِنَ المَعادِنِ بالِاضطِرابِ والحَرَكةِ، فيُوقِدُه ويُشعِلُه. هَبْ أنَّ الزِّلزالَ نَشَأَ -فَرْضًا- مِن حُدُوثِ انقِلاباتِ المَعادِنِ واضطِراباتِها، فلا يَحدُثُ أيضًا إلّا بأَمرٍ إلٰهِيٍّ ووَفْقَ حِكمَتِه لا غَيرُ، إذ كيف يكُونُ مِنَ البَلاهةِ والجُنُونِ، وضَياعٌ جَسِيمٌ لِحَقِّ المَقتُولِ، ألّا يُؤخَذَ القاتِلُ بنَظَرِ الِاعتِبارِ ويُحصَرَ النَّظَرُ في البارُودِ المُشتَعِلِ في طَلْقةِ بُندُقِيَّتِه، كذلك فإنَّ الحَماقةَ الأَشنَعَ مِنها الِانسِياقُ إلى الطَّبيعةِ ونِسيانُ الأَمرِ الإلٰهِيِّ بإشعالِ القُنبُلةِ المُدَّخَرةِ في جَوفِ الأَرضِ بحِكمَتِه وإرادَتِه، تلك المَأمُورةُ المُسَخَّرةُ والسَّفِينةُ والطّائرةُ للقَديرِ الجَليلِ، فيَأمُرُها سُبحانَه بالِانفِلاقِ إيقاظًا للغافِلِين وتَنبِيهًا للطُّغاةِ.
تتمّةُ السُّؤالِ السّادسِ وحاشِيتُه
إنَّ أَهلَ الضَّلالِ والإلحادِ يُبدُون تَمَرُّدًا غَرِيبًا، وحَماقةً عَجِيبةً إلى دَرَجةٍ تَجعَلُ الإنسانَ نادِمًا على إنسانِيَّتِه، وذلك في سَبيلِ الحِفاظِ على مَسلَكِهم، ومُواجَهةِ صَحْوةِ أَهلِ الإيمانِ، وزَرعِ العَوائِقِ أَمامَها.
فمثلًا: إنَّ العِصيانَ الظّالِمَ المُظلِمَ الَّذي اقْتَرَفَه البَشَرُ في الآوِنةِ الأَخيرةِ، والَّذي عَمَّ العالَمَ وشَمِلَه، حتَّى أَغضَبَ العَناصِرَ الكُلِّـيّةَ؛ بل تَجَلَّتْ رُبُوبيّةُ خالِقِ الأَرضِ والسَّماواتِ بصِفةِ رَبِّ العالَمِين وحاكِمِ الأَكوانِ -لا بصِفةِ رُبُوبيّةٍ جُزئيّةٍ خاصّةٍ- في العالَمِ أَجمَعَ، وفي دائرةٍ كُلِّـيّةٍ واسِعةٍ.
فصَفَعَ رَبُّ العالَمِين البَشَريّةَ ببَلايا وآفاتٍ عامّةٍ مُرعِبةٍ كالحَربِ العالَمِيّة والزَّلازِلِ والسُّيُولِ العارِمةِ والرِّياحِ الهُوجِ والصَّواعِقِ المُحرِقةِ والطُّوفاناتِ المُدَمِّرةِ.. كلُّ ذلك إيقاظًا لهذا الإنسانِ السّادِرِ في غَفْلَتِه، وسَوْقًا له لِيَتَخَلَّى عن غُرُورِه وطُغيانِه الرَّهيبِ، ولِتَعريفِه برَبِّه الجَليلِ الَّذي يُعرِضُ عنه؛ فأَظهَرَ سُبحانَه حِكمَتَه وقُدرَتَه وعَدالَتَه وقَيُّومِيَّتَه وإرادَتَه وحاكِمِيَّتَه إظهارًا جَلِيًّا، ولكن على الرَّغمِ مِن هذا فإنَّ شَياطِينَ حَمْقَى مِمَّن هم في صُوَرِ أَناسِيٍّ، يَتَمرَّدُون في وَجْهِ تلك الإشاراتِ الرَّبّانيّةِ الكُلِّـيّةِ والتَّربِيةِ الإلٰهِيّةِ العامّةِ للبَشَريّةِ، تَمَرُّدًا ببَلاهةٍ مُشِينةٍ، إذ يقُولُون: إنَّها عَوامِلُ طَبيعيّةٌ، إنَّها انفِجارُ مَوادَّ وأَخلاطِ مَعادِنَ، إنَّها مُصادَفاتٌ ليس إلّا.. فقد تَصادَمَت حَرارةُ الشَّمسِ والكَهرَباءِ فأَحدَثَتْ تَوَقُّفًا في المَكائنِ في أَمرِيكا لِمُدّةِ خَمسِ ساعاتٍ، واحْمَرَّ الجَوُّ في “قَسْطَمُوني” حتَّى كأنَّه يَلْتَهِبُ! إلى آخِرِ هذه الهَذَياناتِ الَّتي لا مَعنَى لها.
فالجَهلُ المُريعُ النّاشِئُ مِنَ الضَّلالِ، والتَّمَرُّدُ المَقِيتُ المُتَولِّدُ مِنَ الزَّندَقةِ، يَحُولانِ دُونَ إدراكِهم ماهِيّةَ الأَسبابِ الَّتي هي حُجُبٌ وسَتائرُ أمامَ “القُدرةِ الإلٰهِيّةِ” ليس إلّا.
فتَرَى أَحَدَهم -مِن جَهلِه- يُبـرِزُ أسبابًا ظاهِرِيّةً، ويقُولُ: هذه الشَّجَرةُ الضَّخمةُ للصَّنَوبرِ -مثلًا- قد أَنشَأَتْها هذه البِذرةُ. مُنكِرًا مُعجِزةَ صانِعِها الجَلِيلِ.. عِلْمًا أنَّه لو أُحِيلَتْ إلى الأَسبابِ لَما كَفَتْ مِئةٌ مِنَ المَصانِعِ لِتَكوينِ تلك الشَّجَرةِ، فإبرازُ أَسبابٍ ظاهِرِيّةٍ مِثلَ هذه إنَّما هو تَهوِينٌ مِن شَأْنِ عَظَمةِ فِعلِ الرُّبُوبيّةِ الجَلِيلةِ المُفعَمةِ بالحِكمةِ والِاختِيارِ.
وتَرَى آخَرَ يُطلِقُ اسمًا عِلْميًّا على حَقيقةٍ مُهِمّةٍ يَقصُرُ العَقلُ عن إدراكِ مَداها وعُمقِها، فكأنَّ تلك الحَقيقةَ قد عُرِفَت وعُلِمَت بمُجرَّد وَضْعِ اسمٍ علَيها، وغَدَت مَألُوفةً مُعتادةً، لا حِكمةَ فيها ولا مَعنَى!
فتَأَمَّلْ في هذه البَلاهةِ والحَماقةِ اللَّتَينِ لا مُنتَهَى لهما! إذِ الحَقيقةُ الَّتي لا تَسَعُ مِئةُ صَحِيفةٍ لِبَيانِ حِكمَتِها وتَعرِيفِها، كأنَّ وَضْعَ هذا العُنوانِ علَيها جَعَلَها مَعرُوفةً مَأْلُوفةً! وقَولُهُم: هذا الشَّيءُ مِن هذا. وهذه الحادِثةُ مِن مادّةِ الشَّمسِ الَّتي اصطَدَمَت بالكَهرَباءِ، جَعَل ذلك الشَّيءَ مَعرُوفًا وتلك الحادِثةَ مَفهُومةً!!
بل يُظهِرُ أَحَدُهم جَهْلًا أَشَدَّ مِن جَهلِ أبي جَهْلٍ، إذ يُسنِدُ حادِثةَ رُبُوبيّةٍ مَقصُودةً خاصّةً، يَرجِعُها إلى أَحَدِ قَوانينِ الفِطرةِ، وكأنَّ القانُونَ هو الفاعِلُ! فيَقطَعُ بهذا الإسنادِ نِسبةَ تلك الحادِثةِ إلى إِرادةِ اللهِ الكُلِّـيّةِ واختِيارِه المُطلَقِ وحاكِمِيَّتِه النّافِذةِ والَّتي تُمَثِّـلُها سُنَنُه الجارِيةُ في الوُجُودِ.. ثمَّ تَراه يُحِيلُ تلك الحادِثةَ إلى المُصادَفةِ والطَّبِيعةِ! فيكُونُ كالأَبْلَهِ العَنِيدِ الَّذي يُحِيلُ الِانتِصارَ الَّذي يُحرِزُه جُندِيٌّ أو فِرقةٌ، في الحَربِ، على نِظامِ الجُنْدِيّةِ وقانُونِ العَسْكَرِيّةِ، ويَقطَعُه عن قائدِ الجَيشِ، وسُلطانِ الدَّولةِ، والأَفعالِ الجارِيةِ المَقصُودةِ. ولْنَنظُرْ إلى حَماقَتِهمُ الفاضِحةِ بهذا المِثالِ: إذا ما صَنَعَ صَنّاعٌ ماهِرٌ مِئةَ أُوقِيّةٍ مِن مُختَلِفِ الأَطعِمةِ، ومِئةَ ذِراعٍ مِن مُختَلِفِ الأَقمِشةِ، مِن قِطعةٍ صَغيرةٍ مِن خَشَبٍ لا يَتَجاوَزُ حَجْمُها قُلَامةَ ظُفُرٍ. وقال أَحَدُهم: إنَّ هذه الأَعمالَ الخارِقةَ قامَت بها تلك القِطعةُ الخَشَبيّةُ التّافِهةُ! ألا يَرتَكِبُ حَماقةً عَجِيبةً؟ فهذا شَبِيهٌ بمَن يُبْرِزُ بِذْرةً صَلْدةً ويُنكِرُ خَوارِقَ صُنعِ الصّانعِ الحَكيمِ في خَلْقِ الشَّجَرةِ، بل يَحُطُّ مِن قيمةِ تلك الأُمُورِ المُعجِزةِ بإِحالَتِها إلى مُصادَفةٍ عَشْواءَ أو عوامِلَ طَبيعيّةٍ! والأَمرُ كذلك في هذا.
السُّؤال السّابعُ: [بِمَ يُفهَم أن هذه الزلزلة تستهدف أهل هذا البلد؟]
كيف يُفهَمُ بأنَّ هذه الحادِثةَ الأَرضِيّةَ مُتَوجِّهةٌ بالذّاتِ إلى مُسلِمي هذه البِلادِ، أي: أنَّها تَستَهدِفُهم؟ ولِماذا تَقَعُ بكَثرةٍ في جِهاتِ “إزمِير” و”أَرْزِنْجانَ”.
الجوابُ: إنَّ هناك أَماراتٍ كَثيرةً على أنَّ هذه الحادِثةَ استَهدَفَت أَهلَ الإيمانِ، إذ وُقُوعُها في قارِسِ الشِّتاءِ وفي ظُلمةِ اللَّيلِ، وفي شِدّةِ البَردِ، وخاصّةً في هذه البِلادِ الَّتي لا يُحتَرَمُ فيها شَهرُ رَمَضانَ، واستِمرارُها النّاشِئُ مِن عَدَمِ اتِّعاظِ النّاسِ مِنها، ولإيقاظِ الغافِلينَ مِن رَقْدَتِهم بخِفّةٍ.. وأَمثالُها مِنَ الأَماراتِ تَدُلُّ على أنَّ هذه الحادِثةَ استَهدَفَت أَهلَ الإيمانِ، وأنَّها تَتَوجَّهُ إلَيهم وتُزَلزِلُهم بالذّاتِ لِتَدفَعَهم إلى إقامةِ الصَّلاةِ والدُّعاء والتَّضَرُّعِ إلَيه سُبحانَه.
أمّا شِدّةُ هِزَّتِها في “أَرزِنْجانَ” المَنكُوبةِ، فلَها وَجهانِ:
الأوَّل: أنَّها عَجَّلَتْ بهم تَكفِيرًا عن خَطاياهُمُ الطَّفيفةِ.
الثّاني: يَحتَمِلُ أنَّها ضَرَبَت صَفْعَتَها أوَّلًا في تلك الأَماكِنِ، حيثُ أَسَّسَ أَهلُ الزَّندَقةِ مَرْكَزًا قَوِيًّا لِنَشاطاتِهم، مُنتَهِزين الفُرصةَ مِن قِلّةِ عَدَدِ حُماةِ الإسلامِ الأَقوِياءِ وحَفَظةِ الإيمانِ الأُصَلاءِ، أو لكَونِهم مَغلُوبِينَ على أَمرِهم.
لا يَعلَمُ الغَيبَ إلّا اللهُ
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
❀ ❀ ❀