الكلمة الثالثة عشرة: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين.
[هذه الكلمة تَعرِض موازنةً بين القرآن وبين العلوم الطبيعية في النظر إلى الكون
وتبيِّن بالتالي سرَّ استغناء القرآن عن تخييلات الشِّعر
كما تشير إلى أن حقائق القرآن شفاء معنوي]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
الكلمة الثالثة عشرة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين﴾
﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾
[مقارنة بين القرآن وبين العلوم الطبيعية في النظر إلى الكون]
إذا أَرَدتَ أن تَعقِدَ مُوازَنةً ومُقارَنةً بينَ حِكمةِ القُرآنِ الحَكيمِ والعُلُومِ الفَلسَفِيّةِ، وأَرَدتَ أن تَعرِفَ ما يُمكِنُ أن يُستَخلَصَ مِن كلٍّ مِنهما مِن دُرُوسِ العِبرةِ والعِظةِ، ورُمْتَ أن تَلمَسَ ما يَنطَوِيانِ عليه مِن عُلُومٍ.. فأَمعِنِ النَّظَرَ وتَأَمَّلْ فيما يَأتِي:
[القرآن يمزِّق حجاب الإلف والاعتياد]
إنَّ القُرآنَ الكَريمَ، ببَياناتِه القَوِيّةِ النّافِذةِ، إنَّما يُمَزِّقُ غِطاءَ الأُلفةِ وسِتارَ العادةِ المُلقَى على مَوجُوداتِ الكَونِ قاطِبةً، والَّتي لا تُذكَرُ إلَّا كأنَّها عادِيّةٌ مَألُوفةٌ، مع أنَّها خَوارِقُ قُدرةٍ بَديعةٍ ومُعجِزاتُها العَظِيمةُ؛ فيَكشِفُ القُرآنُ بتَمزِيقِه ذلك الغِطاءَ حَقائقَ عَجِيبةً لِذَوِي الشُّعُورِ، ويَلفِتُ أَنظارَهم إلى ما فيها مِن دُرُوسٍ بَلِيغةٍ للِاعتِبارِ والعِظةِ، فاتِحًا كَنزًا لا يَفْنَى للعُلُومِ أَمامَ العُقُولِ.
[علوم الفلسفة تلقي على معجزات القدرة حجاب العادة]
أمّا حِكمةُ الفَلسَفةِ، فهي تُخفِي جَميعَ مُعجِزاتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ وتَستُرُها تحتَ غِطاءِ الأُلفةِ والعادةِ، فتُجاوِزُها دُونَ اكتِراثٍ، بل تَتَجاهَلُها دُونَ مُبالاةٍ، فلا تَعْرِضُ أمامَ أَنظارِ ذَوِي الشُّعُورِ إلّا أَفرادًا نادِرةً شَذَّتْ عن تَناسُقِ الخِلقةِ، وتَرَدَّتْ عن كَمالِ الفِطرةِ السَّلِيمةِ، مُدَّعِيةً أنَّها نَماذِجُ حِكمةٍ ذاتِ عِبرةٍ.
[مثال الإنسان السويّ والإنسان المشوه]
فمَثلًا: إنَّ الإنسانَ السَّوِيَّ الَّذي هو في أَحسَنِ تَقوِيمٍ جامِعٍ لِمُعجِزاتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ، تَنظُرُ إليه حِكمةُ الفَلسَفةِ نَظَرَها إلى شيءٍ عادِيٍّ مَألُوفٍ، بَينَما تَلفِتُ الأَنظارَ إلى ذلك الإنسانِ المُشَوَّهِ الَّذي شَذَّ عن كَمالِ الخِلقةِ، كأن يكُونَ له ثلاثةُ أَرجُلٍ أو رَأسانِ مَثلًا، فتُثِيرُ حَولَه نَظَرَ العِبرةِ والِاستِغرابِ.
[مثال إعاشة أعجز الحيوانات وأضعفها]
ومَثلًا: إنَّ إعاشةَ جَميعِ الصِّغارِ مِن خَزائنِ الغَيبِ إعاشةً في مُنتَهَى الِانتِظامِ الَّتي تُمثِّلُ أَلطَفَ مُعجِزةٍ مِن مُعجِزاتِ رَحمَتِه تَعالَى وأَعَمَّها في الوُجُودِ، تَنظُرُ إلَيها حِكمةُ الفَلسَفةِ على أنَّها أَمرٌ مَألُوفٌ عادِيٌّ، فتَستُرُها بسِتارِ الكُفرانِ، بَينَما تَلفِتُ الأَنظارَ إلى إعاشةِ حَشَرةٍ شَذَّتْ عنِ النِّظامِ ونَأَتْ عن طائِفَتِها وظَلَّت وَحِيدةً في الغُربةِ فَرِيدةً في أَعماقِ البَحرِ، فبَدَأَت تَقْتاتُ على وَرَقِ نَباتٍ أَخضَرَ هناك، حتَّى إنَّها لَتُثِيرُ أَشجانَ الصَّيّادِينَ لِما يَتَجَلَّى مِنها مِن لُطفٍ وكَرَمٍ، بل وتَدفَعُهم إلى البُكاءِ والحُزنِ. ﴿(حاشية): لَقد وقَعَت هَذه الحَادِثةُ فِعلًا في أمرِيكَا﴾. فشاهِدْ في ضَوءِ هذه الأَمثِلةِ ثَروةَ القُرآنِ الطّائِلةَ وغِناه الواسِعَ في مَعرِفةِ اللهِ وفي مَيدانِ العِلمِ والحِكمةِ، وإفلاسَ الفَلسَفةِ وفَقْرَها المُدقِعَ في دُرُوسِ العِبرةِ والعِلمِ بمَعرِفةِ الصّانِعِ الجَليلِ.
[لماذا استغنى القرآن عن خيالات الشِّعر؟]
ولِأَجلِ هذا السِّرِّ فالقُرآنُ الكَريمُ الَّذي هو جامِعٌ لِحَقائقَ باهِرةٍ ساطِعةٍ لا نِهايةَ لها، مُستَغنٍ عن خَيالاتِ الشِّعرِ. وثَمّةَ سَبَبٌ آخَرُ لِتَنزُّهِ القُرآنِ عنِ الشِّعر هو: أنَّ القُرآنَ مع أنَّه في أَتَمِّ نِظامٍ خارِقٍ وأَكمَلِ انتِظامٍ مُعجِزٍ ويُفَسِّرُ بأَساليبِه المُنتَظِمةِ تَناسُقَ الصَّنعةِ الإلٰهِيّةِ في الكَونِ، نَراه غيرَ مَنظُومٍ، فكلُّ آيةٍ مِن نُجُومِ آياتِه لا تَتَقيَّدُ بنِظامِ الوَزنِ، لِذا تُصبِحُ كأنَّها مَركَزٌ لِأَكثَرِ الآياتِ وشَقيقَتُها، إذ تُمَثِّلُ خُيُوطُ العَلاقةِ بينَ الآياتِ المُتَرابِطةِ في المَعنَى دائرةً واسِعةً، فكَأنَّ كلَّ آيةٍ حُرّةٍ غيرِ مُقيَّدةٍ بنِظام الوَزنِ، تَملِكُ عُيُونًا باصِرةً إلى أَكثَرِ الآيات، ووُجُوهًا مُتَوجِّهةً إلَيها.
[في القرآن وِرْدٌ لكل مَشرَب]
ومِن هذا نَجِدُ في القُرآنِ الكَريمِ نِفسِه أُلُوفَ الآلافِ مِنَ المَصاحِفِ، حَيثُ إنَّه يَهَبُ لِكُلِّ ذِي مَشرَبٍ قُرآنًا مِنه.
[انتظام آيات القرآن كانتظام نجوم السماء]
فسُورةُ الإخلاصِ مَثلًا تَشتَمِلُ على خَزِينةٍ عَظِيمةٍ لِعِلمِ التَّوحِيدِ، تَضُمُّ ثَلاثينَ سُورةَ إخلاصٍ، تَتَـكوَّنُ مِن تَراكِيبِ جُمَلِها السِّتِّ ذاتِ العَلاقاتِ المُتَرابِطِ بعضُها ببعضٍ، كما وُضِّحَ ذلك في “الكَلِمةِ الخامِسةِ والعِشرِين”.
نعم، إنَّ عَدَمَ الِانتِظامِ الظّاهِرَ في نُجُومِ السَّماءِ، يَجعَلُ كلَّ نَجمٍ مِنها غَيرَ مُقَيَّدٍ وكأنَّها مَركَزٌ لِأَكثَرِ النُّجُومِ ضِمنَ دائرةِ مُحيطِها؛ فتَمُدُّ خُيُوطَ العَلاقاتِ وخُطُوطَ الأَواصِرِ إلى كلٍّ مِنها إشارةً إلى العَلاقاتِ الخَفِيّةِ فيما بينَ المَوجُوداتِ قاطِبةً، وكأنَّ كلَّ نَجمٍ -كنُجُومِ الآياتِ الكَريمةِ- يَملِكُ عُيُونًا باصِرةً إلى النُّجُومِ كافّةً ووُجُوهًا مُتَوجِّهةً إلَيها جَميعًا .
فَشَاهِدْ كَمالَ الِانتِظامِ في عَدَمِ الِانتِظامِ، واعتَبِرْ! واعلَمْ مِن هذا سِرًّا مِن أَسرارِ الآيةِ الكَريمةِ: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾.
[حقائق القرآن مستغنية عن تزيينات الشِّعر]
واعلَمْ أيضًا حِكمةً أُخرَى لـ ﴿وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ مِمّا يَأتِي: إنَّ شَأنَ الشِّعرِ هو تَجمِيلُ الحَقائقِ الصَّغِيرةِ الخامِدةِ، وتَزيِينُها بالخَيالِ البَرَّاقِ، وجَعْلُها مَقبُولةً تَجلُبُ الإعجابَ؛ بَينَما حَقائقُ القُرآنِ مِنَ العَظَمةِ والسُّمُوِّ والجاذِبيّةِ بحَيثُ تَبقَى أَعظَمُ الخَيالاتِ وأَسطَعُها قاصِرةً دُونَها، وخافِتةً أَمامَها.
فمَثلًا: قولُه تَعالَى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾، ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾، ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾، وأَمثالُها مِنَ الحَقائقِ الَّتي لا حَدَّ لها في القُرآنِ الكَريمِ شاهِداتٌ على ذلك.
[كيف بدَّد نور القرآن ظلمات العصر الجاهلي؟]
إذا شِئتَ أن تُشاهِدَ وتَتَذوَّقَ كيف تَنشُرُ كلُّ آيةٍ مِنَ القُرآنِ الكَريمِ نُورَ إعجازِها وهِدايَتِها، وتُبَدِّدُ ظُلُماتِ الكُفرِ كالنَّجمِ الثّاقِبِ؛ تَصَوَّرْ نَفسَك في ذلك العَصرِ الجاهِلِيِّ وفي صَحراءِ تلك البَداوةِ والجَهلِ؛ فبَينا تَجِدُ كلَّ شيءٍ قد أُسدِلَ علَيه سِتارُ الغَفلةِ وغَشِيَه ظَلامُ الجَهلِ، ولُفَّ بغِلافِ الجُمُودِ والطَّبِيعةِ، إذا بك تُشاهِدُ الحَياةَ وقد دَبَّتِ في تلك المَوجُوداتِ الهامِدةِ أوِ المَيتةِ في أَذهانِ السّامِعِين، فتَنهَضُ مُسبِّحةً ذاكِرةً اللهَ بصَدَى قَولِه تَعالَى: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ وما شابَهَها مِنَ الآياتِ الجَلِيلةِ.
ثمَّ إنَّ وَجْهَ السَّماءِ المُظلِمةِ الَّتي تَستَعِرُ فيها نُجُومٌ جامِدةٌ، تَتَحوَّلُ في نَظَرِ السّامِعِين، بصَدَى قَولِه تَعالَى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ﴾ إلى فَمٍ ذاكِرٍ للهِ، كلُّ نَجْمٍ يُرسِلُ شُعاعَ الحَقيقةِ ويَبُثُّ حِكمةً حَكِيمةً بَلِيغةً.
وكذا وَجْهُ الأَرضِ الَّتي تَضُمُّ المَخلُوقاتِ الضَّعيفةَ العاجِزةَ يَتَحوَّلُ بذلك الصَّدَى السَّماوِيِّ إلى رَأسٍ عَظيمٍ، والبَرُّ والبَحرُ لِسانَينِ يَلهَجانِ بالتَّسبِيحِ والتَّقدِيسِ، وجَميعُ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ كَلِماتٍ ذاكِرةً مُسَبِّحةً؛ حتَّى لَكَأنَّ الأَرضَ كُلَّها تَنبِضُ بالحَياةِ.
وهكذا، بانتِقالِك الشُّعُورِيِّ إلى ذلك العَصرِ تَتَذوَّقُ دَقائقَ الإعجازِ في تلك الآيةِ الكَريمةِ؛ وبخِلافِ ذلك تُحرَمُ مِن تَذَوُّقِ تلك الدَّقائقِ اللَّطِيفةِ في الآيةِ الكَريمةِ.
نعم، إنَّك إذا نَظَرتَ إلى الآياتِ الكَريمةِ مِن خِلالِ وَضْعِك الحاضِرِ الَّذي استَنارَ بنُورِ القُرآنِ مُنذُ ذلك العَصرِ حتَّى غَدا مَعرُوفًا، وتَنَوَّرَ بسائرِ العُلُومِ الإسلاميّةِ، حتَّى وَضَحَت بشَمسِ القُرآنِ، أو إذا نَظَرتَ إلى الآياتِ مِن خِلالِ سِتارِ الأُلفةِ، فإنَّك بلا شَكٍّ لا تَرَى رُؤيةً حَقيقِيّةً مَدَى الجَمالِ المُعجِزِ في كلِّ آيةٍ، وكيفَ أنَّها تُبَدِّدُ الظُّلُماتِ الدّامِسةَ بنُورِها الوَهَّاجِ؛ ومِن بعدِ ذلك لا تَتَذَوَّقُ وَجهَ هذا النَّوعِ مِنَ الإعجازِ مِن بينِ وُجُوهِه الكَثيرةِ.
[وجهٌ فريدٌ من وجوه إعجاز القرآن]
[شمول خطابه وتكامله مع استمراره عبر الزمان]
وإذا أَرَدتَ مُشاهَدةَ أَعظَمِ دَرَجةٍ لِإعجازِ القُرآنِ الكَثيرةِ، فاستَمِعْ إلى هذا المِثالِ وتَأَمَّلْ فيه:
لِنَفْرِضْ شَجَرةً عَجِيبةً في مُنتَهَى العُلُوِّ والغَرابةِ، وفي غايةِ الِانتِشارِ والسَّعةِ، قد أُسدِلَ علَيها غِطاءُ الغَيبِ، فاستَتَرَت طَيَّ طَبَقاتِ الغَيبِ. فمِنَ المَعلُومِ أنَّ هُناك تَوازُنًا وتَناسُبًا وعَلاقاتِ ارتِباطٍ بينَ أَغصانِ الشَّجَرةِ وثَمَراتِها وأَوراقِها وأَزاهِيرِها كما هو مَوجُودٌ بينَ أَعضاءِ جِسمِ الإنسانِ، فكلُّ جُزءٍ مِن أَجزائِها يَأخُذُ شَكلًا مُعَيَّنًا وصُورةً مُعَيَّنةً حَسَبَ ماهِيّةِ تلك الشَّجَرةِ.
فإذا قامَ أَحَدٌ -مِن قِبَلِ تلك الشَّجَرةِ الَّتي لم تُشاهَد قَطُّ ولا تُشاهَدُ- ورَسَمَ على شاشةٍ صُورةً لِكُلِّ عُضوٍ مِن أَعضاءِ تلك الشَّجَرةِ، وحَدَّ له، بأَن وَضَع خُطُوطًا تُمَثِّلُ العَلاقاتِ بينَ أَغصانِها وثَمَراتِها وأَوراقِها، ومَلَأَ ما بينَ مَبدَئِها ومُنتَهاها -البَعِيدَينِ عن بعضِهما بما لا يُحَدُّ- بصُوَرٍ وخُطُوطٍ تُمَثِّـلُ أَشكالَ أَعضائِها تَمامًا، وتُبْرِزُ صُوَرَها كامِلةً.. فلا يَبقَى أَدنَى شَكٍّ في أنَّ ذلك الرَّسّامَ يُشاهِدُ تلك الشَّجَرةَ الغَيبِيّةَ بنَظَرِه المُطَّلِعِ على الغَيبِ، ويُحيطُ بها عِلمًا، ومِن بعدِ ذلك يُصَوِّرُها.
فالقُرآنُ المُبينُ كهذا المِثالِ أيضًا، فإنَّ بَياناتِه المُعجِزةَ الَّتي تَخُصُّ حَقيقةَ المَوجُوداتِ -تلكَ الحَقيقةَ الَّتي تَعُودُ إلى شَجَرةِ الخَلقِ المُمتَدّةِ مِن بَدْءِ الدُّنيا إلى نِهايةِ الآخِرةِ، والمُنتَشِرةِ مِنَ الفَرْشِ إلى العَرْشِ، ومِنَ الذَّرّاتِ إلى الشُّمُوسِ- قد حافَظَت تلك البَياناتُ الفُرقانِيّةُ على المُوازَنةِ والتَّناسُبِ وأَعطَتْ لِكُلِّ عُضوٍ مِنَ الأَعضاءِ ولِكُلِّ ثَمَرةٍ مِنَ الثَّمَراتِ صُورةً تَلِيقُ بها، بحَيثُ خَلُصَ العُلَماءُ المُحَقِّقُون -لَدَى إجراءِ تَحقِيقاتِهم وأَبحاثِهم- إلى الِانبِهارِ والِانشِداهِ قائلِين: ما شاءَ اللهُ! بارَكَ اللهُ! إنَّ الَّذي يَحُلُّ طِلَّسْمَ الكَونِ ويَكشِفُ مُعَمَّى الخَلقِ إنَّما هو أَنتَ وَحْدَك أيُّها القُرآنُ الحَكِيمُ!
[القرآن مجلى الأسماء والصفات الإلهية]
فلْنُمثِّلِ -وللهِ المَثَلُ الأَعلَى- الأَسماءَ والصِّفاتِ الإلٰهِيّةَ والشُّؤُونَ والأَفعالَ الرَّبّانيّةَ كأنَّها شَجَرةُ طُوبَى مِن نُورٍ تَمتَدُّ دائرةُ عَظَمَتِها مِنَ الأَزَلِ إلى الأَبدِ، وتَسَعُ حُدُودُ كِبْرِيائِها الفَضاءَ المُطلَقَ غيرَ المَحدُودِ وتُحِيطُ به، ويَمتَدُّ مَدَى إجراءاتِها مِن حُدُودِ ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾، ﴿يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾، ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء﴾، إلى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾، وإلى: ﴿وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾، ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾. فنَرَى أنَّ القُرآنَ الكَريمَ يُبيِّنُ تلك الحَقيقةَ النُّورانِيّةَ بجَميعِ فُرُوعِها وأَغصانِها، وبجَميعِ غاياتِها وثَمَراتِها بَيانًا في مُنتَهَى التَّوافُقِ والِانسِجامِ، بحيثُ لا تُعِيقُ حَقيقةٌ حَقيقةً أُخرَى، ولا يُفسِدُ حُكمُ حَقيقةٍ حُكْمًا لِأُخرَى، ولا تَستَوحِشُ حَقيقةٌ مِن غَيرِها.
وعلى هذه الصُّورةِ المُتَجانِسةِ المُتَناسِقةِ بَيَّنَ القُرآنُ الكَريمُ حَقائقَ الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ والصِّفاتِ الجَليلةِ والشُّؤُونِ الرَّبّانيّةِ والأَفعالِ الحَكيمةِ بَيانًا مُعجِزًا بحيثُ جَعَل جَميعَ أهلِ الكَشفِ والحَقيقةِ وجَميعَ أُولِي المَعرِفةِ والحِكمةِ الَّذين يَجُولُون في عالَمِ المَلَكُوتِ، يُصَدِّقونه قائلِينَ أمامَ جَمالِ بَيانِه المُعجِزِ والإعجابُ يَغمُرُهم: “سُبحانَ اللهِ! ما أَصْوَبَ هذا! وما أَكثَرَ انسِجامَه وتَوافُقَه وتَطابُقَه مع الحَقيقةِ! وما أَجمَلَه وأَليَقَه!”.
فلو أَخَذْنا مَثلًا أَركانَ الإيمانِ السِّتّةَ الَّتي تَتَوجَّهُ إلى جَميعِ دائرةِ المَوجُوداتِ المُختَلِفةِ ودائرةِ الوُجوبِ الإلٰهِيِّ، والَّتي تُعَدُّ غُصنًا مِن تِلكُما الشَّجَرتَينِ العُظْمَيَينِ، يُصَوِّرها القُرآنُ الكَريمُ بجَميعِ فُرُوعِها وأَغصانِها وثَمَراتِها وأَزاهِيرِها مُراعِيًا في تَصوِيرِه انسِجامًا بَدِيعًا بينَ ثَمَراتِها وأَزاهيرِها، مُعَرِّفًا طَرْزَ التَّناسُبِ في مُنتَهَى التَّوازُنِ والاتِّساقِ، بحَيثُ يَجعَلُ عَقلَ الإنسانِ عاجِزًا عن إدراكِ أَبعادِه ومَبهُوتًا أمامَ حُسْنِ جَمالِه.
[تكامل الشريعة ثمرة من تكامل القرآن]
ثمَّ إنَّ الإسلامَ الَّذي هو فَرعٌ مِن غُصنِ الإيمانِ، أَبدَعَ القُرآنُ الكَريمُ وأَتَى بالرّائعِ المُعجِبِ في تَصويرِ أَدَقِّ فُرُوعِ أَركانِه الخَمسةِ، وحافَظَ على جَمالِ التَّناسُبِ وكَمالِ التَّوازُنِ فيما بَينَها، بل حافَظَ على التَّناسُبِ فيما بينَ أَبسَطِ آدابِها ومُنتَهَى غاياتِها وأَعمَقِ حِكَمِها وأَصغَرِ فَوائدِها وثَمَراتِها..
وأَبهَرُ دَليلٍ على ذلك هو كَمالُ انتِظامِ الشَّريعةِ العُظمَى النّابعةِ مِن نُصُوصِ ذلك القُرآنِ الجامِعِ، ومِن إشاراتِه ورُمُوزِه.. فكَمالُ انتِظامِ هذه الشَّريعةِ الغَرّاء وجَمالُ تَوازُنِها الدَّقيقِ وحُسْنُ تَناسُبِ أَحكامِها ورَصانَتُها.. كلٌّ مِنها شاهِدُ عَدْلٍ لا يُجرَحُ، وبُرهانٌ قاطِعٌ باهِرٌ لا يَدنُو مِنه الرَّيبُ أبدًا، على هذه الحَقِيقةِ.
بمَعنَى أنَّ البَياناتِ القُرآنيّةَ لا يُمكِنُ أن تَستَنِدَ إلى عِلمٍ جُزئِيٍّ لِبَشَرٍ، ولا سيَّما إنسانٍ أُمِّيٍّ، بل لا بُدَّ أن تَستَنِدَ إلى عِلمٍ واسِعٍ مُحِيطٍ بكلِّ شيءٍ، والبَصيرِ بجَميعِ الأَشياءِ معًا. فهو كَلامُ ذاتِ اللهِ الجَليلِ البَصيرِ بالأَزَلِ والأَبَدِ معًا، والشّاهِدُ بجَميعِ الحَقائقِ في آنٍ واحِدٍ.. ومِمّا يُشيرُ إلى هذه الحَقيقةِ الآيةُ الكَريمةُ:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾
اللَّهُمَّ يَا مُنزِلَ القُرآنِ.. بِحَقِّ القُرآنِ، وبِحَقِّ مَن أُنزِلَ عَلَيهِ القُرآنُ،
نَوِّرْ قُلُوبَنَا وَقُبُورَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ والقُرآنِ.. آمِينَ يَا مُستَعَانُ.
❀ ❀ ❀