الكلمة الحادية عشر: والشمس وضحاها.
[هذه الكلمة تتحدث عن أسرار خَلْق العالَم، ولغز خَلْق الإنسان، وغاية حياته وحقيقتها وماهيتها،
وعن كون الصلاة فهرسًا لجميع العبادات]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
الكلمة الحادية عشرة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا *
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾
أيُّها الأخُ.. إن شِئتَ أن تَفهَم شيئًا مِن أَسرارِ حِكمةِ العالَمِ وطِلَّسْمِه، ولُغْزِ خَلْقِ الإنسانِ، ورُمُوزِ حَقيقةِ الصَّلاةِ، فتَأَمَّلْ معي في هذه الحِكايةِ التَّمثِيليّةِ القَصِيرةِ:
[حكاية تمثيلية: قصرٌ شامخ ومَعرِضٌ باذخ]
كان في زمانٍ مّا سُلطانٌ له ثَرَواتٌ طائلةٌ، وخَزائنُ هائلةٌ تَحوِي جَميعَ أنواعِ الجَواهرِ والأَلماسِ والزُّمُرُّدِ، مع كُنُوزٍ خَفِيّةٍ أُخرَى عَجِيبةٍ جِدًّا؛ وكان صاحِبَ عِلمٍ واسِعٍ جِدًّا، وإحاطةٍ تامّةٍ؛ واطِّلاعٍ شاملٍ على العُلُومِ البَديعةِ الَّتي لا تُحَدُّ، مع مَهاراتٍ فائقةٍ وبَدائِعِ الصَّنْعةِ.
وحيثُ إنَّ كلَّ ذي جَمالٍ وكَمالٍ يُحِبُّ أن يَشهَد ويُشاهَد جَمالُه وكَمالُه، كذلك هذا السُّلطانُ العَظيمُ، أَرادَ أن يَفتَحَ مَعْرِضًا هائلًا لِعَرْضِ مَصنُوعاتِه الدَّقيقةِ كي يَلفِتَ أَنظارَ رَعِيَّتِه إلى أُبَّهةِ سَلْطنَتِه، وعَظَمةِ ثَروَتِه، ويُظهِرَ لهم مِن خَوارِقِ صَنْعَتهِ الدَّقيقةِ وعَجائبِ مَعرِفَتِه وغَرائبِها، ليُشاهِد جَمالَه وكَمالَه المَعنَويَّينِ على وَجهَينِ:
الأوَّلُ: أن يَرَى بالذّاتِ مَعرُوضاتِه بنَظَرِه البَصيرِ الثّاقِبِ الدَّقيقِ.
والثَّاني: أن يَراها بنَظَرِ غَيرِه.
ولِأَجلِ هذه الحِكمةِ بَدَأ هذا السُّلطانُ بتَشيِيدِ قَصرٍ فَخْمٍ شامِخٍ جدًّا، وقَسَّمَه بشَكلٍ بارِعٍ إلى مَنازِلَ ودَوائرَ مُزيِّنًا كلَّ قِسمٍ بمُرَصَّعاتِ خَزائِنِه المُتَنوِّعةِ، وجَمَّله بما عَمِلَتْ يَداهُ مِن أَلطَفِ آثارِ إبداعِه وأَجمَلِها، ونَظَّمهُ ونَسَّقهُ بأَدَقِّ دقائقِ فُنُونِ عِلمِه وحِكمَتِه؛ فجَهَّزهُ وحَسَّنه بالآثارِ المُعجِزةِ لِخَوارِقِ عِلمِه.
وبعد أن أَتَمَّه وكَمَّله، أقامَ في القَصرِ مَوائدَ فاخِرةً بَهيجةً تَضُمُّ جميعَ أَنواعِ أَطعِمَتِه اللَّذيذةِ، وأَفضلَ نِعَمِه الثَّمينةِ، مُخَصِّصًا لكُلِّ طائفةٍ ما يَليقُ بها ويُوافِقُها مِنَ المَوائدِ، فأَعَدَّ بذلك ضِيافةً فاخِرةً عامّةً، مُبيِّنًا سَخاءً وإبداعًا وكَرَمًا لم يُشهَدْ له مَثِيلٌ، حتَّى كأنَّ كلَّ مائدةٍ من تلك المَوائدِ قدِ امتَلَأَتْ بمِئاتٍ مِن لَطائفِ الصَّنعةِ الدَّقيقةِ وآثارِها، بما مَدَّ عليها مِن نِعَمٍ غالِيةٍ لا تُحصَى.
ثم دَعا أَهاليَ أَقطارِ مَملَكَتِه ورَعاياه، للمُشاهَدةِ والتَّنزُّهِ والضِّيافةِ، وعَلَّم كَبيرَ رُسُلِه المُكَرَّمين ما في هذا القَصرِ العَظيمِ مِن حِكَمٍ رائعةٍ، وما في جَوانبِه ومُشتَمَلاتِه مِن مَعانٍ دَقيقةٍ، مُخَصِّصًا إيّاه مُعَلِّمًا رائدًا وأُستاذًا بارِعًا على رَعِيَّتِه، ليُعلِّمَ النّاسَ عَظَمةَ باني القَصرِ بما فيه مِن نُقُوشٍ بَديعةٍ مَوزُونةٍ، ومُعَرِّفًا لكلِّ الدّاخِلِين رُمُوزَه وما تَعْنيهِ هذه المُرَصَّعاتُ المُنتَظِمةُ والإشاراتُ الدَّقيقةُ الَّتي فيه، ومَدَى دَلالَتِها على عَظَمةِ صاحِبِ القَصرِ وكَمالِهِ الفائقِ ومَهارَتِه الدَّقيقةِ؛ مُبيِّنًا لهم أيضًا تَعلِيماتِ مَراسِيمِ التَّشريفاتِ بما في ذلك آدابُ الدُّخُولِ والتَّجَوُّلِ، وأُصُولُ السَّيرِ وَفْقَ ما يُرضي السُّلطانَ الَّذي لا يُرى إلَّا مِن وَراءِ حِجابٍ.
كان هذا المُعلِّمُ الخَبيرُ يَتَوسَّطُ تلامِذَتَه في أَوسَعِ دائرةٍ مِن دَوائرِ القَصرِ الضَّخمِ، وكان مُساعِدُوه مُنتَشِرين في كلٍّ مِنَ الدَّوائرِ الأُخرَى للقَصرِ.. بَدَأَ المُعلِّمُ هذا بإلقاءِ تَوجِيهاتِه إلى المُشاهِدِين كافّةً قائلًا:
«أيُّها النّاسُ.. إنَّ سَيِّدَنا مَلِيكَ هذا القَصرِ الواسِعِ البَديعِ، يُريدُ ببِنائِه هذا وبإِظهارِ ما تَرَوْنه أَمامَ أَعيُنِكم مِن مَظاهِرَ، أن يُعَرِّفَ نَفسَه إلَيكُم، فاعرِفُوه واسْعَوْا لِحُسنِ مَعرِفَتِه..
وإنَّه يُرِيدُ بهذه التَّزيِيناتِ الجَمالِيّةِ، أن يُحَبِّبَ نَفسَه إلَيكم، فحَبِّبُوا أَنفُسَكم إليه، باستِحسانِكُم أَعمالَه وتَقدِيرِكم لِصَنعَتِه..
وإنَّه يَتَوَدَّدُ إلَيكم ويُرِيكُم مَحَبَّتَه بما يُسبِغُه علَيكم مِن آلائِه ونِعَمِه وأَفضالِه، فأَحِبُّوه بحُسْنِ إصغائِكُم لِأَوامِرِه وبطاعَتِكم إيّاه..
وإنَّه يُظهِرُ لكم شَفَقَتَه ورَحمَتَه بهذا الإِكرامِ والإغداقِ مِنَ النِّعَمِ، فعَظِّمُوه أَنتُم بالشُّكرِ..
وإنَّه يُريدُ أن يُظهِرَ لكم جَمالَه المَعنَويَّ بآثارِ كَمالِه في هذه المَصنُوعاتِ الجَمِيلةِ الكامِلةِ، فأَظهِرُوا أَنتُم شَوْقَكم ولَهفَتَكم لِلِقائِه ورُؤيَتِه، ونَيلِ رِضاه..
وإنَّه يُريدُ مِنكم أن تَعرِفُوا أنَّه السُّلطانُ المُتَفرِّدُ بالحاكِمِيّةِ والِاستِقلالِ، بما تَرَوْن مِن شِعارِه الخاصِّ، وخاتَمِه المُخَصَّصِ، وطُرَّتِه الَّتي لا تُقلَّدُ على جَميعِ المَصنُوعاتِ.. فكلُّ شيءٍ له، وخاصٌّ به، صَدَرَ مِن يَدِ قُدرَتِه.. فعلَيكُم أن تُدرِكُوا جَيِّدًا أنْ لا سُلْطانَ ولا حاكِمَ إلَّا هو، فهو السُّلْطانُ الواحِدُ الأَحَدُ الَّذي لا نَظِيرَ له ولا مَثِيلَ..».
كان هذا المُعَلِّمُ الكَبيرُ يُخاطِبُ الدّاخِلِين للقَصرِ والمُتَفرِّجِين بأَمثالِ هذا الكَلامِ الَّذي يُناسِبُه ويُناسِبُ ذلك المَقامَ. ثمَّ انقَسَم الدّاخِلُون إلى فَريقَينِ:
[فريقُ أهلِ النظر السامي]
الفريقُ الأوَّلُ: وهم ذَوُو العُقُولِ النَّـيِّرةِ، والقُلُوبِ الصّافِيةِ المُطمَئِنّةِ، المُدرِكُون قَدْرَ أَنفُسِهم، فحَيثُما يَتَجوَّلُون في آفاقِ هذا القَصرِ العَظِيمِ ويَسرَحُون بنَظَرِهم إلى عَجائبِه يَقُولُون: لا بُدَّ أنَّ في هذا شَأْنًا عَظِيمًا!! ولا بُدَّ أنَّ وَراءَه غايةً سامِيةً!! فعَلِمُوا أنْ ليسَ هُناك عَبَثٌ، وليسَ هو بِلَعِبٍ، ولا بِلَهْوٍ صِبْيانِيٍّ.. ومِن حَيرَتِهم بَدَؤُوا يَقُولُون: يا تُرَى أين يَكْمُنُ حَلُّ لُغزِ القَصرِ؟ وما الحِكمةُ فيما شاهَدْناه ونُشاهِدُه؟!
وبَينَما هم يَتَأَمَّلُون ويَتَحاوَرُون في الأَمرِ، إذا بهم يَسمَعُون صَوْتَ خُطبةِ الأُستاذِ العارِفِ وبَياناتِه الرّائعةَ، فعَرَفُوا أنَّ لَدَيه مَفاتيحَ جَميعِ الأَسرارِ وحَلَّ جَميعِ الأَلغازِ، فأَقبَلُوا إلَيه مُسرِعِين: السَّلامُ علَيكُم أيُّها الأُستاذُ.. إنَّ مِثلَ هذا القَصرِ الباذِخِ يَنبَغي أن يَكُونَ له عَرِّيفٌ صادِقٌ مُدَقِّقٌ أَمينٌ مِثلُك، فالرَّجاءُ أن تُعَلِّمَنا مِمّا عَلَّمَك سَيِّدُنا العَظيمُ.
فذَكَّرَهُمُ الأُستاذُ بخُطبَتِه المَذكُورةِ آنِفًا، فاستَمَعُوا إلَيه خاشِعِين، وتَقَبَّلُوا كلامَه بكلِّ رِضًى واطمِئنانٍ، فغَنِمُوا أيَّما غَنِيمةٍ، إذ عَمِلُوا ضِمنَ مَرْضاةِ سُلطانِهم، فرَضِيَ عنهم السُّلطانُ بما أَبدَوْا مِن رِضًى وسُرُورٍ بأَوامِرِه؛ فدَعاهُم إلى قَصرٍ أَعظَمَ وأَرقَى لا يَكادُ يُوصَفُ، وأَكرَمَهم بسَعادةٍ دائمةٍ، بما يَلِيقُ بالمالِكِ الجَوادِ الكَريمِ وبذلك القَصرِ العالي، وبما يُلائِمُ هؤلاء الضُّيُوفَ الكِرامَ المُتَأدِّبِين، وحَرِيٌّ بهؤلاء المُطِيعين المُنقادِين للأَوامِرِ.
[فريقُ أهلِ المطلب الدُّوني]
أمّا الفَريقُ الآخَرُ: وهُمُ الَّذين قد فَسَدَتْ عُقُولُهم، وانطَفَأَت جَذوةُ قُلُوبِهم، فما إن دَخَلُوا القَصرَ، حتَّى غَلَبَتْ علَيْهِم شَهَواتُهم، فلم يَعُودُوا يَلتَفِتُون إلّا لِما تَشتَهِيه أَنفُسُهم مِنَ الأَطعِمةِ اللَّذِيذةِ، صارِفِين أَبصارَهُم عن جَميع تلك المَحاسِنِ، سادِّين آذانَهم عن جَمِيعِ تلك الإِرشاداتِ الصّادِرةِ مِن ذلك المُعَلِّمِ العَظيمِ، وتَوجِيهاتِ تَلامِيذِه.. فأَقبَلُوا على المَأكُولاتِ بشَراهةٍ ونَهَمٍ، كالحَيَواناتِ، فأَطبَقَتْ علَيهِمُ الغَفلةُ والنَّومُ وغَشِيَهُمُ السُّكْرُ، حتَّى فَقَدُوا أَنفُسَهم لِكَثرةِ ما أَفْرَطُوا في شُربِ ما لم يُؤذَنْ لهم به؛ فأَزعَجُوا الضُّيُوفَ الآخَرِين بجُنُونِهم وعَرْبَدَتِهم؛ فأَساؤُوا الأَدَبَ مع قَوانِينِ السُّلطانِ المُعَظَّمِ وأَنظِمَتِه.. لِذا أَخَذَهم جُنُودُه وساقُوهم إلى سِجْنٍ رَهيبٍ لِيَنالُوا عِقابَهُمُ الحَقَّ، جَزاءً وِفاقًا على ما عَمِلُوا مِن سُوءِ الخُلُقِ.
فيا مَن يُنصِتُ معي إلى هذه الحِكايةِ.. لا بُدَّ أنَّك قد فَهِمْتَ أنَّ ذلك السُّلطانَ قد بَنَى هذا القَصْرَ الشّامِخَ لِأَجلِ تلك المَقاصِدِ المَذكُورةِ، فحُصُولُ تلك المَقاصِدِ يَتَوقَّفُ على أَمرَينِ:
أَحَدُهما: وُجُودُ ذلك المُعلِّمِ الأُستاذِ الَّذي شاهَدْناه وسَمِعنا خِطابَه، إذ لولاه لَذَهَبَت تلك المَقاصِدُ هَباءً مَنثُورًا، كالكِتابِ المُبهَمِ الَّذي لا يُفهَمُ مَعناه، ولا يُبَيِّنُه أُستاذٌ، فيَظَلُّ مُجرَّدَ أَوراقٍ لا مَعنَى لها!..
ثانيهما: إِصغاءُ النّاسِ إلى كَلامِ ذلك المُعَلِّمِ، وتَقَبُّلُهم له. بمَعنَى أنَّ وُجُودَ الأُستاذِ مَدْعاةٌ لِوُجُودِ القَصرِ، واستِماعَ النّاسِ إليه سَبَبٌ لِبَقاءِ القَصرِ.
لذا يَصِحُّ القَولُ: لم يَكُنِ السُّلطانُ العَظِيمُ لِيَبنِيَ هذا القَصرَ لولا هذا الأُستاذُ؛ وكذا يَصِحُّ القَولُ: حِينَما يُصْبحُ النّاسُ لا يُصغُون إليه ولا يُلقُون بالًا إلى كَلامِه، فسَيُغَيِّرُ السُّلطانُ هذا القَصرَ ويُبَدِّلُه.
[بيان الحكاية التمثيلية]
إلى هنا انتَهَتِ القِصّةُ يا صَدِيقي.. فإن كُنتَ قد فَهِمتَ سِرَّ الحِكايةِ، فانظُر مِن خِلالِها إلى وَجْهِ الحَقيقةِ:
[القصر]
إنَّ ذلك القَصرَ هو هذا العالَمُ، المَسقُوفُ بهذه السَّماءِ المُتَلَألِئةِ بالنُّجُومِ المُتَبَسِّمةِ، والمَفرُوشُ بهذه الأَرضِ المُزَيَّنةِ مِنَ الشَّرقِ إلى الغَربِ بالأَزهارِ المُتَنَوِّعةِ.
[السلطان]
وذلك السُّلطانُ العَظيمُ هو اللهُ تَعالَى سُلطانُ الأَزَلِ والأَبَدِ المَلِكُ القُدُّوسُ ذُو الجَلالِ والإكرامِ الَّذي ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ..﴾، حيثُ ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾، وهو القَديرُ ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾.
[منازل القصر]
أمّا مَنازِلُ ذلك القَصرِ فهي ثَمانِيةَ عَشَرَ أَلفًا مِنَ العَوالِمِ الَّتي تَزَيَّنَ كلٌّ مِنها وانتَظَمَ بما يُلائِمُه مِن مَخلُوقاتٍ.
[الصنائع والفنون]
أمّا الصَّنائِعُ الغَرِيبةُ في ذلك القَصرِ فهي مُعجِزاتُ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ الظّاهِرةِ في عالَمِنا لكلِّ ذِي بَصَرٍ وبَصِيرةٍ.
[الأطعمة والضيافة]
وما تَراه مِنَ الأَطعِمةِ اللَّذِيذةِ الَّتي فيه هي عَلاماتُ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ مِنَ الأَثمارِ والفَواكِهِ البَديعةِ التي تُشاهَدُ بكُلِّ وُضُوحٍ في جَميعِ مَواسِمِ السَّنةِ وخاصّةً في الصَّيفِ وبالأَخَصِّ في بَساتِينِ “بارْلا”؛ ومَطبَخُ هذا القَصرِ هو سَطْحُ الأَرضِ وقَلْبُها الَّذي يَتَّقِدُ نارًا.
[الكنوز والنفائس]
وما رَأَيتَه في الحِكايةِ مِنَ الجَواهِرِ في تلك الكُنُوزِ الخَفِيّةِ، هي في الواقِعِ أَمثِلةٌ لِتَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى المُقدَّسةِ.
[النقوش والزخارف]
وما رَأَيناه مِنَ النُّقُوشِ ورُمُوزِها، هي هذه المَخلُوقاتُ المُزَيِّنةُ للعالَمِ، وهي نُقُوشٌ مَوزُونةٌ بقَلَمِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ الدّالّةِ على أَسماءِ القَديرِ ذِي الجَلالِ.
[المعلِّم]
أمّا ذلك المُعلِّمُ الأُستاذُ فهو سَيِّدُنا، وسَيِّدُ الكَونَينِ مُحمَّدٌ (ﷺ)، ومُساعِدُوه هُمُ الأَنبِياءُ الكِرامُ عَلَيهم السَّلَام؛ وتَلامِيذُه هُمُ الأَولِياءُ الصّالِحُون، والعُلَماءُ الأَصفِياءُ.
[الخدم]
أمّا خُدَّامُ السُّلطانِ العَظيمِ فهم إشارةٌ إلى المَلائِكةِ عَلَيهم السَّلَام في هذا العالَمِ؛ وأمّا جَميعُ مَن دُعُوا إلى دارِ ضِيافةِ الدُّنيا فهم إشارةٌ إلى الإِنسِ والجِنِّ وما يَخدُمُ الإنسانَ مِن حَيَواناتٍ وأَنعامٍ.
[الفريقان]
أمّا الفَريقانِ:
فالأَوّلُ: هم أَهلُ الإيمانِ الَّذين يَتَتَلْمَذُون على مائدةِ القُرآنِ الكَريمِ الَّذي يُفَسِّرُ آياتِ كِتابِ الكَونِ.
والآخَرُ: هم أَهلُ الكُفرِ والطُّغيانِ الصُّمُّ البُكْمُ الضَّالُّون الَّذين اتَّبعُوا أَهواءَهم والشَّيطانَ، فما عَرَفُوا مِنَ الحَياةِ إلَّا ظاهِرَها، فهم كالأَنعامِ بل هم أَضَلُّ سَبِيلًا.
[شؤون الفريق الأول]
أمّا الفَريقُ الأوَّلُ الَّذين هُمُ الأَبرارُ السُّعَداءُ، فقد أَنصَتُوا إلى المُعلِّمِ العَظيمِ والأُستاذِ الجَليلِ ذي الحَقيقَتَينِ؛ إذ هو عَبدٌ، وهو رَسُول..
فمِن حَيثُ العُبُوديّةُ يُعرِّفُ رَبَّه ويَصِفُه بما يَلِيقُ به مِن أَوصافِ الجَلالِ، فهو إذًا في حُكمِ مُمَثِّلٍ عن أُمَّتِه لَدَى الحَضْرةِ الإلٰهِيّةِ..
ومِن حيثُ الرِّسالةُ يُبَلِّغُ أَحكامَ ربِّه إلى الجِنِّ والإنسِ كافّةً بالقُرآنِ العَظيمِ. فهذه الجَماعةُ السَّعيدةُ بعدَما أَصْغَوْا إلى ذلك الرَّسُولِ الكريمِ (ﷺ) وانصاعُوا لِأَوامِرِ القُرآنِ الحَكيمِ، إذا بهم يَرَوْن أَنفُسَهم قد قُلِّدوا مُهِمّاتٍ لَطيفةً تَتَرقَّى ضِمنَ مَقاماتٍ سامِيةٍ كَثيرةٍ، تلك هي الصَّلاةُ، فِهْرِسُ أَنواعِ العِباداتِ.
[ستُّ وظائف ومقامات رفيعة تشير إليها الصلاة بأذكارها وحركاتها]
نعم، لقد شاهَدُوا بوُضُوحٍ تفاصِيلَ الوَظائِفِ والمَقاماتِ الرَّفيعةِ الَّتي تُشِيرُ إلَيها الصَّلاةُ بأَذكارِها وحَرَكاتِها المُتَنوِّعةِ، على النَّحْوِ الآتي:
أوَّلًا: بمُشاهَدَتِهمُ الآثارَ الرَّبّانيّةَ المَبثُوثةَ في الكَونِ، وَجَدُوا أَنفُسَهم في مَقامِ المُشاهِدِين مَحاسِنَ عَظَمةِ الرُّبُوبيّةِ، بمُعامَلةٍ غِيابيّةٍ، فأَدَّوْا وَظِيفةَ التَّكبيرِ والتَّسبِيحِ، قائِلِين: “اللهُ أَكبَرُ”.
ثانيًا: وبظُهُورِهم في مَقامِ الدُّعاةِ والأَدِلَّاءِ إلى بَدائِعِ صَنائِعِه سُبحانَه وآثارِه السّاطِعةِ، الَّتي هي جَلَواتُ أَسمائِه الحُسنَى، أَدَّوْا وَظِيفةَ التَّقديسِ والتَّحميدِ بقَولِهم: “سُبحانَ اللهِ والحَمدُ للهِ”.
ثالثًا: وفي مَقامِ إدراكِ النِّعَمِ المُدَّخَرةِ في خَزائنِ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ وتَذَوُّقِها بحَواسَّ ظاهِرةٍ وباطِنةٍ شَرَعوا بوَظِيفةِ الشُّكرِ والحَمدِ.
رابعًا: وفي مَقامِ مَعرِفةِ جَواهِرِ كُنُوزِ الأسماءِ الحُسنَى وتَقدِيرِها حقَّ قَدْرِها بمَوازِينِ الأَجهِزةِ المَعنَويّةِ المُودَعةِ فيهم، بَدَؤُوا بوَظِيفةِ التَّنزيهِ والثَّناءِ.
خامسًا: وفي مَقامِ مُطالَعةِ الرَّسائلِ الرَّبّانيّةِ المُسَطَّرةِ بقَلَمِ قُدرَتِه تَعالَى على صَحِيفةِ القَدَر، باشَرُوا بوَظِيفةِ التَّفكُّرِ والإعجابِ والِاستِحسانِ.
سادسًا: وفي مَقامِ التَّنزيهِ بإِمعانِ النَّظَرِ إلى دِقّةِ اللُّطفِ في خَلقِ الأَشياءِ، ورِقّة الجَمالِ في إتقانِها، دَخَلُوا وَظيفةَ المَحبّةِ والشَّوقِ إلى جَمالِ الفاطِرِ الجَليلِ والصّانِعِ الجَميلِ.
وهكذا.. بَعدَ أَداءِ هذه الوَظائفِ في المَقاماتِ السّابِقةِ، والقِيامِ بالعِبادةِ اللّازِمةِ بمُعامَلةٍ غِيابيّةٍ، لَدَى مُشاهَدةِ المَخلُوقاتِ، ارتَقَوْا إلى دَرَجةِ النَّظَرِ إلى مُعامَلةِ الصّانِعِ الحَكيمِ وشُهُودِها ومُعامَلةِ أَفعالِه مُعامَلةً حُضُورِيّة.
وذلك أنَّهم: قابَلُوا أوَّلًا تَعرِيفَ الخالِقِ الجَليلِ نَفسَه لِذَوِي الشُّعورِ بمُعجِزاتِ صَنْعَتِه.. قابَلُوه بمَعرِفةٍ مِلْؤُها العَجَبُ والحَيرةُ قائلِين: “سُبحانَك ما عَرَفناك حَقَّ مَعرِفَتِك يا مَعرُوفُ بمعُجِزاتِ جَميعِ مَخلُوقاتِك!!”
ثمَّ استَجابُوا لِتَحَبُّبِ ذلك الرَّحمٰنِ بثَمَراتِ رَحمَتِه سُبحانَه، بمَحَبّةٍ وهُيامٍ مُرَدِّدِين: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.
ثم لَبَّوْا تَرَحُّمَ ذلك المُنعِمِ الحَقيقيِّ بنِعَمِه الطَّيِّبةِ وإِظهارِ رَأْفَتِه علَيهم، بالشُّكرِ والحَمدِ، وبقَولِهم: سُبحانَك ما شَكَرناك حقَّ شُكرِك يا مَشكُورُ بأَلْسِنةِ أَحوالٍ فَصِيحةٍ تَنطِقُ بها جَميعُ إحساناتِك المَبثُوثةِ في الكَونِ، وتُعلِنُ الحَمدَ والثَّناءَ إعلاناتُ نِعَمِك المُعدَّةُ في سُوقِ العالَمِ والمَنثُورةُ على الأَرضِ كافّةً؛ فجَميعُ الثَّمَراتِ المُنَضَّدةِ لرَحْمَتِك الواسِعةِ، وجَميعُ الأَغذِيةِ المَوزُونةِ لِنَعَمِك العَمِيمةِ، تُوْفِي شُكْرَها بشَهادتِها على جُودِك وكَرَمِك لَدَى أَنظارِ المَخلُوقاتِ.
ثمَّ قابَلُوا إظهارَ جَمالِه وجَلالِه وكَمالِه وكِبريائِه سُبحانَه، في مَرايا المَوجُوداتِ المُتَبدِّلةِ على وَجهِ الكَونِ، بقَولِهم: “اللهُ أَكبَرُ”، فرَكَعُوا في عَجْزٍ مُكَلَّل بالتَّعظيمِ، وهَوَوا إلى السُّجُودِ في مَحَبّةٍ مُفعَمةٍ بالذُّلِّ والفَناءِ للهِ، وفي غَمرةِ إعجابٍ وتَعظِيمٍ وإجلالٍ.
ثمَّ أَجابُوا إظهارَ ذلك الغَنِيِّ المُطلَقِ سُبحانَه ثَرْوَتَه الَّتي لا تَنفَدُ ورَحمَتَه الَّتي وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ، بالدُّعاءِ المُلِحِّ والسُّؤالِ الجادِّ، بإِظهارِ فَقرِهم وحاجَتِهم قائلِين: “إيّاك نَستَعينُ”.
ثمَّ استَقبَلُوا عَرْضَ ذلك الخالِقِ الجَليلِ لِلَطائفِ صَنائعِه ورَوائِعِ بَدائعِه، ونَشْرَه لها في مَعارِضَ أَمامَ أَنظارِ الأَنامِ، بالإعجابِ والتَّقديرِ اللّازِمَينِ، قائلِين: ما شاءَ اللهُ، تَبارَكَ اللهُ، ما أَجمَلَ خَلْقَ هذا!! شاهِدِين مُستَحسِنِين لها، هاتِفِين: هَلُمُّوا لِمُشاهَدةِ هذه البَدائعِ، حَيَّ على الفَلاحِ.. اشهَدُوها وكُونُوا شُهَداءَ علَيها.
ثمَّ أَجابُوا إعلانَ ذلك السُّلطانِ العَظيمِ ــ سُلطانِ الأَزَلِ والأَبَدِ ــ لِرُبُوبيّةِ سَلطَنَتِه في الكَونِ كُلِّه، وإظهارَه وَحدانِيَّتَه للوُجُودِ كافّةً، بقَولِهم: سَمِعنا وأَطَعنا.. فَسَمِعوا، وانقادُوا وأَطاعُوا.
ثمَّ استَجابُوا لِإِظهارِ رَبِّ العالَمِينَ أُلُوهِيَّتَه الجَليلةَ، بخُلاصةِ عُبُودِيّةٍ تَنُمُّ عن ضَعفِهمُ الكامِنِ في عَجْزِهم، وفَقرِهِمُ المُندَمِجِ في حاجاتِهم..
تلك هي الصَّلاةُ.
وهكَذا، بمِثلِ هذه الوَظائفِ المُتَنوِّعةِ للعُبُودِيّةِ، أَدَّوْا فَرِيضةَ عُمُرِهم ومُهِمّةَ حَياتِهم في هذا المَسجِدِ الأَكبَرِ المُسَمَّى بدارِ الدُّنيا، حتَّى اتَّخَذُوا صُورةَ أَحسَنِ تَقوِيمٍ، واعتَلَوْا مَرتَبةً تَفُوقُ جَميعَ المَخلُوقاتِ قاطِبةً، إذ أَصبَحُوا خُلَفاءَ أُمَناءَ في الأَرضِ، بما أُودِعَ فيهم مِنَ الإيمانِ والأَمانةِ. وبعدَ انتِهاءِ مُدّةِ الِامتِحانِ والخُرُوجِ مِن قَبضةِ الِاختِبارِ، يَدعُوهم ربُّهمُ الكَريمُ إلى السَّعادةِ الأَبَديّةِ والنَّعِيمِ المُقِيمِ ثَوابًا لِإِيمانِهم، ويَرزُقُهمُ الدُّخُولَ إلى دارِ السَّلامِ جَزاءَ إِسلامِهم، ويُكرِمُهُم -وقد أَكرَمَهُم- بنِعَمٍ لا عَينٌ رَأَت ولا أُذُنٌ سَمِعَت ولا خَطَرَت على قَلبِ بَشَرٍ، ومَنَحَهُم الأبَدِيّةَ والبَقاءَ، إذ المُشاهِدُ المُشتاقُ لِجَمالٍ سَرمَدِيٍّ والعاشِقُ الَّذي يَعكِسُه كالمِرآةِ، لا بُدَّ أن يَظَلَّ باقِيًا ويَمضِيَ إلى الأَبَدِ.
هذه هي عُقبَى تَلامِيذِ القُرآنِ.. اللَّهُمَّ اجعَلْنا مِنهم!
[شؤون الفريق الثاني]
أمّا الفَريقُ الآخَرُ وهُمُ الفُجَّارُ والأَشرارُ فما إن دَخَلُوا بسِنِّ البُلُوغِ قَصرَ هذا العالَمِ إلَّا وقابَلُوا بالكُفرِ دَلائلَ الوَحدانِيّةِ كُلِّها، وبالكُفرانِ الآلاءَ الَّتي تُسبَغُ علَيهم، واتَّهمُوا المَوجُوداتِ كلَّها بالتَّفاهةِ وحَقَّرُوها بالعَبَثِيّة، ورَفَضُوا تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ على المَوجُوداتِ كلِّها، فارتَكَبُوا جَريمةً كُبرَى في مُدّةٍ قَصيرةٍ، مِمّا استَحَقُّوا عَذابًا خالِدًا.
[معنى الحياة وتكريم الإنسان]
نعم، إنَّ الإنسانَ لم يُوهَبْ له رَأسُ مالِ العُمُرِ، ولم يُودَعْ فيه أَجهِزةٌ إنسانِيّةٌ راقِيةٌ إلَّا لِيُؤَهِّلَه ذلك لِتَأدِيةِ الوَظائفِ الجَليلةِ المَذكُورةِ.
فيا نَفسِي الحائِرةَ، ويا صَديقِي المُغرَمَ بالهَوَى..
أَتَحسَبُون أنَّ “مُهِمّةَ حَياتِكم” مَحصُورةٌ في تَلبِيةِ مُتَطَلَّباتِ النَّفسِ الأَمَّارةِ بالسُّوءِ ورِعايَتِها بوَسائلِ الحَضارةِ إشباعًا لِشَهوةِ البَطْنِ والفَرْجِ؟
أم تَظُنُّون أنَّ الغايةَ مِن دَرْجِ ما أُودِعَ فيكم مِن لَطائِفَ مَعنَوِيّةٍ رَقيقةٍ، وآلاتٍ وأَعضاءَ حَسّاسةٍ، وجَوارِحَ وأَجهِزةٍ بَديعةٍ، ومَشاعِرَ وحَواسَّ جَسّاسةٍ، إنَّما هي لِمُجرَّدِ استِعمالِها لإِشباعِ حاجاتٍ سُفلِيّةٍ لِرَغَباتِ النَّفسِ الدَّنِيئةِ في هذه الحَياةِ الفانِيةِ؟
حاشَ وكلَّا!!
[سِرُّ إيداع اللطائف والحواس في الإنسان]
بل إنَّ خَلْقَ تلك اللَّطائفِ والحَواسِّ والمَشاعِرِ في وُجُودِكم وإدراجَها في فِطرَتِكم إنَّما يَستَنِدُ إلى أَساسَينِ اثنَينِ:
الأوّلُ: أن تَجعَلَكم تَستَشعِرُون بالشُّكرِ تُجاهَ كلِّ نَوعٍ مِن أَنواعِ النِّعَمِ الَّتي أَسبَغَها علَيكُمُ المُنعِمُ سُبحانَه؛ أي: علَيكُمُ الشُّعُورُ بها والقِيامُ بشُكرِه تَعالَى وعِبادَتِه.
الثّاني: أن تَجعَلَكم تَعرِفُون أَقسامَ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى الَّتي تَعُمُّ الوُجُودَ كلَّه، مَعرِفتُها وتَذَوُّقُها فَرْدًا فَرْدًا؛ أي: علَيكُمُ الإيمانُ بتلك الأَسماءِ ومَعرِفَتُها مَعرِفةً ذَوقيّةً خالِصةً.
وعلى هَذَينِ الأَساسَينِ تَنمُو الكَمالاتُ الإنسانيّةُ، وبهما يَغدُو الإنسانُ إنسانًا حَقًّا.
فانظُرِ الآنَ مِن خِلالِ هذا المِثالِ لِتَعرِفَ أنَّ الإنسانَ -بخِلافِ الحَيَوانِ- لم يُزَوَّد بالأَجهِزةِ لِكَسْبِ هذه الحَياةِ الدُّنيا فقط: أَعطَى سَيِّدٌ خادِمَه عِشرين لَيرةً لِيَشتَرِيَ بها حُلّةً لِنَفسِه، مِن قِماشٍ مُعَيَّنٍ، فراحَ الخادِمُ واشتَراها مِن أَجوَدِ أَنواعِ الأَقمِشةِ ولَبِسَها؛ ثمَّ أَعطَى السَّيِّدُ نفسُه خادِمًا آخَرَ أَلفَ لَيرةٍ، ولكن وَضَعَ في جَيبِه وَرَقةَ تَعلِيماتٍ وأَرسَلَه للتِّجارةِ؛ فكلُّ مَن يَملِكُ مُسْكةً مِنَ العَقلِ يُدرِكُ يَقينًا أنَّ هذا المَبلَغَ ليس لِشِراءِ حُلّةٍ، إذ قدِ اشتَراها الخادِمُ الأَوَّلُ بعِشرين لَيرةً! فلو لم يَقرَأْ هذا الثّاني ما كُتِبَ له في الوَرَقةِ، وأَعطَى كلَّ ما لَدَيه إلى صاحِبِ حانُوتٍ واشتَرَى مِنه حُلّةً ــ تَقْلِيدًا لِصَديقِه الآخَرِ ــ ومِن أَردَأِ أَنواعِ الحُلَلِ، ألا يَكُونُ قدِ ارتَكَبَ حَماقةً مُتَناهِيةً، يَنبَغي تَأدِيبُه بعُنفٍ وعِقابُه عِقابًا رادِعًا؟
فيا صَديقِي الحَمِيمَ، ويا نَفسِي الأَمّارةَ بالسُّوءِ.. استَجمِعُوا عُقُولَكم، ولا تُهدِرُوا رَأسَ مالِ عُمُرِكم، ولا تُبَدِّدوا طاقاتِ حَياتِكُم واستِعداداتَها لهذه الدُّنيا الفانِيةِ الزّائلةِ، وفي سَبِيلِ لَذّةٍ مادِّيّةٍ ومَتاعٍ حَيَوانِيٍّ.. فالعاقِبةُ وَخِيمةٌ، إذ تُرَدُّون إلى دَرَكةٍ أَدنَى مِن أَخَسِّ حَيَوانٍ بخَمسِين دَرَجةً، عِلمًا أنَّ رَأسَ مالِكُم أَثْمَنُ مِن أَرقَى حَيَوانٍ بخَمسِين ضِعفًا.
[غاية حياتك]
فيا نَفسِيَ الغافِلةُ.. إن كُنتِ تُرِيدينَ أن تَفهَمِي شيئًا مِن: غايةِ حَياتِكِ، ماهِيّةِ حَياتِكِ، صُورةِ حَياتِكِ، سِرِّ حَقيقةِ حَياتِكِ، كَمالِ سَعادةِ حَياتِكِ..
فانظُرِي إلى مُجمَلِ “غاياتِ حَياتِكِ” فإنَّها تِسعةُ أُمُورٍ:
أوَّلُها: وَزنُ النِّعَمِ المُدَّخَرةِ في خَزائنِ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ بمَوازِينِ الحَواسِّ المَغرُوزةِ في جِسمِك، والقِيامُ بالشُّكرِ الكُلِّيِّ.
ثانيها: فَتحُ الكُنُوزِ المَخفِيّةِ للأسماءِ الإلٰهِيّةِ الحُسنَى بمَفاتِيحِ الأَجهِزةِ المُودَعةِ في فِطْرَتِكِ، ومَعرِفةُ اللهِ جلَّ وعلا بتلك الأَسماءِ الحُسنَى.
ثالثُها: إعلانُ ما رَكَّبَتْ فيكِ الأَسماءُ الحُسنَى مِن لَطائِفِ تَجَلِّياتِها وبَدائعِ صَنْعَتِها، وإِظهارُ تلك اللَّطائفِ البَديعةِ أَمامَ أَنظارِ المَخلُوقاتِ بعِلمٍ وشُعُورٍ، وبجَوانِبِ حَياتِك كافّةً في مَعرِضِ الدُّنيا هذه.
رابعُها: إظهارُ عُبُودِيَّتِكِ عِندَ أَعتابِ رُبُوبيّةِ خالِقِكِ، بلِسانِ الحالِ والمَقالِ.
خامسُها: التَّجَمُّلُ بمَزايا اللَّطائفِ الإنسانيّةِ الَّتي وَهَبَتْها لكِ تَجَلِّياتُ الأَسماءِ، وإبرازُها أَمامَ نَظَرِ الشُّهُودِ والإِشهادِ للشّاهِدِ الأَزَلِيِّ جَلَّ وعَلا.. مَثَلُكِ في هذا كَمَثَلِ الجُندِيِّ الَّذي يَتَقَلَّدُ في المُناسَباتِ الرَّسمِيّةِ الشّاراتِ المُتَنوِّعةَ الَّتي مَنَحَه السُّلطانُ إيّاها، ويَعرِضُها أَمامَ نَظَرِه لِيُظهِرَ آثارَ تَكَرُّمِه عليه وعِنايَتَه به.
سادسُها: شُهُودُ مَظاهِرِ الحَياةِ لِذَوِي الحَياةِ، شُهُودَ عِلمٍ وبَصِيرةٍ، إذ هي تَحِيّاتُها ودَلالاتُها بحَياتِها على بارِئِها سُبحانَه.. ورُؤيةُ تَسبِيحاتِها لِخالِقِها، رُؤيةً بتَفَكُّرٍ وعِبرةٍ، إذ هي رُمُوزُ حَياتِها.. وعَرْضُ عِبادَتِها إلى واهِبِ الحَياةِ سُبحانَه والشَّهادةُ عليها، إذ هي غايةُ حَياتِها ونَتيجَتُها.
سابعُها: مَعرِفةُ الصِّفاتِ المُطلَقةِ للخالِقِ الجَليلِ، وشُؤُونِه الحَكيمةِ، ووَزنُها بما وُهِبَ لِحَياتِكِ مِن عِلمٍ جُزئِيٍّ وقُدرةٍ جُزئِيّةٍ وإِرادةٍ جُزئِيّةٍ، أي: بجَعْلِها نَماذِجَ مُصَغَّرةً ووَحدةً قِياسِيّةً لِمَعرِفةِ تلك الصِّفاتِ المُطلَقةِ الجَليلةِ.
فمَثلًا: كما أنَّكِ قد شَيَّدتِ هذه الدّارَ بنِظامٍ كامِلٍ، بقُدرَتِكِ الجُزئيّةِ وإرادتِك الجُزئيّةِ، وعِلمِكِ الجُزئِيِّ، كذلك عليكِ أن تَعلَمي -بنِسبةِ عَظَمةِ بِناءِ قَصرِ العالَمِ ونِظامِه المُتقَنِ- أنَّ بنَّاءَه قديرٌ، عَلِيمٌ، حَكِيمٌ، مُدَبِّرٌ.
ثامنُها: فَهمُ الأَقوالِ الصّادِرةِ مِن كلِّ مَوجُودٍ في العالَمِ وإدراكُ كَلِماتِه المَعنَويّةِ -كلٌّ حَسَبَ لِسانِه الخاصِّ- فيما يَخُصُّ وَحدانِيّةَ خالِقِه ورُبُوبيّةَ مُبدِعِه.
تاسعُها: إدراكُ دَرَجاتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ والثَّروةِ الرَّبّانيّةِ المُطلَقَتَينِ، بمَوازِينِ العَجزِ والضَّعفِ والفَقرِ والحاجةِ المُنطَوِيةِ في نَفسِكِ، إذ كما تُدرَكُ أَنواعُ الأَطعِمةِ ودَرَجاتُها ولَذَّاتُها، بدَرَجاتِ الجُوعِ وبمِقدارِ الِاحتِياجِ إليها، كذلك علَيكِ فَهمُ دَرَجاتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ وثَروَتَها المُطلَقَتَينِ بعَجزِكِ وفَقرِكِ غيرِ المُتَناهِيَينِ.
فهذه الأُمُورُ التِّسعةُ وأَمثالُها هي مُجمَلُ “غاياتِ حَياتِكِ”.
[ماهية حياتك]
أمّا “ماهِيّةُ حَياتِكِ الذَّاتيّةِ” فمُجمَلُها هو:
إنَّها فِهرِسُ الغَرائبِ الَّتي تَخُصُّ الأَسماءَ الإلٰهِيّةَ الحُسنَى..
ومِقياسٌ مُصَغَّرٌ لِمَعرِفةِ الشُّؤُونِ الإلٰهِيّةِ وصِفاتُ الذّاتِ الجَليلةِ..
ومَيزانٌ للعَوالِمِ الَّتي في الكَونِ.. ولائحةٌ لِمُندَرَجاتِ هذا العالَمِ الكَبيرِ..
وخَريطةٌ لهذا الكَونِ الواسِعِ..
وفَذْلَكةٌ لِكِتابِ الكَونِ الكَبيرِ..
ومَجمُوعةُ مَفاتِيحَ تَفتَحُ كُنُوزَ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ الخَفِيّةِ..
وأَحسَنُ تَقوِيمٍ للكَمالاتِ المَبثُوثةِ في المَوجُوداتِ، والمَنشُورةِ على الأَوقاتِ والأَزمانِ.
فهذه وأَمثالُها هي “ماهِيّةُ حَياتِكِ”.
[صورة حياتك]
وإلَيكِ الآن “صُورةَ حَياتِكِ” وطَرْزَ وَظِيفَتِها، وهي:
أنَّ حَياتَكِ كَلمةٌ حَكِيمةٌ مَكتُوبةٌ بقَلَمِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ..
وهي مَقالةٌ بَلِيغةٌ مَشهُودةٌ ومَسمُوعةٌ تَدُلُّ على الأَسماءِ الحُسنَى..
فهذه وأَمثالُها هي صُورةُ حَياتِكِ.
[حقيقة حياتك]
أمّا “حَقيقةُ حَياتِكِ” وسِرُّها فهي: أنَّها مِرآةٌ لِتَجَلِّي الأَحَدِيّةِ، وجَلْوةِ الصَّمَدِيّةِ، أي: أنَّ حَياتَكِ كالمِرآةِ يَنعَكِسُ علَيها تَجَلِّي الذّاتِ الأَحَدِ الصَّمَدِ تَجَلِّيًا جامِعًا، وكأنَّ حَياتَكِ نُقطةٌ مَركَزِيّةٌ لِجَميعِ أَنواعِ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الإلٰهِيّةِ المُتَجلِّيةِ على العالَمِ أَجمَعَ.
أمّا “كَمالُ سَعادةِ حَياتِكِ” فهو: الشُّعُورُ بما يَتَجَلَّى مِن أَنوارِ التَّجَلِّياتِ الإلٰهِيّةِ في مِرآةِ حَياتِكِ وحُبُّها، وإظهارُ الشَّوقِ إلَيها، كمالِكٍ للشُّعُورِ، ثمَّ الفَناءُ في مَحَبَّتِها، وتَرسِيخُ تلك الأنوارِ المُنعَكِسةِ وتَمكِينُها في بُؤبُؤِ عَينِ قَلبِك. ولِأَجلِ هذا قِيلَ بالفارِسيّةِ هذا المَعنَى للحَديثِ النَّبَوِيِّ القُدسِيِّ الَّذي رَفَعَكِ إلى أَعلَى عِلِّيِّينَ:
مَن نَگُنجَمْ دَرْ سَمٰوَاتُ وَزَمِين
اَزْ عَجَبْ گُنجَمْ بِقَلْبِ مُؤْمِنِين
[المعنى: ما وَسِعني أرضي ولا سمائي، ولكن وَسِعني قلب عبدي المؤمن]
فيا نفسي.. إن حَياتَكِ الَّتي تَتَوَجَّهُ إلى مثلِ هذه الغاياتِ المُثلَى، وهي الجامِعةُ لِمِثلِ هذه الخَزائنِ القَيِّمةِ.. هل يَلِيقُ عَقلًا وإنصافًا أن تُصرَفَ في حُظُوظٍ تافِهةٍ، تَلبِيةً لِرَغَباتِ النَّفسِ الأَمَّارةِ، واستِمتاعًا بلَذائِذَ دُنيَوِيّةٍ فانِيةٍ، فتُهدَرَ وتُضَيَّعَ بعدَ ذلك؟!. فإن كُنتِ راغِبةً في عَدَمِ ضَياعِها سُدًى، ففَكِّري وتَدَبَّري في القَسَمِ وجَوابِ القَسَم في سُورةِ “الشَّمسِ” الَّذي يَرمُزُ إلى التَّمثِيلِ والحَقِيقةِ المَذكُورةِ، ثمَّ اعْمَلي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾.
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عَلَى شَمسِ سَمَاءِ الرِّسَالَةِ وقَمَرِ بُرجِ النُّبُوَّةِ، وعَلَى آلِهِ وأصحَابِهِ نُجُومِ الهِدَايَةِ؛ وارحَمنَا وارحَمِ المُؤمِنِينَ والمُؤمِنَاتِ.
آمِينَ آمِينَ آمِينَ
❀ ❀ ❀