الكلمة العاشرة: رسالة الحشر.
[هذه الكلمة تتحدث عن ركن “الإيمان بالآخرة” وتُثبِتُه بدلائل عقليةٍ وشهوديةٍ تفكُّرية]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
الكلمة العاشرة
مبحث الحشر
تنبيه:
إن سببَ إيرادي التَّشبيهَ والتَّمثيلَ بصُورةِ حِكاياتٍ في هذه الرَّسائلِ هو تقريبُ المعاني إلى الأَذهانِ من ناحيةٍ، وإظهارُ مَدَى مَعقوليةِ الحقائقِ الإسلاميةِ ومدى تَناسُبِها ورَصانَتِها من ناحيةٍ أُخرَى، فمَغزَى الحِكاياتِ إنَّما هو الحقائقُ الَّتي تَنتَهي إليها، والَّتي تَدُلُّ عليها كِنايةً؛ فهي إذًا ليست حكاياتٍ خياليةً، وإنما حقائقُ صادقةٌ.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
يا أخي.. إِن رُمتَ إيضاحَ أمرِ الحشر وبعضِ شُؤونِ الآخرةِ على وَجهٍ يُلائمُ فَهمَ عامّةِ الناسِ، فاستَمِعْ معي إلى هذه الحِكايةِ القصيرةِ:
[حكاية تمثيلية]
ذَهَب اثنانِ معًا إلى مَملكةٍ رائعةِ الجَمالِ كالجَنّة -التشبيهُ هنا للدُّنيا- وإذا بهما يَرَيانِ أنَّ أهلَها قد تَرَكوا أبوابَ بيُوتِهم وحَوانيتِهم ومَحَلّاتِهم مفتوحةً لا يَهتَمُّون بحِراستِها.. فالأَموالُ والنُّقودُ في مُتناوَلِ الأيدي دون أن يَحمِيَها أَحَدٌ؛ بَدَأ أحدُهما -بما سَوَّلت له نفسُه -يَسرِق حِينًا ويَغْصِبُ حِينًا آخرَ، مُرتَكِبًا كلَّ أنواعِ الظُّلمِ والسَّفاهةِ، والأَهلُون لا يُبالُون به كثيرًا.
فقال له صَديقُه: “وَيْحَك ماذا تَفعَلُ؟! إنَّك ستَنالُ عِقابَك، وستُلقيني في بلايا ومَصائبَ. فهذه الأموالُ أموالُ الدَّولةِ، وهؤلاء الأَهلُون قد أَصبَحوا -بعَوائلِهم وأطفالِهم- جُنُودَ الدَّولةِ أو مُوَظَّفيها، ويُستخدَمون في هذه الوَظائفِ ببِزَّتِهمُ المَدَنيةِ، ولذلك لم يُبالوا بك كثيرًا. اعلَم أنَّ النِّظامَ هنا صارِمٌ، فعُيونُ السُّلطان ورُقَباؤُه وهَواتِفُه في كلِّ مكان.. أَسْرِعْ يا صاحِبي بالِاعتِذارِ، وبادِرْ إلى التَّوسُّلِ”..
ولكنَّ صاحبَه الأَبلهَ عانَد قائلًا: “دَعْني يا صاحِبي.. فهذه الأموالُ ليسَت أَموالَ الدَّولةِ، بل هي أَموالٌ مُشاعةٌ، لا مالِكَ لها.. يَستَطيعُ كلُّ واحِدٍ أن يَتَصرَّف فيها كما يَشاءُ، فلا أَرَى ما يَمنَعُني مِن الِاستفادةِ منها، أو الِانتفاعِ بهذه الأشياءِ الجَميلةِ المَنثُورةِ أمامي؛ واعلَم أنِّي لا أُصَدِّق بما لا تَراه عَيْنايَ”. وبَدَأ يَتفَلْسَفُ ويَتَفوَّه بما هو من قَبيلِ السَّفْسَطة.
وهنا بَدَأتِ المُناقَشةُ الجادَّة بينَهما، وأَخَذ الحِوارُ يَشتَدُّ إذ سَأَل المُغَفَّلُ: “وما السُّلطانُ؟ فأنا لا أَعرِفُه”، فرَدَّ عليه صاحِبُه: “إنَّك بلا شَكٍّ تَعلَمُ أنه لا قَريةَ بلا مُختارٍ، ولا إبرةَ بلا صانِعٍ وبلا مالكٍ، ولا حَرفَ بلا كاتبٍ. فكيف يَسُوغ لك القَولُ: إنَّه لا حاكِمَ ولا سُلطانَ لهذه المملَكةِ الرّائعةِ المُنتَظِمةِ المُنسَّقة؟ وكيف تكونُ هذه الأَموالُ الطّائلةُ والثَّرَواتُ النَّفيسةُ الثَّمينةُ بلا مالكٍ، حتَّى كأنَّ قِطارًا مَشحُونًا بالأَرزاقِ الثَّمينةِ يأتي مِنَ الغَيبِ كلَّ ساعةٍ ويُفرَغُ هنا ثم يَذهَبُ! 1إشَارَة إلَى فُصُول السَّنَة حَيثُ الرَّبِيع يَشبَه شَاحِنة قِطَار مَملُوءة بِالأغذِية ويَأتِي مِن عَالَم الغَيب.
أوَلا تَرَى في أَرجاءِ هذه المَملكةِ إعلاناتِ السُّلطانِ وبَياناتِه، وأَعلامَه الَّتي تُرَفرِفُ في كلِّ رُكنٍ، وخَتْمَه الخاصَّ وسِكَّتَه وطُرَّتَه على الأَموالِ كلِّها، فكيف تكونُ مِثلُ هذه المَملَكةِ دون مالكٍ؟.. يَبدُو أنَّك تَعلَّمتَ شيئًا من لغةِ الإفرنجِ، ولكنَّك لا تَستَطيعُ قِراءةَ هذه الكِتاباتِ الإسلاميةِ ولا تَرغَبُ أن تَسأَلَ مَن يَقرَؤُها ويَفهَمُها، فتَعالَ إذًا لِأَقرَأ لك أهمَّ تلك البلاغاتِ والأَوامرِ الصّادِرةِ مِنَ السُّلطانِ”، فقاطَعَه ذلك المُعانِدُ قائلًا: “لِنُسلِّمْ بوُجودِ السُّلطانِ، ولكن ماذا يُمكِنُ أن يَضُرَّه ويَنْقُصَ مِن خَزائنِه ما أَحُوزُه لنَفسي مِنها؟ ثمَّ إنِّي لا أَرَى هنا عِقابًا من سِجنٍ أو ما يُشبِهُه!”.
أجابَه صاحِبُه: “يا هذا.. إنَّ هذه المَملَكةَ الَّتي نَراها ما هي إلَّا مَيدانُ امتِحانٍ واختِبارٍ، وساحةُ تَدريبٍ ومُناوَرةٍ، وهي مَعرِضُ صَنائعِ السُّلطانِ البَديعةِ، ومَضِيفٌ مُؤقَّتٌ جِدًّا.. ألا تَرَى أنَّ قافِلةً تأتي يوميًّا وتَرحَلُ أُخرَى وتَغِيبُ؟ فهذا هو شأنُ هذه المملكةِ العامِرةِ، إنَّها تُملَأُ وتُخْلَى باستِمرارٍ، وسوف تُفرَغ نهائيًّا وتُبدَّلُ بأُخرَى باقيةٍ دائمةٍ، ويُنقَلُ إليها النّاسُ جميعًا فيُثابُ أو يُعاقَبُ كلٌّ حَسَبَ عَمَلِه”.
ومرّةً أُخرَى تَمرَّد صَديقُه الخائنُ الحائرُ قائلًا: “أنا لا أُؤمِنُ ولا أُصدِّق! فهل يُمكِنُ أن تُبادَ هذه المَملَكةُ العامرةُ، ويَرحَلَ عنها أَهلُها إلى مَملَكةٍ أُخرَى؟”، وعندَها قال له صَديقُه النّاصِحُ الأَمينُ: “يا صاحِبي.. ما دُمتَ تُعانِدُ هكذا وتُصِرُّ، فتعالَ أُبيِّنْ لك “اثنَتَيْ عَشْرةَ صُورةً” مِن بَينِ دَلائلَ لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، تُؤكِّدُ لك أنَّ هناك مَحكَمةً كُبْرَى حَقًّا، ودارًا للثَّوابِ والإحسانِ، وأُخرَى للعِقابِ والسِّجنِ، وأنَّه كما تُفرَغُ هذه المَملَكةُ مِن أَهلِها يومًا بعدَ يومٍ، فسيأتي يومٌ تُفرغُ فيه مِنهم نهائيًّا وتُبادُ كُلِّـيًّا”.
الصورة الأولى [ضرورة الثواب والعقاب]
أَمِنَ المُمكِن لسَلْطَنةٍ ولا سيَّما كهذه السَّلْطَنةِ العُظمَى، ألّا يكونَ فيها ثوابٌ للمُطيعين ولا عِقابٌ للعاصِين؟ ولَمّا كان العِقابُ والثَّوابُ في حُكمِ المَعدُومِ في هذه الدّارِ، فلا بُدَّ إذًا مِن مَحكَمةٍ كُبْرَى في دارٍ أُخرَى.
الصورة الثانية [مقتضى عزة السلطنة]
تأمَّلْ سَيرَ الأَحداثِ والإجراءاتِ في هذه المَملَكةِ، كيف يُوزَّع الرِّزقُ رَغَدًا حتَّى على أَضعفِ كائنٍ فيها وأَفقَرِه، وكيف أنَّ الرِّعايةَ تامّةٌ والمُواساةَ دائمةٌ لجَميعِ المَرضَى الَّذين لا مُعيلَ لهم؛ وانظُر إلى الأَطعِمةِ الفاخِرةِ والأَواني الجَميلةِ والأَوسِمةِ المُرصَّعةِ والمَلابِس المُزَركَشةِ.. فالمَوائدُ العامرةُ مَبثُوثةٌ في كلِّ مكانٍ.. وانظُر! الجَميعُ يُتقِنُون واجِباتِهم ووَظائفَهم إلَّا أنت وأَمثالَك مِنَ البُلَهاءِ، فلا يَتَجاوزُ أحدٌ حَدَّه قِيدَ أَنمُلةٍ، فأَعظَمُ شخصٍ يُؤدِّي ما أُنيطَ به مِن واجِبٍ بكلِّ تَواضُعٍ، وفي غاية الطّاعةِ، تحت ظِلِّ جَلالِ الهَيبةِ والرّهبةِ.
إذًا فمالِكُ هذه السَّلْطَنةِ ومَلِيكُها ذُو كَرَمٍ عظيم، وذُو رحمةٍ واسعةٍ، وذُو عِزّةٍ شامخةٍ، وذُو غَيرةٍ جَليلةٍ ظاهرةٍ، وذُو شَرَفٍ سامٍ. ومن المَعلوم أنَّ الكَرَمَ يَستَوجِبُ إنعامًا، والرَّحمةَ لا تَحصُلُ دون إحسانٍ، والعِزّةَ تَقتَضي الغَيرةَ، والشَّرفَ السّامِيَ يَستَدعي تأديبَ المُستَخِفِّين، بينما لا يَتحَقَّق في هذه المَملَكةِ جزءٌ واحدٌ مِن أَلفٍ مما يليقُ بتلك الرَّحمةِ ولا بذلك الشَّرَف. فيَرحَلُ الظّالمُ في عِزَّتِه وجَبَروتِه، ويَرَحلُ المَظلُومُ في ذُلِّه وخُنُوعِه.. فالقضيةُ إذًا مُؤَجَّلةٌ إلى مَحكَمةٍ كُبْرَى.
الصورة الثالثة [مقتضى الحكمة والعدالة]
انظُر.. كيف تُنجَزُ الأَعمالُ هنا بحِكمةٍ فائقةٍ وبانتِظامٍ بَديعٍ، وتأَمَّلْ كيف يُنظَرُ إلى المُعامَلاتِ بمِنظارِ عَدالةٍ حَقّةٍ ومِيزانٍ صائبٍ.. ومِن المَعلُومِ أنَّ حِكمةَ الحُكومةِ وفِطْنَتَها تَستَدعِي اللُّطْفَ بالَّذين يَحْتَمُون بحِماها وتَكريمُهم، والعَدالةُ المَحضةُ تَتطَّلبُ رِعايةَ حُقوقِ الرَّعيةِ، لِتُصانَ هَيبةُ الحُكومةِ وعَظَمةُ الدَّولةِ.. غير أنَّه لا يَبدُو هنا إلَّا جُزءٌ ضَئيلٌ مِن تَنفيذِ ما يَليقُ بتلك الحِكمةِ، وبتلك العَدالةِ؛ فأَمثالُك مِنَ الغافِلين يُغادِرُون هذه المَملَكةَ دُونَ أن يَرَى أَغلَبُهم عِقابًا.. فالقَضيةُ إذًا مُؤَجَّلةٌ بلا رَيبٍ إلى مَحكَمةٍ كُبْرَى.
الصورة الرابعة [لامحدودية الكرم والجمال يقتضيان دارًا للخلود]
انظُر إلى ما لا يُعَدُّ ولا يُحصَى مِنَ الجَواهِر النّادِرةِ المَعرُوضةِ في هذه المَعارِضِ، والأَطعِمةِ الفَريدةِ اللَّذيذةِ المُزيَّنةِ بها المَوائدُ، ممّا يُبْرِزُ لنا أنَّ لِسُلطانِ هذه المَملَكةِ سَخاءً غيرَ مَحدُودٍ، وخَزائنَ مَلْأَى لا تَنضُبُ.. ولكنْ مِثلُ هذا السَّخاءِ الدّائمِ، ومِثلُ هذه الخَزائنِ الَّتي لا تَنفَدُ، يَتَطلَّبانِ حَتمًا دارَ ضِيافةٍ خالدةٍ أَبَديةٍ، فيها ما تَشتَهيه الأَنفُسُ؛ ويَقتَضيانِ كذلك خُلودَ المُتَنَعِّمين المُتلَذِّذين فيها، مِن غيرِ أن يَذُوقوا أَلَمَ الفِراقِ والزَّوالِ؛ إذ كما أنَّ زَوالَ الأَلَم لَذّةٌ فزَوالُ اللَّذّةِ أَلَمٌ كذلك..
وانظُر إلى هذه المَعارِضِ، ودَقِّقِ النَّظَرَ في تلك الإعلانات، وأَصْغِ جَيِّدًا إلى هؤلاء المُنادِينَ الدُّعاةِ الَّذين يُشَكِّلُون عَجائبَ مَصنُوعاتِ السُّلطانِ -ذي المُعجِزاتِ- ويُعلِنُون عنها، ويُظهِرُون كمالَه، ويُفصِحُون عن جَمالِه المَعنَويِّ الَّذي لا نَظيرَ له، ويَذكُرُون لَطائفَ حُسْنِه المُستَتِرِ.
فلِهذا السُّلطانِ إذًا كَمالٌ باهِرٌ، وجَمالٌ مَعنَويٌّ زاهِرٌ، يَبعَثانِ على الإعجابِ؛ ولا شَكَّ أنَّ الكَمالَ المُستَتِرَ الَّذي لا نَقْصَ فيه يَقتَضي إعلانَه على رُؤوسِ الأَشهادِ مِنَ المُعجَبينَ المُستَحسِنين، ويَتَطلَّبُ إعلانَه أمامَ أَنظارِ المُقدِّرين لقِيمَتِه؛ أمّا الجَمالُ الخَفِيُّ الَّذي لا نَظيرَ له، فيَستَلزِمُ الرُّؤيةَ والإظهارَ، أي: رُؤيةَ جَمالِه بوَجهَينِ:
أَحدُهما: رُؤيتُه بذاتِه جمالَه في كلِّ ما يَعكِسُ هذا الجَمالَ مِن المَرايا المُختَلِفة.
ثانيهما: رُؤيتُه بنَظَرِ المُشاهِدين المُشتاقِين والمُعجَبِين المُستَحسِنين له، وهذا يَعني أنَّ الجَمالَ الخالِدَ يَستَدعي رُؤيةً وظُهورًا، مع مُشاهَدةٍ دائمةٍ، وشُهودٍ أَبديٍّ.. وهذا يَتَطلَّبُ حَتمًا خُلودَ المُشاهِدين المُشتاقِين المُقدِّرين لذلك الجَمالِ، لأنَّ الجَمال الخالدَ لا يَرضَى بالمُشتاقِ الزّائلِ، ولأنَّ المُشاهِدَ المَحكومَ عليه بالزَّوالِ يُبدِّلُ تَصَوُّرُ الزَّوالِ مَحبَّتَه عَداءً، وإعجابَه استِخفافًا، وتَوقيرَه إهانةً، إذ الإنسانُ عدوٌّ لِما يَجهَلُ ولِما يَقصُرُ عنه.. ولَمّا كان الجَميعُ يُغادِرُون دُورَ الضِّيافةِ هذه بسُرعةٍ ويَغيبُون عنها بلا ارتِواءٍ مِن نُورِ ذلك الجَمالِ والكَمالِ، بل قد لا يَرَون إلَّا ظِلالًا خافِتةً مِنه عبرَ لَمَحاتٍ سَريعةٍ.. فالرِّحلةُ إذًا مُنطَلِقةٌ إلى مَشهَدٍ دائمٍ خالدٍ.
الصورة الخامسة [مقتضى الرأفة]
تأمَّلْ.. كيف أنَّ لهذا السُّلطانِ الَّذي لا نَظيرَ له رَأفةً عَظيمةً تَتَجلَّى في خِضَمِّ هذه الأَحداثِ والأُمورِ، إذ يُغِيثُ المَلهُوفَ المُستَغيثَ، ويَستَجيبُ للدّاعي المُستَجيرِ، وإذا ما رَأَى أَدنَى حاجةٍ لِأَبسطِ فَرْدٍ مِن رَعاياه فإنَّه يَقضِيها بكلِّ رَأفةٍ وشَفَقةٍ، حتَّى إنَّه يُرسِلُ دَواءً أو يُهيِّئُ بَيطارًا لإسعافِ قَدَمِ نَعجةٍ مِنَ النِّعاجِ.
هيّا بنا يا صاحِبي لِنَذهَبَ معًا إلى تلك الجَزيرةِ، حيث تَضُمُّ جَمْعًا غَفيرًا مِنَ النّاسِ، فجَميعُ أَشرافِ المَملَكةِ مُجتَمِعُون فيها.. انظُر.. فها هو ذا مَبعوثٌ كَريمٌ للسُّلطانِ مُتَقلِّدٌ أَعظَمَ الأَوسِمةِ وأَعلاها، يَرتَجِلُ خُطبةً يَطلُبُ فيها مِن مَلِيكِه الرَّؤُوفِ أُمورًا، وجَميعُ الَّذين معَه يُوافِقُونه ويُصَدِّقونه ويَطلُبون ما يَطلُبُه.
أَنصِتْ لِما يَقولُ حَبيبُ المَلِكِ العَظيم، إنَّه يَدعُو بأَدَبٍ جَمٍّ وتَضَرُّعٍ ويقولُ: يا مَن أَسبَغَ علَينا نِعَمَه ظاهِرةً وباطِنةً، يا سُلطانَنا.. أَرِنا مَنابِعَ وأُصولَ ما أَرَيتَه لنا مِن نَماذِجَ وظِلالٍ.. خُذْ بنا إلى مَقَرِّ سَلْطَنَتِك ولا تُهلِكْنا بالضَّياعِ في هذه الفَلاةِ.. اقبَلْنا وارْفَعْنا إلى دِيوانِ حُضُورِك.. ارْحَمْنا.. أَطْعِمْنا هناك لَذائذَ ما أَذَقْتَنا إيّاه هنا، ولا تُعَذِّبْنا بأَلَمِ التَّنائي والطَّردِ عنك.. فهاهم أُولاءِ رَعيَّتُك المُشتاقُون الشّاكِرُون المُطِيعُون لك.. لا تَترُكْهم تائِهين ضائِعين، ولا تُفْنِهم بمَوتٍ لا رَجعةَ بعدَه.
هل سَمِعتَ يا صاحِبي ما يقولُ؟ تُرى هل مِنَ المُمكِنِ لِمَن يَملِكُ كلَّ هذه القُدرةِ الفائقةِ، وكلَّ هذه الرَّأفةِ الشّامِلةِ، ألَّا يُعطِيَ مَبعوثَه الكريمَ ما يَرغَبُ به، ولا يَستَجيبَ لِأَسمَى الغاياتِ وأَنبَلِ المَقاصِدِ؟ وهو الَّذي يَقضِي بكلِّ اهتِمامٍ أَدنَى رَغبةٍ لِأَصغَرِ فَردٍ مِن رَعاياه؟ مع أنَّ ما يَطلُبُه هذا المَبعوثُ الكَريمُ تَحقيقٌ لِرَغَباتِ الجَميعِ ومَقاصِدِهم، وهو مِن مُقتَضَياتِ عَدالَتِه ورَحمَتِه ومَرْضاتِه.
ثمَّ إنَّه يَسيرٌ عليه وهَيِّنٌ، فليس هو بأَصعَبَ مِمّا عَرَضَه مِن نَماذِجَ في مُتَنَزَّهاتِ هذه المَملَكةِ ومَعارِضِها.. فما دامَ قد أنفَقَ نَفَقاتٍ باهِظةً وأَنشَأَ هذه المَملَكةَ لِعَرضِ نَماذِجِه عَرْضًا مُؤَقَّتًا، فلا بُدَّ أنَّه سيَعرِضُ في مَقَرِّ سَلْطَنَتِه مِن خَزائنِه الحَقيقيةِ ومِن كَمالاتِه وعَجائبِه ما يُبهِرُ العُقولَ.. إذًا فهؤلاء الَّذين هم في دارِ الِامتِحانِ هذه ليسوا عَبَثًا، وليسوا سُدًى، بل تَنتَظِرُهم قُصورُ السَّعادةِ السَّرمَديّةِ الخالِدةِ، أو غَياهِبُ السُّجونِ الأَبَديةِ الرَّهيبةِ.
الصورة السادسة [عظَمة السلطنة تقتضي رعيةً لائقةً بها]
تعالَ، وانظُر إلى هذه القاطِراتِ الضَّخمةِ، وإلى هذه الطّائراتِ المَشحُونةِ، وإلى هذه المَخازِنِ الهائلةِ المَملُوءةِ، وإلى هذه المَعارِضِ الأَنيقةِ الجَذّابةِ.. وتأَمَّلْ في الإجراءاتِ وسَيرِ الأُمورِ.. إنَّها جَميعًا تُبيِّنُ أنَّ هناك سَلطَنةً عَظيمةً حقًّا 2فكما أن الجيشَ الهائل في مَيدانِ المُناوراتِ أو مُباشَرةِ الحرب، يتحوَّلُ إلى ما يُشبه غابةَ أشواكٍ، بمُجرَّد تَسَلُّمِه أمرَ: “خُذوا السِّلاحَ، ركِّبوا الحِرابَ”. وكما يتحوَّل المُعَسكَرُ برُمَّته في كل عيد وعرضٍ عسكري إلى ما يُشبه حديقةً جميلة ذاتَ أزهار ملوَّنة بمُجرَّد تَسلُّمِه أمرَ: “احمِلوا شاراتكم، تَقَلَّدوا أوسِمَتَكم”.. كذلك النباتاتُ غيرُ ذاتِ الشُّعور والتي هي نوعٌ من جنودٍ غيرِ مُتناهِية لله سبحانه -كما أن الملائكة والجِنَّ والإنسَ والحَيَوان جُنودُه- فهي عندما تتسلَّم أمر ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ أثناءَ جِهادِها لحفظ الحياة وتُؤمَر بالأمرِ الإلٰهِيِّ: “خُذُوا أسلِحَتكم وعَتادَكم لأجلِ الدِّفاع” تُهيِّئُ الأشجارُ والشُّجيرات المَشوكة رُميحاتِها، فيَتَحوَّل سطحُ الأرض إلى ما يُشبِه المُعسكرَ الضَّخمَ المُدجَّج بالسلاح الأبيض. وإنَّ كل يوم من أيام الربيع، وكل أسبوع فيه بمثابة عيدٍ لطائفة من طوائف النباتات، فتُظهِر كلُّ طائفة منها ما وَهَبه لها سلطانُها من هدايا جميلة، وما أنعم عليها من أَوسِمةٍ مُرصَّعة، فتَعرِض نفسَها -بما يُشبِه العَرضَ العسكريَّ- أمام نظر السلطان الأزليِّ وإشهاده، كأنها تَسمَع أمرًا ربانيًّا: “تقلَّدوا مُرصَّعاتِ الصَّنعة الرَّبّانية، وأوسِمةَ الفِطرة الإلٰهِيّة التي هي الأزهارُ والثِّمار… وفتِّحُوا الأزهارَ”. عندئذٍ يعودُ سطحُ الأرض كأنه مُعسكرٌ عظيم في يومِ عيدٍ بهيجٍ، وفي استعراضٍ هائل رائع يَزخَرُ بالأوسمةِ البرّاقةِ والشّاراتِ اللَّمّاعةِ. فهذا الحَشْدُ من التجهيز الحكيم وهذا المَدَى من العتاد المُنظَّم وهذا القَدْرُ من التزيين البديع يُري لمن لم يَفقِدُ بصرَه أنه أمرُ سلطان قدير لا منتهى لقدرته، وأمرُ حاكِمٍ حكيم لا نهاية لحِكمَتِه. تَحْكُمُ مِن وَراءِ سِتارٍ؛ فمِثلُ هذه السَّلْطَنةِ تَقتَضي حَتمًا رَعايا يَليقُون بها، بينَما تُشاهِدُ أنَّهم قدِ اجتَمَعُوا في هذا المَضِيفِ -مَضِيفِ الدُّنيا- والمَضيفُ يُودِّعُ يَوميًّا صُنوفًا مِنهم ويَستَقبِلُ صُنوفًا؛ وهم قد حَضَروا في مَيدانِ الِامتِحانِ والِاختِبارِ هذا، غيرَ أنَّ المَيدانَ يُبدَّلُ كلَّ ساعةٍ، وهم يَلبَثُون قليلًا في هذا المَعرِضِ العَظيمِ، يَتفَرَّجون على نماذِجِ آلاءِ المَليكِ الثَّمينةِ وعَجائبِ صَنْعَتِه البَديعةِ، غيرَ أنَّ المَعرِضَ نَفسَه يُحَوَّلُ كلَّ دقيقةٍ، فالرّاحِلُ لا يَرجِعُ والقابِلُ يَرحَلُ كذلك.. فهذه الأُمورُ تُبيِّنُ بشَكلٍ قاطِعٍ أنَّ وَراءَ هذا المَضيفِ الفانِي، ووَراءَ هذه المَيادِينِ المُتَبَدِّلة، ووَراءَ هذه المَعارِضِ المُتحَوِّلةِ، قُصورًا دائمةً خالِدةً، ومَساكِنَ طَيِّبةً أَبديةً، وجَنائنَ مَملُوءةً بحَقائقِ هذه النَّماذِج، وخَزائنَ مَشحُونةً بأُصُولِها.
فالأعمالُ والأفعالُ هنا إذًا ما هي إلَّا لِأَجْلِ ما أَعَدَّ هنالك من جَزاءٍ، فالمَلِكُ القَديرُ يُكلِّف هنا ويُجازي هناك، فلِكُلِّ فَرْدٍ لَونٌ مِنَ السَّعادة حَسَبَ استِعدادِه وما أَقدَمَ عليه مِن خَيرٍ.
الصورة السابعة [مقتضى الرقابة والتوثيق]
تعالَ لِنَتَنزَّه قليلًا بين المَدنِيِّين مِنَ النّاسِ لِنُلاحِظَ أَحوالَهم، وما يَجري حولَهم مِن أُمورٍ.. انظُرْ، فها قد نُصِبَت في كلِّ زاوِيةٍ آلاتُ تصويرٍ عَديدةٌ تَلتَقِطُ الصُّورَ، وفي كلِّ مكانٍ كُتَّابٌ كثيرون يُسجِّلون كلَّ شيءٍ، حتَّى أَهوَنَ الأُمورِ.
هيّا انظُر إلى ذاك الجَبَلِ الشّاهِقِ، فقد نُصِبَت عليه آلةُ تصويرٍ ضخمةٌ تَخُصُّ السُّلطانَ نفسَه 3لقد وَضَح قِسمٌ مِن هَذِه المَعَاني الَّتي تُشِير إلَيها هَذِه الصُّورَة في “الحَقِيقة السَّابِعة”. فَآلَة التَّصوير الكُبْرَى هُنا -الَّتي تَخُصُّ السُّلطَان- تُشِير إلَى اللَّوحِ المَحفُوظ، وإلى حَقِيقَتَه، وقَد أَثبَتَت الكَلِمَة “السَّادِسة والعُشرُون” اللَّوحَ المَحفُوظَ، وتَحَقَّق وُجُودُه بِمَا يَأتي: كَمَا أنَّ الهُوِياتِ الشَّخصِيةَ الصَّغيرة تَرمُز إلى وُجودِ سِجِلٍّ كَبِيرٍ لِلهُويَّات، والسَّنَداتِ الصَغِيرةَ تُشعِرُ بوُجودِ سِجِلٍّ أسَاسٍ للسَّنَدَات، ورَّشَحَات قَطَراتٍ صَغِيرَةٍ وغَزِيرَةٍ تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ مَنبَعٍ عَظِيمٍ، كَذَلِك فَإنَّ القُوَى الحَافِظَة في الإنسَان، وأَثمَارَ الأَشجَار، وبُذُورَ الثِّمَار كُلٌّ مِنهَا بمَثَابَة هُويِّاتٍ صَغِيرَة، وبِمَعنَى “لَوحٍ مَحفُوظٍ صَغِيرٍ”، وبِصُورةِ تَرَشُّحاتِ نِقاطٍ صَغِيرَة تَرشَّحَت مِن القَلَمِ الَّذِي كَتَب اللَّوحَ المَحفُوظ الكَبِير. لا بُدَّ أنَّ كُلًّا مِنهَا تُشعِر بِوجُودِ الحَافِظة الكُبْرَى، والسِّجِلِّ الأكبَرِ، واللُّوح المَحفُوظ الأَعظَم، بَل تُثبِتُه وتُبْرِزُه إلى العُقُول النَّافِذة. تَلتَقِط صُوَرَ كلِّ ما يَجري في هذه المَملَكةِ. بمَعنَى أنَّ السُّلطانَ أَصدَرَ أَوامِرَه لِتَسجيلِ الأُمورِ كلِّها، وتَدوِينِ المُعامَلاتِ في مَملَكتِه.. وهذا يعني أنَّ السُّلطانَ المُعظَّم هو الذي يَستَكتِبُ الحَوادِثَ جَميعَها، ويَأمُرُ بتَصويرِها..
فهذا الِاهتِمامُ البالِغُ، وهذا الحِفظُ الدَّقيقُ للأُمورِ، وراءَه مُحاسَبةٌ بلا شكٍّ، إذ هل يُمكِنُ لِحاكِمٍ حَفيظٍ -لا يُهمِلُ أَدنَى مُعامَلةٍ لأَبسَطِ رَعاياه- ألَّا يَحفَظَ ولا يُدوِّنَ الأعمالَ العَظيمةَ لِكِبارِ رَعاياه، ولا يُحاسِبَهم ولا يُجازِيَهم على ما صَنَعوا، مع أنَّهم يُقْدِمُون على أعمالٍ تَمَسُّ المَلِكَ العزيزَ، وتَتعرَّضُ لكِبريائه، وتَأباه رَحمَتُه الواسِعةُ؟
وحيث إنَّهم لا يَنالُون عِقابًا هنا، فلا بُدَّ أنه مُؤَجَّلٌ إلى مَحكَمةٍ كُبْرَى.
الصورة الثامنة [مقتضى الوعد والوعيد]
تعالَ، لِأَتلُوَ عليك هذه الأَوامرَ الصّادِرةَ مِنَ السُّلطانِ.. انظُر، إنَّه يُكَرِّر وَعدَه ووَعيدَه قائلًا: لَآتِينَّ بكم إلى مَقَرِّ سَلْطَنَتي، ولَأُسعِدَنَّ المُطِيعين مِنكم، ولَأَزُجَّنَّ العُصاةَ في السِّجن، ولَأُدَمِّرَنَّ ذلك المَكانَ المُؤقَّتَ، ولَأُنشِئَنَّ مَملَكةً أُخرَى فيها قُصورٌ خالِدةٌ وسُجونٌ دائمةٌ.. عِلمًا أنَّ ما قَطَعه على نَفسِه مِن وَعدٍ، هيِّنٌ عليه تَنفيذُه، وهو بالِغُ الأَهمِّيةِ لرَعاياه؛ أمّا إخلافُ الوَعدِ فهو مُنافٍ كُلِّـيًّا لِعِزَّتِه وقُدرَتِه.
فانظُر أيُّها الغافلُ: إنَّك تُصَدِّق أَكاذيبَ أَوهامِك، وهَذَيانَ عَقلِك، وخِداعَ نَفسِك، ولا تُصَدِّقُ مَن لا يَحتاجُ إلى مُخالَفةِ الوَعدِ قَطْعًا، ومَن لا تَليقُ المُخالَفةُ بغَيرَتِه وعِزَّتِه أَصلًا، ومَن تَشهَدُ الأُمورُ كافّةً على صِدقِه.. إنَّك تَستَحقُّ العِقابَ العَظيمَ بلا شَكٍّ، إذ إنَّ مَثَلَك في هذا مَثَلُ المُسافِر الَّذي يُغمِضُ عَينَيه عن ضَوءِ الشَّمسِ، ويَستَرشِدُ بخَيالِه، ويُريدُ أن يُنيرَ طَريقَه المُخيفَ ببَصِيصِ عَقلِه الَّذي لا يُضِيءُ إلّا كضِياءِ اليَراعةِ (ذُبابِ اللَّيل).
وحيث إنَّه قد وَعَد، فسَيَفِي بوَعدِه حَتمًا، لأنَّ وَفاءَه سَهلٌ عليه وهَيِّنٌ، وهو مِن مُقتَضَياتِ سَلطَنَتِه، وهو ضَروريٌّ جدًّا لنا ولكلِّ شيءٍ.. إذًا هناك مَحكَمةٌ كُبرَى وسَعادةٌ عُظمَى.
الصورة التاسعة [مقتضى الرسل والرسالات]
تعالَ، لِنَنظُر إلى بعضِ رُؤَساءِ 4إنَّ المَعانِيَ الَّتي تُثبِتُها هَذِه الصُّورةُ ستَظهَر في “الحَقِيقَة الثَّامِنة”، فَمَثلًا: أن رُؤَساءَ الدَّوائِر في هَذا المِثَال تَرمُزُ إلى الأَنبِياء والأَولِياء، أمَّا الهَاتفُ فَهو نِسبةٌ ربَّانيّةٌ مُمتدّة مِن القَلب الذي هُو مِرآةُ الوَحيِ ومَظهَرُ الإلهام وبِمَثَابَة بِدَايةِ ذلك الهَاتِف وَسَمَّاعتِه. هذه الدَّوائرِ والجَماعاتِ:
قِسمٌ منهم يُمكِنُهم الاتِّصالُ بالسُّلطان العظيمِ مُباشَرةً، بهاتفٍ خاصٍّ، بل لقد ارتَقَى قِسمٌ آخَرُ وسَما إلى دِيوانِ قُدسِه.. تَأمَّلْ ماذا يقولُ هؤلاء؟ إنَّهم يُخبِرُوننا جميعًا أنَّ السُّلطانَ قد أَعَدَّ مكانًا فَخمًا رائعًا لمُكافأةِ المُحسِنين، وآخَرَ رَهيبًا لمُعاقَبةِ المُسِيئين؛ وأنَّه يَعِد وَعدًا قويًّا ويُوعِد وَعيدًا شديدًا، وهو أَجَلُّ وأَعَزُّ مِن أن يَتَنزَّلَ إلى إِخلافِ ما وَعَدَ وتَوَعَّد؛ عِلمًا أنَّ أَخبارَ المُخبِرين قد وَصَلَت مِنَ الكَثرةِ إلى حدِّ التَّواتُرِ، ومِنَ القُوّةِ إلى دَرَجةِ الاتِّفاقِ والإجماعِ.
فهم يُبلِّغُوننا جَميعًا: بأنَّ مَقَرَّ هذه السَّلطَنة العظيمة التي نَرَى آثارَها ومَلامِحَها هنا، إنَّما هو في مَملَكةٍ أُخرَى بَعيدةٍ، وأنَّ العِماراتِ في مَيدانِ الِامتِحانِ هذا بِناياتٌ وَقتِيّةٌ، وستُبدَّل إلى قُصورٍ دائمةٍ، فتُبَدَّلُ هذه الأرضُ بغَيرِها، لأنَّ هذه السَّلطَنةَ الجَليلةَ الخالِدةَ الَّتي تُعرَف عَظَمتُها مِن آثارِها، لا يُمكِنُ أن تَقتَصِر هَيمَنَتُها على مِثلِ هذه الأُمورِ الزّائلةِ الَّتي لا بقاءَ لها ولا دَوامَ ولا كَمالَ ولا قَرارَ ولا قِيمةَ ولا ثَباتَ، بل تَستَقِرُّ على ما يَليقُ بها وبعَظَمَتِها مِن أُمورٍ تتَّسِمُ بالدَّيمُومةِ والكَمالِ والعَظَمةِ.. فإذًا هناك دارٌ أُخرَى، ولا بُدَّ أن يكونَ الرَّحيلُ إلى ذلك المَقَرِّ.
الصورة العاشرة [دلالة تبدُّل المواسم]
تعالَ يا صاحِبي.. فاليومَ يومُ عيدٍ مَلَكيٍّ عظيمٍ5سَتَرى مَا تَرمُز إلَيه هَذهِ الصُّورَة في “الحَقِيقَة التَّاسِعة”، فَيومُ العِيد مَثلًا إشَارةٌ إلى فَصلِ الرَّبِيع، أمَّا الفلاةُ المُزدَانةُ بالأَزهَار فِإشَارةٌ إلى سَطحِ الأَرض في مَوسِم الرَّبِيع، أمَّا المَناظِرُ والمَشاهِدُ المُتغيِّرة في الشَّاشَة، فالمَقصُودُ مِنهَا أَنواعُ ما يُخرِجُه الرَّبِيع والصَّيف مِن الأَرزَاق الخَّاصّةِ بالحَيَوان والإنسَان الَّتي يُقدِّرُها الصَّانِع القَدِير ذٌو الجَلَال والفَاطِرُ الحَكِيم ذُو الجَمَال، والَّتي يُغيِّرُها بانتِظامٍ كَامِل وَيُجدِّدها بِرَحمَة تَامَّةٍ مِنه سُبحَانَه، ويُرسِلُها في مَراحِلَ مُتعَاقبةٍ مُتتاليةٍ ابتِدَاءً مِن أوَّل الرَّبيع إلى انتهَاءِ الصَّيف.، ستَحدُثُ تَبَدُّلاتٌ وتَغَيُّراتٌ، وستَبْرُزُ أُمورٌ عَجيبةٌ، فلْنَذهَب معًا للنُّزهة في هذا اليومِ البَهيجِ مِن أيّامِ الرَّبيعِ.. إلى تلك الفَلاةِ المُزدانةِ بالأَزهارِ الجَميلةِ.. انظر.. هاهم النَّاسُ مُتَوجِّهون إلى هناك.. انظُر.. هاهنا أَمرٌ غريبٌ عَجيبٌ، فالعِماراتُ كلُّها تَنهارُ وتَتَّخِذُ شكلًا آخَرَ! حَقًّا إنَّه شيءٌ مُعجِزٌ! إذِ العِماراتُ التي انهارَت قد أُعيدَ بِناؤُها هنا فَوْرًا، وانقَلَبَت هذه الفَلاةُ الخالِيةُ إلى مَدينةٍ عامرة!
انظُر.. إنَّها تُريك كلَّ ساعةٍ مَشهَدًا جَديدًا، وتَتَّخِذُ شَكلًا غيرَ شَكْلِها السّابقِ -كشاشة السِّينَما- لاحِظِ الأَمرَ بدِقّةٍ لِتَرَى رَوعةَ هذا النِّظامِ المُتقَنِ في هذه الشّاشةِ الَّتي تَختَلِطُ فيها المَشاهِدُ بكَثرةٍ وتَتَغيَّرُ بسُرعةٍ، فهي مَشاهِدُ حَقيقيةٌ يَأخُذُ كلُّ شيءٍ فيها مكانَه الحَقيقيَّ في غايةِ الدِّقّةِ والِانسِجامِ، حتَّى المَشاهِدُ الخَياليةُ لا تَبلُغُ هذا الحَدَّ مِنَ الِانتِظامِ والرَّوعةِ والإتقانِ، بل لا يَستَطيعُ مَلايينُ السَّحَرةِ البارِعين القِيامَ بمِثلِ هذه الأَعمالِ البَديعةِ.. إذًا فلِلسُّلطانِ العَظيمِ المَستُورِ عنَّا الشَّيءُ الكَثيرُ مِنَ الأُمورِ الخارِقةِ.
فيا أيُّها المُغَفَّلُ.. إنَّك تقولُ: كيف يُمكِنُ أن تُدَمَّرَ هذه المَملَكةُ العَظيمةُ وتُعَمَّرَ مِن جَديدٍ في مكانٍ آخَرَ؟! فها هو ذا أَمامَك ما لا يَقْبَلُه عَقلُك مِن تَقَلُّباتٍ كثيرةٍ وتَبَدُّلاتٍ مُذهِلةٍ! فهذه السُّرعةُ في الِاجتِماعِ والِافتِراقِ، وهذا التَّبَدُّلُ والتَّغَيُّرُ، وهذا البِناءُ والهَدْمُ.. كلُّها تُنْبِئُ عن مَقصَدٍ، وتَنطَوِي على غايةٍ، إذ يُصرَف لِأَجْلِ اجتِماعٍ في ساعةٍ واحِدةٍ ما يُنفَقُ لِعَشْرِ سَنَواتٍ!
فهذه الأَوضاعُ إذًا لَيسَت مَقصُودةً لِذاتِها، بل هي أَمثِلةٌ ونَماذِجُ للعَرْضِ هنا؛ فالسُّلطانُ يُنهِي أَعمالَه على وَجهِ الإعجازِ، كي تُؤخَذَ صُوَرُها، وتُحفَظَ نَتائِجُها وتُسَجَّلَ كما يُسَجَّلُ ويُحفَظُ كلُّ ما في مَيدانِ المُناوَراتِ العَسْكَريةِ. فالأُمورُ والمُعامَلاتُ إذًا ستَجرِي في الِاجتِماعِ الأَكبَرِ وتَستَمِرُّ وَفْقَ ما كانَت هنا، وستُعرَضُ تلك الأُمورُ عَرْضًا مُستَمِرًّا في المَشْهَدِ الأَعظَمِ والمَعرِضِ الأَكبَرِ؛ أي: إنَّ هذه الأوضاعَ الزّائلةَ تُنتِجُ ثِمارًا باقِيةً، وتُوَلِّد صُوَرًا خالِدةً هناك.. فالمَقصُودُ مِن هذه الِاحتِفالاتِ إذًا هو بُلُوغُ سَعادةٍ عُظمَى، ومَحكَمةٍ كُبرَى، وغاياتٍ سامِيةٍ مَستُورةٍ عنّا.
الصورة الحادِيةَ عَشْرةَ [لازم الحكمة والعناية والرحمة والعدالة]
تعالَ أيُّها الصَّدِيقُ المُعانِدُ.. لِنَرْكَب طائِرةً أو قِطارًا، لِنَذْهَب إلى الشَّرقِ أو إلى الغَرْبِ -أي: إلى الماضي أو إلى المُستقبَلِ- لِنُشاهِدَ ما أَظهَره السُّلطانُ مِن مُعجِزاتٍ مُتنوِّعةٍ في سائرِ الأَماكنِ؛ فما رَأَيناه هنا في المَعرِض، أو في المَيدانِ، أو في القَصرِ، مِنَ الأُمورِ العَجيبةِ له نَماذِجُ في كلِّ مكانٍ، إلَّا أنَّه يَختَلِفُ مِن حيثُ الشَّكلُ والتَّركيبُ.
فيا صاحِبي.. أَنعِمِ النَّظَرَ في هذا، لِتَرَى مَدَى ظُهورِ انتِظامِ الحِكمةِ، ومَبلَغَ وُضوحِ إشاراتِ العِنايةِ، ومِقدارَ بُروزِ أَماراتِ العَدالةِ، ودَرَجةَ ظُهُورِ ثَمَراتِ الرَّحمةِ الواسعةِ، في تلك القُصورِ المُتَبدِّلة، وفي تلك المَيادينِ الفانِيةِ، وفي تلك المَعارِضِ الزّائلة؛ فمَن لم يَفْقِدْ بَصِيرتَه يَفْهَمْ يَقينًا أنَّه لن تَكُون بل لا يُمكِنُ تَصَوُّرُ حِكمةٍ أَكمَلَ مِن حِكمةِ ذلك السُّلطانِ، ولا عِنايةٍ أَجمَلَ مِن عِنايَتِه، ولا رَحمةٍ أَشمَلَ مِن رَحمَتِه، ولا عَدالةٍ أَجَلَّ مِن عَدالَتِه.
ولكن لَمّا كانَت هذه المَملَكةُ -كما هو مَعلُومٌ- قاصِرةً عن إظهارِ حَقائقِ هذه الحِكمةِ والعِنايةِ والرَّحمةِ والعَدالةِ، ولو لم تَكُن هناك في مَقَرِّ مَملَكتِه -كما تَوَهَّمْتَ- قُصورٌ دائمةٌ، وأَماكِنُ مَرمُوقةٌ ثابتةٌ، ومَساكِنُ طَيِّبةٌ خالدة، ومُواطِنون مُقيمُون، ورَعايا سُعَداءُ.. تُحقِّق تلك الحِكمةَ والعِنايةَ والرَّحمةَ والعَدالةَ، يَلزَمُ عِندئذٍ إنكارُ ما نُبصِرُه مِن حِكمةٍ، وإنكارُ ما نُشاهِدُه مِن عِنايةٍ، وإنكارُ ما نَراه مِن رَحمةٍ، وإنكارُ هذه الأَماراتِ والإشاراتِ للعَدالةِ الظّاهِرةِ البَيِّنةِ.. إنكارُ كلِّ ذلك بحَماقةٍ فاضِحةٍ كحَماقةِ مَن يَرَى ضَوءَ الشَّمس ويُنكِرُ الشَّمسَ نَفسَها في رائعةِ النِّهار! ويَلزَمُ أيضًا القَولُ بأنَّ القائمَ بما نَراه مِن إجراءاتٍ تَتَّسِمُ بالحِكمةِ وأَفعالٍ ذاتِ غاياتٍ كريمةٍ وإحساناتٍ مِلْؤُها الرَّحمةُ إنَّما يَلهُو ويَعبَثُ ويَغدِرُ -حاشاه ثم حاشاه- وما هذا إلَّا قلبُ الحَقائقِ إلى أَضدادِها، وهو المُحالُ باتِّفاقِ جَميعِ ذَوِي العُقولِ، غيرَ السُّوفْسَطائيِّ الأَبلهِ الذي يُنكِر وُجودَ الأشياءِ، حتَّى وُجودَ نَفسِه.
فهناك إذًا دِيارٌ غيرُ هذه الدِّيارِ، فيها مَحكَمةٌ كُبْرَى، ودارُ عدالةٍ عُلْيا، ومَقَرُّ كَرَمٍ عَظيمٌ، لِتَظْهَرَ فيها هذه الرَّحمةُ وهذه الحِكمةُ وهذه العِنايةُ وهذه العَدالةُ بوُضُوحٍ وجَلاءٍ.
الصورة الثانية عشرة [دلالة رقيّ التجهيزات والرُّتب]
تَعالَ فلْنَرجِعِ الآنَ يا صاحِبي، لِنَلتَقِيَ ضُبّاطَ هذه الجَماعاتِ ورُؤَساءَها، انظُرْ إلى مُعَدّاتِهم.. أَزُوِّدوا بها لِقَضاءِ مُدّةٍ قصيرةٍ مِنَ الزَّمنِ في مَيدانِ التَّدريبِ هذا، أم أنَّها وُهِبَت لهم لِيَقضُوا حَياةً سَعيدةً مَديدةً في مَكانٍ آخَرَ؟ ولَمَّا كُنّا لا نَستَطيعُ لِقاءَ كلِّ واحدٍ مِنهم، ولا نَتَمَكَّنُ مِنَ الاطِّلاعِ على جَميعِ لَوازِمِهم وتَجهيزاتِهم، لذا نُحاوِلُ الِاطِّلاعَ على هُويةِ وسِجِلِّ أَعمالِ واحدٍ مِنهم كنَمُوذجٍ ومِثالٍ.
ففي الهُويةِ نَجِدُ رُتبةَ الضّابِط، ومُرَتَّبَه، ومُهِمَّتَه، وامتِيازاتِه، ومَجالَ أَعمالِه، وكلَّ ما يَتَعلَّقُ بأَحوالِه.. لاحِظْ أنَّ هذه الرُّتبةَ لَيسَت لأيّامٍ مَعدودةٍ، بل لِمُدّةٍ مَديدةٍ.. ولقد كُتِب في هُويَّتِه أنَّه يَتَسلَّمُ مُرَتَّبَه مِنَ الخَزينةِ الخاصّةِ بتاريخِ كذا.. غيرَ أنَّ هذا التاريخَ بَعيدٌ جِدًّا، ولا يأتي إلَّا بعدَ إنهاءِ مَهامِّ التَّدريبِ في هذا المَيدانِ.. أمّا هذه الوَظيفةُ فلا تُوافِقُ هذا المَيدانَ المُؤقَّتَ ولا تَنسَجِمُ معَه، بل هي للفَوزِ بسَعادةٍ دائمةٍ في مكانٍ سامٍ عندَ المَلِك القَديرِ.. أمّا الواجِباتُ فهي كذلك لا يُمكِنُ أن تكونَ لِقَضاءِ أيّامٍ مَعدُودةٍ في دار الضِّيافةِ هذه، وإنَّما هي لِحَياةٍ أُخرَى سَعيدةٍ أَبَديةٍ.. يَتَّضِحُ مِنَ الهُويةِ بجَلاءٍ أنَّ صاحِبَها مُهَيَّأٌ لمَكانٍ آخَرَ، بل يَسعَى نحوَ عالَمٍ آخَرَ.
انظُرْ إلى هذه السِّجِلّاتِ الَّتي حُدِّدَت فيها كَيفيةُ استِعمالِ المُعدّاتِ والمَسؤُولياتِ المُتَرتِّبةِ عليها، فإن لم تكن هناك مَنزِلةٌ رَفيعةٌ خالِدةٌ غيرَ هذا المَيدانِ، فلا مَعنَى لهذه الهُويّةِ المُتقَنةِ، ولا لهذا السِّجِلِّ المُنتَظِم، ولَسَقَط الضّابطُ المُحتَرَمُ والقائدُ المُكرَّمُ والرَّئيسُ المُوَقَّر إلى دَرْكٍ هابِطٍ ولَقِيَ الشَّقاءَ والذِّلّةَ والمَهانةَ والنَّكبةَ والضَّعفَ والفَقرَ.. وقِسْ على هذا، فأَيْنَما أَنعَمْتَ النَّظَرَ مُتأَمِّلًا قادَك النَّظَرُ والتَّدبُّرُ إلى أنَّ هناك بقاءً بعدَ هذا الفَناءِ..
فيا صَديقي.. إنَّ هذه المَملَكةَ المُؤقَّتةَ ما هي إلَّا بمَثابةِ مَزرَعةٍ، ومَيدانِ تَعليمٍ، وسُوقٍ تِجاريٍّ، فلا بُدَّ أن تَأتِيَ بعدَها مَحكَمةٌ كُبرَى وسَعادةٌ عُظمَى؛ فإذا أَنكَرْتَ هذا، فسوف تُضطَرُّ إلى إنكارِ كلِّ الهُوِيّاتِ والسِّجِلّاتِ الَّتي يَمتَلِكُها الضّابطُ، وكلِّ تلك العُدَدِ والأَعتِدةِ والتَّعليماتِ، بل تُضطَرُّ إلى إنكارِ جَميعِ الأَنظِمةِ في هذه المَملَكةِ، بل إنكارِ وُجودِ الدَّولةِ نَفسِها، ويَنبَغي عند ذلك أن تُكَذِّبَ جَميعَ الإجراءاتِ الحادِثةِ.. وعندها لا يُمكِنُ أن يُقالَ لك: إنَّك إنسانٌ له شُعورٌ. بل تكونُ إذ ذاك أَشَدَّ حَماقةً مِنَ السُّوفسَطائيِّين.
❀ ❀ ❀
وإيّاك إيّاك أن تَظُنَّ أنَّ دَلائلَ وإشاراتِ تَبديلِ المَملَكةِ مُنحَصِرةٌ في “اثنَتَيْ عَشْرةَ” صُورةً الَّتي أَوْرَدْناها، إذ إنَّ هُناك ما لا يُعَدُّ ولا يُحصَى مِنَ الأَماراتِ والأَدِلّة على أنَّ هذه المَملَكةَ المُتَغيِّرةَ الزّائلةَ تَتَحوَّلُ إلى أُخرَى مُستَقِرّةٍ باقيةٍ، وهناك الكَثيرُ الكَثيرُ مِنَ الإشاراتِ والعَلاماتِ تَدُلُّ على أنَّ هؤلاء النّاسَ سيُنقَلُون مِن دارِ الضِّيافةِ المُؤقَّتةِ الزّائلةِ إلى مَقَرِّ السَّلطَنةِ الدّائمةِ الخالِدةِ.
يا صاحِبي.. تعالَ لِأُقَرِّرَ لك بُرهانًا أَكثرَ قُوّةً ووُضوحًا مِن تلك البَراهِينِ الِاثنَي عَشَرَ الَّتي أَنبَأَتْ عنها تلك الصُّوَرُ المُتقدِّمةُ.. تعالَ، فانظُرْ إلى المَبعُوثِ الكريمِ، صاحِبِ الأَوسِمةِ الرَّفيعةِ الَّذي شاهَدْناه في الجَزيرةِ مِن قَبلُ.. إنَّه يُبَلِّغ أَمرًا إلى الحُشُودِ الغَفيرةِ الَّتي تَتَراءَى لنا على بُعدٍ، فهَيَّا نَذْهَبُ ونُصغِي إليه.. انتَبِهْ! فها هو يُفسِّرُ للمَلَأِ البَلاغَ السُّلطانِيَّ الرَّفيعَ ويُوَضِّحُه قائلًا لهم:
تَهَيَّؤوا! ستَرحَلُون إلى مَملَكةٍ أُخرَى خالِدةٍ، ما أَعظَمَها مِن مَملَكةٍ رائعةٍ! إنَّ مَملَكَتَنا هذه تُعَدُّ كالسِّجنِ بالنِّسبةِ إليها، فإذا ما أَصغَيتُم إلى هذا الأَمرِ بإمعانٍ، ونَفَّذتُموه بإتقانٍ ستَكُونون أَهلًا لِرَحمةِ سُلطانِنا وإحسانِه في مُستَقَرِّه الَّذي تَتَّجِهون إليه، وإلَّا فالزِّنزاناتُ الرَّهيبةُ مَثواكم جَزاءَ عِصيانِكمُ الأَمرَ وعدمِ اكتِراثِكم به..
إنَّه يُذَكِّر الحاضرين بهذا البَلاغِ، وأنت تَرَى على ذلك البَلاغِ العَظيمِ خَتْمَ السُّلطانِ الَّذي لا يُقلَّد؛ والجَميعُ يُدرِكُون يَقينًا -إلَّا أَمثالَك مِنَ البُلَهاءِ- أنَّ ذلك البَلاغَ بَلاغُ المَلِكِ، وأنَّ ذلك المَبعُوثَ الكَرِيمَ يَحمِلُ مِنَ الأَوسِمةِ الرَّفيعةِ ما يَجعَلُ الجَمِيعَ -إلّا أَمثالَك مِنَ العُميانِ- يَعرِفُون بمُجرَّدِ النَّظَرِ إلَيْها أنَّه مُبَلِّغٌ أَمِينٌ لِأَوامِرِ السُّلطانِ.
فيا تُرى! هل يُمكِنُ الِاعتِراضُ على مَسألةِ تَبديلِ هذه المَملَكةِ الَّتي يَدعُو إلَيْها كُلٌّ مِن ذلك المَبعُوثِ الكَرِيمِ والبَلاغِ المَلَكيِّ السّامِي بكلِّ ما أُوتِيا مِن قُوّةٍ؟ كلّا.. لا يُمكِنُ ذلك أبدًا، إلَّا إذا أَنكَرتَ جَمِيعَ ما تَراه مِن أُمُورٍ وحَوادِثَ.
فالآنَ أيُّها الصَّديقُ.. لك أن تقولَ ما تَشاءُ.
ماذا عَسايَ أن أَقُولَ؟ وهل بَقِيَ مَزيدٌ مِن قَولٍ لقائلٍ أمامَ هذه الحَقائقِ؟! وهل يُقالُ للشَّمسِ وهي في كَبِدِ السَّماء: أين هي؟! إنَّ كلَّ ما أُريدُ أن أَقُولَه هو: الحَمدُ لله، وألفُ شُكرٍ وشُكرٍ، فقد نَجَوْتُ مِن قَبضةِ الأَوهامِ والأَهواءِ، وتَحرَّرتُ مِن إسارِ النَّفسِ والسِّجنِ الأَبَديِّ، فآمَنتُ بأنَّ هناك دارَ سَعادةٍ عندَ السُّلطانِ المُعَظَّم، ونحن مُهَيَّؤُون لها بعدَ هذه الدّارِ الفانِيةِ المُضطَرِبةِ.
وهكذا تَمَّتِ الحِكايةُ الَّتي كانَت كِنايةً عنِ الحَشْرِ والقِيامةِ.. والآن نَنتَقِلُ بتَوفيقِ العَلِيِّ القَديرِ إلى الحَقائقِ العُليا، فسَنُبيِّنُها في “اثنَتَيْ عَشْرةَ حَقيقةً”، وهي مُتَسانِدةٌ مُتَرابِطةٌ مُقابِلَ الصُّوَرِ الِاثنَتَيْ عَشْرةَ، بعدَ أن نُمَهِّد لها بمُقدِّمةٍ.
المُقدِّمة
نُشِيرُ إشاراتٍ فحَسْبُ إلى بعضِ المَسائلِ الَّتي أَوْضَحناها في أَماكِنَ أُخرَى، أي: في كُلٍّ مِنَ الكَلِماتِ الثانيةِ والعِشرِين، والتّاسِعةَ عَشْرةَ، والسّادِسةِ والعِشرِين.
الإشارةُ الأُولَى: [في بدهية وجود صانع العالَم]
هناك ثلاثُ حَقائقَ للمُغَفَّلِ ولِصَديقِه النّاصِحِ الأَمينِ المَذكُورَينِ في الحِكايةِ:
الأُولَى: هي نَفسِي الأَمّارةُ وقَلبي.
الثانية: مُتعَلِّمُو الفَلسَفةِ وتلاميذُ القُرآنِ الكَريمِ.
الثالثة: مِلَّةُ الكُفرِ والأُمّةُ الإسلاميةُ.
إنَّ عَدَمَ مَعرِفةِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى هو الَّذي أَوقَعَ مُتعَلِّمي الفَلسَفةِ ومِلَّةَ الكُفرِ والنَّفسَ الأَمّارةَ في الضَّلالةِ الرَّهيبةِ. فمِثلَما قال النّاصِحُ الأَمينُ في الحِكايةِ: إنَّه لا يُمكِنُ أن يكُونَ حَرفٌ بلا كاتِبٍ، ولا قانُونٌ بلا حاكِمٍ، كذلك نَقُولُ:
إنَّه مُحالٌ أن يكونَ كِتابٌ بلا كاتِبٍ، ولا سيَّما كتابٌ كهذا الَّذي تَتَضمَّنُ كلُّ كَلِمةٍ مِن كَلِماتِه كتابًا خُطَّ بقَلَمٍ دَقيقٍ، والَّذي تَحتَ كلِّ حَرفٍ مِن حُروفِه قَصيدةٌ دُبِّجَت بقَلمٍ رَفيعٍ. وكذلك مِن أَمْحَلِ المُحالِ أن يكُونَ هذا الكَوْنُ مِن غيرِ مُبدِعٍ، حيثُ إنَّ هذا الكَونَ كتابٌ على نَحوٍ عَظيمٍ تَتَضمَّنُ كلُّ صَحيفةٍ فيه كُتُبًا كَثيرةً، لا بل كلُّ كَلِمةٍ مِنها كتابًا، وكلُّ حَرفٍ مِنها قَصيدةً.. فوَجهُ الأَرضِ صَحيفةٌ، وما أَكثَرَ ما فيها مِن كُتُبٍ! والشَّجَرةُ كَلِمةٌ واحِدةٌ، وما أَكثَرَ ما فيها مِن صَحائفَ! والثَّمَرةُ حَرفٌ، والبِذرةُ نُقطةٌ.. وفي هذه النُّقطةِ فِهرِسُ الشَّجَرةِ الباسِقةِ وخُطّةُ عَمَلِها.. فكِتابٌ كهذا ما يكُونُ إلَّا مِن إبداعِ قَلَمِ صاحِبِ قُدرةٍ مُتَّصِفٍ بالجَمالِ والجَلالِ والحِكمةِ المُطلَقةِ، أي: إنَّ مُجرَّدَ النَّظَرِ إلى العالَمِ ومُشاهَدَتَه يَستَلزِمُ هذا الإيمانَ، إلَّا مَن أَسْكَرَته الضَّلالةُ.
ومِثلَما لا يُمكِنُ أن تكُونَ دارٌ بلا بَنّاءٍ، لا سيَّما هذه الدّارُ الَّتي زُيِّنَت بأَبدَعِ زِينةٍ، ونُقِشَت بأَرْوَعِ نُقُوشٍ وأَعجَبِها وشُيِّدَت بصَنعةٍ خارِقةٍ، حتَّى إنَّ كلَّ حَجَرٍ مِن أَحجارِها يَتَجسَّمُ فيه فَنُّ ما في البِناءِ كُلِّه. فلا يَقبَلُ عاقِلٌ أن تكُونَ دارٌ مِثلُ هذه الدّارِ بلا بَنّاءٍ ماهِرٍ، وبخاصّةٍ أنَّه يُشَيِّد في هذا الدِّيوانِ -في كلِّ ساعةٍ- مَساكِنَ حَقيقيةً في غايةِ الِانتِظامِ والتَّناسُقِ، ويُغيِّرُها بانتِظامٍ وسُهولةٍ كامِلَينِ -كسُهولةِ تَبدِيلِ المَلابِسِ- بل إنَّه يُنشِئُ في كلِّ رُكنٍ غُرَفًا صَغيرةً عِدّةً في كلِّ مَشهَدٍ حَقيقيٍّ.
فلا بُدَّ لهذا الكَونِ العَظيمِ مِن خالِقٍ حَكيمٍ عَليمٍ قَديرٍ مُطلَقٍ، لأنَّ هذا الكَونَ إنَّما هو كالقَصرِ البَديعِ.. الشَّمسُ والقَمَرُ مَصابيحُه، والنُّجومُ شُمُوعُه وقَنادِيلُه، والزَّمَنُ شَريطٌ يُعلِّقُ عليه الخالِقُ ذو الجَلالِ -في كل سَنةٍ- عالَمًا آخَرَ يُبْرُِزه للوُجودِ، مُجدِّدًا فيه صُوَرًا مُنتَظِمةً في ثلاثِ مِئةٍ وسِتِّين شَكلًا وطِرازًا، مُبدِّلًا إيّاه بانتِظامٍ تامٍّ، وحِكمةٍ كامِلةٍ، جاعِلًا سَطْحَ الأَرضِ مائدةَ نِعَمٍ، يُزَيِّنُها في كلِّ رَبيعٍ بثَلاثِ مِئةِ ألفِ نَوعٍ مِن أَنواعِ مَخلُوقاتِه، ويَملَؤُها بما لا يُعَدُّ ولا يُحصَى مِن آلائه، مع تَمييزِ كلٍّ مِنها تَمييزًا كامِلًا، على الرَّغمِ مِن تَداخُلِها وتَشابُكِها.. وقِسْ على هذه الأشياءِ الأُمورَ الأُخرَى.. فكيف يُمكِنُ التَّغافُلُ عن صانِعِ مِثلِ هذا القَصرِ المُنيفِ؟
ثمَّ ما أَعظَمَ بَلاهةَ مَن يُنكِرُ الشَّمسَ في رابِعةِ النَّهارِ، وفي صَحوةِ السَّماء! في الوَقتِ الَّذي يُرَى تَلَأْلُؤُ أَشِعَّتِها، وانعِكاسُ ضَوئِها، على زَبَدِ البَحرِ وحَبابِه، وعلى مَوادِّ البَرِّ اللّامِعةِ، وعلى بِلَّوْراتِ الثَّلجِ النّاصِعةِ، لأن إنكارَ الشَّمسِ الواحِدةِ ورَفضَها في هذه الحالةِ يَستَلزِمُ قَبولَ شُمَيساتٍ حَقيقيةٍ أَصيلةٍ، بعَدَدٍ قَطَراتِ البَحرِ وبعَدَدِ الزَبَدِ والحَبابِ وبعَددِ بِلَّوْراتِ الثَّلجِ! ومِثلَما يكونُ قَبولُ وُجودِ شَمسٍ عَظيمةٍ في كلِّ جُزَيئةٍ -وهي تَسَعُ ذَرّةً واحِدةً- بلاهةً، فإنَّ عَدَم الإيمانِ بالخالقِ ذي الجَلالِ، ورَفضَ التَّصديقِ بأَوصافِ كَمالِه سُبحانَه -مع رُؤيةِ هذه الكائناتِ المُنتَظِمةِ المُتَبدِّلةِ والمُتَعاقِبةِ بحِكمةٍ في كلِّ آنٍ والمُتَجدِّدةِ بتَناسُقٍ وانتِظامٍ في كلِّ وَقتٍ- ضلالةٌ أَدهَى ولا شَكَّ، بل هَذَيانٌ وجُنونٌ، لأنَّه يَلزَمُ إذ ذاك قَبولُ أُلُوهيّةٍ مُطلَقةٍ في كلِّ شيءٍ حتَّى في كلِّ ذَرّةٍ! لأنَّ كلَّ ذَرّةٍ مِن ذَرّاتِ الهَواءِ مثلًا تَستَطيعُ أن تَدخُلَ في كلِّ زَهرةٍ، وفي كلِّ ثَمَرةٍ، وفي كلِّ وَرَقةٍ، وتَتَمكَّنَ مِن أن تُؤَدِّيَ دَوْرَها هناك؛ فلو لم تَكُن هذه الذَّرّةُ مَأمُورةً ومُسَخَّرةً لَلَزِمَ أن تكون على عِلمٍ بأَشكالِ ما تَمَكَّنَت مِنَ الدُّخُولِ فيه، وبصُورَتِه وتَركِيبِه، وهَيْئتِه، أي: يَجِبُ أن تكونَ ذاتَ عِلمٍ مُحيطٍ، وذاتَ قُدرةٍ شامِلةٍ كي تَستَطيعَ القِيامَ بذلك!!
وكلَّ ذَرّةٍ مِن ذَرّاتِ التُّرابِ مثلًا يُمكِنُ أن تكون سَببًا لِنُشُوءِ البُذُورِ ونُمُوِّ أَنواعِها جَميعًا، فلو لم تكن مَأْمُورةً ومُسَخَّرةً لَلَزِمَ أن تَحتَوِيَ على آلاتٍ وأَجهِزةٍ مَعنَويةٍ بعَدَدِ أَنواعِ الأَعشابِ والأَشجارِ، أو يَجِبُ مَنْحُها قُدرةً ومَهارةً بحيثُ تَعلَمُ جَميعَ أَشكالِ تَراكِيبِها، فتَصنَعُها، وتَعرِفُ جَميعَ صُوَرِها، فتَنسُجُها.. وقِسْ على هذا سائرَ المَوجُوداتِ، حتَّى تَفهَمَ أنَّ للوَحدانيّةِ دَلائلَ واضِحةً باهِرةً في كلِّ شيءٍ.
نعم، إنَّ خَلْقَ كلِّ شيءٍ مِن شيءٍ واحِدٍ، وخَلْقَ شيءٍ واحدٍ مِن كلِّ شيءٍ، إنَّما هو عَمَلٌ يَخُصُّ خالِقَ كلِّ شيءٍ.. فتَدَبَّرْ وتَأَمَّلْ في قولِه تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾ واعلَم أنَّ عَدَمَ الِاعتِقادِ بالإلٰهِ الواحدِ الأَحَدِ يَستَلزِمُ الِاعتِقادَ بآلهةٍ عِدّةٍ بعَدَدِ المَوجُوداتِ.
الإشارة الثانية: [في إثبات الرسالة الأحمدية ولزومها]
لقد جاءَ في الحِكايةِ ذِكرُ مَبعُوثٍ كَريمٍ، وذُكِرَ أنَّ مَن لم يَكُن أَعمَى يَفْهَمُ مِن رُؤيةِ أَوْسِمَتِه: أنَّه شَخصٌ عَظيمٌ، لا يَأتَمِرُ إلَّا بأَمرِ السُّلطانِ، فهو عامِلُه الخاصُّ.. فهذا المَبعُوثُ إنَّما هو رسولُنا الأَعظَمُ (ﷺ).
نعم، يَلزَمُ أن يكون لِمِثلِ هذا الكَونِ البَديعِ ولِصانِعِه القُدُّوسِ، مثلُ هذا الرَّسولِ الكريمِ، كلُزُومِ الضَّوءِ للشَّمسِ، لأنَّه كما لا يُمكِنُ للشَّمسِ إلَّا أن تُشِعَّ ضِياءً، كذلك لا يُمكِنُ للأُلُوهيةِ إلّا أن تُظهِرَ نَفسَها بإرسالِ الرُّسُلِ الكِرامِ عَلَيهم السَّلَام.
فهل يُمكِنُ ألّا يَرغَبَ جَمالٌ في غايةِ الكَمالِ في إظهارِ نَفسِه بوَسيلةٍ ودَليلٍ يُعرِّفُه؟
أم هل يُمكِنُ ألّا يَطلُبَ كَمالُ الصَّنعةِ في غايةِ الجَمالِ الإعلانَ عنه بوَساطةٍ تَلْفِتُ الأَنظارَ إليه؟
أم هل يُمكِنُ ألّا تَطلُبَ سَلطَنةٌ كُلِّيّةٌ لِرُبُوبيةٍ عامّةٍ شامِلةٍ إعلانَ وَحدانيَّتِها وصَمَدانيَّتِها على مُختَلِفِ الطَّبَقاتِ بوَساطةِ مَبعُوثٍ ذي جَناحَينِ؟ أي: ذي صِفَتَينِ: صِفةِ العُبوديةِ الكُلِّـيَّة، فهو مُمَثِّلُ طَبَقاتِ المَخلُوقاتِ عندَ الحَضْرةِ الرَّبّانيةِ؛ وصِفةِ الرِّسالةِ والقُربِ إليه، فهو مُرسَلٌ مِن لَدُنه سُبحانَه إلى العالَمِين كافّةً.
أم هل يُمكِنُ لِصاحِبِ جَمالٍ مُطلَقٍ ألّا يَرُومَ أن يَشهَدَ هو ويُشهِدَ خَلْقَه مَحاسِنَ جَمالِه ولَطائفَ حُسْنِه في مَرايا تَعكِسُ هذا الجَمالَ؟ أي: بوَساطةِ رسولٍ حَبيبٍ؛ فهو حَبيبٌ لِتَودُّدِه إلى الله سُبحانَه بعُبُودِيَّتِه الخالِصةِ، وهو رسولٌ لأنَّه يُحبِّبُ اللهَ سُبحانَه إلى الخَلقِ بإظهارِ جَمالِ أَسمائِه الحُسنَى.
أم هل يُمكِنُ ألّا يُريدَ مَن يَملِكُ خَزائنَ مَشحُونةً بأَغلَى الأَشياءِ وأَعجَبِها وبما يُدهِشُ العُقولَ، إظهارَ كَمالِه المُستَتِرِ، وألّا يَطلُبَ عَرْضَه على أَنظارِ الخَلقِ أَجمَعين، وكَشْفَه على مَرْأًى مِنهم، بوَساطةِ مُعَرِّفٍ حاذِقٍ ومُعلِنٍ وَصَّافٍ؟
أم هل يُمكِنُ لِمَن زيَّن هذا الكونَ بمَخلوقاتٍ مُعبِّرةٍ عن كَمالِ أَسمائِه الحُسنَى، وجَعَلَه قَصرًا رائعًا، وجَمَّله ببَدائعِ صَنعَتِه المُذهِلةِ، وعَرَضَه على الأَنظارِ، ثمَّ لا يَكِلُ أَمرَ إيضاحِه إلى مُرشِدٍ مُعلِّمٍ رائدٍ؟
أم هل يُمكِنُ ألّا يُبيِّنَ مالِكُ هذا الكَونِ بوَساطةِ رسولٍ: ما الغايةُ مِن تَحَوُّلاتِ هذا الكَونِ؟ وما القَصدُ مِن هذا الطِّـلَّسْمِ المُغلَقِ؟ وألّا يُجيبَ بوَساطَتِه عن أَلغازِ الأَسئلةِ الثّلاثةِ المُستَعصِيةِ في المَوجُوداتِ، وهي: مِن أينَ؟ والى أينَ؟ ومَن تكُونُ؟
أم هل يُمكِنُ للخالِقِ ذي الجَلالِ الَّذي عَرَّف نَفسَه إلى ذَوِي الشُّعورِ بهذه المَخلُوقاتِ الجَميلةِ، وحَبَّبها إليهم بنِعَمِه الغاليةِ، ألّا يُبَيِّن لهم بوَساطةِ رَسولٍ ما يُريدُ مِنهم وما يُرضيه إزاءَ هذه النِّعَمِ السّابِغةِ؟
أم هل يُمكِنُ للخالِقِ الَّذي ابتَلَى النَّوعَ الإنسانِيَّ بكَثرةِ المَشاعِرِ والاتِّجاهاتِ، وهَيَّأ استِعدادَه للعُبُوديةِ التّامّةِ الكُلِّـيَّة، ألّا يَطلُبَ تَوجيهَ أَنظارِ هذا النَّوعِ مِنَ الكَثرةِ إلى التَّوحيدِ بوَساطةِ مُرشِدٍ مُرسَلٍ؟
وهكذا.. فإن هناك دَلائلَ أُخرَى زيادةً على ما تَقَدَّم، كلُّها بَراهينُ قاطِعةٌ تُبيِّنُ: “وظائفَ النُّبوّةِ ومَهامَّها”، وتُوَضِّحُ أنَّ الأُلوهيةَ لا تكونُ بلا رِسالةٍ.
والآن، فهل ظَهَر في العالَمِ مَن هو أَكثَرُ أَهلِيّةً، وأَجمَعُ لتلك الأَوصافِ والوَظائفِ الَّتي ذُكِرَت، مِن مُحمَّدٍ الهاشِميِّ (ﷺ)؟ أم هل هناك أَحَدٌ أَليَقُ مِنه (ﷺ) لِمَنصِبِ الرِّسالة ومُهِمّةِ التَّبليغِ؟ وهل أَظهَرَ الزَّمانُ أحدًا أَعظَمَ أَهليّةً مِنه؟ كلَّا.. ثمَّ كلَّا.. فهو إمامُ جَميعِ المُرسَلين، وقُرّةُ عَينِ كلِّ الأَصفِياءِ، وسُلطانُ جَميعِ المُرشِدين، وزُبدةُ كلِّ المُختارِين والمُقرَّبين، صاحِبُ أُلوفِ المُعجِزاتِ كشَقِّ القَمَرِ، ونَبَعانِ الماءِ مِن بينِ أَصابعِه الشَّريفةِ، ممّا عدا دَلائلَ نُبُوَّتِه وأَماراتِها الَّتي لا تُحصَى، ممّا هو مَحَلُّ إجماعِ أَهلِ الفَضلِ والعِلمِ، وعدا القرآنَ العَظيمَ الَّذي هو بَحرُ الحَقائقِ والمُعجِزةُ الكُبْرَى، إذ إنَّه كالشَّمسِ السّاطِعةِ دَليلٌ قاطِعٌ على صِدقِ رِسالتِه.. ولقد أَثْبَتْنا إعجازَ القُرآنِ بما يَقْرُبُ مِن أَربعين وَجهًا مِن وُجوهِ الإعجازِ في “رسائلِ النُّور”، ولا سيَّما في “الكَلِمةِ الخامِسةِ والعِشرين”.
الإشارة الثالثة: [الإنسان صغيرٌ مبنًى كبيرٌ معنًى]
لا يَخْطُرَنَّ على بالِ أَحَدٍ فيقولَ: ما أَهمِّيّةُ هذا الإنسانِ الصَّغيرِ وما قِيمَتُه حتَّى تَنتَهيَ هذه الدُّنيا العَظيمةُ وتُفتَحَ مَنازِلُ أُخرَى لِمُحاسَبَتِه على أَعمالِه؟!
لأنَّ هذا الإنسانَ هو سيِّد المَوجُوداتِ رَغمَ أنَّه صَغيرٌ جدًّا، لِما يَملِكُ مِن فِطرةٍ جامِعةٍ شامِلةٍ.. فهو قائدُ المَوجُوداتِ، والدّاعي إلى سُلطانِ أُلوهِيّةِ اللهِ، والمُمَثِّـلُ للعُبوديةِ الكُلِّـيَّة الشّامِلةِ ومَظهَرُها، لذا فإنَّ له أَهَمِّيّةً عُظمَى.
ولا يَخطُرَنَّ على البالِ كذلك: كيف يكونُ هذا الإنسانُ مَحكُومًا بعَذابٍ أَبَديٍّ، مع أنَّ له عُمُرًا قَصِيرًا جِدًّا؟! لأنَّ الكُفرَ جَريمةٌ كُبْرَى، وجِنايةٌ لا حُدودَ لها، حيثُ إنَّه يَهبِطُ بقِيمةِ الكائناتِ ودَرَجَتِها -التي تُوازِي قِيمةَ مَكاتيبَ صَمَدانيّةٍ ودَرَجَتَها- إلى هاوِيةِ العَبَثِ، ويُوهِمُ عدمَ وُجودِ الغايةِ مِن إيجادِها.. إنَّه تَحقيرٌ بَيِّنٌ للكائناتِ كلِّها، وإنكارٌ لِما يُشاهَدُ مِن أَنوارِ الأَسماءِ الحُسنَى كلِّها، وإنكارُ آثارِها في هذه المَوجُوداتِ، ومِن ثَمَّ فإنَّه تكذيبُ ما لا يُحصَى مِن الأَدلّةِ الدّالّةِ على حَقيقةِ وُجودِ ذاتِ الحَقِّ سُبحانَه وتَعالَى؛ وكلُّ هذا جِنايةٌ لا حُدودَ لها، والجِنايةُ الَّتي لا حُدودَ لها تُوجِبُ عَذابًا غيرَ مُحَدَّدٍ بحُدودٍ.
الإشارة الرابعة: [مقدمة لاثنتَي عشرة حقيقة تستلزم الآخرة]
لقد رَأَينا في الحِكاية بصُوَرِها الِاثنَتَيْ عَشْرةَ: أنَّه لا يُمكِنُ بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ أن تكونَ لِسُلطانٍ عَظيمٍ مَملَكةٌ مُؤَقَّتةٌ -كأنَّها دارُ ضِيافةٍ- ثمَّ لا تكونَ له مَملَكةٌ أُخرَى دائمةٌ مُستقِرّةٌ، ولائقةٌ لِأُبَّهَتِه وعَظَمَتِه ومَقامِ سَلْطَنتِه السّامِيةِ؛ كذلك لا يُمكِنُ بوَجهٍ مِن الوُجُوهِ ألّا يُنشِئَ الخالقُ الباقي سُبحانَه عالَمًا باقِيًا بعدَ أن أَوْجَدَ هذا العالَمَ الفانِيَ.
ولا يُمكِنُ أيضًا أن يَخلُقَ الصّانِعُ السَّرمَديُّ هذه الكائناتِ البَديعةَ الزّائلةَ، ولا يُنشِئَ كائناتٍ أُخرَى دائمةً مُستَقِرّةً.
ولا يُمكِنُ أيضًا أن يَخلُقَ الفاطِرُ الحَكيمُ القَديرُ الرَّحيمُ هذا العالَمَ الَّذي هو بحُكْمِ المَعرِضِ العامّ ومَيدانِ الِامتِحانِ والمَزرَعةِ الوَقْتيّةِ، ثمَّ لا يَخلُقَ الدَّارَ الآخِرةَ الَّتي تَكشِفُ عن غاياتِه وتُظهِرُ أَهدافَه!
إنَّ هذه الحَقِيقةَ يَتِمُّ الدُّخُولُ فيها مِنِ “اثْنَيْ عَشَرَ بابًا”، وتُفتَحُ تلك الأَبوابُ بـ”اثنَتَيْ عَشْرةَ حَقِيقةً”، نَبْدَأُ بأَقصَرِها وأَبسَطِها.
[الحقائق]
الحقيقة الأُولى: بابُ الرُّبُوبيةِ والسَّلْطَنةِ، وهو تَجَلِّي اسمِ “الرَّبِّ”
أَمِنَ المُمكِنِ لِمَن له شأنُ الرُّبوبيّةِ وسَلْطَنةُ الأُلُوهيةِ، فأَوْجَدَ كَوْنًا بَدِيعًا كهذا الكَوْنِ، لِغاياتٍ سامِيةٍ ولِمَقاصِدَ جَليلةٍ، إظهارًا لِكَمالِه، ثمَّ لا يَكُونَ لَدَيهِ ثَوابٌ للمُؤمِنين الَّذين قابَلُوا تلك الغاياتِ والمَقاصِدَ بالإيمانِ والعُبوديةِ، ولا يُعاقِبَ أَهلَ الضَّلالةِ الَّذين قابَلُوا تلك المَقاصِدَ بالرَّفْضِ والِاستِخفافِ؟!
الحقيقة الثانية: بابُ الكَرَمِ والرَّحمةِ، وهو تَجَلِّي اسمِ “الكَريمِ والرَّحيمِ”
أَمِنَ المُمكِنِ لِرَبِّ هذا العالَمِ ومالِكِه الَّذي أَظهَر بآثارِه كَرَمًا بلا نهايةٍ، ورَحمةً بلا نهايةٍ، وعِزّةً بلا نهايةٍ، وغَيرةً بلا نهايةٍ، ألّا يُقَدِّرَ مَثُوبةً تَليقُ بكَرَمِه ورَحمَتِه للمُحسِنين، ولا يُقرِّرَ عُقُوبةً تُناسِبُ عِزَّتَه وغَيْرَتَه للمُسِيئين؟! فلو أَنعَمَ الإنسانُ النَّظَرَ في سَيرِ الحَوادِثِ ابتِداءً مِن أَضعَفِ كائنٍ حَيٍّ وأَشَدِّه عَجْزًا6إن الدَلِيلَ القَاطِع عَلى أنَّ الرِزقَ الحَلالَ يُعطَى حَسَبَ الافتِقارِ، ولا يُؤخَذ بقُوّةِ الكائنِ وقُدرَتِه، هو سَعةُ مَعيشةِ الصِّغار الَّذين لا طَاقةَ لَهم ولا حَوْلَ، وضيقُ مَعيشةِ الحَيَواناتِ المُفتَرِسة، وبَدانةُ الأسماكِ البليدةِ وهُزالُ الثَّعالِبِ والقِردةِ ذَوي الذَّكاءِ والحِيَل؛ فالرِّزق إذًا يَأتي مُتناسِبًا عَكسيًّا مع الاختيارِ والقُدرة، أي: كلَّما اعتَمَد الكائنُ على إرَادَتِه ابتُلِيَ بضِيقِ المَعيشةِ وتكاليفِها ابتلاءً أكثرَ.، وانتهاءً بأَقوَى كائنٍ، لَوَجَد أنَّ كلَّ كائنٍ يأتيه رِزقُه رَغَدًا مِن كلِّ مَكانٍ، بل يَمنَحُ سُبحانَه أَضعَفَهم وأَشَدَّهم عَجْزًا أَلطَفَ الأَرزاقِ وأَحسَنَها، ويُسعِفُ كلَّ مَريضٍ بما يُداويه.. وهكذا يَجِدُ كلُّ ذي حاجةٍ حاجَتَه مِن حيثُ لا يَحتَسِبُ.. فهذه الضِّيافةُ الفاخِرةُ الكَريمةُ، والإغداقُ المُستَمِرُّ، والكَرَمُ السّامي، تَدُلُّنا بداهةً، أن يَدًا كَريمةً خالِدةً هي الَّتي تَعمَلُ وتُديرُ الأُمورَ.
فمَثلًا: إنَّ إكساءَ الأَشجارِ جَميعًا بحُلَلٍ خُضْرٍ شَبيهةٍ بالسُّندُسِ -كأنَّها حُورُ الجَنّةِ- وتَزيِينَها بمُرَصَّعاتِ الأَزهارِ الجَميلةِ والثِّمارِ اللَّطيفةِ، وتَسخِيرَها لِخِدمَتِنا بإنتاجِها أَلْطَفَ الأَثمارِ المُتَنوِّعةِ وأَلَذَّها في نِهاياتِ أَغصانِها الَّتي هي أَيدِيها اللَّطيفةُ.. وتَمكِينَنا مِن جَنْيِ العَسَلِ اللَّذيذِ الَّذي فيه شِفاءٌ للنّاسِ مِن حَشَرةٍ سامّةٍ.. وإلباسَنا أَجمَلَ ثِيابٍ وأَليَنَها مِمّا تَحُوكُه حَشَرةٌ بلا يَدٍ.. وادِّخارَ خَزينةِ رَحمةٍ عَظيمةٍ لنا في بِذرةٍ صَغيرةٍ جِدًّا.. كلُّ ذلك يُرينا بَداهةً كَرَمًا في غايةِ الجَمالِ، ورَحمةً في غايةِ اللُّطْفِ.
وكذا، إنَّ سَعْيَ جَميعِ المَخلُوقاتِ، صَغيرِها وكَبيرِها -عدا الإنسانِ والوُحوشِ الكاسِرةِ- لإنجازِ وَظائِفِها بانتِظامٍ تامٍّ ودِقّةٍ كامِلةٍ، ابتِداءً مِنَ الشَّمسِ والقَمَرِ والأَرضِ إلى أَصغَرِ مَخلُوقٍ، بشَكلٍ لا يَتَجاوَزُ أَحَدٌ حَدَّه قِيدَ أَنمُلةٍ، ضِمنَ الطّاعةِ التّامّةِ والِانقِيادِ الكامِلِ المَحفُوفَينِ بهَيبةٍ عَظيمةٍ، يُظهِرُ لنا أنَّ هذه المَخلُوقاتِ لا تَتَحرَّكُ ولا تَسكُنُ إلَّا بأَمرِ العَظيمِ ذي العِزّةِ والجَلالِ.
وكذا، إنَّ عِنايةَ الأُمَّهاتِ بأَولادِهنَّ الضِّعافِ العاجِزين -سواءٌ في النَّباتِ أوِ الحَيَوانِ أوِ البَشَرِ- عِنايةً مِلْؤُها الرَّأفةُ والرَّحمةُ 7نعم، إنَّ إيثارَ الأسدِ الجَائعِ شِبلَه الضَّعيفَ على نفسِه بِما يَظفَرُ به من قِطعَة لَحمٍ، وهُجُومَ الدَّجاج الجَبانِ على الكَلب والأسَد حِفاظًا على فِراخِه الصَغيرة؛ وإعدَادَ شَجَرة التِّينِ لصِغارِها التي هي ثِمارُها لَبنًا خَالِصًا مِن الطِّين.. كلُّ ذلك يَدلُّ بداهةً -لأَهلِ البَصَائِر- على أنَّها حَصَلت بأمرِ الرَّحيم الِّذي لا نِهايةَ لرَحمتِه، والكَريمِ الَّذي لا نِهايةَ لكَرَمِه، والرَّؤوفِ الِّذي لا نِهايةَ لرَأفَتِه وشَفَقَتِه؛ وأنَّ قِيام النَّبَاتَاتِ والحَيَوانات الَّتي لا وَعْيَ لها ولا شُعورَ، بأعمالٍ في مُنتَهَى الوَعيِ والشُّعور والحِكمَة، يُبيِّن بالضَّرورة أن عليمًا مُطلَقًا وحَكيمًا مُطلَقًا هو الَّذي يَسُوقُها إلى تلك الأعمَال، وهي بأَمرِه تَأتَمِرُ.، وتَغذِيَتَها بالغِذاءِ اللَّطيفِ السّائغِ مِنَ اللَّبَنِ، تُرِيك عَظَمةَ التَّجَلِّياتِ، وسَعةَ الرَّحمةِ المُطلَقةِ.
فما دامَ ربُّ هذا العالَمِ ومُدَبِّرُه له هذا الكَرَمُ الواسِعُ، وهذه الرَّحمةُ الَّتي لا مُنتَهَى لها، وله الجَلالُ والعِزّةُ المُطلَقانِ؛ وأنَّ العِزَّةَ والجَلالَ المُطلَقَينِ يَقتَضِيانِ تَأدِيبَ المُستَخِفِّين، والكَرَمَ الواسِعَ المُطلَقَ يَتَطلَّبُ إكرامًا غيرَ مُتَناهٍ، والرَّحمةَ الَّتي وَسِعَت كلَّ شيءٍ تَستَدعي إحسانًا يَليقُ بها، بَينَما لا يَتَحقَّقُ مِن كلِّ ذلك في هذه الدُّنيا الفانيةِ والعُمُرِ القَصيرِ إلَّا جُزءٌ ضَئيلٌ جِدًّا هو كقَطرةٍ مِن بَحْرٍ.
فلا بُدَّ أن تكونَ هناك دارُ سَعادةٍ تَليقُ بذلك الكَرَمِ العَميمِ، وتَنسَجِمُ مع تلك الرَّحمةِ الواسِعةِ.. وإلَّا يَلزَمُ جُحُودُ هذه الرَّحمةِ المَشهُودةِ، بما هو كإنكارِ وُجودِ الشَّمسِ الَّتي يَملَأُ نُورُها النَّهارَ، لأنَّ الزَّوالَ الَّذي لا رَجْعةَ بعدَه يَستَلزِمُ انتِفاءَ حَقيقةِ الرَّحمةِ مِنَ الوُجودِ، بتَبدِيلِه الشَّفَقةَ مُصيبةً، والمَحَبّةَ حُرْقةً، والنِّعمةَ نِقمةً، واللَّذّةَ أَلَمًا، والعَقْلَ المَحمُودَ عُضوًا مَشؤُومًا.
وعليه فلا بُدَّ مِن دارِ جَزاءٍ تُناسِبُ ذلك الجَلالَ والعِزّةَ وتَنسَجِمُ معها، لأنَّه غالِبًا ما يَظَلُّ الظّالِمُ في عِزَّتِه، والمَظلُومُ في ذِلَّتِه وخُنُوعِه، ثمَّ يَرحَلانِ على حالِهما بلا عِقابٍ ولا ثَوابٍ.
فالأَمرُ إذًا ليس إِهمالًا قَطُّ، وإن تمَّ الإمهالُ إلى مَحكَمةٍ كُبرَى، فالقَضيةُ لم تُهمَلْ، بل قد تُعَجَّلُ العُقُوبةُ في الدُّنيا؛ فإنزالُ العَذابِ في القُرونِ الغابِرةِ بأَقوامٍ عَصَت وتَمَرَّدَت يُبيِّنُ لنا أنَّ الإنسانَ ليس مَترُوكًا زِمامُه، يَسرَحُ وَفْقَ ما يُملِي عليه هَواه، بل هو مُعرَّضٌ دائمًا لِصَفَعاتِ ذي العِزّةِ والجَلاِل.
نعم، إنَّ هذا الإنسانَ الَّذي أُنيطَ به -مِن بينِ جَميعِ المَخلُوقاتِ- مَهامُّ عَظيمةٌ، وزُوِّدَ باستِعداداتٍ فِطريّةٍ كامِلةٍ، إنْ لم يَعرِفْ رَبَّه “بالإيمانِ” بعدَ أن عَرَّف سُبحانَه نَفسَه إليه بمَخلُوقاتِه البَديعةِ المُنتَظِمةِ.. وإن لم يُحَبِّبْ نَفسَه إلَيْه بـ”العِبادةِ” بعد أن تَحَبَّبَ إليه سُبحانَه بنَفسِه وعَرَّفها إليه بما خَلَق له مِنَ الثِّمارِ المُتَنوِّعةِ الجَميلةِ الدّالّةِ على رَحمَتِه الواسِعةِ.. وإن لم يَقُمْ بالتَّوقيرِ والإجلالِ اللّائِقَينِ به “بالشُّكرِ والحَمْدِ” بعدَ أن أَظهَر سُبحانَه مَحَبَّتَه له ورَحمَتَه عليه بنِعَمِه الكَثيرةِ.. نعم، إن لم يَعرِفْ هذا الإنسانُ رَبَّه هكذا، فكيف يُتْرَكُ سُدًى دُونَ جَزاءٍ، ودُونَ أن يُعِدَّ له ذُو العِزّةِ والجَلالِ دارًا للعِقابِ؟!
وهل مِنَ المُمكِنِ ألّا يَمنَحَ ذلك الرَّبُّ الرَّحيمُ دارَ ثَوابٍ وسَعادةٍ أَبَديّةٍ، لِأُولئك المُؤمِنين الَّذين قابَلُوا تَعرِيفَ ذاتِه سُبحانَه لهم بمَعرِفَتِهم إيّاه بـ”الإيمانِ”، وتَحبِيبَ نَفسِه إلَيْهم بـ”العِبادةِ”، ورَحمَتَه لهم بالإجلالِ والتَّوْقيرِ له بـ”الشُّكرِ”؟
الحقيقة الثالثة: بابُ الحِكمةِ والعَدالةِ، وهو تَجَلِّي اسمِ “الحَكيمِ والعادِلِ”
أَمِنَ المُمكِنِ 8إن عِبارةَ “أَمِنَ المُمكِنِ؟” تتكرَّر كثيرًا، فَهِي تُفيدُ غايةً مُهِمّةً وهِي: أنَّ الكُفرَ والضَّلالَ يَتَولَّدان غالبًا مِنَ الِاستِبعادِ، أي: يَرَى الإنسانُ مَسائلَ الإيمانِ بَعِيدةً عن مِيزانِ العَقلِ، فيَعُدُّها مُحالًا، ويَبدَأُ بالإنكار والكُفرِ.. ولَكِن هَذِه الكَلِمة (الحَشْرُ) أَوضَحَت بأَدِلّة قاطعةٍ: أنَّ الِاستِبعادَ الحَقيقيَّ والمُحالَ الحَقيقيَّ والبُعدَ عن مَوازينِ العَقلِ والصُّعوبةَ الحَقّةَ والمُشكِلاتِ العَويصةَ الَّتي هي بدَرَجةِ الِامتناعِ، إنَّما هي في الكُفرِ ومَنهَجِ أهلِ الضَّلالِ؛ وأنَّ الإمكانَ الحَقيقيَّ، والمَعقُوليةَ التامّةَ والسُّهولةَ الجارِيةَ مَجرَى الوُجوبِ، إنَّما هي في طَريقِ الإيمَان، وجَادّةِ الإسلَام. والخُلاصة: أنَّ الفَلاسِفة إنَّما وَقَعُوا إلى الإنِكارِ نَتيجةَ الِاستبعادِ. وهِذه (الكَلِمة العَاشِرة) تُبيِّن بِتِلكَ العِبَارَة: “أَمِنَ المُمكِنِ؟” أين يَكمُنُ الِاستِبعادُ، وتُوَجِّهُ ضَربةً عَلى أفوَاهِهم. لِخالقٍ ذي جَلالٍ أَظهَرَ سُلطانَ رُبُوبيَّتِه بتَدبِيرِ قانُونِ الوُجودِ ابتِداءً مِنَ الذَّرّاتِ وانتِهاءً بالمَجَرَّاتِ، بغايةِ الحِكمةِ والنِّظامِ وبمُنتَهَى العَدالةِ والمِيزانِ.. ألّا يُعامِلَ بالإِحسانِ مَنِ احتَمَوْا بتلك الرُّبُوبيّةِ وانقادُوا لِتِلك الحِكمةِ والعَدالةِ بالإِيمانِ والعُبُودِيّةِ، وألّا يُجازِيَ أُولَئِك الَّذين عَصَوْا بكُفرِهم وطُغيانِهم تلك الحِكمةَ والعَدالةَ؟!
بَينَما الإنسانُ لا يَلقَى ما يَستَحِقُّه مِنَ الثَّوابِ أوِ العِقابِ في هذه الحَياةِ الفانِيةِ على وَجهٍ يَليقُ بتِلك الحِكمةِ وتلك العَدالةِ إلَّا نادِرًا، بل يُؤَخَّرُ، إذ يَرْحَلُ أَغلَبُ أَهلِ الضَّلالةِ دُونَ أن يَلقَوْا عِقابَهم، ويَذهَبُ أَكثرُ أَهلِ الهِدايةِ دُونَ أن يَنالُوا ثَوابَهم.. فلا بُدَّ أن تُناطَ القَضِيّةُ بمَحكَمةٍ عادِلةٍ، وبلِقاءٍ آيِلٍ إلى سَعادةٍ عُظمَى.
نعم، إنَّه لَواضِحٌ أنَّ الَّذي يَتَصرَّفُ في هذا الكَونِ إنَّما يَتَصرَّفُ فيه بحِكمةٍ مُطلَقةٍ، أفَتَطلُبُ بُرهانًا على هذا؟ فانظُرْ إلى رِعايَتِه سُبحانَه للمَصالِح والفَوائدِ في كلِّ شيءٍ.. ألا تَرَى أنَّ أَعضاءَ الإنسانِ جَميعًا وعِظامَه وعُرُوقَه وحتَّى خَلاياه الجِسمِيّةُ وكلُّ جُزءٍ مِنه ومَكانٍ، قد رُوعِيَت فيه فَوائدُ وحِكَمٌ شَتَّى، بل إنَّ في عُضوٍ مِن أَعضاءِ جِسمِه مِنَ الفَوائدِ والأَسرارِ بقَدْرِ ما تُنتِجُه الشَّجَرةُ الواحِدةُ مِنَ الثِّمارِ، مِمّا يَدُلُّ على أنَّ يَدَ حِكمةٍ مُطلَقةٍ تُديرُ الأُمورَ؛ فَضْلًا عنِ التَّناسُقِ البَديعِ في صَنعةِ كلِّ شيءٍ والِانتِظامِ الكامِلِ فيها، اللَّذَينِ يَدُلّانِ على أنَّ الأُمورَ تُؤَدَّى بحِكمةٍ مُطلَقةٍ.
نعم، إنَّ تَضْمِينَ الخُطّةِ الدَّقيقةِ لِزَهرةٍ جَميلةٍ في بُذَيْرَتِها الصَّغيرةِ، وكِتابةَ صَحيفةِ أَعمالِ شَجَرةٍ ضَخمةٍ وسِيرةِ حَياتِها وفِهرِسِ أَجهِزَتِها، في نُوَيَّتِها بقَلَمِ القَدَرِ المَعْنَوِيِّ.. يُرِينا بوُضوحٍ أنَّ قَلَمَ حِكمةٍ مُطلَقةٍ هو الَّذي يَتَصَرَّفُ في الأَمرِ.. وكذا، وجودُ رَوْعةِ الصَّنْعةِ الجَميلةِ وغايةِ حُسْنِها في خِلْقةِ كلِّ شيءٍ، يُظهِرُ أنَّ صانِعًا حَكيمًا مُطلَقًا هو صاحِبُ هذا الإبداعِ وهذه النُّقُوشِ.
نعم، إنَّ إِدراجَ فِهرِسِ الكائناتِ جَميعًا، ومَفاتيحِ خَزائنِ الرَّحمةِ كافّةً، ومَرايا الأَسماءِ الحُسنَى كلِّها، في هذا الجِسمِ الصَّغيرِ للإنسان، لَمِمّا يَدُلُّ على الحِكمةِ البَليغةِ في الصَّنعةِ البَديعةِ.. فهل مِنَ المُمْكِنِ لِمِثل هذه الحِكمةِ المُهَيمِنةِ على مِثلِ هذه الإجراءاتِ والشُّؤُونِ الرَّبّانيةِ ألّا تُحسِنَ مُعامَلةَ أُولئك الَّذين استَظَلُّوا بظِلِّها، وانقادُوا لها بالإيمانِ، وألّا تُثِيبَهم إثابةً أَبَديّةً خالِدةً؟!
وهل تُريدُ بُرهانًا على إنجازِ الأَعمالِ بالعَدْلِ والمِيزانِ؟
إنَّ مَنْحَ كلِّ شيءٍ وُجودًا بمَوازينَ حَسّاسةٍ، وبمَقايِيسَ خاصّةٍ، وإلباسَه صُورةً مُعَيَّنةً، ووَضْعَه في مَوضِعٍ مُلائمٍ.. يُبيِّنُ بوُضوحٍ أنَّ الأُمورَ تَسيرُ وَفْقَ عَدالةٍ ومِيزانٍ مُطلَقَينِ.
وكذا، إعطاءُ كلِّ ذي حَقٍّ حَقَّه وَفْقَ استِعدادِه ومَواهِبِه، أي: إعطاءُ كلِّ ما يَلزَمُ، وما هو ضَرُوريٌّ لوُجُودِه، وتَوفِيرُ جَميعِ ما يَحتاجُ لِبَقائِه في أَفضلِ وَضعٍ، يَدُلُّ على أنَّ يَدَ عَدالةٍ مُطلَقةٍ هي الَّتي تُسَيِّـرُ الأُمورَ.
وكذا، الِاستِجابةُ المُستَمِرّةُ والدّائمةُ لِما يُسأَلُ بلِسانِ الِاستِعدادِ أوِ الحاجةِ الفِطريّةِ، أو بلِسانِ الِاضطِرارِ، تُظهِرُ أنَّ عَدالةً مُطلَقةً، وحِكمةً مُطلَقةً هما اللَّتانِ تُجرِيانِ عَجَلةَ الوُجودِ.
فالآن، هل مِنَ المُمكِنِ أن تُهمِلَ هذه العَدالةُ وهذه الحِكمةُ تلك الحاجةَ العُظمَى، حاجةَ البَقاءِ لِأَسمَى مَخلُوقٍ وهو الإنسانُ؟ في حينِ أنَّهما تَستَجِيبانِ لِأَدنَى حاجةٍ لِأَضعَفِ مَخلُوقٍ؟ فهل مِنَ المُمكِنِ أن تَرُدَّا أَهَمَّ ما يَرجُوه الإنسانُ وأَعظَمَ ما يَتَمَنّاه، وألَّا تَصُونا حِشمةَ الرُّبُوبيةِ وتَتَخلَّفا عن الإجابةِ لحُقوقِ العِباد؟!
غيرَ أنَّ الإنسانَ الَّذي يَقضِي حَياةً قَصيرةً في هذه الدُّنيا الفانِيةِ لا يَنالُ ولن يَنالَ حَقيقةَ هذه العَدالةِ، وإنَّما تُؤَخَّرُ إلى مَحكَمةٍ كُبْرَى، حيثُ تَقتَضي العَدالةُ الحَقّةُ أن يُلاقِيَ هذا الإنسانُ الصَّغيرُ ثَوابَه وعِقابَه لا على أَساسِ صِغَرِه، بل على أَساسِ ضَخامةِ جِنايَتِه، وعلى أَساسِ أَهَمِّيّةِ ماهِيَّتِه، وعلى أَساسِ عَظَمةِ مُهِمَّتِه.. وحيث إنَّ هذه الدُّنيا العابِرةَ بَعيدةٌ كلَّ البُعدِ عن أن تَكُونَ مَحَلًّا لِمِثلِ هذه العَدالةِ والحِكمةِ بما يَخُصُّ هذا الإنسانَ المَخلُوقَ لِحَياةٍ أَبَديةٍ، فلا بُدَّ مِن جَنّةٍ أَبَديّةٍ، ومِن جَهَنَّمَ دائمةٍ للعادِلِ الجَليلِ ذي الجَمالِ وللحَكيمِ الجَميلِ ذي الجَلالِ.
الحقيقة الرابعة: بابُ الجُودِ والجَمالِ، وهو تَجَلِّي اسمِ “الجَوادِ” و”الجَميلِ”
أَمِنَ المُمكِنِ لِجُودٍ وسَخاءٍ مُطلَقَينِ، وثَروةٍ لا تَنضُبُ، وخَزائنَ لا تَنفَدُ، وجَمالٍ سَرمَدِيٍّ لا مَثيلَ له، وكَمالٍ أَبَديٍّ لا نَقْصَ فيه، ألّا يَطلُبَ دارَ سَعادةٍ ومَحَلَّ ضِيافةٍ، يَخلُدُ فيه المُحتاجُون للجُودِ، الشّاكِرُون له، والمُشتاقُون إلى الجَمالِ، المُعجَبُون به؟
إنَّ تَزيِينَ وَجهِ العالَمِ بهذه المَصنُوعاتِ الجَميلةِ اللَّطيفة، وجَعْلَ الشَّمسِ سِراجًا، والقَمَرِ نُورًا، وسَطْحِ الأَرضِ مائدةً للنِّعَمِ، ومَلْأَها بأَلذِّ الأَطعِمةِ الشَّهِيّةِ المُتنَوِّعةِ، وجَعْلَ الأَشجارِ أَوانيَ وصِحافًا تَتَجدَّدُ مِرارًا كلَّ مَوْسِمٍ.. كلُّ ذلك يُظهِرُ سَخاءً وجُودًا لا حَدَّ لهما. فلا بُدَّ أن يكونَ لِمِثلِ هذا الجُودِ والسَّخاءِ المُطلَقَينِ، ولِمِثلِ هذه الخَزائنِ الَّتي لا تَنفَدُ، ولِمِثلِ هذه الرَّحمةِ الَّتي وَسِعَت كلَّ شيءٍ، دارُ ضِيافةٍ دائمةٍ، ومَحَلُّ سَعادةٍ خالِدةٍ يَحوِي ما تَشتَهِيه الأَنفُسُ وتَلَذُّ الأَعيُنُ وتَستَدعي قَطْعًا أن يَخلُدَ المُتَلَذِّذُون في تلك الدّارِ، ويَظَلُّوا مُلازِمِين لتلك السَّعادةِ لِيَبتَعِدُوا عنِ الزَّوالِ والفِراقِ، إذ كما أنَّ زَوالَ الأَلَمِ لَذّةٌ فزَوالُ اللَّذّةِ أَلَمٌ كذلك، فمِثلُ هذا السَّخاءِ يَأبَى الإِيذاءَ قَطعًا.
أي: إنَّ الأَمرَ يَقتَضي وُجودَ جَنّةٍ أَبَديّةٍ، وخُلُودَ المُحتاجِينَ فيها؛ لأنَّ الجُودَ والسَّخاءَ المُطلَقَينِ يتَطَلَّبانِ إحسانًا وإنعامًا مُطلَقَينِ، والإحسانَ والإنعامَ غيرَ المُتَناهِيَيْنِ يَتَطلَّبانِ تَنَعُّمًا وامْتِنانًا غيرَ مُتَناهِيَيْنِ، وهذا يَقتَضي خُلُودَ مَن يَستَحِقُّ الإحسانَ إليه، كي يُظهِرَ شُكرَه وامتِنانَه بتَنَعُّمِه الدّائمِ إزاءَ ذلك الإنعامِ الدّائمِ.. وإلَّا فاللَّذّةُ اليَسيرةُ التي يُنَغِّصُها الزَّوالُ والفِراقُ في هذه المُدّة الوَجيزةِ، لا يُمكِنُ أن تَنسَجِمَ ومُقتَضَى هذا الجُودِ والسَّخاءِ.
ثمَّ انظُرْ إلى مَعارِضِ أَقطارِ العالَمِ الَّتي هي مَشهَدٌ مِن مَشاهِدِ الصَّنْعةِ الإلٰهِيّةِ، وتَدَبَّرْ فيما تَحمِلُه النَّباتاتُ والحَيَواناتُ على وَجهِ الأَرضِ مِن إعلاناتٍ رَبّانيةٍ 9نعم، إنَّ الزَهرَةَ الجَمِيلَةَ وهِيَ في غَايَة الزِّينَة والزَّخرَفة، والثَّمرةَ المُنضَّدة وهي في مُنتهَى الإتقَان والإبدَاع، المُعلَّقتَينِ بخَيطٍ دقيقٍ في نِهَايَة أغصَانٍ يَابِسة يُبُوسةَ العَظْم.. لا شَكَّ أنَّهما “لَوحةُ إعلانٍ” تَجعَل ذَوي المَشاعِر يَقرَؤون فيها مَحاسِنَ صَنعةِ الصّانِع المُعجِزِ الحكيم! قِسْ على النَبَاتَات الحَيَواناتِ أيضًا.، وأَنصِتْ إلى الدّاعِينَ الأَدِلَّاءِ على مَحاسِنِ الرُّبُوبيّةِ وهمُ الأَنبِياءُ عَلَيهم السَّلَام والأَولِياءُ الصّالِحُون، كيف أنَّهم يُرشِدُون جَميعًا النّاسَ لِمُشاهَدةِ كَمالِ صَنعةِ الصّانِعِ ذي الجَلالِ بتَشهِيرِهم صَنْعَتَه البَديعةَ ويَلفِتُون أَنظارَهم إليها.
إذًا، فلِصانِعِ هذا العالَمِ كَمالٌ فائقٌ عَظيمٌ مُثيرٌ للإعجابِ، خَفِيٌّ مُستتِرٌ، فهو يُريدُ إظهارَه بهذه المَصنُوعاتِ البديعةِ، لأنَّ الكَمالَ الخَفِيَّ الَّذي لا نَقصَ فيه يَنبَغي الإعلانُ عنه على رُؤُوسِ أَشهادٍ مُقَدِّرين مُستَحسِنِين مُعجَبين به؛ وأنَّ الكَمالَ الدّائمَ يَقتَضي ظُهورًا دائمًا، وهذا بدَوْرِه يَستَدعِي دَوامَ المُستَحسِنين المُعجَبين، إذ المُعجَبُ الَّذي لا يَدُومُ بقاؤُه تَسقُطُ في نَظَرِه قِيمةُ الكَمالِ10نعم، لَقَد ذَهَب مَثلًا: أنَّ حَسناءَ بارِعةَ الجَمالِ طَرَدَت أَحَدَ المُعجَبين بها، فَقَال هَذا المُعجَب مُسَلِّيًا نَفسَه: تبًّا لَها مَا أَقبحَها.. مُنكِرًا جَمالَ تلك الجَمِيلَة. وذَات يَومٍ مَرَّ دُبٌّ تَحت شجرةِ عِنَبٍ ذاتِ عَناقيدَ لذيذةٍ، فَأرَاد أن يَأكلَ مِن ذَلِك العِنَبِ الحُلْوِ، ولمَّا لم تَصِل يَدُه إلَيه، وعَجَز عَن التَّسَلُّق، قَال مُتَمتِمًا: إنه حَامِض.. فسَلَّى نَفسَه، ومَضَى في طَريقه..
ثمَّ إنَّ هذه المَوجُوداتِ العَجيبةَ البَديعةَ الدَّقيقةَ الرّائعةَ المُنتَشِرةَ في هذا الكَونِ تَدُلُّ بوُضُوحٍ -كدَلالةِ ضَوْءِ النَّهارِ على وُجُودِ الشَّمسِ- على مَحاسِنِ الجَمالِ المَعنَويِّ الَّذي لا مَثِيلَ له، وتُريك كذلك لَطائِفَ الحُسنِ الخَفِيِّ الَّذي لا نَظِيرَ له11إن المَوجودَاتِ الشَّبيهةَ بالمَرايا مَع أنَّها تَتَعاقَب بالزَّوالِ والفَناء، فإنَّ وُجودَ تَجَلِّياتِ الجَمالِ نفسِه والحُسنِ عينِه في وَجهِها، وفي التي تَعقُبُها، يَدُلُّ على أنَّ ذلك الجَمالَ لَيس مُلكًا لَها، بَل هُو آيَاتُ حُسْنٍ مُنزَّه، وأَمَارَاتُ جَمالٍ مُقدَّس.؛ وإنَّ تَجَلِّيَ ذلك الحُسنِ الباهِرِ المُنزَّهِ، وذلك الجَمالِ الزّاهِرِ المُقدَّسِ يُشِيرُ إلى كُنُوزٍ كَثيرةٍ خَفِيّةٍ مَوجُودةٍ في الأَسماءِ الحُسنَى، بل في كلِّ اسمٍ مِنها.
ومِثلَما يَطلُبُ هذا الجَمالُ الخَفِيُّ السّامي الَّذي لا مَثيلَ له، أن يَرَى مَحاسِنَه في مِرآةٍ عاكِسةٍ ويَشهَدَ قِيَمَ حُسنِه ومَقاييسَ جَمالِه في مِرآةٍ ذاتِ مَشاعِرَ وأَشواقٍ إليه، فإنه يُريدُ الظُّهورَ والتَّجَلِّيَ لِيَرَى جَمالَه المَحبُوبَ أيضًا بأَنظارِ الآخَرين.. أي: أن يَنظُرَ إلى جَمالِه مِن جِهَتَينِ:
الأُولى: مُشاهَدةُ الجَمالِ بالذّاتِ في المَرايا المُختَلِفةِ المُتعَدِّدةِ الأَلوانِ.
والأُخرَى: مُشاهَدةُ الجَمالِ بنَظَرِ المُشاهِدِين المُشتاقِين المُعجَبين المُستَحسِنين.
أي: إنَّ الجَمالَ والحُسنَ يَقتَضِيانِ الشُّهودَ والإشهادَ “الرُّؤيةَ والإراءةَ”، وهذا الشُّهودُ والإشهادُ يَستَلزِمان وُجودَ المُشاهِدِين المُشتاقِين والمُستَحسِنين المُعجَبين.. ولَمّا كان الجَمالُ والحُسْنُ خالِدَينِ سَرمَدِيَّيْنِ فإنَّهما يَقتَضِيانِ خُلُودَ المُشتاقِين ودَيمُومَتَهم، لأنَّ الجَمالَ الدّائمَ لا يَرضَى بالمُشتاقِ الزّائلِ الآفِلِ، فالمُشاهِدُ الَّذي يَشعُرُ بالزَّوالِ -وقُضِيَ علَيْه بعَدَمِ العَودةِ إلى الحَياةِ- تَتَحوَّلُ بمُجَرَّدِ تَصَوُّرِه الزَّوالَ مَحَبَّتُه عَداءً، وإعجابُه استِخفافًا، واحتِرامُه إهانةً، لأنَّ الإِنسانَ الأَنانِيَّ مِثلَما يُعادِي ما يَجهَلُه يُعادي ما لا تَصِلُ إليه يَدُه أيضًا، فيُضمِرُ عَداءً وحِقدًا وإنكارًا لذلك الجَمالِ الَّذي يَنبَغي أن يُقابَلَ بما يَستَحِقُّه مِن مَحَبّةٍ بلا نهايةٍ وشَوْقٍ بلا غايةٍ وإعجابٍ بلا حَدٍّ. ومِن هذا يُفهَمُ سِرُّ كَونِ الكافرِ عَدُوًّا لله سُبحانَه وتَعالَى.
ولَمّا كان ذلك الجُودُ في العَطاءِ غَيرِ المَحدُودِ، وذلك الحُسْنُ في الجَمالِ الَّذي لا مَثيلَ له، وذلك الكَمالُ الَّذي لا نَقْصَ فيه.. يَقتَضِي خُلُودَ الشّاكِرين، وبَقاءَ المُشتاقِين المُستَحسِنين، ونحن نُشاهِدُ رِحلةَ كلِّ شَخصٍ واختِفاءَه بسُرعةٍ في دارِ ضِيافةِ الدُّنيا هذه، دُونَ أن يَستَمتِعَ بإحسانِ ذلك السَّخاءِ إلّا نَزْرًا يَسيرًا بما يَفتَحُ شَهِيَّتَه فقط، ودُونَ أن يَرَى مِن نُورِ ذلك الجَمالِ والكَمالِ إلَّا لَمْحةً خاطِفةً.. إذًا الرِّحلةُ مُنطَلِقةٌ نحوَ مُتَنزَّهاتٍ خالِدةٍ ومَشاهِدَ أَبَديّةٍ.
الخُلاصةُ: مِثلَما أنَّ هذا العالَمَ يَدُلُّ بمَوجُوداتِه دَلالةً قاطِعةً يَقينًا على صانِعِه الكَريمِ ذي الجَلالِ، فصِفاتُه المُقدَّسةُ سُبحانَه وأَسماؤُه الحُسنَى تَدُلُّ كذلك على الدّارِ الآخِرةِ بلا رَيبٍ وتُظهِرُها، بل تَقتَضِيها.
الحقيقة الخامسة: باب الشَّفقةِ وعُبُوديّةِ مُحمَّد (ﷺ) وهو تَجَلِّي اسمِ “المُجيب” و”الرَّحيم”
أَمِنَ المُمكِنِ لِرَبٍّ ذي رَحمةٍ واسِعةٍ وشَفَقةٍ غيرِ مُتَناهِيةٍ يُبصِرُ أَخفَى حاجةٍ لِأَدنَى مَخلُوقٍ، ويُسعِفُه مِن حيثُ لا يَحتَسِبُ برَأفةٍ غيرِ مُتَناهِيةٍ ورَحمةٍ سابِغةٍ، ويَسمَعُ أَخْفَتَ صَوتٍ لِأَخفَى مَخلُوقٍ فيُغِيثُه، ويُجِيبُ كلَّ داعٍ بلِسانِ الحالِ والمَقالِ.. أَمِنَ المُمكِنِ ألَّا يَقضِيَ هذا الرَّبُّ المُجِيبُ الرَّحيمُ أَهَمَّ حاجةٍ لِأَعظَمِ عِبادِه12نَعم، إنَّ الَّذي حَكَم ودَامَ سُلطانُ حُكمِه أَلفًا وثَلَاثَ مِئةٍ وخَمسِين سَنةً، والَّذي عدَدُ أُمَّتِه أكثَر مِن ثَلاثِ مِئةٍ وخَمسِين مِليونًا -في أغلَب الأَوقَات- وهُم يُجدِّدون مَعه البَيعةَ يَومِيًّا، ويَشهَدون بِعُلوِّ مَكَانَته ويَنقَادُون لِأوَامِره انقِيادًا تَامًّا عن رَغبةٍ وطَواعِية.. هذا الَّذي تَسَربلَ نِصفُ الأرض وخُمُسُ البَشَرِية بِسِربَالِه المُبَارَك، وانطَبَع بِطابَعِه المَعنَويّ، وأَصبَحَت ذَاتُه الشَرِّيفَة مَحبُوبةَ قُلُوبِهم، ومُربِّيةَ أروَاحِهم، ومُزَكّيةَ نُفُوسِهم، لا رَيبَ أنَّه العَبدُ الأَعظَم لِربِّ العَالَمِين سُبحَانَه.. هَذا العَبدُ الكَرِيم الَّذي رَحَّب أغلَبُ أنوَاع الكَائِنَات بمُهِمَّتِه ورِسَالَته، فَحَملَ كُلُّ نَوع ثَمَرةً مِن ثَمَراتِ مُعجِزاتِه، لا رَيبَ أنَّه أحَبُّ مَخلٍوقٍ لَدى الخَالِق العَظِيم.. وأنَّ البَشَريةَ الَّتي تَرجُو الخُلودَ بِكلِّ مَا لَها مِن استعدادٍ وتَطلُبُ هَذه الحَاجةَ المُلِحّةَ الَّتي تُنقِذُها مِن التَردِّي إلى دَرَكاتِ أسفَلِ سَافِلِين، وتَرفَعُها إلى دَرَجَاتِ أعلَى عِلِّـيِّين.. فَهِي حَاجة عُظمَى، لا رَيبَ أنَّ أعظَم العِبَاد يَتَقدَّم بِها ويَرفَعُها إلى قَاضِي الحَاجَات باسم الجَمِيع. وأَحَبِّ خَلقِه إلَيه، ولا يُسعِفَه بما يَرجُوه مِنه؟!
فحُسْنُ تَربِيةِ صِغارِ الحَيَواناتِ وضِعافِها، وإعاشَتُها بسُهُولةٍ ولُطْفٍ ظاهِريَّينِ تُرِيانِنا أنَّ مالِكَ هذه الكائناتِ يُسَيِّرُها برُبُوبيّةٍ لا حَدَّ لِرَحمَتِها؛ فهل يُعقَلُ لهذه الرُّبُوبيّةِ المُتَّصِفةِ بكَمالِ الشَّفَقةِ والرَّأفةِ ألَّا تَستَجِيبَ لِأَجمَلِ دُعاءٍ لِأَفضَلِ مَخلُوقٍ؟!
وكما بَيَّنتُ هذه الحَقيقةَ في “الكَلِمةِ التّاسِعةَ عَشْرةَ” أُعِيدُ بَيانَها هنا:
فيا صَدِيقي الَّذي يَسمَعُني مع نَفسِي.. لقد ذَكَرْنا في الحِكايةِ: أنَّ هناك اجتِماعًا في جَزِيرةٍ، وأنَّ مَبعُوثًا كَريمًا يَرتَجِلُ خُطبةً هناك، فحَقيقةُ ما أَشارَت إلَيه الحِكايةُ هي ما يأتي:
تَعالَ لِنَتَجَرَّدْ مِن قُيُودِ الزَّمانِ، ولْنَذْهَبْ بأَفكارِنا إلى عَصرِ النُّـبُوّةِ، وبخَيالِنا إلى تلك الجَزيرةِ العَرَبيّةِ كي نَحظَى بزِيارَتِه (ﷺ)، وهو يُزاوِلُ وَظِيفَتَه بكامِلِ عُبُودِيَّتِه.. انظُر.. كيف أنَّه سَبَبُ السَّعادةِ بما أَتَى به مِن رِسالةٍ وهِدايةٍ، فإنه (ﷺ) هو الدّاعي لإيجادِ تلك السَّعادةِ وخَلْقِ الجَنّةِ بدُعائِه وبعُبُودِيَّتِه.
انظُر إلى هذا النَّبيِّ الكَريمِ.. إلامَ يَدعُو؟ إنَّه يَدعُو إلى السَّعادةِ الأَبَديّةِ في صلاةٍ كُبرَى شامِلةٍ، وفي عِبادةٍ رَفيعةٍ مُستَغرِقةٍ، حتَّى إنَّ الجَزيرةَ العَرَبيّةَ، بل الأَرضَ بِرُمَّتِها، كأنَّها تُصَلِّي مع صَلاتِه، وتَبتَهِلُ إلى اللهِ بابتِهالِه الجَميلِ، ذلك لأنَّ عُبُودِيَّتَه (ﷺ) تَتَضمَّنُ عُبُودِيّةَ جَميعِ أُمَّتِه الَّذين اتَّبَعوه، كما تَتَضمَّنُ -بسِرِّ المُوافَقةِ في الأُصُولِ- سِرَّ العُبُودِيّةِ لِجَميعِ الأَنبِياءِ عَلَيهم السَّلَام؛ فهو يَؤُمُّ صَلاةً كُبرَى، أيَّما صَلاة! ويَتَضرَّعُ بدُعاءٍ -ويا لَه مِن تَضَرُّعٍ رَقيقٍ- في خُلُقٍ عَظيمٍ، كأنَّ الَّذين تَنَوَّرُوا بنُورِ الإيمانِ -مِن لَدُن آدَمَ عَليهِ السَّلام إلى الآنَ وإلى يومِ القِيامةِ- اقتَدَوْا به، وأمَّنُوا على دُعائِه13نعم، إنَّ جَميعَ الصَّلَوات التي تُقيمُها الأُمَّة كلُّها، مُنذ المُناجاةِ الأحمَدِّية -عَلَيه الصَلَاة والسَّلام- وجَميعَ الصَّلَوات والتَّسلِيمَات التي تَبعَثُها إلى النَبيِّ (ﷺ) إنْ هِي إلَّا تَأمينٌ دَائِم لِدُعَائِه، ومُشُارُكةٌ عَامَّةٌ مَعه، حتَّى إنَّ كلَّ صَلاة وسَلام عَلَيه هَو تَأمينٌ عَلى ذَلك الدُّعَاء؛ وأنَّ مَا يَأتِيه كلُّ فَردٍ مِن أفرَادِ الأُمّة مِن الصَّلَوات في الصَّلَاة، ومِنَ الدُّعَاء عَقِبَ الإقَامَة -لَدى الشَّافِعية- إنَما هو تَأمِينٌ عَامٌّ عَلى ذَلك الدُّعاء الذي يَدعُو بِه للسَّعَادَة الأبَدَية.. فَالنَبيُّ (ﷺ) يَرجُو في دُعائِه بِاسمِ البَشَرية قَاطِبةً البَقاءَ والسَّعادةَ الأبَديِّة، وهَذا هُو ما يُريدُه الإنسانُ ويَرجُوه بِكلِّ مَا أُوتِيَ مِن قُوّةٍ بِلِسَان حَالِ فِطرَته، لِذا يُؤمِّنُ خَلفَه جَميعُ الَّذين تَنوَّروا بِنُور الإيمَان.. فَهل يُمكِن ألَّا يُقرَن هَذا الدُّعاءُ بِالقَبول والاستِجَابة؟!.
انظُر.. كيف يَدعُو اللهَ لِحاجةٍ عامَّةٍ كَحاجةِ البَقاءِ والخُلُودِ! هذه الدَّعوةَ الَّتي لا يَشتَرِكُ فيها مَعَه أَهلُ الأَرضِ وحدَهُم، بل أهلُ السَّماواتِ أَيضًا، لا بلِ المَوجُوداتُ كافّةً. فتَقُولُ بلِسانِ الحالِ: “آمِينَ.. اللَّهُمَّ آمِينَ.. استَجِبْ يا رَبَّنا دُعاءَه، فنحن نَتَوَسَّلُ بك ونَتَضرَّعُ إليك مِثلَه”.
ثمَّ انظُر.. إنَّه يَسأَلُ تلك السَّعادةَ والخُلُودَ بكُلِّ رِقّةٍ وحُزنٍ، وبكُلِّ حُبٍّ ووُدٍّ، وبكُلِّ شَوْقٍ وإلحاحٍ، وبكُلِّ تَضَرُّعٍ ورَجاءٍ، يُحزِنُ الكَونَ جَميعًا ويُبكِيه فيُسهِمُه في الدُّعاءِ.
ثمَّ انظُر وتأمَّلْ.. إنَّه يَدعُو طالِبًا السَّعادةَ لِقَصدٍ عَظيمٍ، ولِغايةٍ سامِيةٍ.. يَطلُبُها لِيُنقِذَ الإنسانَ والمَخلُوقاتِ جَميعًا مِنَ التَّرَدِّي إلى هاوِيةِ أَسفَلِ سافِلِين، وهو الفَناءُ المُطلَقُ والضَّياعُ والعَبَثُ، ويَرفَعَه إلى أَعلَى عِلِّـيِّينَ، وهو الرِّفعةُ والبَقاءُ وتَقَلُّدُ الواجِباتِ وتَسَلُّمُ المَسؤُوليّاتِ، لِيكُونَ أهلًا لها، ويَرقَى إلى مَرتَبةِ مَكاتِيبَ صَمَدانيّةٍ.
انظُر.. كيف أنَّه يَطلُبُ الإعانةَ مُستَغِيثًا ببُكاءٍ، مُتَضرِّعًا راجِيًا مِنَ الأَعماقِ، مُتَوسِّلًا بإلحاحٍ.. حتَّى كأنَّه يُسمِعُ المَوجُوداتِ جَميعًا، بلِ السَّماواتِ، بلِ العَرشَ، فيَهُزُّهم وَجْدًا وشَوْقًا إلى دُعائِه ويَجعَلُهم يُرَدِّدُون: آمِينَ.. اللَّهُمَّ آمِينَ14نعم، إنَّه لا يُمكِن بِحالٍ مِنَ الأحوَال ألَّا يَطَّلعَ رَبُّ هَذا العَالَم عَلى أفعَالِ مَن هو بِالمَنزِلة الرَّفِيعة مِن خَلقِه، في الوَقتِ الَّذي يتَصَرَّفُ فِي الكَون بِكلِّ عِلمٍ وبَصِيرةٍ وحِكمَة، كما هو مُشاهَد. ولا يُمكن أيضًا بِحالٍ مِن الأحوَال ألَّا يُباليَ ذَلك الرَّبُّ العَليم بِدعاءِ هذا العَبدِ المُختَار مِن عِبَادِه، وهَو المُطَّلِع عَلى كُلِّ أفعَالِه ودعَوَاته؛ كذلك لا يُمكِن بِحالٍ مِن الأحوَال ألَّا يَستَجيبَ ذَلك الرَّبُّ القَدِير الرَّحِيم لِتِلكَ الدَّعَواتِ وهُو يَرَى مِن صاحِبِها كلَّ التجَرُّد والافِتقارِ إليه.
نعم، لقد تَبَدَّل وَضْعُ العالَم بنُورِ النَبي (ﷺ)، وتَبيَّنت حَقِيقةُ الإنسَان والكَون ومَاهيَّـتُهما بِذلِك النُّور، وانكشَفَت بِذلِك الضِّياء؛ فَظَهر أنَّ مَوجُودَاتِ هَذا الكُونِ مَكاتِيبُ صَمَدانيةٌ تَستَقرِئُ الأسمَاءَ الحُسنَى، ومَأمُورَاتٌ مُوظَّفاتٌ، ومَوجُودَات نَفِيسَة ذَاتُ مَعنًى ومَغزًى تَليقُ بِالبَقَاء.. فَلولا ذَلك النُّورُ لَظَلَّ الكُونُ مَستُورًا تَحت ظَلامِ الأوهَام، مَحكُومًا عَليه بِالفَنَاء المُطلَق والعَدَم، تَافهًا دُون معنًى ودٌون نَفع، بَل كان عَبَثًا وسُدًى وولِيدَ الصُّدفة..
ولِهذا السِّرِّ فإنَّ كلَّ شَيءٍ فِي الأرض والسَّماء، من الثَّرَى إلى الثُّريَّا يَستَضيءُ بنُورِه (ﷺ) ويُبدي عَلاقَتَه بِه مِثلَما يُؤمِّن الإنسَانُ لُدُعَائه، ولا غَروَ أن رُوحَ العُبُودية المُحمَّدية ومخَّها إنَّما هو الدُّعاء، بَل إنَّ حَرَكَات الكَون ووَظائفَه جَميعًا مَا هِي إلَّا نَوعٌ مِن الدُّعَاء، فنُمُوُّ البِذرة وتحوُّلاتُها مَثلًا مَا هُو إلَّا نَوعٍ مِن دُعاءٍ لَبَارِئها لِتُصبحَ شَجرةً باسِقةً..
وانظُر.. إنَّه يَسأَلُ السَّعادةَ والبَقاءَ الأَبَديَّ، ويَرجُوهما مِن قديرٍ سَميعٍ كريمٍ، ومِن عليمٍ بَصيرٍ رَحيمٍ يَرَى ويَسمَعُ أَخفَى حاجةٍ لِأَضعَفِ مَخلُوقٍ فيَتَدارَكُه برَحمَتِه، ويَستَجِيبُ له، حتَّى إن كانَ دُعاءً بلِسانِ الحالِ.
نعم، إنَّه يَستَجيبُ له ببَصِيرةٍ ورَحمةٍ ويُغيثُه بحِكمةٍ، مِمّا يَنفِي أيّةَ شُبهةٍ بأنَّ تلك الرِّعايةَ الفائقةَ ليسَت إلَّا مِن لَدُن سَمِيعٍ بصيرٍ، وأنَّ ذلك التَّدبيرَ الدَّقيقَ ليس إلَّا مِن عِندِ كَريمٍ رَحيمٍ.
نعم، إنَّ الَّذي يَقُودُ جَميعَ بَنِي آدَمَ على هذه الأَرضِ مُتَوجِّهًا إلى العَرشِ الأَعظَمِ، رافِعًا يدَيه، داعِيًا بدُعاءٍ شامِلٍ بحَقيقةِ العُبُوديّةِ الأَحمَديّةِ الَّتي هي خُلاصةُ عُبُودِيّةِ البَشَريّة.. تُرَى ماذا يُريدُ؟ ماذا يُريدُ شَرَفُ الإنسانيّةِ، وفَخْرُ الكائناتِ، وفَريدُ الأَزمانِ والأَكوانِ؟! لِنُنصِتْ إلَيه.. إنَّه يَسأَلُ السَّعادةَ الأَبَديّةَ لِنَفسِه ولِأُمَّتِه، إنَّه يَسأَلُ الخُلُودَ في دارِ البَقاءِ، إنَّه يَسأَلُ الجَنّةَ ونَعيمَها.. نعم، يَسأَلُها ويَرجُوها مع تلك الأسماءِ الإلٰهِيّةِ المُتَجلِّيةِ بجَمالِها في مِرآةِ المَوجُوداتِ.. إنَّه يَستَشفِعُ بتلك الأَسماءِ الحُسنَى كما تَرَى.
أَرَأَيتَ إن لم يَكُن شيءٌ مِن أسبابٍ مُوجِبةٍ لا تُعَدُّ ولا تُحصَى للآخِرةِ ولا شيءٌ مِن دَلائلِ وُجُودِها، أليسَ دُعاءُ هذا النَّبيِّ الكَريمِ (ﷺ) وَحْدَه سببًا كافيًا لإيجادِ الجَنّةِ15نعم، إنَّ إبدَاءَ نَماذِج الصَّنعةِ الدَّقيقةِ البَدِيعة التي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى على وَجهِ الأرض الذي هو بمَثابةِ صَحيفةٍ صَغيرةٍ بِالنِّسبَة إلى عَالَم الآخِرَة الفَسِيح، وكذا إرَاءةُ نَماذجِ الحَشرِ والقِيامةِ في ثَلاثِ مئةِ ألفٍ مِن مَخلُوقاتٍ ذَاتِ مُوازَنةٍ وانتِظَامٍ، وكِتَابتُها في تلك الصَحِيفَة الوَاحِدَة بهذا النِّظام البَديعِ، لا شَكَّ أنَّها أعقَدُ مِن تَهيئةِ الجَنَّةِ المَوسُومة بالفَخَامَة والرِّفعة في عالَمِ البَقَاء الرَّحْبِ، لذا يَصُحُّ القَولُ: إنَّ خَلْقَ حَدَائقِ الرَّبيعِ بِما فِيها مِنَ الأزهَارِ والرَّيَاحِينِ أَمرٌ يَبعَث على الحَيرةِ والدَّهشةِ أكثَرَ مِمّا يَبعَثُها خَلقُ الجَنّة، وبنسبةِ عُلُوِّ دَرجةِ الجَنّة ورِفعةِ مَكانَتِها على الرَّبيع. (المُؤَلَّف). الَّتي هي سَهلةٌ على قُدرةِ خالِقِنا الرَّحيمِ، كسُهُولةِ إعادةِ الحَياةِ إلى الأَرضِ في أيّامِ الرَّبيعِ؟
نعم، إنَّ الَّذي جَعَل سَطْحَ الأَرضِ في الرَّبيعِ مِثالًا للحَشرِ، فأَوجَدَ فيه مِئةَ نَمُوذَجٍ مِن نَماذِجِه بقُدرَتِه المُطلَقةِ، كيف يَصعُبُ عليه إيجادُ الجَنّةِ؟! إذًا فكما كانَت رِسالتُه (ﷺ) سببًا لإيجادِ دارِ الِامتِحانِ هذه، وصارَت بَيانًا وإيضاحًا لِسِرِّ “لَوْلَاك لَوْلَاكَ لَمَا خَلَقْتُ الأفْلَاكَ” فإنَّ عُبُودِيَّتَه كذلك أَصبَحَت سببًا لِخَلْقِ تلك الدّارِ السَّعيدةِ الأَبَديّةِ.
فهل مِنَ المُمكِن يا تُرَى لِانتِظامِ العالَمِ البَديعِ الَّذي حَيَّر العُقُولَ، والصَّنعةِ المُتقَنةِ وجَمالِ الرُّبُوبيّةِ الشّامِلةِ في إطارِ رَحمَتِه الواسِعةِ، أن يَقبَلَ قُبحًا فَظيعًا وظُلمًا شَنيعًا وفَوضَى ضارِبةً أَطنابُها، بعَدَمِ استِجابةِ ذلك الدُّعاءِ، أي: ألّا يُراعيَ ولا يَسمَعَ ولا يُنجِزَ أَكثَرَ الرَّغَباتِ أَهَمِّيّةً وأَشَدَّها ضَرُورةً، في حينِ أنَّه يُراعِي باهتِمامٍ بالِغٍ أَبسَطَ الرَّغَباتِ وأصغَرَها، ويَسمَعُ أَخفَتَ الأَصواتِ وأَدَقَّها ويَقضي لكُلِّ ذي حاجةٍ حاجَتَه! كلَّا ثمَّ كلَّا أَلفَ أَلفِ مَرّةٍ، إنَّ مِثلَ هذا الجَمالِ يَأبَى التَّشَوُّهَ ولن يكونَ قَبيحًا16نعم، إن انقِلَابَ الحَقَائِق مُحالٌ بالاتِّفَاق. وأَشَدُّ مُحَالَاتِه هُو انقِلَابُ الضِّدِّ إلى ضِدِّه. وضِمنَ عَدَم إمكَانِ انقِلابِ الحَقَائق إلى أضدَّادِها حَقيقةٌ لا تَقبلُ الضِّدَّ قَطعًا، وهي انقِلَابُ الشَّيء مع احتِفَاظِه بَمَاهيَّتِه إلى عَينِ ضِدِّه، كَأنْ يَنقلِبَ الجَمَالُ المُطلَق مع احتِفَاظِه بِهذا الجَمَال إلى القُبحِ الحَقيقيّ! فتَحوُّلُ جَمالِ الرُّبوبيةِ الواضِحِ والظّاهرِ ظُهورًا جَليًّا إلى ضِدِّه مَع بَقَائه عَلى ماهِيَّتِه هُو أشَدُّ مُحَالًا وأكثرُ عَجبًا في أحَكَام العَقل..
فالرَّسُولُ (ﷺ) إذًا يَفتَحُ بعُبُودِيَّتِه بابَ الآخِرةِ مِثلَما فَتَح برِسالَتِه بابَ الدُّنيا.. عَلَيهِ صَلَوَاتُ الرَّحمٰنِ مِلءَ الدُّنيا وَدَارِ الجِنَانِ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عَلٰى عَبدِكَ ورَسُولِكَ ذلِكَ الحَبِيبِ الَّذِي هُوَ سَيِّدُ الكَونَينِ وفَخرُ العَالَمَينِ وحَيَاةُ الدّٰارَينِ ووَسِيلَةُ السَّعَادَتَينِ وذُو الجَنَاحَينِ ورَسُولُ الثَّقَلَينِ، وعَلى آلِهِ وصَحبِهِ أَجمَعِينَ، وعَلى إِخوَانِهِ مِنَ النّبِيِّينَ والمُرسَلِينَ. آمِينَ.
الحقيقةُ السّادسة: بابُ العظَمةِ والسَّرمَدية، وهو تَجَلِّي اسمِ “الجَليلِ” و”الباقي”
أَمِنَ المُمكِنِ لِرَبٍّ جَليلٍ يُديرُ المَوجُوداتِ ويُسَخِّرُها مِنَ الشُّمُوسِ إلى الأشجارِ وإلى الذَّرّاتِ وإلى ما هو أَصغَرُ مِنها، كأنَّها جُنُودٌ مجَنَّدةٌ، أن يَقصُرَ نَشرَ سُلطانِه على مَساكينَ فانِينَ يَقضُون حَياةً مُؤقَّتةً في دارِ ضِيافةِ الدُّنيا هذه، ولا يُنشِئَ مَقَرًّا سامِيًا سَرمَدِيًّا ومَدارَ رُبُوبيّةٍ جَليلةٍ باقيةٍ له؟!
إنَّ ما نُشاهِدُه في هذا الكَونِ مِنَ الإجراءاتِ الجَليلةِ الضَّخمةِ أمثالَ تَبَدُّلِ المَواسِمِ.. ومِنَ التَّصَرُّفاتِ العَظيمةِ أمثالَ تَسيِيرِ النُّجومِ.. ومِنَ التَّسخِيراتِ المُدهِشةِ أمثالَ جَعْلِ الأَرضِ مِهادًا والشَّمسِ سِراجًا.. ومِنَ التَّحَوُّلاتِ الواسِعةِ أمثالَ إحياءِ الأَرضِ وتَزيِينِها بعدَ جَفافِها ومَوتِها.. لَيُبيِّنُ لنا بجَلاءٍ أنَّ وَراءَ الحِجابِ رُبُوبيّةً جَليلةً عَظيمةً تَحكُمُ وتُهَيمِنُ بسُلطانِها الجَليلِ؛ فمِثلُ سَلْطَنةِ الرُّبُوبيّةِ هذه تَستَدعي رَعايا يَليقُون بها، ومَظاهِرَ تُناسِبُها.
بَينَما تَرَى أنَّ مَن لهم أَفضَلُ المَزايا وأَجمَعُها مِنَ الرَّعايا والعِبادِ قد اجتَمَعُوا مُؤقَّـتًا مَنهُوكِين في مَضِيفِ الدُّنيا، والمَضِيفُ نَفسُه يُملَأُ ويُفرَغُ يومِيًّا، والرَّعايا لا يَلبَثُون فيه إلَّا بمِقدارِ أَداءِ تَجرِبةِ مُهِمّاتِهم في مَيدانِ الِاختِبارِ هذا. والمَيدانُ نفسُه يَتبَدَّلُ كلَّ ساعةٍ. فالرَّعايا يَقِفُون دقائقَ مَعدُودةً لِرُؤيةِ ما في مَعارِضِ سُوقِ العالَمِ مِن نَماذِجِ الآلاءِ الثَّمينةِ للخالقِ ذي الجَلالِ، ومُشاهِدِين -لِأَجلِ التِّجارةِ- بَدائعَ صُنعِه سُبحانَه في هذا المَعرِضِ الهائلِ، ومَن ثَمَّ يَغيبُون، والمَعرِضُ نفسُه يَتبَدَّلُ ويَتغَيَّرُ كلَّ دَقيقةٍ! فمَن يَرحَلُ فلا عَودةَ له، والقابلُ راحِلٌ؛ فهذا الوَضعُ يُبيِّنُ بوُضُوحٍ وبشَكلٍ قاطِعٍ أنَّ وَراءَ هذا المَضِيفِ الفاني، وخَلفَ هذا المَيدانِ المُتَغيِّرِ، وبَعد هذا المَعرِضِ المُتَبدِّلِ، قُصُورًا دائمةً تليقُ بالسَّلطَنةِ السَّرمَديّةِ، ومَساكِنَ أَبَديّةً ذاتَ جِنانٍ، وخَزائنَ مَلْأَى بالأُصُولِ الخالِصةِ الرّاقيةِ للنَّماذِجِ الَّتي نَراها في الدُّنيا؛ لذا فالدَّأَبُ والسَّعيُ هنا إنَّما هو للتَّطَلُّعِ إلى ما هناك.. والاستِخدامُ هنا لِقَبضِ الأُجرةِ هناك.. فلِكلٍّ حَسَبَ استِعدادِه واجتِهادِه سَعادةٌ وافِرةٌ إن لم يَفقِدْها.
نعم، إنَّه مُحالٌ أن تَظَلَّ مِثلُ هذه السَّلطَنةِ السَّرمَديّةِ مَقصُورةً على هؤلاء الفانِينَ الأَذِلّاءِ.. فانظُر إلى هذه الحَقيقةِ مِن خِلالِ مِنظارِ هذا المِثالِ:
هَبْ أنَّك تَسيرُ في طَريقٍ، وتُشاهِدُ أنَّ عليها “فُندُقًا فَخْمًا” بناه مَلِكٌ عَظيمٌ لِضُيوفِه، وهو يُنفِقُ مَبالغَ طائلةً لِتَزيِينِه وتَجمِيلِه لِلَيلةٍ واحِدةٍ كي يُدخِلَ البَهجةَ في قُلُوبِ ضُيُوفِه، ويَعتَبِرُوا بما يَرَوْن؛ بَيْدَ أنَّ أُولَئك الضُّيوفَ لا يَتَفرَّجُون إلَّا على أَقلِّ القَليلِ مِن تلك التَّزيِيناتِ، ولا يَذُوقُون إلَّا أَقلَّ القَليلِ مِن تلك النِّعَمِ، حيثُ لا يَلبَثُون إلَّا قليلًا، ومِن ثَمَّ يُغادِرُون الفُندُقَ دُونَ أن يَرتَوُوا ويَشبَعُوا، سِوَى ما يَلتَقِطُون مِن صُوَرِ أشياءَ في الفُندُقِ بما يَملِكُون مِن آلةِ تَصويرٍ، وكذلك يَفعَلُ عُمّالُ صاحِبِ الفُندُقِ وخُدّامُه حيثُ يَلتَقِطُون حَرَكاتِ هؤلاء النُّزَلاءِ وسَكَناتِهم بكُلِّ دِقّةٍ وأَمانةٍ ويُسَجِّلُونها.
فها أنت ذا تَرَى أنَّ المَلِكَ يُهدِّمُ يَوميًّا أَغلَبَ تلك التَّزييناتِ النَّفيسةِ، مُجَدِّدًا إيّاها بأُخرَى جَديدةٍ للضُّيُوفِ الجُدُدِ.. أفَبَعدَ هذا يَبقَى لدَيك شَكٌّ في أنَّ مَن بَنَى هذا الفُندُقَ على قارِعةِ هذه الطَّريقِ يَملِكُ قُصُورًا دائمةً عاليةً، وله خَزائنُ زاخِرةٌ ثَمينةٌ لا تَنفَدُ، وهو ذُو سَخاءٍ دائمٍ لا يَنقَطِعُ؛ وأنَّ ما يُبديه مِنَ الكَرَمِ في هذا الفُندُقِ هو لإثارةِ شَهِيّةِ ضُيُوفِه إلى ما عِندَه مِن أشياءَ، ولِتَنبيهِ رَغَباتِهم وتَحرِيكها لِما أَعَدَّ لهم مِن هَدايا؟!
فإن تَأَمَّلتَ مِن خِلالِ هذا المِثالِ في أَحوالِ فُندُقِ الدُّنيا هذه، وأَنعَمتَ النَّظَرَ فيها بوَعيٍ تامٍّ، فستَفْهَمُ الأُسُسَ التِّسعةَ الآتيةَ:
الأساسُ الأوَّلُ: [الدنيا دار ضيافة وليست مرادة لذاتها]
أنَّك ستَفهَمُ أنَّ هذه الدُّنيا الشَّبيهةَ بذلك الفُندُقِ ليسَت لِذاتِها، فمُحالٌ أن تَتَّخِذَ لِنَفسِها بنَفسِها هذه الصُّورةَ والهَيئةَ، وإنَّما هي دارُ ضِيافةٍ تُملَأُ وتُفرَغُ، ومَنزِلُ حِلٍّ وتَرحالٍ، أُنشِئَت بحِكمةٍ لقافِلةِ المَوجُوداتِ والمَخلُوقاتِ.
الأساسُ الثاني: [سكان هذه الدار ضيوف مسافرون]
وستَفهَمُ أنَّ ساكِني هذا الفُندُقِ هم ضُيوفٌ مُسافِرُون، وأنَّ ربَّهمُ الكَريمَ يَدعُوهم إلى دارِ السَّلامِ.
الأساسُ الثالث: [الزينة في هذه الدار أنموذج مؤقت عن أصل دائم]
وستَفهَمُ أنَّ التَّزييناتِ في هذه الدُّنيا ليسَت لِأَجلِ التَّلَذُّذِ والتَّمتُّعِ فحَسْبُ، إذ لو أَذاقَتْك اللَّذّةَ ساعةً، أَذاقَتْك الأَلَمَ بفِراقِها ساعاتٍ وساعاتٍ، فهي تُذيقُك مُثيرةً شَهِيَّتَك دُونَ أن تُشبِعَك، لقِصَرِ عُمُرِها أو لقِصَرِ عُمُرِك، إذ لا يَكفِي للشِّبَع.. إذًا فهذه الزِّينةُ الغالِيةُ الثَّمَنِ والقَصيرةُ العُمُرِ هي للعِبرةِ17على الرَّغم مِن أنَّ كلَّ شَيء دَقيقِ الصُّنعِ بَديعِ التَصويرِ جَميلِ التَركيبِ هو غَالٍ ونَفيسٌ، فإنَّ عُمُرَه قَصيرٌ، ووُجودَه لا يَستَغرِق إلّا زمَنًا يَسيرًا. فَهو إذًا نَماذِجُ وصُوَرٌ لأشياءَ أُخرَى ليس إلَّا. ولَمّا كَان هُناك مَا يُشبِه تَوجيهَ الأنظَارِ إلى الحَقَائِق الأصليّة، فَلا غَرابةَ إذًا في أن يُقالَ: إنَّ زينةَ الحَيَاة الدُّنيا مَا هِي إلَّا نَماذجُ لِنِعَم الجَنَّة التي هيَّأها الرَّبُّ الرَّحيم بفَضلِه ولُطفِه لمَن أحَبَّ مِن عِبادِه، بل الحقيقةُ هي هذه فعلًا.، وللشُّكرِ، ولِلحَضِّ على الوُصُولِ إلى تَناوُلِ أُصُولِها الدّائمةِ، ولغاياتٍ أُخرَى سامِيةٍ.
الأساسُ الرّابعُ: [لكل شيء في الدنيا غايات ثلاثة]
وستَفهَمُ أنَّ هذه الزِّينةَ في الدُّنيا18نعم، إن لُوجُودِ كلِّ شَيء غَاياتٍ، ولِحَياتِه أَهدَافًا ونَتائجَ، فَهي لَيسَت بمُنحصِرة -كما يَتَوهَّم أهلُ الضلالة- على الغَايَاتِ والمَقاصِد التي تَتَوجَّه إلى الدُّنيَا أو التي تَنحَصِر في المَوجُود نَفسِه، حتى يُمكِنَ أن يَتَسلَّل إليها العَبَثُ وعَدمُ القَصدِ. بل إن غَاياتِ وُجودِ كلِّ شيءٍ ومَقَاصِدَ حياتِه ثلاثةُ أقسام:
أوَّلُها: وهو أسمَاها، وهو المُتوجِّه إلى صَانعِه سُبحَانه وتَعالَى. أي: عَرضُ دَقائقِ صُنعِ كلِّ شيء وبَديعِ تَركيبِه أمَام أَنظَارِ الشّاهِد الأزَليِّ سُبحَانَه -بِما يُشبِه الاستعرَاضَ الرَّسميَّ- حيث تَكفِي لِذلِك النَّظَر حَياةُ الشَّيء ولو لِلَحظةٍ واحِدَة. بل قد يَكفِيه استعدَادُه لإبرَازِ قُواه الكَامنةِ الشَّبيهة بنيَّتِه -ولمّا يَبرزْ إلى الوُجود- ومِثَاله: المَخلوقاتُ اللَّطيفةُ التي تَزُول بسُرعةٍ، والبُذورُ التي لَم يَتَسَنَّ لَها أنْ تَتَسَنبلَ، تُفيدُ هَذه الغَاية وتُعبِّر عَنها تَمَامًا، فلا يَطرَأُ عَليها عَبَثٌ ولا انتفاءُ النَّفْعِ البتّةَ. أي: إنَّ أَولَى غَايَاتِ كلِّ شيء هُو: إعلَانُه وإظهَارُه -بِحَياتِه ووُجودِه- مُعجِزاتِ قُدرةِ صَانعِه، وآثارَ صَنعَتِه، أمامَ نظَرِ مَليكِه ذِي الجَلَال.
والقسمُ الثاني: مِن غَايَة الوجودِ وهَدفِ الحَيَاة هو: التوجُّهُ إلى ذَوِي الشُّعور، أي: إنَّ كلَّ شيء بِمثَابةِ رِسالةٍ ربَّانيّةٍ زاخِرةٍ بالحَقَائِق، وقَصِيدةٍ تَنضَحُ لُطفًا ورِقّةً وكَلمةٍ تُفصِحُ عَن الحِكمَة، يَعرِضُها البَارِئ عِزَّ وجَلَّ أمَامَ أنظَارِ المَلَائِكَة والجِنِّ والحيَوانِ والإنِسَان، وَيَدعُوهُم إلَى التَأمُّلِ، أي: إنَّ كلَّ شيء هو مَحلُّ مُطالَعةٍ وتأمُّلٍ وعِبرةٍ لِكلِّ مَن ينظُرُ إليه مِن ذَوي الشُّعور.
القسمُ الثَّالث: مِن غَايَة الوُجودِ وهَدفِ الحَيَاة هُو: التَّوجُّه إلى ذَاتِ نَفسِه: كالتَّمتُّع والتَّلذُّذ وقَضَاءِ الحَيَاة والبَقاءِ فيها بهَناءٍ، وغيرِها مِن المَقَاصِدِ الجُزئيةِ. فَمَثلًا: إنَّ نَتِيجة عَمَلِ المَلَّاح في سَفِينَة السُّلطان العَظِيمَة تَعودُ فَائدتُها إليه وَهِي أُجرَتُه، وَهِي بِنَسبةِ وَاحدٍ في المِئة، بَينَما تِسعٌ وتِسعُون بِالمَئة مِن نَتَائجِ عَملِه تَعُود إلى السُّلطان الذي يَملِكُ السَّفينة.
وهَكذا أَمرُ كُلِّ شيء: إنْ كَانَت غَايتُه المُتوجِّهةُ إلى نَفسِه وإلى دُنيَاه وَاحدةً، فَالغَايَةُ المُتوجِّهةُ إلَى بَارِئِه سُبحَانَه هِي تِسعٌ وتِسعون، فَفِي تَعدُّدِ الغايات هذا يَكمُنُ سِرُّ التَوفِيق بَين “الحِكمَة والجُود” أي: بين الاقتِصادِ والسَّخاء المُطلَقَينِ اللَّذَين يَبدُوانِ كالضِّدَّين والنَّقيضَين.
وتوضيحُ ذلك: إذا لُوحظَت غايةٌ بمُفرَدِها فإنَّ الجُود والسَّخَاء يَسُودان آنذَاك، ويَتَجلَّى اسمُ “الجوَّاد”، فالثِّمار والحُبوبُ حسَبَ تِلك الغَايَة المُفرَدة المَلحُوظَة لا تُعدُّ ولا تُحصَى. أي: إنِّها تُفيد جُودًا مُطلَقًا وسَخَاءً لا حَصرَ لَه. أمّا إذَا لُوحِظَت الغَايَات كِلُّها فإنَّ الحِكمةَ هي التي تَظهَرُ وتُهيمِنُ، ويَتجلَّى اسمُ “الحكيم”. فتَكون الحِكَمُ والغَايَات المُتوخّاةُ من ثَمرةٍ لِشَجَرة وَاحِدة بَعدَدِ ثِمارِ تِلك الشَّجَرة، فَتَتوزَّعُ هَذه الغَايَاتُ عَلى الأقسَام الثَّلاثَة التي سَبَق ذِكرُها.
فَهَذه الغَايَات العَامَّةُ تُشيرُ إلى حِكمةٍ غير نِهائِية، واقتصادٍ غَير مُحدَّد، فتَجتَمِعُ الحِكمةُ المُطلَقةُ مَع الجُودِ المُطلَق اللذان يَبدُوانِ كالضِّدَّين.
ومَثلًا: إنَّ إحدَى الغَايَات مِن الجَيش هِي المُحَافَظَة عَلَى الأَمْنِ والنِّظام، فإذا نَظَرتَ إلى الجَيش بِهذا المِنظارِ فَسَترى أنَّ هُنَاك عَددًا فَوقَ المَطلُوب مِنه. أمَّا إذَا نَظَرنا إلَيه مَع أَخذِنا الغَايَاتِ الأخرَى بنَظَرِ الاعتِبار كَحِفظ الحُدود، ومَجَاهَدةِ الأعدَاء وغيرِها، عِند ذَلك نَرى أنَّ العَدَد يَكادُ يَفي بالحَدِّ المَطلُوب… فَهو إذًا توازُنٌ دقِيقٌ بِميزانِ الحِكمَة. إذ تَجتَمِعُ حِكمةُ الحُكومة مَع عَظَمَتِها. وهَكَذا يُمكِنُ القولُ في هَذِه الحَالَة: إنَّ الجيش ليسَ فوقَ الحَدِّ المَطلُوب. بمَثابةِ صُوَرٍ ونَماذِجَ للنِّعَمِ المُدَّخَرةِ لدى الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ في الجَنّةِ للمُؤمِنين.
الأساسُ الخامس: [المصنوعات لم تُخلق للفناء]
وستَفهَمُ أنَّ هذه المَصنُوعاتِ الفانيةَ لَيسَت للفَناءِ، ولم تُخلَق لِتُشاهَدَ حِينًا ثمَّ تَذهَبَ هَباءً، وإنَّما اجتَمَعَت هنا، وأَخَذَت مَكانَها المَطلُوبَ لِبُرهةٍ قَصيرةٍ كي تُلتَقَطَ صُوَرُها، وتُفهَمَ مَعانيها، وتُدَوَّنَ نَتائجُها، ولتُنسَجَ لأَهلِ الخُلُودِ مَناظِرَ أَبديّةً دائمةً، ولِتكُونَ مدارًا لِغاياتٍ أُخرَى في عالَمِ البَقاءِ.
ويُفهَمُ مِنَ المِثالِ الآتي كيفَ أنَّ هذه الأشياءَ لم تُخلَق للفَناءِ بل للبَقاءِ، بل إنَّ فَناءَها الظّاهِرِيَّ ليس إلَّا إطلاقًا لِسَراحِها بعدَما أَنهَت مَهامَّها، وكيف أنَّ الشَّيءَ يَفنَى مِن جِهةٍ إلَّا أنَّه يَبقَى مِن جِهاتٍ كَثيرةٍ:
تَأَمَّل في هذه الزَّهرةِ -وهي كَلِمةٌ مِن كَلِماتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ- إنَّها تَنظُرُ إلينا مُبتَسِمةً لنا لبُرهةٍ قَصيرةٍ، ثمَّ تَختَفي وراءَ سِتارِ الفَناءِ، فهي كالكَلِمةِ التي نَتَفوَّهُ بها، التي تُودِعُ آلافًا مِن مَثيلاتِها في الآذان وتَبقَى مَعانيها بعَدَدِ العُقُولِ المُنْصِتةِ لها، وتَمضِي بعد أن أَدَّت وَظيفَتَها، وهي إفادةُ المَعنَى؛ فالزَّهرةُ أيضًا تَرحَلُ بعدَ أن تُودِعَ في ذاكِرةِ كلِّ مَن شاهَدَها صُورَتَها الظّاهِرةَ، وبعدَ أن تُودِعَ في بُذَيراتِها ماهِيَّتَها المَعنَويّةَ، فكأنَّ كلَّ ذاكِرةٍ وكلَّ بِذرةٍ، بمَثابةِ آلةِ تَصْوِيرٍ لِحِفْظِ جَمالِها وصُورَتِها وزِينَتِها، ومَحَلِّ إدامةِ بَقائِها.
فلَئِن كان مَصنُوعُ الَّذي هو في أَدنَى مَراتِبِ الحَياةِ يُعامَلُ مِثلَ هذه المُعامَلةِ للبَقاءِ، فما بالُك بالإنسانِ الَّذي هو في أَسمَى طَبَقاتِ الحَياةِ، والَّذي يَملِكُ رُوحًا باقِيةً، ألا يكُونُ مُرتَبِطًا بالبقاءِ والخُلُودِ؟ ولَئِن كانت صُورةُ النَّباتِ المُزهِرِ المُثمِرِ، وقانونُ تَركيبِه -الشَّبيهُ جُزئيًّا بالرُّوحِ- باقيةً ومَحفُوظةً في بُذَيراتِها بكلِّ انتِظامٍ، في خِضَمِّ التَّقَلُّباتِ الكَثيرةِ، أفلا يُفهَمُ كم تكُونُ رُوحُ الإنسانِ باقيةً، وكم تكُونُ مَشدُودةً مع الخُلُودِ، عِلمًا أنَّها قانونٌ أَمرِيٌّ، وذاتُ شُعُورٍ نُورانِيٍّ، تَملِكُ ماهِيّةً راقيةً، وذاتُ حَياةٍ، وذاتُ خَصائصَ جامِعةٍ شامِلةٍ، وقد أُلبِسَت وُجُودًا خارِجِيًّا؟!
الأساسُ السادس: [الإنسان ليس متروكًا سُدى]
وستَفهَمُ أنَّ الإنسانَ لم يُتْرَك حَبْلُه على غارِبِه، ولم يُتْرَك طَلِيقًا لِيَرتَعَ أينَما يُريدُ، بل تُسجَّلُ جَميعُ أَعمالِه وتُلتَقَطُ صُوَرُها، وتُدَوَّنُ جَميعُ أَفعالِه لِيُحاسَبَ عليها.
الأساسُ السابع: [الموت ليس فناء نهائيًّا]
وستَفهَمُ أنَّ المَوتَ والِاندِثارَ الَّذي يُصيبُ في الخَريفِ مَخلُوقاتِ الرَّبيعِ والصَّيفِ الجَميلةِ، ليس فَناءً نِهائيًّا، وإعدامًا أَبَديًّا، وإنَّما هو إعفاءٌ مِن وَظائفِها بعدَ إكمالِها وإيفائِها، وتَسريحٌ مِنها، ﴿(حاشية): نَعم، لا بدَّ مِن زَوَال الثِّمَار والأزهَارِ والأورَاقِ المحمولةِ على أغصَانِ ورُؤوسِ الأشجَار التي هِي خَزينةُ الأرزَاق للرَّحمَة الإلٰهِيّة، بَعد أنْ أدَّت وظيفَتَها وهَرِمَت، كيلا يُوصَد البَابُ أمَامَ ما يَسيلُ وَرَاءَها ويَخلُفُها، وإلّا صَارت سَدًّا مَنيعًا أمَامَ سَعةِ الرَّحمة وحَائِلًا أمَام مَهامِّ أَخَواتِها، فَضلًا عَن أنَّها هِي نَفسَها تَذوِي وتَذبُلُ بِزوَال شَبَابِها.. وهَكَذا، فَالرَّبيعُ أشبَهُ بِتلك الشَّجَرة المُثمِرة، المُظهِرة للحَشر، وعَالَمُ الإنسَان في كُلِّ عَصر هو شَجرةٌ مُثمِرةٌ ذَاتُ حِكمةٍ وعِبرَة، والأرضَ جَميعًا شَجرةُ قُدرةٍ بَديعةٍ، والدُّنيَا كَذلك شَجرةٌ رَائعةٌ تُرسِلُ ثِمارَها إلى سُوقِ الآخِرة.﴾ وهو إفساحُ مَجالٍ وتَخْلِيةُ مكانٍ لِما سيَأتي في الرَّبيعِ الجَديدِ مِن مَخلُوقاتٍ جَديدةٍ؛ فهو تَهَيُّـؤٌ وتَهيِئةٌ لِما سيَحُلُّ مِنَ المَوجُوداتِ المَأمُورةِ الجَديدةِ، وهو تَنبِيهٌ رَبّانِيٌّ لِذَوِي المَشاعِرِ الَّذين أَنْسَتْهمُ الغَفلةُ مَهامَّهم، ومَنَعَهُمُ السُّكْرُ عنِ الشُّكْرِ.
الأساسُ الثامن: [صانع العالَم باقٍ يُشوِّق عبادَه إليه]
وستَفهَمُ أنَّ الصّانِعَ السَّرمَدِيَّ لهذا العالَمِ الفاني له عالَمٌ غيرُ هذا، وهو عالَمٌ باقٍ خالِدٌ، ويُشوِّقُ عِبادَه إليه، ويَسُوقُهم إليه.
الأساسُ التاسع: [جود الرحمن الرحيم لا حد له]
وستَفهَمُ أنَّ الرَّحمٰنَ الرَّحيمَ جَلَّ جَلالُه سوف يُكرِمُ في ذلك العالَمِ الفَسيحِ عِبادَه المُخلِصين بما لا عينٌ رَأَت ولا أُذُنٌ سَمِعَت ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ.. آمَنّا.
الحقيقة السابعة: بابُ الحِفظ والحَفيظيّة، وهو تَجَلِّي اسمِ “الحَفيظ” و”الرَّقيب”
أَمِنَ المُمكِنِ لِحَفيظٍ ورَقيبٍ يَحفَظُ بانتِظامٍ ومِيزانٍ ما في السَّماءِ والأَرضِ، وما في البَرِّ والبَحرِ مِن رَطْبٍ ويابِسٍ، فلا يُغادِرُ صَغِيرةً ولا كَبِيرةً إلَّا أَحصَاها، ألّا يُحافِظَ ولا يُراقِبَ أَعمالَ الإنسانِ الَّذي يَملِكُ فِطرةً سامِيةً، ويَشغَلُ رُتبةَ الخِلافةِ في الأَرضِ، ويَحمِلُ مُهِمّةَ الأَمانةِ الكُبْرَى؟! فهل يُمكِنُ ألّا يُحافِظَ على أَفعالِه الَّتي تَمَسُّ الرُّبُوبيّةَ العامّةَ؟ ولا يُفرِزَها بالمُحاسَبةِ؟ ولا يَزِنَها بمِيزانِ العَدالةِ؟ ولا يُجازِيَ فاعِلَها بما يَليقُ به مِن ثَوابٍ وعِقابٍ؟! تَعالَى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كَبِيرًا.
نعم، إنَّ الَّذي يُدِيرُ أَمرَ هذا الكَونِ هو الَّذي يُحافِظُ على كلِّ شيءٍ فيه ضِمنَ نِظامٍ ومِيزانٍ، والنِّظامُ والمِيزانُ هما مَظهَرانِ مِن مَظاهِرِ العِلمِ والحِكمةِ معَ الإرادةِ والقُدرةِ، لأنَّنا نُشاهِدُ أنَّ أيَّ مَصنُوعٍ كان لم يُخلَقْ ولا يُخلَقُ إلَّا في غايةِ الِانتِظامِ والمِيزانِ، وأنَّ الصُّوَرَ الَّتي يُغيِّـرُها طَوالَ حَياتِه في انتِظامٍ دَقيقٍ كما أنَّ مَجمُوعَها أَيضًا ضِمنَ نِظامٍ مُتقَنٍ مُحكَمٍ. ونَرَى أيضًا أنَّ الحَفيظَ ذا الجَلالِ يَحفَظُ صُوَرَ كلِّ شيءٍ حالَما يَختِمُ عُمُرَه معَ انتِهاءِ وَظيفَتِه ويَرحَلُ مِن عالَمِ الشَّهادةِ، يَحفَظُها سُبحانَه في الأَذهانِ الَّتي هي أَشبَهُ ما تكُونُ بالأَلواحِ المَحُفوظةِ19انظُر حَاشِية الصُّورَة السَّابِعة. وفيما تُشبَّهُ بمَرايا مِثالِيّةٍ، فيَكتُبُ مُعظَمَ تاريخِ حَياتِه في بُذُورِه ويَنقُشُه نَقشًا في ثِمارِه، فيُديمُ حَياتَه ويَحفَظُها في مَرايا ظاهِرةٍ وباطِنةٍ.. فذاكِرةُ البَشَرِ، وثَمَرُ الشَّجَرِ، ونَواةُ الثَّمَرِ، وبِذْرُ الزَّهْرِ.. كلُّ ذلك يُبيِّنُ عَظَمةَ إحاطةِ الحَفِيظيّةِ.
ألا تَرَى كيفَ يُحافَظُ على كلِّ شيءٍ مُزهِرٍ ومُثمِرٍ في الرَّبيعِ الشّاسِعِ العَظيمِ، وكيف يُحافَظُ على جَميعِ صَحائفِ أَعمالِه الخاصّةِ به، وعلى جَميعِ قَوانينِ تَركِيبِه ونَماذِجِ صُوَرِه، كِتابةً في عَدَدٍ مَحدُودٍ مِنَ البُذَيراتِ.. حتى إذا ما أَقبَلَ الرَّبيعُ تُنشَرُ تلك الصَّحائفُ وَفْقَ حِسابٍ دَقيقٍ يُناسِبُها، فيُخرِجُ إلى الوُجُودِ رَبيعًا هائلًا في غايةِ الِانتِظامِ والحِكمةِ؟ ألا يُبيِّنُ هذا مَدَى نُفُوذِ الحِفظِ والرَّقابةِ، ومَدَى قُوةِ إحاطَتِهما الشّامِلةِ؟ فلَئِن كان الحِفظُ إلى هذا الحَدِّ مِنَ الإتقانِ والإحاطةِ فيما لا أَهمِّيّةَ له وفي أَشياءَ مُؤَقَّتةٍ عادِيّةٍ، فهل يُعقَلُ عَدَمُ الِاحتِفاظِ بأَعمالِ البَشَرِ، الَّتي لها ثِمارٌ مُهِمّةٌ في عالَمِ الغَيبِ وعالَمِ الآخِرةِ وعالَمِ الأَرواحِ، ولَدَى الرُّبُوبيّةِ العامّةِ؟! فهل يُمكِنُ إهمالُها وعَدَمُ تَدوِينِها؟! حاشَ لله..
نعم، يُفهَمُ مِن تَجَلِّي هذه الحَفِيظِيّةِ، وعلى هذه الصُّورةِ الواضِحةِ، أنَّ لِمالِك هذه المَوجُوداتِ عِنايةً بالِغةً لِتَسجيلِ كلِّ شيءٍ وحِفظِه، وضَبطِ كلِّ ما يَجرِي في مُلكِه، وله مُنتَهَى الرِّعايةِ في حاكِمِيَّتِه، ومُنتَهَى العِنايةِ في سَلطَنةِ رُبُوبيَّتِه، بحيثُ إنَّه يَكتُبُ ويَستَكتِبُ أَدنَى حادِثةٍ وأَهوَنَ عَمَلٍ مُحتَفِظًا بصُوَرِ كلِّ ما يَجرِي في مُلكِه في مَحافِظَ كَثيرةٍ؛ فهذه المُحافَظةُ الواسِعةُ الدَّقيقةُ تَدُلُّ على أنَّه سيُفتَحُ بلا شَكٍّ سِجِلٌّ لِمُحاسَبةِ الأَعمالِ، ولا سيَّما لهذا المَخلُوقِ المُكَرَّمِ والمُعزَّزِ والمَفطُورِ على مَزايا عَظيمةٍ، ألا وهو الإنسانُ.. فلا بُدَّ أن تَدخُلَ أَعمالُه الَّتي هي عَظيمةٌ، وأَفعالُه الَّتي هي مُهِمّةٌ ضِمنَ مِيزانٍ حَسّاسٍ ومُحاسَبةٍ دَقيقةٍ، ولا بُدَّ أن تُنشَرَ صَحائفُ أَعمالِه.
فيا تُرَى هل يَقبَلُ عَقلٌ أن يُترَك هذا الإنسانُ الَّذي أَصبَحَ مُكَرَّمًا بالخِلافةِ والأَمانةِ، والَّذي ارتَقَى إلى مَرتَبةِ القائدِ والشّاهِدِ على المَخلُوقاتِ، بتَدَخُّلِه في شُؤُونِ عِبادةِ أَغلَبِ المَخلُوقاتِ وتَسبِيحاتِها وبإعلانِه الوَحدانِيّةَ في مَيادِينِ المَخلُوقاتِ الكَثيرةِ وشُهُودِه شُؤُونَ الرُّبُوبيّةِ الكُلِّـيَّة.. فهل يُمكِنُ أن يُتْرَك هذا الإنسانُ يَذهَبُ إلى القَبرِ لِيَنامَ هادِئًا دُونَ أن يُنبَّهَ لِيُسأَلَ عن كلِّ صَغيرةٍ وكَبيرةٍ مِن أَعمالِه، ودُونَ أن يُساقَ إلى المَحشَرِ لِيُحاكَمَ في المَحكَمةِ الكُبْرَى؟ كلَّا ثمَّ كلَّا!
وكيف يُمكِنُ أن يَذهَبَ هذا الإنسانُ إلى العَدَمِ، وكيف يُمكِنُ أن يَتَوارَى في التُّرابِ فيُفلِتَ مِن يَدِ القَديرِ ذي الجَلالِ الَّذي تَشهَدُ جَميعُ الوَقائعِ الَّتي هي مُعجِزاتُ قُدرَتِه في الأَزمِنةِ الغابِرةِ على قُدرَتِه العَظيمةِ لِما سيَحدُثُ مِنَ المُمكِناتِ في الأَزمِنةِ20 إنَّ المَاضيَ المُمتدَّ مُنذُ الآن إلى بَدءِ الخَليقةِ مَليءٌ بالوَقَائِع والأحدَاث، فكلُّ يومٍ ظَهَر إلى الوُجود مِنه سَطرٌ، وكلُّ سنةٍ مَنه صَحيفةٌ، وكُلُّ عَصرٍ مِنه كِتابٌ، رَسَمَه قلَمُ القدَر، وخَطَّت فِيه يدُ القُدرَة آيَاتِها المُعجِزةَ بِكلِّ حِكمةٍ وانتِظامٍ؛ وإنَّ المُستقبَل الذي يَمتدُّ مِن الآنَ إلى يَومِ القِيامَة، وإلى الجَنَّة، وإلى الأبَد، إنَّما هُو ضِمنَ المُمكِناتِ، أي: كَما أن المَاضيَ هو وَقائعُ وقَعَت فِعلًا، فالمُستقبلُ كَذلك مُمكِناتٌ يُمكن أن تَقعَ فِعلًا. وإذا قوبِلَت سِلسِلَتا هَذين الزّمانَينِ فَلا ريبَ في أنَّ الذي خَلَق الأَمسَ بِما فِيه مِن المَوجُودَاتِ قَادرٌ عَلى خَلقِ الغَدِ بَما سَيكُون فِيه مِن المَوجُوداتِ، ولا رَيبَ كَذلك أنَّ مَوجُوداتِ وخَوَارقِ الزَّمَنِ المَاضِي الذي هُو مَعرِضُ العَجَائِب والغَرَائبِ هِي مُعجِزاتُ القّدِير ذِي الجَلَال، وهِي تَشهَد شَهادةً قَاطِعَة عَلَى أنَّه سُبحَانَه وتَعالَى قَادرٌ عَلَى أنْ يَخلُق المُستَقبلَ كلَّه، ومَا فيه مِن المُمكِنات كلِّها، وأنْ يَعرِضَ فيه عَجَائبَه ومُعجِزاتِه كافَّةً.
نعم، فكما أنَّ الذي يَقدِرُ على خَلقِ تُفّاحةٍ وَاحِدة، لا بُدَّ أن يَكون قَادرًا عَلى خلقِ تُفّاحِ العَالَم جَمِيعًا، بَل عَلى إيجادِ الرَّبيع الكَبير، إذ مَن لا يَقدِر عَلى خَلقِ الرَّبيع لا يُمكِن أنْ يَخلُق تُفّاحةً، لأن تلك التُّفاحةَ تُنسَجُ في ذلك المَصنَع؛ ومَن يَقدِر على خَلق تُفّاحةٍ وَاحِدة فهو إذًا قَادرٌ على خَلقِ الرَّبِيع، فالتُّفاحةُ مِثالٌ مُصغَّرٌ للشَّجَرة، وللحَدِيقة، بَل هي مِثالُ الكَائِنات جَميعًا؛ والتُّفّاحةُ من حيثُ الصَّنعةُ والإتقَانُ هِي مُعجِزةُ الصَّنعة، حيثُ تتضمَّن بُذُورُها سَيرةَ حياةِ شَجرتِها. فالذي يَخلُقُها خَلقًا بَديعًا كَهذا لا يُعجِزُه شَيءٌ مُطلقًا. وهَكذا، فالذي يَخلُق اليومَ هو قَادرٌ على خَلقِ يومِ القِيامَة، والذي يُحدِثُ الرَّبيعَ قَادرٌ عَلى إحداثِ الحَشر، والَّذي أظهَر عوالِمَ الماضي وعلَّقها على شَريطِ الزَّمان بِكلِّ حِكمةٍ وانتِظامٍ، لا شكَّ أنه يَقدِرُ على أن يُظهِر عوالِمَ أُخرَى ويُعلِّقَها بخيطِ المُستقبلِ، وسيُظهرُها حتمًا.. وقد أثبَتنا بشكلٍ قَاطِع في كَثِير من “الكَلِمَات” ولا سيما في “الكَلِمَة الثَّانِية والعِشرِين” بأنَّ “من لا يَخلُق كلَّ شيء لا يَقدِرُ على خلقِ شيء، ومن يَخلُق شيئًا واحدًا يَقدِرُ على أن يَخلُقَ كلَّ شيءٍ؛ وكذلك لو أُحيلَ إيجادُ الأشيَاء إلى ذاتٍ واحِدَة لسَهُلتِ الأشياءُ كلُّها كالشَّيء الوَاحِد، ولو أُسنِدَ إلى الأسباب المُتعدِّدة وإلى الكَثرَة لأصبَح إيجادُ الشيء الواحِدِ صَعبًا بمِقدارِ إيجَاد الأشياء كلِّها إلى دَرَجة الامتِناعِ والمُحالِ”. الآتِيةِ.. تلك القُدرةِ الَّتي تُحدِثُ الشِّتاءَ والرَّبيعَ الشَّبِيهَينِ بالقِيامةِ والحَشرِ؟! ولَمّا كان الإنسانُ لا يُحاسَبُ في هذه الدُّنيا حِسابًا يَستَحِقُّه، فلا بُدَّ أنَّه سيَذهَبُ يومًا إلى مَحكَمةٍ كُبْرَى وسَعادةٍ عُظمَى.
الحقيقةُ الثامنة: باب الوعدِ والوَعيدِ، وهو تَجَلِّي اسمِ “الجَميل” و”الجَليل”
أَمِنَ المُمكِنِ لِمُبدِعِ هذه المَوجُوداِت وهو العَليمُ المُطلَقُ والقَديرُ المُطلَقُ ألَّا يُوَفِّيَ بما أَخبَرَ به مُكَرَّرًا الأَنبياءُ عَلَيهم السَّلَام كافّةً بالتَّواتُرِ مِن وَعدٍ ووَعيدٍ، وشَهِد به الصِّدِّيقُون والأَولياءُ كافّةً بالإجماعِ، مُظهِرًا عَجْزًا وجَهْلًا بذلك؟! تَعالَى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كَبيرًا.. عِلمًا أنَّ الأُمُورَ الَّتي وَعَد بها، وأَوعَدَها، لَيسَت عَسِيرةً على قُدرَتِه قَطعًا، بل هي يَسيرةٌ وهَيِّنةٌ، وسَهلةٌ كسُهولةِ إعادةِ المَوجُوداتِ الَّتي لا تُحصَى للرَّبيعِ السّابقِ بذَواتِها21كَجُذُور وَأُصولِ الأَعشَاب والأَشجَار. أو بمِثلِها22كالأَورَاق والثِّمَار. في الرَّبيعِ المُقبِلِ.. أمّا الوَفاءُ بالوَعدِ فكما هو ضَرُورِيٌّ لنا ولِكُلِّ شيءٍ، كذلك لِسَلطَنةِ رُبُوبيَّتِه.. بعَكسِ إخلافِ الوَعدِ فهو مُضادٌّ لِعِزّةِ قُدرَتِه، ومُنافٍ لإحاطةِ عِلمِه، حيثُ لا يَتَأتَّى إخلافُ الوَعدِ إلَّا مِنَ الجَهلِ أو العَجْزِ.
فيا أيُّها المُنكِر.. هل تَعلَمُ مَدَى حَماقةِ ما تَرتَكِبُ مِن جِنايةٍ عُظمَى بكُفرِك وإنكارِك! إنَّك تُصَدِّقُ وَهْمَك الكاذِبَ وعَقْلَك الهاذِيَ ونَفسَك الخَدَّاعةَ، وتُكَذِّبَ مَن لا يُضطَرُّ إلى إخلافِ الوَعدِ، ولا إلى خِلافِه أبدًا، بل لا يَلِيقُ الإخلافُ بعِزَّتِه وعَظَمتِه قَطعًا.. فجَميعُ الأَشياءِ وجَميعُ المَشهُوداتِ تَشهَدُ على صِدْقِه وأَحَقِّيَّتِه! إنَّك تَرتَكِبُ إذًا جِنايةً عُظمَى لا نهايةَ لها مع صِغَرك المُتَناهي، فلا جَرَمَ أنَّك تَستَحِقُّ عِقابًا عَظِيمًا أَبَديًّا.. ولِقِياسِ عِظَمِ ما يَرتَكِبُه الكافرُ مِن جِنايةٍ فقد وَرَد أنَّ ضِرْسَ بعضِ أَهلِ النّارِ كالجَبَل.. إنَّ مَثَلَك هو كمَثَلِ ذلك المُسافِرِ الَّذي يُغمِضُ عَينَيه عن نُورِ الشَّمسِ ويَتْبَعُ ما في عَقلِه مِن خَيالٍ، ثمَّ يُريدُ أن يُنوِّرَ طَريقَه المُخِيفَ بضِياءٍ مّا في عَقلِه مِن بَصيصٍ كَنُورِ اليَراعة!
فما دامَ اللهُ سُبحانَه قد وَعَد، وهذه المَوجُوداتُ كَلِماتُه الصّادِقةُ بالحَقِّ، وهذه الحَوادِثُ في العالَمِ آياتُه النّاطِقةُ بالصِّدقِ، فإنَّه سيُوَفِّي بوَعدِه حَتْمًا، وسيَفتَحُ مَحكَمةً كُبرَى، وسيَهَبُ سَعادةً عُظمَى.
الحقيقةُ التاسعة: باب الإحياء والإماتة، وهو تَجَلِّي اسمِ “الحيّ القيوم” و”المُحيي” و”المُميت”
أَمِنَ المُمكِنِ للَّذي أَظهَر قُدرَتَه بإحياءِ الأَرضِ الضَّخمةِ بعدَ مَوتِها وجَفافِها، وبَعَث أَكثَرَ مِن ثلاثِ مِئةِ أَلفِ نوعٍ مِن أنواعِ المَخلُوقاتِ، مع أن بَعْثَ كلِّ نَوعٍ عَجيبٌ كأُعجُوبةِ بَعْثِ البَشَرِ.. والَّذي أَظهَر إحاطةَ عِلمِه ضِمنَ ذلك الإحياءِ بتَميِيزِه كلَّ كائنٍ مِن بينِ ذلك الِامتِزاجِ والتَّشابُكِ.. والَّذي وَجَّه أَنظارَ جَميعِ عِبادِه إلى السَّعادةِ الأَبَديّةِ بوَعدِهمُ الحَشرَ في جَميعِ أَوامِرِه السَّماوِيّةِ.. والَّذي أَظهَر عَظَمةَ رُبُوبيَّتِه بجَعْلِه المَوجُوداتِ مُتكاتِفةً مُتَرافِقةً، فأَدارها ضِمنَ أَمرِه وإرادَتِه، مُسَخِّرًا أَفرادَها، مُعاوِنًا بَعضُها بعضًا.. والَّذي أَوْلَى البَشَرَ الأَهَمِّيّةَ القُصوَى، بجَعْلِه أَجمَعَ ثَمَرةٍ في شَجَرةِ الكائناتِ، وأَلطَفَها وأَشَدَّها رِقّةً ودَلَالًا، وأَكثَرَها مُستَجابًا للدُّعاء، مُسَخِّرًا له كلَّ شيءٍ، مُتَّخِذًا إيّاه مُخاطَبًا.. أفَمِنَ المُمكِنِ لِمِثلِ هذا القَديرِ الرَّحيمِ ولِمِثلِ هذا العَليمِ الحَكيمِ ألّا يأتِيَ بالقِيامةِ؟! ولا يُحدِثَ الحَشرَ ولا يَبعَثَ البَشَرَ، أو يَعجِزَ عنه؟ وأن يَعجِزَ عن فَتحِ أَبوابِ المَحكَمةِ الكُبْرَى وخَلْقِ الجَنّةِ والنّارِ؟!. تَعالَى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كَبِيرًا.
نعم، إنَّ الرَّبَّ المُتَصرِّفَ في هذا العالَمِ جلَّ جلالُه يُحْدِثُ في هذه الأَرضِ المُؤقَّتةِ الضَّيِّقةِ في كلِّ عصرٍ وفي كلِّ سنةٍ وفي كلِّ يومٍ نَماذِجَ وأَمثِلةً كَثيرةً وإشاراتٍ عَديدةً للحَشرِ الأَكبَرِ، فعلى سَبِيلِ المِثالِ:
إنَّه يَحشُرُ في بِضعةِ أيّامٍ في حَشرِ الرَّبيعِ ويَبعَثُ أَكثرَ مِن ثلاثِ مئةِ أَلفِ نَوعٍ مِن أَنواعِ النَّباتاتِ والحَيَواناتِ مِن صَغيرٍ وكَبيرٍ، فيُحيِي جُذُورَ الأَشجارِ والأَعشابِ، ويُعِيدُ بعضَ الحَيَواناتِ بعَينِها كما يُعيدُ أَمثالَ بعضِها الآخَرِ؛ ومع أنَّ الفُرُوقَ المادِّيّةَ بينَ البُذَيراتِ المُتَناهِيةِ في الصِّغَرِ جُزئيّةٌ جِدًّا، إلَّا أنَّها تُبعَثُ وتُحيا بكلِّ تَمَيُّزٍ، وتُشَخَّصُ في مُنتَهَى السُّرعةِ في ستّةِ أَيّامٍ، أو ستّةِ أَسابِيعَ، وفي مُنتَهَى السُّهُولةِ والوَفرةِ، وبانتِظامٍ كاملٍ ومِيزانٍ دَقيقٍ، رَغمَ اختِلاطِها وامتِزاجِها.. فهل يَصعُبُ على مَن يَقُومُ بمِثلِ هذه الأعمالِ شيءٌ، أو يَعجِزُ عن خَلقِ السَّماواتِ والأَرضِ في ستّةِ أيّامٍ، أو لا يَستَطيعُ أن يَحشُرَ الإنسانَ بصَيحةٍ واحِدةٍ؟! سُبحانَ اللهِ عمّا يَصِفُونَ.
فيا تُرَى إن كان ثَمّةَ كاتِبٌ ذُو خَوارِقَ، يَكتُبُ ثلاثَ مِئةِ أَلفِ كِتابٍ مُسِحَت حُرُوفُها ومُسِخَت، في صَحيفةٍ واحِدةٍ دُونَ اختِلاطٍ ولا سَهوٍ ولا نَقصٍ، وفي غايةِ الجَمالِ، ويَكتُبُها جَميعًا معًا خِلالَ ساعةٍ واحِدةٍ. وقيلَ لك: إنَّ هذا الكاتِبَ سيَكتُبُ مِن حِفظِه في دَقيقةٍ واحِدةٍ كِتابَك الَّذي وَقَع في الماءِ وهو مِن تَألِيفِه. فهل يُمكِنُك أن تَرُدَّ عليه وتقُولَ: لا يَستَطيعُ. لا أُصَدِّق؟!
أو أنَّ سُلطانًا ذا مُعجِزاتٍ، يَرفَعُ الجِبالَ ويَنسِفُها، ويُغيِّـرُ المُدُنَ بكامِلِها، ويُحَوِّلُ البَحرَ بَرًّا، بإشارةٍ مِنه، إظهارًا لِقُدرَتِه وجَعلَها آيةً للنّاسِ.. فبَينَما تَرَى مِنه هذه الأَعمالَ إذا بصَخرةٍ عَظِيمةٍ قد تَدَحرَجَت إلى وادٍ وسَدَّتِ الطَّريقَ على ضُيُوفِه، وقيلَ لك: إنَّ هذا السُّلطانَ سيُمِيطُ حَتْمًا تلك الصَّخرةَ مِن على الطَّريقِ ويَحْطِمُها مهما كانَت كَبيرةً، حيث لا يُمكِنُ أن يَدَع ضُيُوفَه في الطَّريقِ.. كم يكونُ جَوابُك هَذَيانًا أو جُنُونًا إذا ما أَجَبتَه بقَولِك: لا، لا يَستَطيعُ أن يَفعَلَ؟!
أو أنَّ قائدًا قد شَكَّلَ جَيْشًا جَدِيدًا عَظِيمًا في يومٍ واحِدٍ، وقيلَ لك: إنَّ هذا سيَجمَعُ أَفرادَ تلك الفِرَقِ، وسيَنضَوِي تحتَ لِوائِه أُولَئك الَّذين سُرِّحُوا وتَفَرَّقوا، بنَفخةٍ مِن بُوقٍ، فأَجَبتَه: لا، لا أُصَدِّقُ! عِندَها تَفهَمُ أنَّ جَوابَك هذا يُنبِئُ عن تَصَرُّفٍ جُنُونِيٍّ، أيَّ جُنُونٍ!!
فإذا فَهِمتَ هذه الأَمثِلةَ الثلاثةَ فتَأَمَّلْ في ذلِكُمُ البارِئِ المُصَوِّرِ سُبحانَه وتَعالَى الَّذي يَكتُبُ أمامَ أَنظارِنا بأَحسَنِ صُورةٍ وأَتَمِّها بقَلَمِ القُدرةِ والقَدَرِ أَكثَرَ مِن ثلاثِ مِئةِ أَلفِ نَوعٍ مِنَ الأَنواعِ على صَحيفةِ الأَرضِ، مُبدِّلًا صَحيفةَ الشِّتاء البَيضاءِ إلى الصَّحيفةِ الخَضراءِ للرَّبيعِ والصَّيفِ، يَكتُبُها مُتَداخِلةً دُونَ اختِلاطٍ، يَكتُبُها معًا دُونَ مُزاحَمةٍ ولا التِباسٍ، رَغمَ تَبايُنِ بَعضِها مع البعضِ الآخَرِ في التَّركيبِ والشَّكلِ، فلا يَكتُبُ خَطَأً مُطلَقًا.. أفَيُمكِنُ أن يُسأَلَ الحَفيظُ الحَكيمُ الَّذي أَدرَجَ خُطّةَ رُوحِ الشَّجَرةِ الضَّخمةِ ومِنهاجَها في بِذرةٍ مُتَناهِيةٍ في الصِّغَرِ مُحافِظًا عليها، كيف سيُحافِظُ على أَرواحِ الأَمواتِ؟ أم هل يُمكِنُ أن يُسأَلَ القَديرُ ذُو الجَلالِ الَّذي يُجرِي الأَرضَ في دَوْرَتِها بسُرعةٍ فائقةٍ، كيف سيُزِيلُها مِن على طَريقِ الآخِرةِ، وكيف سيُدَمِّرُها؟ أم هل يُمكِنُ أن يُسأَلَ ذُو الجَلالِ والإكرامِ الَّذي أَوْجَدَ الذَّرّاتِ مِنَ العَدَمِ ونَسَّقَها بأَمرِ: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ في أَجسادِ جُنُودِ الأَحياءِ، فأَنشَأَ مِنها الجُيُوشَ الهائلةَ، كيف سيَجمَعُ بصَيحةٍ واحِدةٍ تلك الذَّرّاتِ الأَساسيّةَ الَّتي تَعارَفَت فيما بَينَها، وتلك الأَجزاءَ الأَساسيّةَ الَّتي انضَوَت تحتَ لِواءِ فِرقةِ الجَسَدِ ونِظامِه؟!
فها أنتَ ذا تَرَى بعَينَيك كم مِن نَماذِجَ وأَمثِلةٍ وأَماراتٍ للحَشرِ شَبِيهةٍ بحَشرِ الرَّبيعِ، قد أَبدَعَها البارِئُ سُبحانَه وتَعالَى في كلِّ مَوْسِمٍ، وفي كلِّ عَصرٍ، حتَّى إنَّ تَبدِيلَ اللَّيلِ والنَّهارِ، وإنشاءَ السَّحابِ الثِّقالِ وإفناءَها مِنَ الجَوِّ، نَماذِجُ للحَشرِ وأَمثِلةٌ وأَماراتٌ عليه.
وإذا تَصَوَّرتَ نَفسَك قبلَ أَلفِ سنةٍ مَثَلًا، وقابَلْتَ بينَ جَناحَيِ الزَّمانِ الماضِي والمُستَقبَلِ، تَرَى أَمثِلةَ الحَشرِ والقِيامةِ ونَماذِجَها بعَدَدِ العُصُورِ والأَيّامِ؛ فلو ذَهَبتَ إلى استِبعادِ الحَشرِ الجِسمانِيِّ وبَعْثِ الأَجسادِ مُتَوهِّمًا أنَّه بَعيدٌ عنِ العَقلِ، بعدَما شاهَدتَ هذا العَدَدَ الهائلَ مِنَ الأَمثِلةِ والنَّماذِجِ، فستَعلَمُ أنت كذلك مَدَى حَماقةِ مَن يُنكِرُ الحَشرَ.
تَأَمَّلْ ماذا يقولُ الدُّستُورُ الأَعظَمُ حَولَ هذه الحَقيقةِ:
﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
الخُلاصةُ: لا شيءَ يَحُولُ دُونَ حُدُوثِ الحَشرِ، بل كلُّ شيءٍ يَقتَضِيه ويَستَدعِيه.. نعم، إنَّ الَّذي يُحيِي هذه الأَرضَ الهائلةَ -وهي مَعرِضُ العَجائبِ- ويُمِيتُها كأَدنَى حَيَوانٍ، والَّذي جَعَلَها مَهْدًا مُريحًا وسَفينةً جَميلةً للإنسانِ والحَيَوانِ، وجَعَل الشَّمسَ ضِياءً ومَوْقِدًا لهذا المَضِيفِ، وجَعَلَ الكَواكِبَ السَّيَّارةَ والنُّجُومَ اللّامِعةَ مَساكِنَ طائراتٍ للمَلائكةِ.. إنَّ رُبُوبيّةً خالِدةً جَليلةً إلى هذا الحَدِّ، وحاكِمِيّةً مُحيطةً عَظيمةً إلى هذه الدَّرَجةِ، لا تَستَقِرّانِ ولا تَنحَصِرانِ في أُمُورِ الدُّنيا الفانِيةِ الزّائلةِ الواهِيةِ السَّيّالةِ التّافِهةِ المُتَغيِّرة.. فلا بُدَّ أنَّ هناك دارًا أُخرَى باقِيةً، دائمةً، جَليلةً، عَظيمةً، مُستَقِرّةً، تليقُ به سُبحانَه فهو يَسُوقُنا إلى السَّعيِ الدّائبِ لِأَجلِ تلك المَمالِكِ والدِّيارِ، ويَدعُونا إليه، ويَنقُلُنا إلى هناك.. يَشهَدُ على هذا أَصحابُ الأَرواحِ النَّـيِّرةِ، وأَقطابُ القُلُوبِ المُنوَّرةِ، وأَربابُ العُقُولِ النُّورانيّةِ، الَّذين نَفَذُوا مِنَ الظّاهِرِ إلى الحَقيقةِ، والَّذين نالُوا شَرَف التَّقرُّبِ إليه سُبحانَه، فهم يُبلِّغُونَنا مُتَّفِقين أنَّه سُبحانَه قد أَعَدَّ ثَوابًا وجَزاءً، وأنَّه يَعِدُ وَعدًا قاطِعًا، ويُوعِدُ وَعِيدًا جازِمًا.
فإخلافُ الوَعدِ لا يُمكِنُ أن يَدنُوَ إلى جلالِه المُقَدَّسِ، لأنَّه ذِلّةٌ وتَذَلُّلٌ، وأمّا إخلافُ الوَعيدِ فهو ناشِئٌ مِنَ العَفوِ أوِ العَجزِ؛ والحالُ أنَّ الكُفرَ جِنايةٌ مُطلَقةٌ23نَعم، إنَّ الكُفرَ إهَانةٌ وتَحقيرٌ للكَائِنَات جَميعًا، حَيث يَتَّهِمُها بالعَبَثيةِ وانتِفاءِ النَّفع؛ وهَو تَزييفٌ تجاهَ أسمَاءِ الله الحُسنَى، لأنَّه يُنكِرُ تَجلِّيَ تِلك الأسمَاء على مَرايَا المَوجُودَات؛ وهو تَكذِيبٌ للمَخلُوقَات جَميعًا، حُيث يَرُدُّ شَهَادةَ المَوجُودات على الوَحدَانِّية.. لِذا فَإنه يُفسِدُ قُوَى الإنِسَان واستِعدَادَاتِه إلَى دَرجةٍ يَسلُبُ منه القُدرَة عَلى تَقَبُّلِ الخَير والصَّلَاح.. وهَو ظُلمٌ عَظيمٌ جِدًّا، إذ هو تَجاوُزٌ لِحُقوقِ جَميع المَخلُوقَات، ولِجميعِ الأسمَاء الحُسنى، لِذا فَحِفاظًا عَلى هَذِه الحُقُوق، ولِعَدَمِ تَمَكُّن نَفْسِ الكَافر مِن قَبول الخَير، اقتضَى حِرمانَه من العَفو. والآيةُ الكَرِيمة: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ تُفيدُ هذا المَعنَى. لا يَستَحِقُّ العَفوَ والمَغفِرةَ، أمّا القَديرُ المُطلَقُ فهو قُدُّوسٌ مُنزَّهٌ عنِ العَجزِ، وأمّا المُخبِرُون والشُّهُودُ فهم مُتَّفِقُون اتِّفاقًا كامِلًا على أَساسِ هذه المَسأَلةِ رَغمَ اختِلافِ مَسالِكِهم ومَناهِجِهم ومَشارِبِهم، فهم مِن حَيثُ الكَثرةُ بلَغُوا دَرَجةَ التَّواتُرِ، ومِن حيثُ النَّوعِيّةُ بلَغُوا قُوّةَ الإجماعِ، ومِن حيثُ المَنزِلةُ فهم نُجُومُ البَشَريّةِ وهُداتُها وأَعِزّةُ القَومِ وقُرّةُ عُيُونِ الطَّوائفِ، ومِن حيثُ الأَهَمِّيّةُ فهم في هذه المَسأَلةِ “أَهلُ اختِصاصٍ وأَهلُ إثباتٍ”.. ومِنَ المَعلُوم أنَّ حُكمَ اثنَينِ مِن أَهلِ الِاختِصاصِ في عِلمٍ أو صَنعةٍ يُرجَّحُ على آلافٍ مِن غَيرِهم، وفي الأَخبارِ والرِّوايةِ يُرجَّحُ قَولُ اثنَينِ مِنَ المُثبِتين على آلافٍ مِنَ النّافِين المُنكِرين، كما في إثباتِ رُؤيةِ هِلالِ رَمضانَ، حيثُ يُرجَّحُ شاهِدانِ مُثبِتانِ، بَينَما يُضرَبُ بكَلامِ آلافٍ مِنَ النّافِينَ عُرضَ الحائطِ.
والخُلاصةُ: لا خَبَرَ أَصدَقُ مِن هذا في العالَمِ، ولا قَضيّةَ أَصوَبُ منها، ولا حَقيقةَ أَظهَرُ مِنها ولا أَوْضَحُ.
فالدُّنيا إذًا مَزرَعةٌ بلا شَكٍّ، والمَحشَرُ بَيدَرٌ، والجَنّةُ والنّارُ مَخزَنانِ.
الحَقيقةُ العاشِرةُ: بابُ الحِكمةِ والعِنايةِ والرَّحمةِ والعَدالةِ وهو تَجَلِّي اسمِ “الحَكيمِ” و”الكَريمِ” و”العادِلِ” و”الرَّحيمِ”
أَمِنَ المُمكِنِ لِمالِكِ المُلكِ ذي الجَلالِ الَّذي أَظهَرَ في دارِ ضِيافةِ الدُّنيا الفانِيةِ هذه، وفي مَيدانِ الِامتِحانِ الزّائلِ هذا، وفي مَعرِضِ الأَرضِ المُتَبدِّلِ هذا، هذا القَدْرَ مِن آثارِ الحِكمةِ الباهِرةِ، وهذا المَدَى مِن آثارِ العِنايةِ الظّاهِرةِ، وهذه الدَّرَجةَ مِن آثارِ العَدالةِ القاهِرةِ، وهذا الحَدَّ مِن آثارِ الرَّحمةِ الواسِعةِ! ألَّا يُنشِئَ في عالَمِ مُلْكِه ومَلَكُوتِه مَساكِنَ دائمةً، وسَكَنةً خالِدين، ومَقاماتٍ باقِيةً، ومَخلُوقاتٍ مُقِيمين.. فتَذهَبَ هَباءً مَنثُورًا جَميعُ الحَقائقِ الظّاهِرةِ لهذه الحِكمةِ، ولهذه العِنايةِ، ولهذه العَدالةِ، ولهذه الرَّحْمةِ؟!
وهل يُعقَلُ لِحَكيمٍ ذي جَلالٍ اختارَ هذا الإنسانَ مِن بينِ المَخلُوقاتِ، وجَعَلَه مُخاطَبًا كُلِّـيًّا له، ومِرآةً جامِعةً لأَسمائِه الحُسنَى، ومُقَدِّرًا لِما في خَزائنِ رَحمَتِه مِن يَنابِيعَ، ومُتَذَوِّقًا لها ومُتعَرِّفًا إليها، والَّذي عَرَّف سُبحانَه ذاتَه الجَليلةَ له بجَميعِ أَسمائِه الحُسنَى، فأَحَبَّه وحَبَّبه لِلآخَرِين.. أفمِنَ المَعقُولِ بعد كلِّ هذا ألّا يُرسِلَ ذلك “الحَكيمُ” جَلَّ وعَلا هذا الإنسانَ المِسكينَ إلى مَملَكَتِه الخالِدةِ تلك؟ ولا يَدعُوَه إلى دارِ السَّعادةِ الدّائِمةِ تلك فيُسعِدَه فيها؟
أم هل يُعقَلُ أن يُحَمِّلَ كلَّ مَوجودٍ وَظائفَ جَمَّةً -ولو كان بِذرةً- بثِقَلِ الشَّجَرةِ، ويُركِّبَ عليه حِكَمًا بعَددِ أَزهارِها، ويُقَلِّدَه مَصالِحَ بعَدَدِ ثِمارِها، ثمَّ يَجعَلَ غايةَ وُجودِ تلك الوَظائفِ والحِكَمِ والمَصالِحِ جَميعِها مُجرَّدَ ذلك الجُزءِ الضَّئيلِ المُتَوَجِّه إلى الدُّنيا؛ أي: يَجعَلَ غايةَ الوُجودِ هي البقاءَ في الدُّنيا فقط، الَّذي لا أَهَمِّيّةَ له حتى بمِثقالِ حَبّةٍ مِن خَردَلٍ؟ ولا يَجعَلَ تلك الوَظائفَ والحِكَمَ والمَصالِحَ بُذُورًا لِعالَمِ المَعنَى، ولا مَزرَعةً لِعالَمِ الآخِرةِ لِتُثمِرَ غاياتِها الحَقيقيّةَ اللّائقةَ بها!
وهل يُعقَلُ أن تَذهَبَ جَميعُ هذه المَهرَجاناتِ الرّائعةِ والِاحتِفالاتِ العَظيمةِ هَباءً بلا غايةٍ، وسُدًى بلا مَعنًى وعَبَثًا بلا حِكمةٍ؟! أم هل يُعقَلُ ألّا يُوَجِّهها كلَّها إلى عالَمِ المَعنَى وعالَمِ الآخِرةِ لِتُظهِرَ غاياتِها الأَصِيلةَ وأَثمارَها الجَدِيرةَ بها؟!
نعم، أَمِنَ المُمكِنِ أن يُظهِرَ كلَّ ذلك خِلافًا للحَقيقةِ، خِلافًا لأَوصافِه المُقَدَّسةِ وأَسمائِه الحُسنَى: “الحَكيمِ، الكَريمِ، العادِلِ، الرَّحيمِ” كلَّا.. ثم كلَّا.
أم هل مِن المُمكِنِ أن يُكَذِّب سُبحانَه حَقائقَ جَميعِ الكائناتِ الدّالّةِ على أَوْصافِه المُقَدَّسةِ مِن حِكمةٍ وعَدْلٍ وكَرَمٍ ورَحمةٍ، ويَرُدَّ شَهادةَ المَوجُوداتِ جَميعًا، ويُبطِلَ دَلالةَ المَصنُوعاتِ جَميعًا! تَعالَى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
وهل يَقبَلُ العَقلُ أن يُعطِيَ للإنسانِ أُجرةً دُنيَويّةً زَهيدةً، زَهادةَ شَعرةٍ واحِدةٍ، مع أنَّه أَناطَ به وبحَواسِّه مَهامَّ ووَظائفَ هي بعَدَدِ شَعَراتِ رَأْسِه؟ فهل يُمكِنُ أن يَقُومَ بمِثلِ هذا العَمَلِ الَّذي لا مَعنَى له ولا مَغزَى خِلافًا لِعَدالَتِه الحَقّةِ، ومُنافاةً لِحِكمَتِه الحَقيقيّةِ؟ سُبحانَه وتَعالَى عمّا يَقُولُون عُلُوًّا كبيرًا!
أوَمِنَ المُمكِنِ أن يُقَلِّدَ سُبحانَه كلَّ ذي حَياةٍ، بل كلَّ عُضوٍ فيه -كاللِّسان مَثَلًا- بل كلَّ مَصنُوعٍ، مِنَ الحِكَمِ والمَصالِحِ بعَدَدِ أَثمارِ كلِّ شَجَرةٍ مُظهِرًا حِكمَتَه المُطلَقةَ، ثمَّ لا يَمنَحَ الإنسانَ البَقاءَ والخُلودَ، ولا يَهَبَ له السَّعادةَ الأَبَديّةَ الَّتي هي أَعظَمُ الحِكَمِ، وأَهَمُّ المَصالِحِ، وأَلْزَمُ النَّتائِج؟ فيَترُكَ البَقاءَ واللِّقاءَ والسَّعادةَ الأَبَديةَ الَّتي جَعَلَتِ الحِكمةَ حِكمةً، والنِّعمةَ نِعمةً، والرَّحمةَ رَحمةً، بل هي مَصدَرُ جَميعِ الحِكَمِ والمَصالِحِ والنِّعَمِ والرَّحمةِ ومَنبَعُها.. فهل يُمكِنُ أن يَترُكَها ويُهمِلَها ويُسقِطَ تلك الأُمورَ جَميعَها إلى هاوِيةِ العَبَثِ المُطلَقِ؟ ويَضَعَ نَفسَه -تعالَى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا- بمَنزِلةِ مَن يَبني قَصرًا عَظيمًا يَضَعُ في كلِّ حَجَرٍ فيه آلافَ النُّقوشِ والزَّخارِفِ، وفي كلِّ زاوِيةٍ فيه آلافَ الزِّينةِ والتَّجمِيلِ، وفي كلِّ غُرفةٍ فيه آلافَ الآلات الثَّمينةِ والحاجِياتِ الضَّرُوريّةِ.. ثمَّ لا يَبنِيَ له سَقْفًا لِيَحفَظَه؟! فيَتْرُكَه ويَتْرُكَ كلَّ شيءٍ للبِلَى والفَسادِ! حاشَ لله.. لا يَصدُرُ مِنَ الخَيرِ المُطلَقِ إلّا الخَيرُ، ولا يَصدُرُ مِنَ الجَميلِ المُطلَقِ إلّا الجَمالُ، فلن يَصدُرَ إذًا مِنَ الحَكيمِ المُطلَقِ العَبَثُ البَتّةَ.
نعم، إنَّ كلَّ مَن يَمتَطِي التّاريخَ ويَذهَبُ خَيالًا إلى جِهةِ الماضي سيَرَى أنَّه قد ماتَتْ بعَدَدِ السِّنينَ مَنازِلُ ومَعارِضُ ومَيادينُ وعَوالِمُ شَبيهةٌ بمَنزِلِ الدُّنيا ومَيدانِ الِابتِلاءِ ومَعرِضِ الأَشياءِ في وَقتِنا الحاضِرِ؛ فعلى الرَّغمِ مِمّا يُرَى مِنِ اختِلافِ بَعضِها عنِ البعضِ الآخَرِ صُورةً ونَوْعًا، فإنَّها تَتَشابَهُ في الِانتِظامِ والإبداعِ وإبرازِ قُدرةِ الصّانِعِ وحِكمَتِه.
وسيَرَى كذلك ما لم يَفقِدْ بَصِيرتَه أنَّ في تلك المَنازِلِ المُتَبدِّلةِ، وفي تلك المَيادينِ الزّائلةِ، وفي تلك المَعارِضِ الفانِيةِ.. مِنَ الأنظِمةِ الباهِرةِ السّاطِعةِ للحِكمةِ، والإشاراتِ الجَلِيّةِ الظّاهِرةِ للعِنايةِ، والأَماراتِ القاهِرةِ المُهَيمِنةِ للعَدالةِ، والثِّمارِ الواسِعةِ للرَّحمةِ ما سيُدرِكُ يَقينًا أنَّه:
لا يُمكِنُ أن تكونَ حِكمةٌ أَكمَلَ مِن تلك الحِكمةِ المَشهُودةِ، ولا يُمكِنُ أن تكونَ عِنايةٌ أَروعَ مِن تلك العِنايةِ الظّاهِرةِ الآثارِ، ولا يُمكِنُ أن تكونَ عَدالةٌ أَجَلَّ مِن تلك العَدالةِ الواضِحةِ أَماراتُها، ولا يُمكِنُ أن تكونَ رَحمةٌ أَشمَلَ مِن تلك الرَّحمةِ الظّاهِرةِ الثِّمارِ.
وإذا افتُرِضَ المُحالُ، وهو أنَّ السُّلطانَ السَّرمَدِيَّ -الَّذي يُديرُ هذه الأُمورَ، ويُغَيِّر هؤلاء الضُّيوفَ والمُستَضافاتِ باستِمرارٍ- ليسَت له مَنازِلُ دائمةٌ ولا أَماكِنُ راقِيةٌ سامِيةٌ ولا مَقاماتٌ ثابِتةٌ ولا مَساكِنُ باقِيةٌ ولا رَعايا خالِدُون، ولا عِبادٌ سُعَداءُ في مَملَكَتِه الخالِدةِ؛ يَلزَمُ عِندَئذٍ إنكارُ الحَقائقِ الأَربعةِ: “الحِكمة، والعَدالة، والعِناية، والرَّحمة” الَّتي هي عناصِرُ مَعنَويةٌ قَويةٌ شامِلةٌ، كالنُّورِ والهَواءِ والماءِ والتُّرابِ، وإنكارُ وُجودِها الظّاهِرِ ظُهُورَ تلك العَناصِرِ، لأنَّه مِنَ المَعلُومِ أنَّ هذه الدُّنيا وما فيها لا تَفِي لِظُهورِ تلك الحَقائقِ، فلو لم يكن هناك في مكان آخَرَ ما هو أَهلٌ لها، فيَجِبُ إنكارُ هذه الحِكمةِ المَوجُودةِ في كلِّ شيءٍ أَمامَنا -بجُنونِ مَن يُنكِرُ الشَّمسَ الَّتي يَملَأُ نُورُها النَّهارَ- وإنكارُ هذه العِنايةِ الَّتي نُشاهِدُها دائمًا في أَنفُسِنا وفي أَغلَبِ الأشياءِ.. وإنكارُ هذه العَدالةِ الجَلِيّةِ الظّاهِرةِ الأَماراتِ24نعم، إنَّ العَدَالة شِقّانِ: أحدُهُما إيجَابِيّ، والآخَر سَلْبيّ: أمَّا الإيجَابيُّ فَهو: إعطَاءُ كلِّ ذِي حقٍّ حقَّه. فهذا القِسم مِن العَدَالة مُحيطٌ وشَامِل لِكلِّ مَا في هَذه الدُّنيا لِدَرَجَة البَدَاهة، فَكَما أثبَتْنا في “الحَقِيقَة الثَّالِثة” بأنَّ مَا يَطلُبُه كلُّ شيء ومَا هُو ضَرُورِي لِوجُودِه وإدَامةِ حَياتِه مِمَّا يَطلُبُه بِلسَان استعدَادِه وبلُغةِ حَاجَاته الفِطرِّية وبِلسَانِ اضطِّرَارِه مِن الفَاطِر ذِي الجَلَال، يَأتِيه بمِيزانٍ خَاصٍّ دَقِيق، وبِمَعَاييرَ ومَقَايِيسَ مُعيَّنة، أي: إنَّ هَذا القِسم مِن العَدَالة ظَاهرٌ ظُهورَ الوُجودِ والحَيَاةِ. وأمَّا القِسمُ السَّلبيُّ فَهُو: تَأدِيبُ غَيرِ المُحقِّين، أي: إحقَاقُ الحَقِّ بإنِزَال الجَزَاء والعَذَاب عَليهم. فَهَذا القِسم وإنْ كَان لا يَظهَر بجَلاءٍ في هَذِه الدُّنيَا إلَّا أن هُنَالِك إشَارَاتٍ وأَمَارَاتٍ تَدلُّ عَلى هَذه الحَقِيقَة. خُذ مَثلًا سَوطَ العَذاب وصَفَعاتِ التَّأديب التي نَزلَت بِقومِ عادٍ وثَمودَ بَل بِالأقوَام المُتمرِّدة في عَصرِنا هذا، مِمّا يُظهِرُ بِالحَدْسِ القَطعيِّ هَيمَنةَ العَدالة السَّامية وسِيادَتَها... وإنكارُ هذه الرَّحمةِ الَّتي نَراها في كلِّ مكانٍ.. وكذلك يَلزَمُ أن يُعتَبرَ صاحِبُ ما نَراه مِنَ الإجراءاتِ الحَكِيمةِ والأَفعالِ الكَريمةِ، والآلاءِ الرَّحيمةِ -حاشَ لله ثمَّ حاشَ لله- لاهِيًا لاعِبًا ظالِمًا غَدّارًا -تَعالَى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا- وما هذا إلَّا انقِلابُ الحَقائقِ بأَضدادِها، وهو مُنتَهَى المُحالِ، حتى السُّوفسَطائيُّون الَّذين أَنكَرُوا وُجودَ كلِّ شيءٍ حتى وُجُودَ أَنفُسِهم لم يَدْنُوا إلى تَصَوُّرِ هذا المُحالِ بسُهولةٍ.
والخُلاصةُ: أنَّه ليسَت هناك عَلاقةٌ أو مُناسَبةٌ بينَ ما يُشاهَدُ في شُؤونِ العالَمِ من تَجَمُّعاتٍ واسِعةٍ للحَياةِ، وافتِراقاتٍ سَريعةٍ للمَوتِ، وتَكتُّلاتٍ ضَخمةٍ، وتَشتُّتاتٍ سَريعةٍ، واحتِفالاتٍ هائلةٍ، وتَجَلِّياتٍ رائعةٍ.. وبينَ ما هو مَعلُومٌ لَدَيْنا مِن نَتائجَ جُزئيّةٍ، وغاياتٍ تافِهةٍ مُؤَقَّتةٍ، وفَترةٍ قَصيرةٍ تَعُودُ إلى الدُّنيا الفانِيةِ. لذا فالرَّبطُ بينَهما بعَلاقةٍ، أو إيجادِ مُناسَبةٍ، لا يَنسَجِمُ مع عَقلٍ ولا يَتَوافَقُ مع حِكمةٍ، إذ يُشبِهُ ذلك رَبْطَ حِكَمٍ هائلةٍ وغاياتٍ عَظيمةٍ كالجَبَلِ بحَصاةٍ صَغيرةٍ جِدًّا، ورَبْطَ غايةٍ تافِهةٍ جُزئيّةٍ مُؤَقَّتةٍ بحَجْمِ الحَصاةِ بجَبَلٍ عظيمٍ!!
أي: إنَّ عَدَمَ وُجُودِ عَلاقةِ بينَ هذه المَوجُوداتِ وشُؤونِها وبينَ غاياتِها الَّتي تَعُودُ إلى الدُّنيا، يَشهَدُ شَهادةً قاطِعةً، ويَدُلُّ دَلالةً واضِحةً على أنَّ هذه المَوجُوداتِ مُتَوجِّهةٌ إلى عالَمِ المَعنَى، حيثُ تُعطي ثِمارَها اللَّطيفةَ اللّائقةَ هناك، وأنَّ أَنظارَها مُتَطلِّعةٌ إلى الأَسماءِ الحُسنَى، وأنَّ غاياتِها تَرنُو إلى ذلك العالَمِ؛ ومع أنَّ بُذُورَها مَخبُوءةٌ تحتَ تُرابِ الدُّنيا إلَّا أنَّ سَنابِلَها تَبرُزُ في عالَمِ المِثالِ.. فالإنسانُ -حَسَبَ استِعدادِه- يَزرَعُ ويُزرَعُ هنا ويَحصِدُ هناك في الآخِرةِ.
نعم، لو نَظَرتَ إلى وُجُوهِ المَوجُوداتِ المُتَوجِّهةِ إلى الأَسماءِ الحُسنَى وإلى عالَمِ الآخِرةِ لَرَأيتَ: أنَّ لكلِّ بِذرةٍ -وهي مُعجِزةُ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ- غاياتٍ كبيرةً كِبَرَ الشَّجرةِ؛ وأنَّ لكلِّ زَهرةٍ -وهي كَلِمةُ الحِكمةِ25سؤال: فإنْ قُلتَ: لِمَ تُورِدُ أغلَبَ الأمثلةِ من الزَّهرةِ والبِذرةِ والثَّمَرة؟ الجَواب: لأنَّها أَبدَعُ مُعجِزاتِ القُدرةِ الإلٰهِيّةِ وأعجَبُها وأَلطَفُها.. ولمّا عَجَز أَهلُ الضَّلالة والطَّبيعةِ والفَلسَفةِ المادِّية مِن قراءةِ ما خَطَّه قلَمُ القَدَر والقُدرةِ فيها مِنَ الكِتابةِ الدَّقيقةِ، تاهُوا وغَرِقُوا فيها، وسقَطُوا في مُستَنقَعِ الطَّبيعة الآسِنِ. مَعانِيَ جَمَّةً بمِقدارِ أَزهارِ الشَّجَرِ؛ وأنَّ لكلِّ ثَمَرةٍ -وهي مُعجِزةُ الصَّنْعةِ وقَصِيدةُ الرَّحمةِ- مِنَ الحِكَم ما في الشَّجرةِ نَفسِها.. أمّا مِن جِهةِ كَونِها أَرزاقًا لنا فهي حِكمةٌ واحِدةٌ من بَينِ أُلُوفِ الحِكَمِ، حيثُ إنَّها تُنهِي مَهامَّها، وتُوفي مَغزاها فتَمُوتُ وتُدفَن في مَعِداتِنا.
فما دامَتْ هذه الأَشياءُ الفانِيةُ تُؤتِي ثِمارَها في غيرِ هذا المَكانِ، وتُوْدِعُ هناك صُوَرًا دائِمةً، وتُعبِّـرُ عن مَعانٍ خالِدةٍ، وتُؤَدِّي أَذكارَها وتَسابِيحَها الخالِدةَ السَّرمَديةَ هناك.. فالإنسانُ إذًا يُصبِحُ إنسانًا حَقًّا ما دامَ يَتَأمَّلُ ويَنظُرُ إلى تلك الوُجُوهِ المُتَوجِّهةِ نحوَ الخُلُود، وعِندَها يَجِدُ سَبيلًا مِنَ الفاني إلى الباقي.
إذًا هناك قَصْدٌ آخَرُ ضِمنَ هذه المَوجُوداتِ المُحتَشِدةِ والمُتَفرِّقةِ الَّتي تَسِيلُ في خِضَمِّ الحَياةِ والمَوتِ، حيثُ إنَّ أَحوالَها تُشبِهُ -ولا مُؤاخَذةَ في الأَمثالِ- أَحوالًا وأَوضاعًا تُرَتَّبُ للتَّمثيلِ، فتُنفَقُ نَفَقاتٌ باهِظةٌ لِتَهيِئةِ اجتِماعاتٍ وافتِراقاتٍ قَصيرةٍ، لِأَجلِ الْتِقاطِ الصُّوَرِ وتَرْكِيبِها لِعَرْضِها على الشّاشةِ عَرْضًا دائمًا.
وهكذا فإنَّ إِحدَى غاياتِ قَضاءِ الحَياةِ الشَّخصيّةِ والِاجتِماعيةِ في مُدّةٍ قَصيرةٍ في هذه الدُّنيا هي أَخْذُ الصُّوَرِ وتَركِيبُها، وحِفْظُ نَتائِجِ الأَعمالِ، لِيُحاسَبَ أمامَ الجَمْعِ الأَكبرِ، ولِيُعرَضَ أمامَ العَرْضِ الأَعظَمِ، ولِيُظهِرَ استِعدادَه وقابِليَّتَه للسَّعادةِ العُظمَى. فالحَديثُ الشَّريفُ: “الدُّنيا مَزرَعةُ الآخِرةِ” يُعبِّـرُ عن هذه الحَقيقةِ.
وحيثُ إنَّ الدُّنيا مَوجُودةٌ فِعلًا، وفيها الحِكْمةُ والعِنايةُ والرَّحمةُ والعَدالةُ المُتَجَلِّيةُ بآثارِها، فالآخِرةُ مَوجُودٌة حَتْمًا، وثابِتةٌ بقَطْعيّةِ ثُبُوتِ هذه الدُّنيا.. ولَمّا كان كلُّ شيءٍ في الدُّنيا يَتَطلَّعُ من جِهةٍ إلى ذلك العالَمِ، فالسَّيرُ إذًا والرِّحلةُ إلى هناك، لذا فإنَّ إنكارَ الآخرةِ هو إنكارٌ للدُّنيا وما فيها.. فكما أنَّ الأَجَلَ والقَبرَ يَنتَظِرانِ الإنسانَ، فإنَّ الجَنّةَ والنّارَ كذلك تَنتَظِرانِه وتَترَصَّدانِه.
الحقيقةُ الحاديةَ عَشْرةَ: بابُ الإنسانيةِ، وهو تجلِّي اسمِ “الحَقِّ”
أَمِنَ المُمكِنِ للحَقِّ سُبحانَه وهو المَعبودُ الحَقُّ أنَّ يَخلُقَ هذا الإنسانَ لِيكونَ أَكرَمَ عبدٍ لِرُبُوبيَّتِه المُطلَقةِ، وأَكثَرَ أَهمِّيّةً لِرُبُوبيَّتِه العامّةِ للعالَمِين، وأَكثَرَ المُخاطَبين إدراكًا وفَهْمًا لأَوامِرِه السُّبحانِيةِ، وفي أَحسَنِ تَقويمٍ حتى أَصبَحَ مِرآةً جامِعةً لِأَسمائِه الحُسنَى ولِتَجَلِّي الاسمِ الأَعظَمِ ولِتَجَلِّي المَرتَبةِ العُظمَى لكلِّ اسمٍ مِن هذه الأَسماءِ الحُسنَى؛ ولِيكونَ أَجمَلَ مُعجِزاتِ القُدرةِ الإلٰهِيّة، وأَغناها أَجهِزةً ومَوازِينَ لِمَعرِفةِ وتَقديرِ ما في خَزائنِ الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ مِن كُنُوزٍ، وأَكثَرَ المَخلُوقاتِ فاقةً وحاجةً إلى نِعَمِه الَّتي لا تُحصَى، وأَكثَرَها تَألُّمًا مِنَ الفَناءِ، وأَزيَدَها شَوقًا إلى البَقاءِ، وأَشَدَّها لَطافةً ورِقّةً وفَقْرًا وحاجةً. مع أنَّه مِن جِهةِ الحَياةِ الدُّنيا أَكثَرُها تَعاسةً، ومِن جِهةِ الِاستِعدادِ الفِطرِيِّ أَسماها صُورةً.. فهل مِنَ المُمكِنِ أنْ يَخلُقَ المَعبُودُ الحَقُّ الإنسانَ بهذه الماهِيَّةِ ثمَّ لا يَبعَثَه إلى ما هو مُؤَهَّلٌ له ومُشتاقٌ إليه مِن دارِ الخُلُودِ؟! فيَمحَقَ الحَقيقةَ الإنسانيةَ ويَعمَلَ ما هو مُنافٍ كُلِّـيًّا لِأَحقِّيَّتِه سُبحانَه؟ تَعالَى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا..
وهل يُعقَلُ للحاكِمِ بالحَقِّ والرَّحيمِ المُطلَقِ الَّذي وَهَب لهذا الإنسان استِعدادًا فِطرِيًّا سامِيًا يُمَكِّنُه مِن حَمْلِ الأَمانةِ الكُبْرَى الَّتي أَبَتِ السّماواتُ والأَرضُ والجِبالُ أن يَحمِلْنَها، أي: خَلَقَه لِيَعرِفَ صِفاتِ خالِقِه سُبحانَه الشّامِلةَ المُحيطةَ وشُؤونَه الكُلِّـيَّةَ وتَجَلِّياتِه المُطلَقةَ، بمَوازِينِه الجُزئيّةِ وبمَهاراتِه الضَّئيلةِ.. والَّذي بَرَأَه بشَكلِ أَلْطَفِ المَخلُوقاتِ وأَعجَزِها وأَضعَفِها، فسَخَّرَ له جَميعَها مِن نَباتٍ وحَيَوانٍ، حتى نَصَّبَه مُشرِفًا ومُنَظِّمًا ومُتَدَخِّلًا في أَنماطِ تَسبِيحاتِها وعِباداتِها.. والَّذي جَعَلَه نَمُوذجًا -بمَقايِيسَ مُصَغَّرةٍ- للإجراءاتِ الإلٰهِيّةِ في الكونِ، ودَلّالًا لإعلانِ الرُّبُوبيّةِ المُنزَّهةِ -فِعلًا وقَوْلًا- على الكائناتِ، حتى مَنَحَه مَنزِلةً أَكرَمَ مِن مَنزِلةِ المَلائكةِ، رافِعًا إيّاه إلى مَرتَبةِ الخِلافةِ.. فهل يُمكِنُ أن يَهَبَ سُبحانَه للإنسانِ كلَّ هذه الوَظائفِ ثم لا يَهَبَ له غاياتِها ونَتائِجَها وثِمارَها وهي السَّعادةُ الأَبَديّةُ؟ فيَرمِيَه إلى دَرْكِ الذِّلّة والمَسكَنةِ والمُصيبةِ والأَسقامِ، ويَجعَلَه أَتعَسَ مَخلُوقاتِه؟ ويَجعَلَ هذا العقلَ الَّذي هو هَدِيّةٌ مُبارَكةٌ نُورانِيّةٌ لِحِكمَتِه سُبحانَه ووَسيلةٌ لِمَعرِفةِ السَّعادةِ آلةَ تَعذِيبٍ وشُؤْمٍ، خِلافًا لِحِكمَتِه المُطلَقةِ، ومُنافاةً لرَحمَتِه المُطلَقةِ؟ تَعالَى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
الخُلاصةُ: كما أنَّنا رَأَينا في الحِكايةِ أنَّ في هُوِيّةِ الضّابطِ ودَفتَرِ خِدمَتِه رُتبَتَه، ووَظِيفتَه ومُرَتَّبَه وأَفعالَه وعَتَادَه، واتَّضَح لَدَينا أنَّ ذلك الضّابطَ لا يَعمَلُ لِأَجلِ هذا المَيدانِ المُؤَقَّتِ، بل لِما سيَرْحَلُ إليه مِن تَكريمٍ وإنعامٍ في مَملَكةٍ مُستَقِرّةٍ دائمةٍ؛ كذلك فإنَّ ما في هُويّةِ قَلْبِ الإنسانِ مِن لَطائفَ، وما في دَفتَرِ عَقلِه مِن حَواسَّ، وما في فِطرَتِه مِن أَجهِزةٍ وعَتادٍ مُتَوجِّهةٌ جَميعًا ومعًا إلى السَّعادةِ الأَبَديّةِ، بل ما مُنِحَت له إلَّا لِأَجلِ تلك السَّعادةِ الأَبَديّةِ. وهذا ما يَتَّفِقُ عليه أهلُ التَّحقيقِ والكَشْفِ.
فعلى سَبيلِ المِثالِ: لو قيلَ لِقُدرةِ التَّخَيُّلِ في الإنسان -وهي مُصَوِّرُ العَقلِ وأَداتُه-: ستُمنَحُ لكِ سَلْطَنةُ الدُّنيا وزِينَتُها مع عُمُرٍ يَزيدُ على مِليُونِ سَنةٍ، ولكن مَصِيرُكِ إلى الفَناءِ والعَدَمِ حَتْمًا. نَراها تَتَأَوَّهُ وتَتَحَسَّرُ، إن لم يَتَدخَّلِ الوَهْمُ وهَوَى النَّفسِ. أي: إنَّ أَعظَمَ فانٍ -وهو الدُّنيا وما فيها- لا يُمكِنُه أن يُشبِعَ أَصغَرَ آلةٍ في الإنسانِ وهي الخَيالُ!
يَظهَرُ مِن هذا جَلِيًّا أنَّ هذا الإنسانَ الَّذي له هذا الاستِعدادُ الفِطرِيُّ والَّذي له آمالٌ تَمتَدُّ إلى الأَبدِ، وأَفكارٌ تُحِيطُ بالكَوْنِ، ورَغَباتٌ تَنتَشِرُ في ثَنايا أَنواعِ السَّعادةِ الأَبَديّةِ.. هذا الإنسانُ إنما خُلِقَ للأَبَدِ وسيَرْحَلُ إليه حَتْمًا، فلَيسَت هذه الدُّنيا إلَّا مُستَضافًا مُؤَقَّتًا، وصالةَ انتِظارِ الآخِرةِ.
الحقيقةُ الثّانيةَ عَشْرةَ: بابُ الرِّسالة والتَّنزيل وهو تَجَلِّي ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
أَمِنَ المُمكِنِ لمَن أيَّدَ كلامَه جَميعُ الأَنبِياءِ المُعتَمِدين على مُعجِزاتِهم، وأَقَرَّ به جَميعُ الأَولياءِ الصّالِحين المُعَزَّزين بكَشفِيّاتِهم وكَراماتِهم، وشَهِدَ بصِدقِه جَميعُ العُلَماءِ والأَصفِياءِ المُستَنِدين إلى تَدقِيقاتِهم وتَحقِيقاتِهم.. ذلكُم هو الرَّسولُ الكَريمُ (ﷺ) الَّذي فَتَح بما أُوتِيَ مِن قُوّةٍ طَريقَ الآخِرةِ وبابَ الجَنّةِ، مُصَدَّقًا بألفٍ مِن مُعجِزاتِه الثّابِتةِ، وبآلافٍ مِن آياتِ القُرآنِ الكَريمِ الثّابِتِ إعجازُه بأَربَعين وَجْهًا.. فهل مِنَ المُمكِنِ أن تَسُدَّ أَوهامٌ هي أَوْهَى مِن جَناحِ ذُبابةٍ ما فَتَحَه هذا الرَّسولُ الكَريمُ (ﷺ) مِن طَريقِ الآخِرةِ وبابِ الجَنّةِ؟!
وهكذا لقد فُهِمَ مِنَ الحَقائقِ السّابِقةِ أنَّ مَسأَلةَ الحَشْرِ حَقيقةٌ راسِخةٌ قَوِيّةٌ، بحَيثُ لا يُمكِنُ أن تُزَحزِحَها أيّةُ قُوّةٍ مَهما كانَت، حتى لوِ استَطاعَت أن تُزِيحَ الكُرةَ الأَرضِيةَ وتَحْطِمَها، ذلك لأنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى يُقِرُّ تلك الحَقيقةَ بمُقتَضَى أَسمائِه الحُسنَى جَميعِها وصِفاتِه الجَليلةِ كلِّها، وأنَّ رَسُولَه الكَريمَ (ﷺ) يُصَدِّقُها بمُعجِزاتِه وبَراهِينِه كُلِّها، والقرآنُ الكريمُ يُثبِتُها بجَميعِ آياتِه وحَقائقِه، والكَونُ يَشهَدُ لها بجَميعِ آياتِه التَّكوينيّةِ وشُؤونِه الحَكيمةِ.
فهل مِنَ المُمكِنِ يا تُرَى أن يتَّفِقَ مع واجِبِ الوُجودِ سُبحانَه وتَعالَى جَميعُ المَوجُوداتِ -عدا الكُفَّارِ- في حَقيقةِ الحَشْرِ، ثم تأتِيَ شُبهةٌ شَيطانيّةٌ واهِيةٌ ضَعيفةٌ لِتُزيحَ هذه الحَقيقةَ الرّاسِخةَ الشّامِخةَ وتُزَعزِعَها؟! كلَّا.. ثم كلَّا..
ولا تَحْسَبَنَّ أنَّ دَلائلَ الحَشرِ مُنحَصِرةٌ فيما بَحَثناه مِنَ الحَقائقِ الِاثنَتَيْ عَشْرةَ، بل كما أنَّ القُرآنَ الكَريمَ وَحدَه يُعَلِّمُنا تلك الحَقائقَ، فإنَّه يُشِيرُ كذلك بآلافٍ مِنَ الأَوجُهِ والأَماراتِ القَوِيّةِ إلى أنَّ خالِقَنا سيَنقُلُنا مِن دارِ الفَناءِ إلى دارِ البَقاءِ.
ولا تَحسَبَنَّ كذلك أنَّ دَلائلَ الحَشْرِ مُنحَصِرةٌ فيما بَحَثْناه مِن مُقتَضَياتِ الأَسماءِ الحُسنَى “الحَكيمِ، الكَريمِ، الرَّحِيمِ، العادِلِ، الحَفيظِ”، بل إنَّ جَميعَ الأَسماءِ الحُسنَى المُتَجلِّيةِ في تَدبيرِ الكَونِ تَقتَضي الآخِرةَ وتَستَلزِمُها.
ولا تَحسَبْ أيضًا أنَّ آياتِ الكَونِ الدَّالّةَ على الحَشرِ هي تلك الَّتي ذَكَرْناها فحَسْبُ، بل هناك آفاقٌ وأَوجُهٌ في أَكثَرِ المَوجُوداتِ تُفتَحُ وتَتَوجَّهُ يَمينًا وشِمالًا، فمِثلَما يَدُلُّ ويَشهَدُ وَجهٌ على الصّانِعِ سُبحانَه وتَعالَى، يُشِيرُ وَجهٌ آخَرُ إلى الحَشرِ ويُومِئُ إليه.
فمَثَلًا: إن حُسنَ الصَّنْعةِ المُتقَنةِ في خَلْقِ الإنسانِ في أَحسَنِ تَقويمٍ، مِثلَما هو إشارةٌ إلى الصّانِعِ سُبحانَه، فإنَّ زَوالَه في مُدّةٍ يَسيرةٍ معَ ما فيه مِن قابِلِيّاتٍ وقُوًى جامِعةٍ، يُشِيرُ إلى الحَشرِ. حتى إذا ما لُوحِظَ وَجهٌ واحِدٌ فقط بنَظْرَتَينِ، فإنَّه يَدُلُّ على الصّانِعِ والحَشرِ معًا.
ومثلًا: إذا لُوحِظَت ماهِيّةُ ما هو ظاهِرٌ في أَغلَبِ الأَشياءِ مِن تَنظِيمِ الحِكمةِ وتَزيينِ العِنايةِ وتَقديرِ العَدالةِ ولَطافةِ الرَّحمةِ، تُبيِّنُ أنَّها صادِرةٌ مِن يَدِ القُدرةِ لِصانِعٍ حَكيمٍ، كَريمٍ، عادِلٍ، رَحيمٍ؛ كذلك إذا لُوحِظَت عَظَمةُ هذه الصِّفاتِ الجَليلةِ وقُوَّتُها وطَلاقَتُها، مع قِصَرِ حَياةِ هذه المَوجُوداتِ في هذه الدُّنيا وزَهادَتِها فإنَّ الآخِرةَ تَتَبيَّنُ مِن خِلالِها.
أي: إنَّ كلَّ شيءٍ يَقرَأُ ويَستَقرِئُ بلِسانِ الحالِ قائلًا: آمَنتُ بِالله وبِاليَوْمِ الآخِرِ.
❀ ❀ ❀
الخاتمة
إنَّ الحَقائقَ الِاثنَتَيْ عَشْرةَ السّابِقةَ يُؤيِّدُ بَعضُها البَعضَ الآخَرَ، وتُكَمِّلُ إحداها الأُخرَى وتُسنِدُها وتَدعَمُها، فتَتَبيَّنُ النَّتيجةُ مِن مَجمُوعِها واتِّحادِها معًا؛ فأيُّ وَهْمٍ يُمكِنُه أن يَنفُذَ مِن هذه الأَسوارِ الِاثنَي عَشَرَ الحَديدِ، بلِ الأَلماسِ، المَنيعةِ لِيُزَعزِعَ الإيمانَ بالحَشرِ المُحَصَّنِ بالحِصنِ الحَصينِ؟!
فالآيةُ الكَريمةُ: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ تُفيدُ أنَّ خَلْقَ جَميعِ البَشَرِ وحَشْرَهم سَهلٌ ويَسيرٌ على القُدرةِ الإلٰهِيّةِ، كخَلْقِ إنسانٍ واحِدٍ وحَشْرِه. نعم، وهو هكذا حيثُ فُصِّلَت هذه الحَقيقةُ في بَحثِ “الحَشْرِ” مِن رسالةِ: “نُقطةٌ مِن نُورِ مَعرِفةِ اللهِ جَلَّ جلالُه”، إلَّا أنَّنا سنُشيرُ هنا إلى خُلاصَتِها مع ذِكرِ الأَمثِلةِ، ومَن أرادَ التَّفصيلَ فلْيُراجِعْ تلك الرِّسالةَ.
فمَثلًا وللهِ المَثَلُ الأَعلَى، -ولا جِدالَ في الأَمثالِ-: إنَّ الشَّمسَ مِثلَما تُرسِلُ -ولو إراديًّا- ضَوْءَها بسُهولةٍ تامّةٍ إلى ذَرّةٍ واحِدةٍ، فإنُّها تُرسِلُه بالسُّهولةِ نَفسِها إلى جَميعِ المَوادِّ الشَّفّافةِ الَّتي لا حَصْرَ لها، وذلك بسِرِّ “النُّورانيّةِ”؛ وإنَّ أَخْذَ بُؤْبُؤِ ذَرّةٍ شَفّافةٍ واحِدةٍ لصُورةِ الشَّمسِ مُساوٍ لِأَخْذِ سَطْحِ البَحرِ الواسِعِ لها، وذلك بسِرِّ “الشَّفّافيّةِ”؛ وإنَّ الطِّفلَ مِثلَما يُمكِنُه أن يُحرِّكَ دُميَتَه الشَّبيهةَ بالسَّفينةِ، يُمكِنُه أن يُحَرِّك كذلك السَّفينةَ الحَقيقيّةَ، وذلك بسِرِّ “الِانتِظامِ” الَّذي فيها؛ وإِنَّ القائدَ الَّذي يُسَيِّـرُ الجُندِيَّ الواحِدَ بأَمرِ “سِرْ”، يَسُوقُ الجَيشَ بأَكمَلِه بالكَلِمةِ نَفسِها، وذلك بسِرِّ “الِامتِثالِ والطّاعةِ”.
ولو افتَرَضنا مِيزانًا حسّاسًا وكَبِيرًا جدًّا في الفَضاء، بحيثُ يَتَحَسَّسُ وَزنَ جَوْزةٍ صَغيرةٍ في الوَقتِ الَّذي يُمكِنُ أن تُوضَعَ في كَفَّتَيهِ شَمسانِ، ووُجِدَت في الكَفَّتَينِ جَوزَتانِ أو شَمْسانِ، فإنَّ الجُهدَ المَبذُولَ لِرَفْعِ إحدَى الكَفَّتَينِ إلى الأَعلَى والأُخرَى إلى الأَسفَلِ هو الجُهدُ نَفسُه، وذلك بسِرِّ “المُوازَنة”.
فما دامَ أَكبَرُ شيءٍ يَتَساوَى مع أَصغَرِه، وما لا يُعَدُّ مِنَ الأَشياءِ يَظهَرُ كالشَّيءِ الواحِدِ في هذه المَخلُوقاتِ والمُمكِناتِ الِاعتِيادِيّةِ -وهي ناقِصةٌ فانِيةٌ- لِما فيها مِنَ “النُّورانيّةِ والشَّفَّافِيّةِ والِانتِظامِ والِامتِثالِ والمُوازَنةِ”، فلا بُدَّ أنَّه يَتَساوَى أَمامَ القَديرِ المُطلَقِ القَليلُ والكَثيرُ، والصَّغيرُ والكَبيرُ، وحَشْرُ فَردٍ واحِدٍ وجَميعِ النّاسِ بصَيحةٍ واحِدةٍ، وذلك بالتَّجَلِّياتِ “النُّورانِيّةِ” المُطلَقةِ لِقُدرَتِه الذّاتيّةِ المُطلَقةِ وهي في مُنتَهَى الكَمالِ، و”الشَّفّافيّةِ” في مَلَكُوتيّةِ الأَشياءِ، و”انتِظامِ” الحِكمةِ والقَدَرِ، و”امتِثالِ” الأَشياءِ وطاعَتِها لِأَوامِرِه التَّكوينِيّةِ امتِثالًا كامِلًا، وبسِرِّ “مُوازَنةِ” الإمكانِ الَّذي هو تَساوِي المُمكِناتِ في الوُجُودِ والعَدَمِ.
ثمَّ إنَّ مَراتِبَ القُوّةِ والضَّعفِ لِشَيءٍ مّا عِبارةٌ عن تَداخُلِ ضِدِّه فيه، فدَرَجاتُ الحَرارةِ -مثلًا- ناتِجةٌ مِن تَداخُلِ البُرودةِ، ومَراتبُ الجَمالِ مُتَولِّدةٌ مِن تَداخُلِ القُبْحِ، وطَبَقاتُ الضَّوءِ مِن دُخُولِ الظَّلامِ؛ إلَّا أنَّ الشَّيءَ إن كان ذاتيًّا غَيرَ عَرَضيٍّ، فلا يُمكِنُ لِضِدِّه أن يَدخُلَ فيه، وإلَّا لَزِمَ اجتِماعُ الضِّدَّينِ وهو مُحالٌ، أي: إنَّه لا مَراتِبَ فيما هو ذاتِيٌّ وأَصيلٌ، فما دامَت قُدرةُ القَديرِ المُطلَقِ ذاتيّةً، وليسَت عَرَضِيّةً كالمُمكِناتِ، وهي في الكَمالِ المُطلَقِ، فمِنَ المُحالِ إذًا أن يَطْرَأَ عليها العَجْزُ الَّذي هو ضِدُّها، أي: إنَّ خَلْقَ الرَّبيعِ بالنِّسبةِ لذِي الجَلالِ هَيِّنٌ كخَلْقِ زَهرةٍ واحِدةٍ، وبَعْثَ النّاسِ جَميعًا سَهلٌ ويَسيرٌ عليه كبَعْثِ فَرْدٍ مِنهم، بخِلافِ ما إذا أُسنِدَ الأَمرُ إلى الأَسبابِ المادِّيّةِ، فعِندَئذٍ يكونُ خَلْقُ زَهرةٍ واحِدةٍ صَعبًا كخَلْقِ الرَّبيعِ.
❀ ❀ ❀
وكلُّ ما تَقدَّمَ مِنَ الأَمثِلةِ والإيضاحاتِ -منذُ البِداية- لِصُوَرِ الحَشْرِ وحَقائقِه ما هي إلَّا مِن فَيضِ القرآنِ الكريمِ، وما هي إلَّا لِتَهْيِئةِ النَّفْسِ للتَّسليمِ والقَلبِ للقَبُولِ؛ إذِ القَولُ الفَصلُ للقرآنِ الكريمِ والكَلامُ كلامُه، والقَولُ قَولُه، فلْنَسْتَمِعْ إليه.. فلِلّه الحُجَّةُ البالِغةُ..
﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾.
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾.
﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾.
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ *وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾.
﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
ولْنَسْتَمِعْ إلى أَمثالِ هذه الآياتِ البَيِّناتِ، ولْنَقُلْ: آمَنّا وصَدَّقْنا..
آمَنتُ باللهِ ومَلائكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليَومِ الآخِرِ وبالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه مِنَ اللهِ تَعالَى، والبَعثُ بعدَ المَوتِ حَقٌّ، وأنَّ الجَنّةَ حَقٌّ، والنَّارَ حَقٌّ، وأنَّ الشَّفاعةَ حَقٌّ، وأنَّ مُنكَرًا ونَكِيرًا حَقٌّ، وأنَّ اللهَ يَبعَثُ مَن في القُبُورِ؛ أَشهَدُ أنْ لا إلٰهَ إلَّا اللهُ، وأَشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى ألطَفِ وأشرَفِ وأَكمَلِ وأَجمَلِ ثَمَرَاتِ طُوبَى رَحمَتِكَ الَّذِي أَرسَلتَهُ رَحمَةً لِلعَالَمِينَ ووَسِيلَةً لِوُصُولِنَا إلَى أَزيَنِ وأحسَنِ وأجلَى وأعلَى ثَمَرَاتِ تِلكَ الطُّوبَى المُتَدَلِّيَةِ عَلَى دَارِ الآخِرَة، أي الجَنّةِ.
اللَّهُمَّ أَجِرنَا وأَجِر وَالِدِينَا مِنَ النّارِ، وأَدخِلنَا وأَدخِل وَالِدِينَا الجَنّةَ مَعَ الأَبرَارِ بِجَاهِ نَبِيِّكَ المُختَارِ.. آمِينَ.
❀ ❀ ❀
فيا أيُّها الأَخُ القارِئُ لهذه الرِّسالةِ بإنصافٍ.. لا تَقُلْ: لِمَ لا أُحِيطُ فَهْمًا بهذِه الكَلِمةِ العاشِرةِ؟! لا تَغتَمَّ ولا تَتَضايَقْ مِن عَدَمِ الإحاطةِ بها، فإنَّ فَلاسِفةً دُهاةً -أَمثالَ ابنِ سِينا- قد قالوا: “الحَشْرُ ليسَ على مَقاييسَ عَقلِيّةٍ” أي: نُؤمِنُ به فحَسْبُ، فلا يُمكِنُ سُلُوكُ سَبِيلِه، وسَبْرُ غَوْرِه بالعَقْلِ.. وكذلك اتَّفَق عُلَماءُ الإسلامِ بأنَّ قَضِيّةَ الحَشرِ قَضيّةٌ نَقْلِيّةٌ، أي: إنَّ أَدِلَّتَها نَقْلِيّةٌ، ولا يُمكِنُ الوُصولُ إلَيها عَقْلًا؛ لذا فإنَّ سَبِيلًا غائِرًا، وطَرِيقًا عالِيًا سامِيًا في الوَقتِ نَفسِه، لا يُمكِنُ أن يكونَ بسُهُولةِ طَريقٍ عامٍّ يُمكِنُ أن يَسلُكَه كلُّ سالِكٍ.
ولكن بفَيْضِ القُرآنِ الكريمِ، وبرَحْمةِ الخالِقِ الرَّحيمِ قد مُنَّ علَينا السَّيرُ في هذا الطَّريقِ الرَّفيعِ العَميقِ، في هذا العَصْرِ الَّذي تَحَطَّمَ فيه التَّقلِيدُ وفَسَد الإذعانُ والتَّسلِيمُ؛ فما علَينا إلَّا تَقدِيمُ آلافِ الشُّكرِ إلى البارِئِ عزَّ وجلَّ على إحسانِه العَميمِ وفَضلِه العَظيمِ، إذ إنَّ هذا القَدْرَ يَكفِي لإِنقاذِ إيمانِنا وسَلامَتِه. فلا بُدَّ أن نَرضَى بمِقدارِ فَهْمِنا ونَزِيدَه بتَكرارِ المُطالَعةِ.
هذا، وإنَّ أَحَدَ أَسرارِ عَدَمِ الوُصولِ إلى مَسأَلةِ الحَشرِ عَقلًا هو أنَّ الحَشرَ الأَعظَمَ مِن تَجَلِّي “الِاسمِ الأَعظَمِ”، لذا فإنَّ رُؤيةَ وإراءةَ الأَفعالِ العَظيمةِ الصّادِرةِ مِن تَجَلِّي الِاسمِ الأَعظَمِ، ومِن تَجَلِّي المَرتَبةِ العُظمَى لكلِّ اسمٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى هي الَّتي تَجعَلُ إثباتَ الحَشرِ الأَعظَمِ سَهْلًا هَيِّنًا وقاطِعًا كإثباتِ الرَّبيعِ وثُبُوتِه، والَّذي يُؤَدِّي إلى الإذعانِ القَطعِيِّ والإيمانِ الحَقيقِيِّ.
وعلى هذه الصُّورةِ تَوَضَّحَ الحَشرُ ووُضِّحَ في هذه “الكَلِمةِ العاشِرةِ” بفَيضِ القُرآنِ الكريمِ، وإلَّا لوِ اعتَمَد العَقلُ على مَقايِيسِه الكَلِيلةِ لَظَلَّ عاجِزًا مُضْطَرًّا إلى التَّقلِيدِ.
❀ ❀ ❀