الكلمة التاسعة: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون.
[هذه الكلمة تتحدث عن حكمة أوقات الصلوات، والعلاقة بين مواقيتها وأطوار عمر الإنسان وأحواله المعنوية]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي
الكلمة التاسعة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ *
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾
مقدمة
أيُّها الأَخُ.. تَسأَلُني عن حِكمةِ تَخصِيصِ الصَّلاةِ في هذه الأَوقاتِ الخَمسةِ المُعيَّنةِ، فسنُشِيرُ إلى حِكمةٍ واحِدةٍ فقط مِن بينِ حِكَمِها الوَفيرةِ.
نعم، كما أنَّ وَقتَ كلِّ صَلاةٍ بِدايةُ انقِلابٍ زَمَنيٍّ عَظِيمٍ ومُهِمٍّ، فهو كَذلك مِرآةٌ لِتَصَرُّفٍ إلٰهيٍّ عَظيمٍ، تَعكِسُ الآلاءَ الإلٰهِيّةَ الكُلِّيّةَ في ذلك الوَقتِ؛ لِهذا فقد أُمِرَ في تلك الأَوقاتِ بالصَّلاةِ، أي: الزِّيادةِ مِنَ التَّسبِيحِ والتَّعظِيمِ للقَدِيرِ ذِي الجَلالِ، والإكثارِ مِنَ الحَمْدِ والشُّكرِ لِنِعَمِه الَّتي لا تُحصَى والَّتي تَجَمَّعَت بينَ الوَقتَينِ.
ولِأَجلِ فَهْمِ بَعضٍ مِن هذا المَعنَى العَمِيقِ الدَّقيقِ، يَنبَغي الإصغاءُ ــ معَ نَفسِي ــ إلى خَمسِ نِكاتٍ:
النُّكتةُ الأولَى [معنى الصلاة]
إنَّ مَعنَى الصَّلاةِ هو التَّسبِيحُ والتَّعظِيمُ والشُّكرُ للهِ تَعالَى، أي: تَقدِيسُه جَلَّ وعَلا تِجاهَ جَلالِه قَوْلًا وفِعْلًا بقَولِ: “سُبحانَ اللهِ”، وتَعظِيمُه تِجاهَ كَمالِه لَفْظًا وعَمَلًا بقَولِ: “اللهُ أَكبَرُ”، وشُكرُه تِجاهَ جَمالِه قَلْبًا ولِسانًا وجِسْمًا بقَولِ: “الحَمدُ للهِ”.
أي إنَّ التَّسبِيحَ والتَّكبِيرَ والتَّحمِيدَ هو بمَثابةِ نُوَى الصَّلاةِ وبُذُورِها، فوُجِدَتْ هذه الثَّلاثةُ في جَميعِ حَرَكاتِ الصَّلاةِ وأَذكارِها. ولِهذا أَيضًا تُكرَّرُ هذه الكَلِماتُ الطَّيِّبةُ الثَّلاثُ ثَلاثًا وثَلاثين مَرّةً عَقِبَ الصَّلاةِ، وذلك للتَّأكِيدِ على مَعنَى الصَّلاةِ وتَرسِيخِه، إذ بهذه الكَلِماتِ المُوجَزةِ المُجْمَلةِ يُؤَكَّدُ مَعنَى الصَّلاةِ ومَغزاها.
النُّكتةُ الثانية [معنى العبادة]
إنَّ مَعنَى العِبادةِ هو سُجُودُ العَبدِ بمَحَبّةٍ خالِصةٍ وبتَقديرٍ وإعجابٍ في الحَضْرةِ الإلٰهِيّةِ أَمامَ كَمالِ الرُّبُوبيّةِ والقُدرةِ الصَّمَدانيّةِ والرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ، مُشاهِدًا في نَفسِه تَقصِيرَه وعَجْزَه وفَقْرَه.
نعم، كما أنَّ سَلْطَنةَ الرُّبُوبيّةِ تَتَطلَّبُ العُبُودِيّةَ والطّاعةَ، فإنَّ قُدسِيَّتَها ونَزاهَتَها تَتَطلَّبُ أيضًا أن يُعلِنَ العَبدُ ــ معَ استِغفارِه برُؤيةِ تَقصِيرِه ــ أنَّ رَبَّه مُنزَّهٌ عن أيِّ نَقصِ، وأنَّه مُتَعالٍ على جَميعِ أَفكارِ أَهلِ الضَّلالةِ الباطِلةِ، وأنَّه مُقَدَّسٌ مِن جَميعِ نَقائِصِ الكائِناتِ، أي: أن يُعلِنَ ذلك كلَّه بتَسبِيحِه بقَولِه: “سُبحانَ اللهِ”.
وكذا قُدرةُ الرُّبوبيّةِ الكامِلةُ تَتَطلَّبُ مِنَ العَبدِ أيضًا أن يَلتَجِئَ إلَيها، ويَتَوكَّلَ علَيها، لرُؤيَتِه ضَعْفَ نَفسِه الشَّديدَ وعَجْزَ المَخلُوقاتِ قائلًا: “اللهُ أَكبَرُ” بإعجابٍ وتَقدِيرٍ واستِحسانٍ تِجاهَ عَظَمةِ آثارِ القُدرةِ الصَّمَدانيّةِ، ماضِيًا إلى الرُّكُوعِ بكلِّ خُضُوعٍ وخُشُوعٍ.
وكذا رَحمةُ الرُّبُوبيّةِ الواسِعةُ تَتَطلَّبُ أيضًا أن يُظهِرَ العَبدُ حاجاتِه الخاصّةَ وحاجاتِ جَميعِ المَخلُوقاتِ وفَقرَها بلِسانِ السُّؤالِ والدُّعاءِ، وأن يُعلِنَ إحسانَ ربِّه وآلاءَه العَمِيمةَ بالشُّكرِ والثَّناءِ والحَمدِ بقَولِه: “الحَمدُ للهِ”.
أي: إنَّ أَفعالَ الصَّلاةِ وأَقوالَها تَتَضمَّنُ هذه المَعانِيَ. ولِأَجلِ هذه المَعاني فُرِضَتِ الصَّلاةُ مِن لَدُنه سُبحانَه وتَعالَى.
النُّكتة الثالثة [الصلاة فهرسٌ لجميع العبادات]
كما أنَّ الإنسانَ هو مِثالٌ مُصَغَّرٌ لهذا العالَمِ الكَبِيرِ، وأنَّ سُورةَ الفاتِحةِ مِثالٌ مُنَوَّرٌ للقُرآنِ العَظيمِ، فالصَّلاةُ كذلك فِهرِسٌ نُورانِيٌّ شامِلٌ لِجَميعِ العِباداتِ، وخَرِيطةٌ سامِيةٌ تُشِيرُ إلى أَنماطِ عِباداتِ المَخلُوقاتِ جَمِيعًا.
النُّكتة الرابعة [التناظر بين أوقات الصلوات ومراحل عمر الإنسان]
إنَّ عَقارِبَ السّاعة الَّتي تَعُدُّ الثَّوانِيَ والدَّقائقَ والسّاعاتِ والأَيّامَ، كلٌّ مِنها يُناظِرُ الآخَرَ، وُيمثِّلُ الآخَرَ، ويَأخُذُ كلٌّ مِنها حُكْمَ الآخَرِ.
كذلك في عالَمِ الدُّنيا الَّذي هو ساعةٌ إلٰهِيّةٌ كُبْرَى، فإنَّ دَوَرانَ اللَّيلِ والنَّهارِ الَّذي هو بِحُكمِ الثَّواني للسّاعةِ، والسَّنَواتِ الَّتي تَعُدُّ الدَّقائقَ، وطَبَقاتِ عُمُرِ الإنسانِ الَّتي تَعُدُّ السّاعاتِ، وأَدوارَ عُمُرِ العالَمِ الَّتي تَعُدُّ الأَيّامَ، كلٌّ مِنها يُناظِرُ الآخَرَ، ويَتَشابَهُ معَه، ويُماثِلُه، ويُذَكِّرُ كلٌّ مِنها بالآخَرِ، ويَأخُذُ حُكمَه. فمثلًا:
[مرحلة وقت الفجر]
وَقْتُ الفَجرِ إلى طُلُوعِ الشَّمسِ: يُشبِهُ ويُذَكِّرُ ببِدايةِ الرَّبيعِ وأَوَّلِه، وبأَوانِ سُقُوطِ الإنسانِ في رَحِمِ الأُمِّ، وباليَومِ الأَوَّلِ مِنَ الأَيّامِ السِّتّةِ في خَلقِ السَّماواتِ والأَرضِ، فيُنبِّهُ الإنسانَ إلى ما في تلك الأَوقاتِ مِنَ الشُّؤُونِ الإلٰهِيّةِ العَظِيمةِ.
[مرحلة وقت الظهر]
أمّا وَقْتُ الظُّهرِ: فهو يُشبِهُ ويُشِيرُ إلى مُنتَصَفِ الصَّيفِ، وإلى عُنفُوانِ الشَّبابِ، وإلى دَوْرِ خَلْقِ الإنسانِ في عُمُرِ الدُّنيا، ويُذَكِّرُ ما في ذلك كُلِّه مِن تَجَلِّياتِ الرَّحمةِ وفُيُوضاتِ النِّعمةِ.
[مرحلة وقت العصر]
أمّا وَقْتُ العَصرِ: فهو يُشبِهُ مَوسِمَ الخَرِيفِ، وزَمَنَ الشَّيخُوخةِ، وعَصرَ السَّعادةِ الَّذي هو عَصرُ خاتَمِ الرُّسُلِ مُحمَّدٍ علَيه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ويُذَكِّرُ بما في ذلك كلِّه مِنَ الشُّؤُونِ الإلٰهِيّةِ والآلاءِ الرَّحمانيّةِ.
[مرحلة وقت المغرب]
أمّا وَقْتُ المَغرِبِ: فإنَّه يُذَكِّرُ بغُرُوبِ أَغلَبِ المَخلُوقاتِ وأُفُولِها نِهايةَ الخَرِيفِ، ويُذَكِّرُ أيضًا بوَفاةِ الإنسانِ، وبدَمارِ الدُّنيا عندَ قيامِ السّاعةِ، ومعَ ذلك فهو يُعَلِّمُ التَّجَلِّياتِ الجَلاليّةَ، ويُوقِظُ الإنسانَ مِن نَومِ الغَفلةِ ويُنبِّهُه.
[مرحلة وقت العشاء]
أمّا وَقْتُ العِشاءِ: فيُذَكِّرُ بغَشَيانِ عالَمِ الظَّلامِ وسَتْرِه آثارَ عالَمِ النَّهارِ بكَفَنِه الأَسوَدِ، ويُذَكِّرُ أيضًا بتَغطِيةِ الكَفَنِ الأَبيَضِ للشِّتاءِ وَجْهَ الأَرضِ المَيتةِ، وبوَفاةِ حتَّى آثارِ الإنسانِ المُتَوفَّى ودُخُولِه تحتَ سِتارِ النِّسيانِ، وبانسِدادِ أَبوابِ دارِ امتِحانِ الدُّنيا نِهائيًّا، ويُعلِنُ في ذلك كلِّه تَصَرُّفاتٍ جَلاليّةً للقَهّارِ ذِي الجَلالِ. أمّا وَقْتُ اللَّيلِ: فإنَّه يُذَكِّرُ بالشِّتاءِ، وبالقَبْرِ، وبعالَمِ البَرزَخِ، فَضْلًا عن أنَّه يُذَكِّرُ رُوحَ الإنسانِ بمَدَى حاجَتِها إلى رَحمةِ الرَّحمٰنِ.
[مرحلة وقت التهجد]
أمّا التَّهَجُّدُ في اللَّيلِ: فإنَّه يُذَكِّرُ بضَرُورَتِه ضِياءً لِلَيْلِ القَبْرِ، ولِظُلُماتِ عالَمِ البَرزَخِ، ويُنبِّهُ ويُذَكِّرُ بنِعَمٍ غيرِ مُتَناهِيةٍ للمُنعِمِ الحَقيقيِّ عَبْرَ هذه الِانقِلاباتِ، ويُعلِنُ أيضًا عن مَدَى أَهلِيّةِ المُنعِمِ الحَقيقيِّ للحَمدِ والثَّناءِ.
[مرحلة وقت الصباح التالي]
أمّا الصَّباحُ الثّاني: فإنَّه يُذَكِّرُ بصَباحِ الحَشْرِ. نعم، كما أنَّ مَجِيءَ الصُّبحِ لِهذا اللَّيلِ، ومَجِيءَ الرَّبيعِ لهذا الشِّتاءِ مَعقُولٌ وضَرُورِيٌّ وحَتْمِيٌّ، فإنَّ مَجِيءَ صَباحِ الحَشرِ ورَبِيعِ البَرزَخِ هما بالقَطعِيّةِ والثُّبُوتِ نَفسَيهِما.
فكلُّ وَقتٍ إذًا مِن هذه الأَوقاتِ الخَمسةِ بِدايةُ انقِلابٍ عَظِيمٍ، ويُذَكِّرُ بانقِلاباتٍ أُخرَى عَظِيمةٍ، فهو يُذَكِّرُ أيضًا بمُعجِزاتِ القُدرةِ الصَّمَدانيّةِ وهَدايا الرَّحمةِ الإلٰهِيّةِ، سَواءٌ مِنها السَّنَوِيّةُ أوِ العَصرِيّةُ أوِ الدَّهرِيّةُ، بإشاراتِ تَصَرُّفاتِها اليَوميّةِ العَظِيمةِ.
أي: إنَّ الصَّلاةَ المَفرُوضةَ الَّتي هي وَظِيفةُ الفِطرةِ وأَساسُ العُبُودِيّةِ والدَّينُ المَفرُوضُ، لائِقةٌ جِدًّا ومُناسِبةٌ جِدًّا في أن تكُونَ في هذه الأَوقاتِ حَقًّا.
النُّكتة الخامسة [العلاقة بين أوقات الصلوات وأحوال الإنسان المعنوية]
إنَّ الإنسانَ بفِطرَتِه ضَعِيفٌ جِدًّا، ومعَ ذلك فما أَكثَرَ المُنَغِّصاتِ الَّتي تُورِثُه الحُزنَ والأَلمَ؛ وهو في الوَقتِ نَفسِه عاجِزٌ جدًّا، معَ أنَّ أَعداءَه ومَصائبَه كَثيرةٌ جِدًّا؛ وهو فَقِيرٌ جِدًّا معَ أنَّ حاجاتِه كَثيرةٌ وشَدِيدةٌ؛ وهو كَسُولٌ وبلا اقتِدارٍ معَ أنَّ تَكاليفَ الحَياةِ ثَقِيلةٌ علَيه؛ وإنسانيَّتُه جَعَلَتْه يَرتَبِطُ بالكَونِ جَمِيعًا معَ أنَّ فِراقَ ما يُحِبُّه وزَوالَ ما يَستَأنِسُ به يُؤلِمانِه؛ وعَقْلُه يُرِيه مَقاصِدَ سامِيةً وثِمارًا باقيةً، معَ أنَّ يَدَه قَصِيرةٌ، وعُمُرَه قَصِيرٌ، وقُدرَتَه مَحدُودةٌ وصَبْرَه مَحدُودٌ.
[وقت الفجر]
فرُوحُ الإنسانِ في هذه الحالةِ: (في وَقتِ الفَجرِ) أَحوَجُ ما تكُونُ إلى أنْ تَطْرُقَ بالدُّعاءِ والصَّلاةِ بابَ القَدِيرَ ذِي الجَلالِ، وبابَ الرَّحِيمِ ذِي الجَمالِ، عارِضةً حالَها أَمامَه، سائِلةً التَّوفيقَ والعَونَ مِنه سُبحانَه؛ وما أَشَدَّ افتِقارَ تلك الرُّوحِ إلى نُقطةِ استِنادٍ كي تَتَحمَّلَ ما سيَأتِي أَمامَها مِن أَعمالٍ، وما ستَحمِلُ على كاهِلِها مِن وَظائِفَ في عالَمِ النَّهارِ الَّذي يَعقُبُه.. ألا يُفهَمُ ذلك بَداهةً؟
[وقت الظهر]
وعِندَ وَقْتِ الظُّهرِ: ذلك الوَقتِ الَّذي هو ذِروةُ كَمالِ النَّهارِ ومَيَلانُه إلى الزَّوالِ، وهو أَوانُ تَكامُلِ الأَعمالِ اليَومِيّةِ، وفَترةُ استِراحةٍ مُؤقَّتةٍ مِن عَناءِ المَشاغِلِ.. وهو وَقتُ حاجةِ الرُّوحِ إلى التَّنفُّسِ والِاستِرواحِ مِمّا تُعطِيه هذه الدُّنيا الفانِيةُ والأَشغالُ المُرهِقةُ المُؤَقَّتةُ مِن غَفلةٍ وحَيرةٍ واضطِرابٍ، فَضْلًا عن أنَّه أَوانُ تَظاهُرِ الآلاءِ الإلٰهِيّةِ.
فخَلاصُ رُوحِ الإنسانِ مِن تلك المُضايَقاتِ، وانسِلالُها مِن تلك الغَفلةِ والحَيرةِ، وخُرُوجُها مِن تلك الأُمُورِ التّافِهةِ الزّائلةِ، لا يكُونُ إلَّا بالِالتِجاءِ إلى بابِ القَيُّومِ الباقي ــ وهو المُنعِمُ الحَقِيقيُّ ــ بالتَّضَرُّعِ والتَّوَسُّلِ أَمامَه مَكتُوفَ اليَدَينِ شاكِرًا حامِدًا لِمَجمُوعِ نِعَمِه، مُستَعِينًا به وَحدَه، معَ إظهارِ العَجْزِ أَمامَ جَلالِه وعَظَمَتِه بالرُّكُوعِ، وإعلانِ الذُّلِّ والخُضُوعِ بإعجابٍ وتَعظِيمٍ وهُيامٍ بالسُّجُودِ أَمامَ كَمالِه الَّذي لا يَزُولُ، وأَمامَ جَمالِه الَّذي لا يَحُولُ. وهذا هو أَداءُ صَلاةِ الظُّهرِ، فما أَجمَلَها، وما أَلَذَّها، وما أَجدَرَها، وما أَعظَمَ ضَرُورَتَها! ومِن ثَمَّ فلا يَحسَبَنَّ الإنسانُ نَفسَه إنسانًا إن كان لا يَفهَمُ هذا.
[وقت العصر]
وعِندَ وَقتِ العَصرِ الَّذي يُذَكِّرُ بالمَوسِمِ الحَزِينِ للخَرِيفِ، وبالحالةِ المُحزِنةِ للشَّيخُوخةِ، وبالأَيّامِ الأَليمةِ لآخِرِ الزَّمانِ، وبوَقتِ ظُهُورِ نَتائِجِ الأَعمالِ اليَوميّةِ، فهو وَقتُ حُصُولِ المَجمُوعِ الكُلِّيِّ الهائِلِ للنِّعَمِ الإلٰهِيّةِ، أَمثالَ التَّمتُّعِ بالصِّحّةِ والتَّنَعُّمِ بالعافِيةِ، والقِيامِ بخِدْماتٍ طَيِّبةٍ؛ وهو كذلك وَقتُ الإعلانِ بأنَّ الإنسانَ ضَيفٌ مَأمُورٌ، وبأنَّ كلَّ شَيءٍ يَزُولُ، وهو بلا ثَباتٍ ولا قَرارٍ، وذلك بما يُشِيرُ إلَيه انحِناءُ الشَّمسِ الضَّخمةِ إلى الأُفُولِ.
نعم، إنَّ رُوحَ الإنسانِ الَّتي تَنشُدُ الأَبَدِيّةَ والخُلُودَ، وهي الَّتي خُلِقَت للبَقاءِ والأَبَدِ، وتَعشَقُ الإحسانَ، وتَتَألَّمُ مِنَ الفِراقِ، تَنهَضُ بهذا الإنسانِ لِيَقُومَ وَقتَ العَصرِ ويُسبِغَ الوُضُوءَ لِأَداءِ صَلاةِ العَصرِ، لِيُناجِيَ مُتَضَرِّعًا أَمامَ بابِ الحَضْرةِ الصَّمَدانيّةِ للقَدِيمِ الباقي وللقَيُّومِ السَّرمَدِيِّ، ولِيَلْتَجِئَ إلى فَضْلِ رَحمَتِه الواسِعةِ الأبَدِيّةِ، ولِيُقَدِّمَ الشُّكرَ والحَمدَ على نِعَمِه الَّتي لا تُحصَى، فيَركَعُ بكُلِّ ذلٍّ وخُضُوعٍ أَمامَ عِزّةِ رُبُوبيَّتِه سُبحانَه، ويَهوِي إلى السُّجُودِ بكلِّ تَواضُعٍ وفَناءٍ أَمامَ سَرمَدِيّةِ أُلُوهِيَّتِه، ويَجِدُ السُّلوانَ الحَقيقِيَّ والرّاحةَ التّامّةَ لِرُوحِه بوُقُوفِه بعُبُودِيّةٍ تامّةٍ وباستِعدادٍ كامِلٍ أَمامَ عَظَمةِ كِبْرِيائِه جَلَّ وعَلا. فما أَسْماها مِن وَظِيفةٍ تَأدِيةُ صَلاةِ العَصرِ بهذا المَعنَى! وما أَليَقَها مِن خِدمةٍ! بل ما أَحَقَّه مِن وَقتٍ لِقَضاءِ دَينِ الفِطرةِ، وما أَعظَمَه مِن فَوْزٍ للسَّعادةِ في مُنتَهَى اللَّذّةِ! فمَن كانَ إنسانًا حَقًّا فسيَفْهَمُ هذا.
[وقت المغرب]
وعِندَ وَقتِ المَغرِبِ الَّذي يُذَكِّرُ بوَقتِ غُرُوبِ المَخلُوقاتِ اللَّطِيفةِ الجَمِيلةِ لِعالَمِ الصَّيفِ والخَرِيفِ في وَداعِها الحَزِينِ عِندَ ابتِداءِ الشِّتاءِ، ويُذَكِّرُ بوَقتِ دُخُولِ الإنسانِ القَبْرَ عندَ وَفاتِه وفِراقِه الأَليمِ لِجَميعِ أَحِبَّتِه، وبوَفاةِ الدُّنيا كُلِّها بزَلزَلةِ سَكَراتِها، وانتِقالِ ساكِنِيها جَمِيعًا إلى عَوالِمَ أُخرَى.
ويُذَكِّرُ كذلك بانطِفاءِ مِصباحِ دارِ الِامتِحانِ هذه، فهو وَقتُ إيقاظٍ قَوِيٍّ وإنذارٍ شَدِيدٍ لأُولَئِك الَّذين يَعشَقُون لِحَدِّ العِبادةِ المَحبُوباتِ الَّتي تَغرُبُ وَراءَ أُفُقِ الزَّوالِ.
لذا فالإنسانُ الَّذي يَملِكُ رُوحًا صافِيةً كالمِرآةِ المَجلُوّةِ المُشتاقةِ فِطرةً إلى تَجَلِّياتِ الجَمالِ الباقي، لِأَجلِ أَداءِ صَلاةِ المَغرِبِ في مِثلِ هذا الوَقتِ، يُوَلِّي وَجْهَه إلى عَرشِ عَظَمةِ مَن هو قَدِيمٌ لم يَزَل، ومَن هو باقٍ لا يَزالُ، ومَن هو يُدَبِّرُ أَمرَ هذه العَوالِمِ الجَسِيمةِ ويُبَدِّلُها، فيُدَوِّي بصَوتِه قائلًا: “اللهُ أَكبَرُ” فَوقَ رُؤُوسِ هذه المَخلُوقاتِ الفانِيةِ، مُطلِقًا يَدَه مِنها، مَكتُوفًا في خِدمةِ مَولاه الحَقِّ مُنتَصِبًا قائِمًا عندَ مَن هو دائِمٌ باقٍ جَلَّ وعَلا فيَقُولَ: “الحَمدُ للهِ” أَمامَ كَمالِه الَّذي لا نَقْصَ فيه، وأَمامَ جَمالِه الَّذي لا مَثِيلَ له، واقِفًا أَمامَه مُثْنِيًا رَحمَتَه الواسِعةَ فيَقُولَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ لِيَعرِضَ عُبُودِيَّتَه واستِعانَتَه تِجاهَ رُبُوبيّةِ مَولاه الَّتي لا مُعِينَ لها، وتِجاهَ أُلُوهِيَّتِه الَّتي لا شَرِيكَ لها، وتِجاهَ سَلْطَنَتِه الَّتي لا وَزِيرَ لها.
فيَركَعُ إظهارًا لِعَجْزِه وضَعْفِه وفَقْرِه معَ الكائناتِ جَمِيعًا أَمامَ كِبرِيائِه سُبحانَه الَّتي لا مُنتَهَى لها، وأَمامَ قُدرَتِه الَّتي لا حَدَّ لها، وأَمامَ عِزَّتِه الَّتي لا عَجْزَ فيها، مُسَبِّحًا رَبَّه العَظِيمَ قائلًا: “سُبحانَ رَبِّيَ العَظِيمِ”.
ثمَّ يَهوِي إلى السُّجُودِ أَمامَ جَمالِ ذاتِه الَّذي لا يَزُولُ، وأَمامَ صِفاتِه المُقَدَّسةِ الَّتي لا تَتَغيَّرُ، وأَمامَ كَمالِ سَرمَدِيَّتِه الَّذي لا يَتَبدَّلُ، مُعْلِنًا بذلك حُبَّه وعُبُودِيَّتَه في إعجابٍ وفَناءٍ وذُلٍّ، تارِكًا ما سِواه سُبحانَه قائلًا: “سُبحانَ رَبِّيَ الأَعلَى” واجِدًا جَمِيلًا باقِيًا ورَحِيمًا سَرمَدِيًّا بَدَلًا مِن كُلِّ فانٍ؛ فيُقدِّسُ رَبَّه الأَعلَى المُنزَّهَ عنِ الزَّوالِ، المُبَرَّأَ مِنَ التَّقصِير.
ويَجلِسُ للتَّشَهُّدِ، فيُقَدِّمُ التَّحِيّاتِ المُبارَكاتِ والصَّلَواتِ الطَّيِّباتِ لِجَميعِ المَخلُوقاتِ هَدِيّةً باسمِه إلى ذلك الجَمِيلِ الَّذي لم يَزَل، وإلى ذلك الجَليلِ الَّذي لا يَزالُ، مُجَدِّدًا بَيعَتَه معَ رَسُولِه الأَكرَمِ بالسَّلامِ علَيه، مُظهِرًا بها طاعَتَه لِأَوامِرِه، فيَرَى الِانتِظامَ الحَكِيمَ لِقَصرِ الكائناتِ هذا، ويُشهِدُه على وَحدانيّةِ الصّانِعِ ذِي الجَلالِ، فيُجَدِّدُ إيمانَه ويُنوِّرُه، ثمَّ يَشهَدُ على نُبوّةِ دَلَّالِ الرُّبُوبيّةِ ومُبَلِّغِ مَرْضِيّاتِها وتَرجُمانِ آياتِ كِتابِ الكَونِ الكَبِيرِ، ألا وهو مُحمَّدٌ العَرَبيُّ (ﷺ).
فما أَلْطَفَ وما أَنزَهَ أَداءَ صَلاةِ المَغرِبِ! وما أَجَلَّها مِن مُهِمّةٍ بهذا المَضمُونِ! وما أَعَزَّها وأَحلاها مِن وَظِيفةٍ! وما أَجمَلَها وأَلذَّها مِن عُبُودِيّةٍ! وما أَعظَمَها مِن حَقيقةٍ أَصِيلةٍ! وهكذا نَرَى كيفَ أنَّها صُحبةٌ كَرِيمةٌ وجَلسةٌ مُبارَكةٌ وسَعادةٌ خالِدةٌ في مِثلِ هذه الضِّيافةِ الفانِيةِ.. أفيَحسَبُ مَن لم يَفْهَمْ هذا نَفسَه إنسانًا؟!
[وقت العشاء]
وعِندَ وَقتِ العِشاءِ: ذلك الوَقتِ الَّذي تَغِيبُ في الأُفُقِ حتَّى تلك البَقِيّةُ الباقِيةُ مِن آثارِ النَّهارِ، ويُخَيِّمُ اللَّيلُ فيه على العالَمِ، فيُذَكِّرُ بالتَّصَرُّفاتِ الرَّبّانيّةِ لـ”مُقَلِّبِ اللَّيلِ والنَّهارِ”، وهو القَدِيرُ ذُو الجَلالِ في قَلبِه تلك الصَّحِيفةَ البَيضاءَ إلى هذه الصَّحِيفةِ السَّوداءِ.
ويُذَكِّرُ كذلك بالإجراءاتِ الإلٰهِيّةِ لـ”مُسَخِّرِ الشَّمسِ والقَمَرِ” وهو الحَكِيمُ ذُو الكَمالِ في قَلبِه الصَّحِيفةَ الخَضراءَ المُزيَّنةَ للصَّيفِ إلى الصَّحِيفةِ البَيضاءِ البارِدةِ للشِّتاء.
ويُذَكِّرُ كذلك بالشُّؤُونِ الإلٰهِيّةِ لـ”خالِقِ المَوتِ والحَياةِ” بانقِطاعِ الآثارِ الباقيةِ ــ بمُرُورِ الزَّمَنِ ــ لِأَهلِ القُبُورِ مِن هذه الدُّنيا وانتِقالِهم كُلِّـيًّا إلى عالَمٍ آخَرَ.
فهو وَقتٌ يُذَكِّرُ بالتَّصَرُّفاتِ الجَلاليّةِ، وبالتَّجَلِّياتِ الجَماليّةِ لِخالقِ الأَرضِ والسّماواتِ، وبانكِشافِ عالَمِ الآخِرةِ الواسِعِ الفَسِيحِ الخالِدِ العَظِيمِ، بمَوتِ الدُّنيا الضَّيِّقةِ الفانيةِ الحَقِيرةِ، ودَمارِها دَمارًا تامًّا بسَكَراتِها الهائلةِ.. إنَّها حالةٌ تُثبِتُ أنَّ المالِكَ الحَقيقيَّ لهذا الكَونِ بلِ المَعبُودَ الحَقيقيَّ والمَحبُوبَ الحَقيقيَّ فيه لا يُمكِنُ أن يكُونَ إلَّا مَن يَستَطِيعُ أن يُقَلِّبَ اللَّيلَ والنَّهارَ والشِّتاءَ والصَّيفَ والدُّنيا والآخِرةَ بسُهُولةٍ كسُهُولةِ تَقلِيبِ صَحائفِ الكِتابِ، فيَكتُبُ ويُثبِتُ ويَمحُو ويُبَدِّلُ، وليس هذا إلَّا شَأْنَ القَدِيرِ المُطلَقِ النّافِذِ حُكمُه على الجَمِيعِ جَلَّ جَلالُه.
وهكَذا، فرُوحُ البَشَرِ الَّتي هي في مُنتَهَى العَجْزِ وفي غايةِ الفَقْرِ والحاجةِ، والَّتي هي في حَيرةٍ مِن ظُلُماتِ المُستَقبَلِ وفي وَجَلٍ مِمّا تُخفيه الأَيّامُ واللَّيالي، تَدفَعُ الإنسانَ عندَ أَدائِه لِصَلاةِ العِشاءِ ــ بهذا المَضمُونِ ــ ألّا يَتَردَّدَ في أن يُرَدِّدَ على غِرارِ سيِّدِنا إبراهيمَ عَليهِ السَّلام: ﴿لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ﴾، فيَلتَجِئَ بالصَّلاةِ إلى بابِ مَن هو المَعبُودُ الَّذي لم يَزَلْ ومَن هو المَحبُوبُ الَّذي لا يَزالُ، مُناجِيًا ذلك الباقيَ السَّرمَدِيَّ في هذه الدُّنيا الفانيةِ، وفي هذا العالَمِ الفاني، وفي هذه الحَياةِ المُظلِمةِ والمُستَقبَلِ المُظلِمِ، لِيَنشُرَ على أَرجاءِ دُنياه النُّورَ مِن خِلالِ صُحْبةٍ خاطِفةٍ ومُناجاةٍ مُؤَقَّتةٍ، ولِيُنوِّرَ مُستَقبَلَه ويُضَمِّدَ جِراحَ الزَّوالِ والفِراقِ عَمّا يُحِبُّه مِن أَشياءَ ومَوجُوداتٍ ومِن أَشخاصٍ وأَصدِقاءَ وأَحبابٍ، بمُشاهَدةِ تَوَجُّهِ رَحْمةِ الرَّحمٰنِ الرَّحيمِ، وطَلَبِ نُورِ هِدايَتِه؛ فيَنسَى بدَوْرِه تلك الدُّنيا الَّتي أَنْسَتْه، والَّتي اختَفَتْ وَراءَ العِشاءِ، فيَسكُبُ عَبَراتِ قَلبِه، ولَوْعةَ صَدْرِه، على عَتَبةِ بابِ تلك الرَّحمةِ، لِيَقُومَ بوَظِيفةِ عُبُودِيَّتِه النِّهائيّةِ قبلَ الدُّخُولِ فيما هو مَجهُولُ العاقبةِ، ولا يَعرِفُ ما يُفعَلُ به بَعدَه، مِن نَومٍ شَبِيهٍ بالمَوتِ، ولِيَختِمَ دَفتَرَ أَعمالِه اليَوميّةِ بحُسنِ الخاتِمةِ.
[معنى القيام والركوع]
ولِأَجلِ ذلك كُلِّه يقُومُ بأَداءِ الصَّلاةِ، فيَتَشرَّفُ بالمُثُولِ أَمامَ مَن هو المَعبُودُ المَحبُوبُ الباقي، بَدَلًا مِنَ المَحبُوباتِ الفانيةِ، ويَنتَصِبُ قائمًا أَمامَ مَن هو القَدِيرُ الكَرِيمُ بَدَلًا مِن جَمِيعِ العَجَزةِ المُتَسَوِّلين، ولِيَسمُوَ بالمُثُولِ في حَضرةِ مَن هو الحَفِيظُ الرَّحِيمُ لِيَنجُوَ مِن شَرِّ مَن يَرتَعِدُ مِنهم مِنَ المَخلُوقاتِ الضّارّةِ.
فيَستَهِلُّ الصَّلاةَ بالفاتحةِ، أي: بالمَدْحِ والثَّناءِ لِرَبِّ العالَمِين الكَرِيمِ الرَّحِيمِ الَّذي هو الكامِلُ المُطلَقُ والغَنيُّ المُطلَقُ، بَدَلًا مِن مَدْحِ مَخلُوقاتٍ لا طائِلَ وَراءَها وغَيرِ جَدِيرةٍ بالمَدحِ وهي ناقِصةٌ وفَقيرةٌ، وبَدَلًا مِنَ البَقاءِ تحتَ ذُلِّ المِنَّةِ والأَذَى؛ فيَرقَى إلى مَقامِ الضَّيفِ الكَرِيمِ في هذا الكَونِ، وإلى مَقامِ المُوَظَّفِ المَرمُوقِ فيه رَغمَ أنَّه ضَئِيلٌ وصَغِيرٌ بل هو مَعدُومٌ، وذلك بسُمُوِّه إلى مَرتَبةِ خِطابِ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، أي: انتِسابِه لِمالِكِ يومِ الدِّينِ ولِسُلطانِ الأَزَلِ والأَبَدِ، فيُقَدِّمُ بقَولِه: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ عِباداتِ واستِعاناتِ الجَماعةِ الكُبْرَى والمُجتَمَعِ الأَعظَمِ لِجَميعِ المَخلُوقاتِ طالبًا الهِدايةَ إلى الصِّراطِ المُستَقِيمِ الَّذي هو طَرِيقُه المُنَوَّرُ المُوصِلُ إلى السَّعادةِ الأَبَدِيّةِ عَبْرَ ظُلُماتِ المُستَقبَلِ بقَولِه: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾.
ويَتَفكَّرُ في كِبْرِيائِه سُبحانَه وتَعالَى، ويَتَأمَّلُ في أنَّ هذه الشُّمُوسَ المُستَتِرةَ الَّتي هي كالنَّباتاتِ والحَيَواناتِ النّائِمةِ الآنَ، وهذه النُّجُومَ المُنتَبِهةَ، جُنُودٌ مُطِيعةٌ مُسَخَّرةٌ لِأَمرِه جَلَّ وعَلا، وأنَّ كلَّ واحِدٍ مِنها ما هو إلا مِصباحٌ في دار ضِيافَتِه هذه، وكلَّ واحِدٍ مِنها خادِمٌ عامِلٌ.. فيُكَبِّرُ قائلًا: “اللهُ أَكبَرُ” لِيَبلُغَ الرُّكُوعَ.
[معنى السجود]
ثمَّ يَتَأمَّلُ بالسَّجْدةِ الكُبْرَى لِجَميعِ المَخلُوقاتِ كيف أنَّ أَنواعَ المَوجُوداتِ في كلِّ سنةٍ، وفي كلِّ عَصْرٍ ــ كالمَخلُوقاتِ النّائِمةِ في هذا اللَّيلِ ــ بل حتَّى الأَرضَ نَفسَها وحتَّى العالَمَ كُلَّه، إنَّما هو كالجَيشِ المُنَظَّمِ، بل كالجُندِيِّ المُطِيعِ، وعِندَما تُسَرَّحُ المَخلُوقاتُ مِن وَظِيفَتِها الدُّنيَوِيّةِ بأَمرِ: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾، أي: عِندَما تُرسَلُ إلى عالَمِ الغَيبِ تَسجُدُ في مُنتَهَى النِّظامِ في الزَّوالِ على سَجّادةِ الغُرُوبِ مُكَبِّرةً: “اللهُ أَكبَرُ”، وهي تُبعَثُ وتُحشَرُ كذلك في الرَّبيعِ بنَفسِها أو بمِثلِها، بصَيحةِ إحياءٍ وإيقاظٍ صادِرٍ مِن أَمرِ ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾، فيَتَأَهَّبُ الجَميعُ في خُضُوعٍ وخُشُوعٍ لِأَمرِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ.. فهذا الإنسانُ الضَّعِيفُ اقتِداءً بتلك المَخلُوقاتِ، يَهوِي إلى السُّجُودِ أَمامَ دِيوانِ الرَّحمٰنِ ذِي الكَمالِ والرَّحِيمِ ذِي الجَمالِ قائلًا: “اللهُ أَكبَرُ” في حُبٍّ غامِرٍ بالإعجابِ وفي فَنائيّةٍ مُفعَمةٍ بالبَقاءِ وفي ذُلٍّ مُكَلَّلٍ بالعِزِّ.
فلا شَكَّ يا أَخِي أنْ قد فَهِمتَ أنَّ أَداءَ صَلاةِ العِشاءِ سُمُوٌّ وصُعُودٌ فيما يُشبِهُ المِعراجَ، وما أَجمَلَها مِن وَظِيفةٍ! وما أَحلاها مِن واجِبٍ! وما أَسماها مِن خِدْمةٍ! وكذا ما أَعَزَّها وأَلذَّها مِن عُبُودِيّةٍ! وما أَلْيَقَها مِن حَقِيقةٍ أَصِيلةٍ!
أي: أنَّ كلَّ وَقتٍ مِن هذه الأَوقاتِ إشاراتٌ لِانقِلابٍ زَمَنيٍّ عَظِيمٍ، وأَماراتٌ لِإجراءاتٍ رَبّانيّةٍ جَسِيمةٍ، وعَلاماتٌ لإِنعاماتٍ إلٰهِيّةٍ كُلِّـيّةٍ.. لِذا فإنَّ تَخصِيصَ صَلاةِ الفَرضِ الَّتي هي دَينُ الفِطرةِ في تلك الأَوقاتِ هو مُنتَهَى الحِكمةِ.
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
﴿اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّم عَلَى مَن أَرسَلتَهُ مُعَلِّمًا لِعِبَادِكَ، لِيُعَلِّمَهُم كَيفِيَّةَ مَعرِفَتِكَ والعُبُودِيَّةِ لَكَ، ومُعَرِّفًا بِكُنُوزِ أَسمَائِكَ، وتَرجُمَانًا لِآيَاتِ كِتَابِ كَائِنَاتِكَ، ومِرآةً بِعُبُودِيَّتِهِ لِجَمَالِ رُبُوبِيَّتِكَ؛ وعَلَى آلِهِ وصَحبِهِ أَجمَعِينَ؛ وارحَمنَا وارحَمِ المُؤمِنِينَ والمُؤمِنَاتِ.. آمِينَ بِرَحمَتِكَ يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ﴾.
❀ ❀ ❀