الطريق إلى الله

هل ذِكْر الله بغير حضور قلب ينفع؟

أنوار الذكر تسري إلى اللطائف وإن لم يشعر الذاكر

هل ذكر الله بغير حضور قلب ينفع؟تلاوة القرآن ذكر الله حضور القلب الخشوع
أنوار الذكر تسري إلى اللطائف وإن لم يشعر الذاكر

هل ذكرُ الله بغير حضورِ قلب ينفع؟

سؤالٌ يسأله كلُّ ذاكرٍ لله تعالى أو تالٍ للقرآن الكريم.

يتفق أهل العلم على أن ذكر الله مع حضور القلب هو الأكمل، فإنْ لم يتيسر ذلك للمرء فإن مجرد تحريك اللسان بالذكر وتلاوة القرآن حسنة بحد ذاتها، لأنه يشغله عن ارتكاب المعاصي والقبائح، ولأنه أيضًا خير من السكوت.

تَزيد رسائل النور هذه الإجابة بيانًا وعمقًا، ونلخص جوابها في فقرتين:

أولًا: الذكر مع الغفلة لا يخلو من المدد

يقول الأستاذ في المثنوي:

«اعلم أن في الذاكرِ لطائفَ مختلفةً في الاستفاضة..

بعضُها يتوقف على شعور العقل والقلب..

واستفادةُ بعضٍ لاشعوريٍّ تَحْصُل من حيث لا يُشعَر؛

فالذِّكْرُ مع الغفلة أيضًا لا يَخلو من الإفاضة».

[المثنوي العربي النوري، رسالة «حَبَاب»، ص 184]

❀  ❀  ❀

ثانيًا: تجربة تكشف استمداد اللطائف بالذكر

يتحدث الأستاذ النورسي رحمه الله في موضعٍ آخر من رسائل النور عن تجربته في هذا الخصوص.

فقد سأل سائلٌ: بما أن اللفظ لباسٌ للمعنى، أفليس من الأنفع أن تقوم كل طائفةٍ بترجمة ألفاظ الأذكار والتسبيحات إلى لغتها، فتذكرَ الله بلسانها مستحضرةً المعنى في أثناء الذكر؟

أجاب الأستاذ النورسي بالقول:

«إن الألفاظ القرآنية، والأذكار والتسبيحات المأثورة، تُنوِّر شتى جوانب اللطائف المعنوية للإنسان وتغذيه معنويًّا.. وإنَّ ألفاظ الكلمات القرآنية والتسبيحات النبوية ليست لباسًا جامدًا يقبل التبديل والتغيير، وإنما مَثَله مثل الجلد الحي للجسد، بل لقد أصبحت فعلًا جلدًا حيًا بمرور الزمن، ولا جدال في أنَّ تبديل الجلد وتغييرَه يضر الجسم.

ثم إنَّ تلك الكلمات المباركة في الصلاة، والذكر، والأذان، أصبحت اسمًا وعَلَما لمعانيها العُرفية والشرعية ولا يمكن تبديل الاسم والعلَم.

ولقد توصلتُ إلى هذه الحقيقة بعد التأمل في حالةٍ مرت عليَّ، وهي أني عندما كنت أقرأ يوم عرفة سورة الإخلاص مئة مرة مكرِّرًا إياها باستمرار، لاحظتُ أنَّ قسمًا من حواسي الروحية اللطيفة، بعدما أخذت غذاءها بالتكرار قد مَلَّت وتوقفت؛

وأن قوة التفكير فيَّ قد توجهت إلى المعنى، فأخذتْ حظَّها ثم توقفت وملَّت.

وأن القلب الذي يتذوق المعاني الروحية ويدركها، هو أيضًا قد سكت بعدما أخذ نصيبه من التكرار.

بينما بالمواظبة والتكرار المستمر على القراءة رأيت أنَّ قسمًا من اللطائف في الكيان الإنساني لا يملّ بسرعة، فلا تضره الغفلةُ التي تضر قوةَ التفكير.

بل تستمر تلك اللطائف في أخذ حظها من غير حاجةٍ إلى التدقيق والتفكر في المعنى، إذ يكفيها المعنى العرفي الذي هو اسمٌ وعلَم، ويكفيها اللفظ والمعنى الإجمالي لتلك الألفاظ الغنية المشبِعة، بل إن توجُّه التفكُّر إلى المعنى ربما يورث سآمةً ومللًا، لأن تلك اللطائف لا تحتاج إلى تعلُّمٍ وتفهيمٍ بقدر ما تحتاج إلى التذكر والتوجيه والحث.

لذا فإن اللفظ الذي هو أشبه بالجلد يكفي لتلك اللطائف وفي أداء وظيفة المعنى، وخاصة أنَّ تلك الألفاظ العربية هي مبعث فيض دائم، إذ تُذكِّر بالكلام الإلهي والتكلم الرباني.

فهذه الحالة التي جربتُها بنفسي تبين لنا أنَّ التعبير بأي لغةٍ كانت غير اللغة العربية، عن حقائق الأذان وتسبيحات الصلاة، وسورة الإخلاص والفاتحة التي تتكرر دائما، ضارٌ جدًّا. ذلك لأن اللطائف الدائمة تبقى محرومةً من نصيبها الدائم بعد أن تَفقد المنابعَ الحقيقية الدائمية التي هي الألفاظ الإلهية والنبوية. فضلًا عن أنه يضيع في الأقل عشر حسنات لكل حرف. ولعدم دوام الطمأنينة والحضور القلبي لكل واحد في الصلاة، تبعث التعابيرُ البشرية المترجَمة عند الغفلة ظلمتَها في الروح.. وأمثالها من الأضرار الأخرى.

فتلك الألفاظ التي هي مستودع منابع تلك الأنوار؛ أما معانيها التي لابد أن يفهمها كل مؤمن، فإن أي شخص عامي يمكنه أن يفهم ويتعلم مجمل معانيها في أقصر وقت.

فكيف يُعذر ذلك المسلم الذي يقضي عمره مالئًا فكرَه وعقله بما لا يعنيه من الأمور ولا يصرف جزءًا ضئيلًا من وقته لفهم تلك المعاني التي هي مفاتيحُ حياته الأبدية وسعادته الدائمة؟ بل كيف يعتبر من المسلمين وكيف يقال عنه أنه إنسان عاقل!!

ثم إنه عندما يقول أي مؤمن، بأي لغةٍ يتكلم: “سبحان اللّٰه” فإنه يعلم أنه يقدس ربَّه جل وعلا.. ألا يكفي هذا القدر؟! بينما إذا حصر اهتمامَه بالمعنى المجرد، بلسانه الخاص، فإنه لا يتعلم إلَّا حسب تفكيره وعقله، الذي يأخذ حظَّه ويفهم مرة واحدة، والحال أنه يكرر تلك الكلمة المباركة أكثر من مائة مرة يوميًّا، ففضلًا عن ذلك الفهم العقلي فإن المعنى الإجمالي الذي سَرى في اللفظ وامتزج معه هو مبعث أنوار وفيوضات كثيرة جدًّا، ولا سيما أن تلك الألفاظ العربية لها أهميتُها وقداستُها وأنوارها وفيوضاتها، حيث إنها كلام إلهي.

[رسائل النور، المكتوبات، المكتوب السادس والعشرون، المسألة 8]

❀  ❀  ❀

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى