حين تكون الأولوية للدنيا على الآخرة
تفسير عملي لقوله تعالى: (الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويبغونها عوجًا)
يتحدث الأستاذ النورسي عن آفةٍ تمثل علامة فارقة يمتاز بها زماننا هذا.. فقد كتب في رسالة إلى بعض إخوانه قائلًا:
«إخواني.. لقد صعَّب هذا العصرُ العجيبُ الحياةَ الدنيوية، وكثَّر شروطَ العيش وشدَّدها، وصَيَّر الحاجاتِ غيرَ الضرورية ضروريةً بسبب الإلف والاعتياد، وبسبب تقليد الآخرين ومحاكاتهم، فجعل غايةَ كلِّ شخصٍ وأعظمَ مقاصده على الدوام: حياتَه ومعيشتَه، فأقام بذلك سدًّا أمام الحياة الدينية والأبدية والأخروية، وأخَّرها إلى درجةٍ ثانية أو ثالثة؛ ولقد تلقى الإنسان صفعةً قاسيةً شديدةً جزاءَ خطيئته هذه، إذِ استحالت دنياه جحيمًا.
والحال أن بعض أهل الدين يقعون في ورطةٍ كبيرةٍ من جرَّاء هذه المصيبة المروِّعة، ولا يَعُونَ الأمر على وجهه.
فمن ذلك أني رأيت بعض الأفاضل من أهل الدين والتقوى قد عقدوا معنا أوثق الصلات، يرغب أحدهم في الدين ويحب العمل به رجاءَ أن يوفَّق في حياته الدنيوية ويلقى التيسير في أموره، بل يرغب في الطريقة الصوفية طلبًا للكشف والكرامات!! بمعنى أنه يجعل من رغبته في الآخرة وما فيها من ثمراتِ الوظائف الدينية دعامةً للحياة الدنيوية وسُلَّمًا للوصول إليها، ولا يدري أن الفوائد الدنيوية المترتبة على الحقائق الدينية، وهي حقائقُ عليها مدارُ السعادتين الدنيوية والأخروية، إنما شأنها أن تكون بمنزلة المرجِّح والمشوِّق لا غير، فإن هي بلغت مرتبةَ أن تكون العلةَ أو المقصِدَ من عمل الخير بطَلَ العمل، أو اختلَّ الإخلاص على الأقل، وفات الثواب.
وإن ثمة أربعين ألفِ شاهدٍ يشهدون أن النور الذي نشرتْه رسائل النور بموازينها وموازناتها، مُخَلِّصٌ من وباء هذا العصر المريض المتوحش المشؤوم وبلائه، وهو خيرُ منقذٍ من ظلمه وظلماته، فمن كانوا قريبين من دائرة رسائل النور فلم يدخلوها كان احتمال وقوعهم في التهلكة قويًّا».
[سيرة بديع الزمان، حياته في قسطمونو، 380 – 381]
❀ ❀ ❀