الشعاع الخامس عشر: الحجة الزهراء [2/2]
[هذا المقام الثاني من الشعاع الخامس عشر يتضمن ثلاثة نماذج للمنظار الإيماني إلى الوجود، وسبيل التعرف على الله من خلال مظاهر العلم والإرادة والقدرة]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

[المقام الثاني]
[ثلاثة عوالم دخلها السيّاح بخياله وهي حقيقة]
المقام الثاني
من الحجة الزهراء
﴿بسم اللّٰه الرحمن الرحيم﴾
﴿وبه نستعين﴾
إن حقيقة واحدة من آية الختام لسورة الفاتحة تشير إلى الموازنة بين أهل الهداية والاستقامة وأهل الضلالة والطغيان، والآية هي منبع جميع الموازنات والمقايسات المعقودة في رسائل النور، وهذه الموازنة يبيّنها بوضوح وبأسلوب عجيب ويعبّر عنها تعبيرًا معجزًا قولُه تعالى في سورة النور:
﴿اللّٰه نور السموات والارض مثل نوره كمشكاةٍ فيها مصباحُ المصباحُ في زجاجةٍ الزجاجةُ كأنّها كوكبٌ دُرِّيٌّ يوقَدُ من شجرةٍ مباركةٍ﴾ إلى آخر الآية.
والذي بعده: ﴿أو كظلماتٍ في بحرٍ لُجّيّ يغشيهُ موجٌ من فوقه موجٌ..﴾ إلى آخر الآية.
فالآية الأولى، آية النور تتوجه بعشر إشارات إلى رسائل النور وتنظر إليها، كما أُثبت في الشعاع الأول، مخبرةً خبرًا مستقبليًّا معجِزًا عن ذلك التفسير للقرآن الكريم.
ولما كانت هذه الآية الكريمة أهمَّ سببٍ من أسباب إطلاق اسم “النور” على رسائل النور، وبناءً على بيانِ معجزةٍ معنويةٍ لهذه الآية العظيمة، كما في السياحة الخيالية التمثيلية لبيان معجزة “ن” نعبد، في قسم من المكتوب التاسع والعشرين.. فإن سائح الدنيا في رسالة “الآية الكبرى” الذي سأل جميع الكائنات وأنواعَ الموجودات أثناء بحثه عن خالقه ووجدانه له ومعرفته إياه، وعرَفه بثلاث وثلاثين طريقًا وببراهين قاطعة بعلم اليقين وعين اليقين، فإن السائحَ نفسه قد ساح بعقله وقلبه وخياله في أجواءِ طبقات العصور والأرض والسماوات، دون أن يصيبه تعبٌ أو نصب، بل ما زال يسيح ليشفي غليلَه حتى ساح في أرجاء الدنيا الواسعة كلها، فبحث عن جميع نواحيها كمن يسيح في مدينة، مستندًا بعقله أحيانًا إلى حكمة القرآن وتارةً إلى حكمة الفلسفة كاشفًا بمنظار الخيال أقصى الطبقات، إلى أن رأى الحقائق كما هي في الواقع، فأخبر عن قسم منها في تلك الرسالة “الآية الكبرى”.
وها نحن نبين بيانًا مختصرًا جدًّا ثلاثةَ عوالم فقط من تلك العوالم والطبقات الكثيرة التي دخلها السائح بسياحةٍ خيالية، والتي هي عين الحقيقة، إلّا أنها ظهرت في معنى التمثيل وفي صورته.
نبين هذه العوالم كنماذجَ وأمثلةٍ فحسبُ للموازنة الموجودة في ختام سورة “الفاتحة” وكمثال من حيث القوة العقلية وحدها، أما سائر مشاهداته وموازناته فنحيلها إلى الموازنات المعقودة في رسائل النور.
[النموذج الأول: عالَم كرة الأرض]
النموذج الأول هو: أن ذلك السائح الذي لم يأت إلى الدنيا إلّا ليجد خالقَه وليعرفه، خاطب عقله قائلًا:
لقد سألنا كلَّ شيء عن خالقنا، وأخذنا جوابًا شافيًا وافيًا، ولكن كما يرد في المثل: “ينبغي سؤال الشمس عن الشمس نفسها”، فعلينا الآن أن نقوم بسياحة أخرى لأجل معرفة خالقنا من تجليات صفاته الجليلة “كالعلم والإرادة والقدرة”، ومن آثاره البديعة ومن جلَوات أسمائه الحسنى، فدخل الدنيا لهذا الغرض، وركب سفينة الأرض فورًا كأهل الضلال الذين يمثلون تيارًا آخر، وقلَّد نظارة العلم والفلسفة غيرِ المقيدة بحكمة القرآن، ونظر من خلال منظار منهج الجغرافيا غير المسترشد بالقرآن، فرأى أن الأرض تسيح في فضاء غير محدود، وتقطع في سنة واحدة دائرةً تبلغ أربعة وعشرين ألف سنة، بسرعة تزيد على سرعة انطلاق القذيفة بسبعين مرة، وقد حَمَلت على مناكبها مئاتِ الألوف من أنواع ذوى الحياة العاجزة الضعيفة، فلو تاهت لِدقيقة واحدة وضيّعت طريقها أو اصطدمت بنجمة سائبة، تبعثرت متساقطة في فضاء غير محدود، وألقت ما عليها من الأحياء الضعيفة وأفرغتها في العدم والعبث والضياع!! فاستشعَرَ ظلماتٍ معنويةً رهيبة خانقة كظلماتٍ في بحرٍ لُجِّيٍّ تنبعث من هذا الفهم الذي في تيار ﴿المَغْضُوبِ عَلَيْهِم﴾ و﴿الضَّالِّينَ﴾.
فقال من أعماقه: يا حسرتاه! ماذا عملنا؟ لِمَ ركبنا هذه السفينة المرعبة؟ وكيف النجاة منها؟ فقذف نظارةَ تلك الفلسفة العمياء وكَسَرَها، ودخل تيارَ ﴿الذين أنعمت عليهم﴾ وإذا بحكمة القرآن تغيثه مُسَلِّمَةً إلى عقله منظارًا يبين الحقيقة كاملة، قائلة له: انظر الآن.. فنظر ورأى أن اسم ﴿رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ قد أشرق من بُرجِ قوله تعالى: ﴿هو الذي جعل لكم الأرض ذلولًا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه﴾..
وجعل الأرضَ سفينة آمنة سالمة تمخر عباب بحر الكون الواسع بانتظام دقيق، دائرةً حول الشمس لأجل حِكَم كثيرة ومنافعَ شتى، مشحونةً بذوي الحياة وما يلزمها من أرزاق، وهي تجلب محاصيل المواسم للمحتاجين إلى الرزق، ونَصَب سبحانه وتعالى ملَكين اثنين يسميان بـ”الثور والحوت” مَلَّاحَين وقائدَين لتلك السفينة، فيُجريانها في سياحة عبر المملكة الربانية التي هي في منتهى الهيبة والروعة، لتستجمَّ مخلوقاتُ الخالق الجليل وضيوفُه في فضاء هذا الكون الواسع؛ وهكذا تُبيِّن هذه السياحة المهيبة حقيقةَ ﴿اللّٰه نور السموات والأرض﴾ حيث تُعرِّف خالقَها بتجلي هذا الاسم.
وبعدما أدرك السائح هذا المعنى من مشاهدته الأرضَ ردَّد من أعماق روحه ووجدانه: ﴿الحمد للّٰه رب العالمين﴾، ودخل ضمن طائفة ﴿الذين أنعمت عليهم﴾.
[النموذج الثاني: عالَم الإنسان والحيوان]
النموذج الثاني من العوالم التي شاهدها ذلك السائح هو أنه بعدما غادر ذلك السائح سفينةَ الأرض، دخل عالَمَ الإنسان والحيوانات.
فنظر إلى العالَم بمنظار الحكمة الطبيعية غير المستلهِمة للحياة والروح من الدين، فرأى أن حاجاتٍ غيرَ محدودة لذوي حياة لا يُحصَون، وأعداءً غير محدودين محيطون بهم يؤذونهم ويُلحِقون بهم أضرارًا جسيمة في حوادثَ قاسيةٍ لا رحمة فيها، وهم لا يملكون من رأس المال إلّا واحدًا من ألف، بل واحدًا من مائة ألفٍ إزاء تلك الحاجات، وليس في اقتدارهم تجاه تلك الأمور والأشياء المضرة إلّا واحد من مليون!
فتألم السائح أمام هذه الحالة التي تثير الرثاء والرهبة والألم -لما يحمل الإنسان من علاقات الرقة الجنسية والشفقة النوعية والعقل- وتألّم لحالهم ألمًا شديدًا، وحَزِن عليهم حزنًا يُشعره بآلام اليأس كالعذاب الشديد في جهنم، فنَدِم ألفَ ندمٍ على دخوله هذا العالم الحزين النكد.
وإذ هو يكابد هذه الآلام ويعاني منها ما يعاني إذا بحكمة القرآن الكريم تُمِدُّه وتسعفه، مسلِّمة له مِنظارَ ﴿الذين أنعمت عليهم﴾ قائلة له: انظر.. فنظر ورأى أن كل اسم من أسماء اللّٰه الحسنى أمثال: الرحمن، الرحيم، الرزاق، المنعم، الكريم، الحفيظ، قد أشرق كالشمس الساطعة، وذلك بتجلي: ﴿اللّٰه نور السموات والأرض﴾، عند بروج الآيات الكريمة: ﴿ما من دابة إلّا هو آخذ بناصيتها﴾، ﴿وكأيّن من دابة لا تحمل رزقها اللّٰه يرزقها وإياكم﴾، ﴿ولقد كرّمنا بني آدم﴾، ﴿إن الأبرار لفي نعيم﴾.
فانغمرت دنيا الإنسان والحيوان بتلك الرحمة السابغة والإحسان العميم حتى كأنها تحولت إلى جنة مؤقتة؛ فعلم السائح أن هذه الدنيا بما فيها تُعرِّف تعريفًا جيدًا المُضيِّف الكريم لهذا المَضيف الجميل الجديرِ بالمشاهَدة، المليء بالعبر، فحَمِد اللّٰه سبحانه ألف حمدٍ قائلًا: الحمد للّٰه رب العالمين.
[النموذج الثالث: عالَم السموات]
النموذج الثالث من سياحة السائح التي تحوى مئات من مشاهداته:
إن ذلك السائح في الدنيا، الذي يريد معرفة خالقه، من خلال تجليات أسمائه الحسنى وصفاته الجليلة، خاطب عقله وخياله قائلًا: هيا لنصعد إلى السماوات العلى كالأرواح والملائكة، تاركين أجسادنا في الأرض، ولنسأل عن خالقنا أهلَ السماوات.
فركب العقلُ الفكرَ والروحُ الخيالَ، وصعِدوا جميعًا إلى السماء متخذين علمَ الفلك مرشدَهم، ونظروا بمنظار ﴿الضالين.. المغضوب عليهم﴾ أي بمنظار الفلسفة التي لا تعير للدين بالًا، فشاهد السائح أن آلاف الأجرام والنجوم المستطيرة نارًا وَتَكْبُرُ الأرضَ ألف مرة وتنطلق وتجري متداخلة أسرعَ من سرعة القذائف مائة مرة، وهي جامدة لا شعور لها، كأنها سائبة، حتى إن ما أخطأت إحداها سبيلَها لدقيقةٍ واحدةٍ مصادفةً واصطدمت مع أخرى لا شعور لها اختلط الحابل بالنابل، وعمّت الفوضى، وحدث ما يشبه القيامة في ذلك العالَم غير المحدود.
فما من جهة نظر إليها السائح إلّا وأورثته الوحشةَ والدهشة والحيرة والخوف، فندم على صعوده إلى السماء ألف ندم، إذ قد اختل العقل والخيال واضطربا كليًّا، حتى لَيقولان: إننا لا نريد معرفة مثل هذه المعاني القبيحة الأليمة المعذِّبة كعذاب جهنم، بل نربأ بأنفسنا حتى عن مشاهدتها، لأن وظيفتنا الأساس رؤية الحقائق الجميلة وإراءتها، وإذ يقولان هكذا إذا بتجلٍّ مِن: ﴿اللّٰه نور السموات والأرض﴾، أشرقت الأسماء الإلهية: “خالق السماوات والأرض” و”مسخِّر الشمس والقمر” و”رب العالمين” وأمثالها.. أشرقت كالشمس من بروج الآيات الكريمة: ﴿ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح﴾، ﴿أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّناها﴾ و﴿ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات﴾، فملأت أنوار تلك الأسماء السماوات كلها بالنور والملائكة، وحوَّلتها إلى مسجد عظيم وجامع كبير ومعسكر مهيب، فدخل ذلك السائح ضمن طائفة ﴿الذين أنعمت عليهم﴾ ونجا من ظلماتٍ ﴿كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ﴾.
وإذا به يرى مملكة جميلة مهيبة منسقة كالجنة.. فترقت قيمةُ العقل والخيال وسَمَت وظائفهما ألف درجةٍ لما شاهدا في كل جانبٍ منها من يُعرِّف بالخالق الجليل.
وهكذا ننهي هذا البحث الواسع مكتفِين بهذه الإشارة القصيرة جدًّا، مُحِيلِينَ سائر مشاهدات السائح في الكون إلى رسائل النور قياسًا على هذه النماذج الثلاثة المذكورة من بين مئات النماذج لدى سياحته لمعرفة واجب الوجود من خلال تجليات أسمائه تعالى.
[التعرف على الله من خلال تجليات العلم والإرادة والقدرة]
ونحاول بإشارة في منتهى الاختصار معرفةَ خالق الكون -كمعرفة ذلك السائح- وذلك من خلال آثارِ وتجلياتِ صفات “العلم” و”الإرادة” و”القدرة” فقط بين الصفات السبع الجليلة لخالقنا، ومن حُجج تَحقُّق تلك الصفات الثلاث الجليلة، ونحيل تفاصيلها إلى رسائل النور.
إن الفقرة العربية الآتية هي وردي التفكري الدائم المستخلَص من خلاصة الحزب النوري العربي، التي تُبيِّن ثلاث مراتب من المراتب الثلاث والثلاثين لجملةِ “اللّٰه أكبر”، فنشير ضمن شرحها وما يشبه ترجمتها بإشارات قصيرة إلى ما أشغل كثيرًا علماء الكلام وعلماء العقائد من معرفة تلك الصفات بتجلياتها في الكون والتصديق بها بإيمان راسخ بعين اليقين، فهذه الفقرة العربية تفتح سبيلًا إلى الإيمان الكامل بتلك الصفات الثلاث -بعلم اليقين- على وجود واجب الوجود ووحدانيته بدرجة البداهة:
﴿بسم اللّٰه الرحمن الرحيم: وقل الحمدُ للّٰه الذي لَم يتخِذ ولَدًا ولم يكُن لهُ شريكٌ في الملكِ ولم يكن لهُ وليٌّ منَ الذلِّ وكبِّرهُ تكبيرًا﴾.
الله أكبرُ من كل شيء قدرةً وعلمًا، إذ هو العليمُ بكل شيءٍ بعلمٍ محيطٍ لازمٍ ذاتيٍّ 1وللّٰه المثل الأعلى: كلزوم الضياء المحيط للشمس. (المؤلف) للذاتِ يَلزم الأشياءَ، لا يمكنُ أن ينفكّ عنهُ شيء بسر الحضور والشهود والإحاطة النورانية، وبسر استلزام الوجود للمعلومية، وإحاطة نور العلم بعالم الوجود.
نعم، فالانتظامات الموزونة.. والاتزانات المنظومة.. والحِكَم القصدية العامة.. والعنايات المخصوصة الشاملة.. والأقضية المنتظمة.. والأقدار المثمرة.. والآجال المعينة والأرزاق المقننة.. والإتقانات المفننة.. والاهتماماتُ المزينة.. وغاية كمال الانتظام والانسجام والاتساق والإتقان والاتزان والامتياز، المطلقات في كمال السهولة المطلقة.. دالّاتٌ على إحاطةِ علمِ علّام الغيوب بكل شيء: ﴿ألاَ يعلمُ من خلقَ وهوَ اللّطيفُ الخبيرُ﴾.
فنسبةُ دلالةِ حُسْنِ صنعةِ الإنسان على شعور الإنسان إلى نسبةِ دلالةِ حُسْنِ خلقة الإنسان على علم خالق الإنسان: كنسبةِ لُمَيعةِ نُجَيمة الذبيبة في اللّيلة الدّهماء إلى شعشعة الشّمس في رابعة النّهار.
نشير بإشارات قصيرة إلى “العلم الإلهي” هذه الحقيقة الإيمانية الجليلة، ضمن ترجمة قصيرة جدًّا لهذه الفقرة العربية مُحيلين تفاصيلها إلى رسائل النور، فنقول2لقد كُتب القسم الثاني أثناء مكابدةِ مرض رهيب لم أره طوال حياتي من جراء تسمم، فأرجو النظر إلى تقصيراتي بنظر المسامحة، ويستطيع “خسرو” أن يصلح ويبدل ويعدل ما يراه غير مناسب. (المؤلف).:
نعم، كما أن الرحمةَ تُبيِّن نفسَها كالشمس بأرزاقها العجيبة، وتُثبِت بدلالةٍ قاطعةٍ أن وراء ستار الغيب رحمانًا رحيمًا، كذلك “العلم” الذي اتخذ موقعًا ضمن مئات الآيات القرآنية، والذي هو -من جهةٍ- أُولى الصفات السبع الجليلة يُبيِّن نفسه كضوء الشمس بثمراتِ وحِكَمِ النظام والميزان، ويَدُلُّ على وجودِ عليمٍ بكل شيء دلالةً مطلقة.
نعم، إن نسبة دلالةِ حُسْنِ صنعةِ الإنسان المنتظمة المقدّرة على شعوره وعلمه، ودلالةِ حُسْنِ خلق الإنسان في أحسن تقويم على علمِ خالق الإنسان وحكمته جل وعلا: كنسبة لُمَيعة اليراعة في الليلة الدهماء إلى شعشعة الشمس في رابعة النهار.
[شرح التحيات]
والآن قبل الخوض في بيان دلائل العلم الإلهي، فإن دلالة تجليات تلك الصفة المقدسة في أنواع الكائنات على الذات المقدسة دلالة واضحة جدًّا قد شهد عليها وتضمنها الحوارُ الذي دار ليلة المعراج النبوي، لدى حظوته (ﷺ) بالحضور والخطاب الإلهي لَمَّا قال:
“التحيات المباركات الصلوات الطيبات للّٰه” باسم جميع ذوي الحياة وأنواع المخلوقات، حيث هو مبعوثٌ ورسول، فقدَّم إلى خالقه الجليل هدايا جميعِ ذوي الحياة، في طرازِ معرفةِ جميع تلك المخلوقات ربَّها بتجليات العلم، قال ذلك في موضع السلام وبدلًا عن جميع ذوي الشعور.
أي إن الطوائف الأربع لجميع ذوي الحياة تُقدِّم بالكلمات الأربع: “التحيات المباركات الصلوات الطيبات” وبتجليات العلم الأزلي الأبدي، تحياتِها وتهانيَها وعبوديتَها ومعرفتها الجميلة الطيبة إزاء علام الغيوب، لذا غدتْ قراءةُ هذه المحاورة المعراجية المقدسة بمعناها الواسع فرضًا على جميع المسلمين في التشهد.
نبين معنى من معاني تلك المحاورة السامية بأربع إشارات مختصرة جدًّا مُحِيلين إيضاحها إلى رسائل النور.
[1: التحيات لله]
الكلمة الأولى: هي “التحيات للّٰه”.
ومعناها باختصار هو:
إذا ما صَنَعَ صَنَّاعٌ ماهرٌ ماكنةً خارقة، بما يملك من علمٍ واسعٍ وذكاءٍ خارق، فإن كلَّ مَن يشاهد تلك الماكنة العجيبة يهنئ ذلك الصَنَّاعَ تهنئةَ تقديرٍ وإعجاب، ويقدم له هدايا وتحيات مادية ومعنوية مع ثناء مفعم بالاستحسان، والماكنةُ بدورها تهنئ وتبارك صناعَها بلسان الحال وتقدم هدايا وتحيات معنوية له، وذلك بإظهار رغباتِ ذلك الصَّنَّاع كاملة، وعرضِ خوارقِ صنعته الدقيقة وإبرازِ حذاقته العلمية.
كذلك فإن جميع طوائف ذوي الحياة في الكائنات كلها، بل كلُّ طائفة منها، وكل فرد من أفرادها، إنما هي ماكنةٌ معجزة بكل جوانبها، تهنئ صانعَها الجليل الذي يعرّف نفسه بجلوات علمه الواسع الذي يبصر علاقة كل شيء بأي شيء كان، ويوصل إليه كلَ ما يلزم حياته في وقته، تهنّئه وتزجي إليه بالتحيات وتباركه بقولها: “التحيات للّٰه” بألسنة أحوال حياتها، كما تهنئه ألسنةُ أقوالِ ذوي الشعور كالإنس والجن والملك، فيقدّم جميعُ ذوي الحياة ثمنَ حياتهم مباشرة بمعنى العبادة إلى خالقهم الذي يعلم أحوال المخلوقات كلها، فعبّر الرسول الكريم محمد (ﷺ) لدى حضوره أمام الواجب الوجود في ليلة المعراج باسم جميع ذوي الحياة بقوله: “التحيات للّٰه” بدلًا من السلام، مقدِّمًا تحياتِ طوائفِ جميع ذوي الحياة وهداياهم وسلامهم المعنوي.
نعم، إن كانت ماكنةٌ منتظمةٌ اعتياديةٌ تدل على صانع ماهر حاذق بتركيبها المنظم الموزون، فإن كل ماكنة من المكائن الحية التي تملأ الكون، والتي لا تعد ولا تحصى، تُظهر إذن ألفَ معجزةٍ ومعجزة عِلمية، ولا شك أن ذوي الحياة يَدُلُّون على وجوب وجود صانعهم السرمدي وعلى معبوديته بتجليات العلم التي هي كضوء الشمس بالنسبة لدلالة تلك الماكنة التي هي كضوء اليراعة.
[2: المباركات]
الكلمة الثانية السامية من كلمات المعراج: هي “المباركات”.
لما كانت الصلاة معراج المؤمن كما هو ثابت في الحديث الشريف، وفيها أنوار تجليات المعراج الأعظم، وأن سائح الدنيا قد وجد خالقه العلّام للغيب بصفة العلم في كل عالَم، فنحن كذلك ندخل مع ذلك السائح عالَم المباركات الواسع والذي يستنطق الآخرين بالتبريك والتهنئة، ونحاول أن نَعرِف خالقنا بعلم اليقين -مثل ذلك السائح- من خلال التجليات المعجزة الدقيقة للصفة الإلهية الجليلة، صفةِ العلم، وذلك أثناء مشاهدة ذلك العالَم، عالَمِ المباركات ومطالعته، ولا سيما صغار ذوي الأرواح اللطيفين المباركين الأبرياء، والنوى والبذور التي هي عُليبات تضم مقدَّرات ذوي الحياة وبرامجها.
نعم، إننا نشاهد بأبصارنا أن جميع أولئك الصغار اللطيفين الأبرياء وتلك المخازنِ والعُليبات المباركة، تنتفض جميعُها وكلُّ فردٍ منها دفعةً بعلمِ عليمٍ حكيمٍ للمضي إلى ما خُلق لأجله، حتى تستنطق تلك الحركات كلَ ناظر إليها بنظر الحقيقة بالقول: بارك اللّٰه، ما شاء اللّٰه.. ألف ألف مرة.
نعم، فالنُطف مثلًا والبيوض والبذور والنوى، كل منها ضمن نظام دقيق آت من العلم.. وأن ذلك النظام ضمن ميزان آت من مهارة كاملة.. وذلك الميزان ضمن تنظيم جديد.. وهذا ضمن مكيال ووِزان جديد.. وهذا بدوره ضمن تربية.. وتمييز.. وعلامات فارقة مقصودة عن متشابهات أمثالها.. وهذه ضمن تزيينٍ وتجميلٍ متقن.. وهذا أيضًا ضمن أجهزة كاملة وتصوير ملائم دقيق حكيم.. وهذه ضمن اختلاف لحوم تلك المخلوقات والثمرات وما يؤكل منها، لإشباع المحتاجين إلى الرزق إشباعًا كريمًا بما ينسجم أذواقهم.. وهذا أيضًا ضمن نقوش وأشكال من الزينة المتباينة زُيِّنت بعلم وإعجاز.. وهذه ضمن روائح طيبة متنوعة.. وطعوماتٍ لذيذة متباينة، بحيث إن انكشاف صور جميع تلك المخلوقات وتمايزَ بعضها عن بعض بكمال الانتظام بلا خطأ ولا سهو في سرعة مطلقة.. وَوُسْعَة مطلقة.. مع أنها في كثرة مطلقة.. ودوام تلك الحالة الخارقة في كل موسم: يجعل كلَّ فردٍ والأفرادَ جميعًا يَظهرون بهذه الألسنة الخمسة عشرة العلم الإلهي، ويلفتون الأنظار إلى المهارة الخارقة لربهم، ويَدُلُّون بها على علمه المعجز، فيُعرِّفون بجلاءٍ كالشمس صانعَهم الواجبَ الوجود، علامَ الغيوب.
فشهادتهم هذه الواسعةُ الساطعة جدًّا وتهانيهم وتقديرهم لصانعهم، هي التي عبّر عنها النبي (ﷺ) الذي تكلم باسم جميع المخلوقات في ليلة المعراج وقال: “المباركات” بدلًا عن السلام.
[3: الصلوات]
الكلمة الثالثة: وهي “الصلوات”.
إن مائة مليونٍ من أهل الإيمان يعلنون تلك الكلمة المقدسة التي قيلت في المعراج المحمدي الأكبر، وتقال في تشهد الصلاة التي هي المعراج الخاص للمؤمن، في كل يوم في الأقل عشر مرات، باتّباعهم الرسول الكريم (ﷺ) يعلنونها في أرجاء الكون كله مقدِّمين إياها إلى الحضرة الربانية.
وبناء على البيان الواضح والإثبات القوي القاطع في رسالة المعراج “الكلمة الحادية والثلاثين” وإيضاحِها جميعَ حقائق المعراج، حتى إزاء خطابها للملحد المنكِر المتعنت، نُحيل تفاصيل البحث وحججه إلى تلك الرسالة، إلّا أننا نشير إشارة في منتهى الاختصار إلى المعنى الواسع لهذه الكلمة المعراجية الثالثة، والذي يبينه العوالمُ العجيبة لطوائف ذوي الأرواح والمشاعر، فنشاهد تلك العوالم محاوِلين معرفةَ وحدانيةِ خالقنا ووجودِه وكمالِ رحمانيته ورحيميته وعظمةِ قدرته وشمول إرادته، وذلك من خلال تجليات العلم الأزلي.
نعم، إننا نشاهد في هذا العالم أن كلَّ ذي روحٍ يستشعر بالأحاسيس وبالفطرة -وإن لم يكن بالشعور والعقل- أنه يعاني عجزًا وضعفًا لا يُحَدَّان بحدودٍ مع أن أعداءه وما يؤلمه لا يُعدّون، وأن كلًّا منهم يتقلب في فقر وحاجة لا حدود لهما مع أن حاجاته ومَطالِيبَه لا حدّ لها، ولما كان اقتداره ورأس ماله لا يكفي لواحدٍ من ألف منها، تراه يستغيث ويبكي بكل ما يملك من قوة، ويتضرع فطرةً وضمنًا، وإذ يلتجئ إلى ديوانِ عليمٍ قديرٍ بصوته الخاص وبلسانه الخاص وبدعواتٍ وصلواتٍ وتوسلاتٍ وتضرعاتٍ ونوعٍ من صلواتٍ خاصة به، إذا بنا نشاهد أن قديرًا حكيمًا عليمًا مطلقًا يَعلَم كلَّ حاجة من حاجات أولئك الأحياء ويقضيها لهم، ويبصر كل داء من أدوائهم ويسعفها لهم، ويَسمع كل نداءٍ ودعاءٍ يدعونه فطرةً ويستغيثون به ويستجيب لهم، فيُحوِّل سبحانه وتعالى بكاءهم إلى ابتساماتٍ حلوة، ويبدل استغاثاتهم إلى أنواع من الحمد والشكر.
إن هذا المدد المتسم بالحكمة والعلم والرحمة يدل دلالةً واضحة -بتجليات العلم والرحمة- على المجيب المغيث الرحيم الكريم، فجميع الصلوات والعبادات التي تنطلق من هذه العوالم، عوالمِ ذوي الأرواح، الصاعدة إلى ذلك المجيب المغيث قد عَبّر عنها -بهذا المعنى- وقدَّمها وخصَّصها محمدٌ (ﷺ) في المعراج الأكبر، ويُردِّدها كلُّ مؤمن في المعراج الأصغر في كل صلاةٍ بـ”الصلوات الطيبات للّٰه“.
[4: الطيبات لله]
الكلمة الرابعة السامية: وهي “الطيبات للّٰه”.
لما كانت حقائقُ كثيرةٌ لرسائل النور تتخطر على قلبي في أذكار الصلاة، فقد رأيتُني كأنني أنساق -بناء على هذه الحكمة- إلى بيانِ حقائقِ كلمات سورة الفاتحة والتشهد بإشارات قصيرة دون اختيار مني.
وهكذا فالكلمة القدسية: “الطيبات” التي قيلت في المعراج المحمدي التي تحوي معاني الطيبات التي لاتحد، والمنطلقة من الإنس والجن والملك والروحانيين الذين هم أهل المعرفة والإيمان والشعور الكلي، والذين يُجمِّلون الكون بأسره بطيِّباتهم وحسناتهم وعباداتهم الجميلة المتوجهة كلِّها إلى عالم الجميلات، والذين يدركون إدراكًا كاملًا الجمالاتِ والمحاسنَ التي لا تحد للجميل المطلق السرمدي، والجمالَ الدائم لأسمائه الحسنى التي تُجمِّل الكون، فيقابِلون بالعبادات الكلية المفعمة بالعشق والشوق، وبالروائح الطيبة العطرة للإيمان الساطع وللمعارف الواسعة وللحمد والثناء التي يقدمونها تجاه خالقهم الجليل..
وبحكم هذا المعنى الواسع لتلك الطيبات التي لا تحد، وبمضمون ما قيل في المعراج، تُكرِّر الأمة كلُّها تلك الكلمةَ المقدسة في التشهد يوميًّا دون ملل ولا سأم.
نعم، إن هذا الكون مرآةٌ تعكس الجمال السرمدي والحسن غير المحدود، بل تجلياتِه سبحانه، وما في الكون من جمالٍ وحُسْنٍ آتٍ من ذلك الحسن السرمدي، ويتجمل بالانتساب إليه فيرقى ويعلو.. إذ لولا ذلك الانتساب لتحول الكون إلى مأتم موحش وأخلاط ودمار وفوضى ضاربة الأطناب.
ويُدرَك ذلك الانتساب بمعرفة الإنس والجن والملك والروحانيين وبتصديقهم، وهم الدعاة الأدلّاء إلى سلطنة الألوهية، حتى إن الحمد الجميل والثناء الحسن الذي يرفعه أولئك الدعاة ونَشْرَ ثنائهم على معبودهم وكلماتهم إلى كل ناحية في الكون وإلى العرش الأعظم تقف إزاءها ذرات الهواء على أهبة الاستعداد لأداء هذه المهمة وكأنها ألسنة ناطقة مصغرة وآذان صاغية صغيرة، لأجل تقديم تلك الكلمات الطيبات إلى الحضرة الإلهية.. فخطر إلى قلبي أن هناك احتمالًا قويًّا بمنح تلك المهمة الخارقة جدًّا والعجيبة إلى الهواء.
وهكذا فكما أن الإنس والمَلَك يُعرِّفون المعبود الجليل بإيمانهم وعباداتهم، كذلك الحكيم ذو الجلال يُعرِّف نفسه تعريفًا ظاهرًا ساطعًا بما أودع من استعداداتٍ جامعةٍ كثيرة في الدعاة، وبما جهّزهم به من أجهزةٍ بديعةٍ خارقة، وبما فيهم من دقائق علمية، وجَعَل كلًّا منهم ذا ارتباط مع الكون بأسره، وكأن كلًّا منهم كونٌ مصغَّر.
فمثلًا: إنّ خلق القوة الحافظة والخيالية والمفكرة وأمثالها من المكائن العجيبة في موضعٍ صغيرٍ في دماغ الإنسان لا يتجاوز حجم جوزةٍ واحدة، وجَعْلَ القوة الحافظة بمثابة مكتبة ضخمة، يُبيِّن أنه سبحانه وتعالى يُظهِر نفسه بتجليات العلم الأزلي بيانًا واضحًا كالشمس في رابعة النهار3إن مرضي الشديد جدًّا لا يسمح بالإيضاح، وما كتبته إنما هو مصدر ومساعدة لمهمة “خسرو” في الترجمة ليس إلّا. (المؤلف).
[دلائل العلم الأزلي]
والآن نشير بإشارات في منتهى الإيجاز إلى فحوى الفقرة العربية المذكورة في مقدمة هذا البحث المشيرة إلى الحجج الكلية للعلم المحيط، وهي حجة عظيمة تضم ما لا يحد من البراهين وتُبيِّن العلم الأزلي بخمسة عشر دليلًا.
[الدليل الأول: الانتظامات الموزونة]
فالدليل الأول من الأدلة الخمسة عشر: هو: (فالانتظامات الموزونة).
أي إن التناسق المقدَّر قدَره والمشاهَد في المخلوقات جميعًا، وكذا الانتظام الموزون فيها يشهدان على علمٍ محيطٍ بكل شيء.
نعم، إنه ابتداءً من جميع الكون الذي هو كقصر بديع منسَّق الأجزاء، ومن المنظومة الشمسية، ومن عنصر الهواء الذي تنشر ذراتُه الكلماتِ والأصوات نشرًا يبعث على الحيرة والإعجاب، ويُبيِّن انتظامًا بديعًا، ومن سطح الأرض الذي يهيئ ثلاثمائة ألف نوع من الأنواع المختلفة في كل ربيع وفي أتم نظام وأكمل انتظام.. إلى كل جهاز من أجهزةِ كلِّ كائنٍ حي، بل إلى كل عضو فيه، بل إلى كل حُجَيْرةٍ من جسمه، بل إلى كل ذرة من ذرات جسمه.. كلُّ ذلك إنما هو أثرُ علمٍ لطيف محيط بكل شيء، لا يضل ولا ينسى.
نعم، إن وجود هذا النظام الموزون والانتظامِ الأتم في كل ما ذُكر يَدُلُّ دلالةً قاطعةً ويُبيِّن بوضوحٍ تامٍّ علمًا محيطًا بكل شيء ويشهد له.
[الدليل الثاني: الاتزانات المنظومة]
الدليل الثاني: هو (الاتزانات المنظومة).
أي إن وجود ميزانٍ في منتهى الانتظام، ومكيالٍ في منتهى الاتزان في جميع المصنوعات التي في الكون -جزئيِّها وكُلِّيِّها- ابتداءً من السيارات الجارية في الفضاء إلى الكُرَيَّات الحُمْر والبيض السابحة في الدم، إنما يَدُل بالبداهة على علمٍ محيطٍ بكل شيء، ويشهد عليه شهادة قاطعة.
نعم، إننا نشهد مثلًا أن أعضاء الإنسان أو الذباب وأجهزتَه، بل حتى حجيرات جسمه وكريات دمه الحمرَ والبيض: قد وُضعت في موضعها الملائم المناسب والمنسجم، بميزان حساس جدًّا، وبمكيال دقيق جدًّا، ينسجم انسجامًا تامًّا بعضُه مع البعض الآخر ومع سائر أعضاء الجسم.. بحيث يدل دلالة قاطعة على أن من لا يملك علمًا محيطًا بكل شيء لا يستطيع أن يعطي تلك الأوضاع إلى تلك الأشياء ولا يمكن له ذلك بحال من الأحوال.
وهكذا فإن جميع ذوي الحياة وأنواع المخلوقات من الذرات إلى سيارات المنظومة الشمسية هي في موازنة تامة لا تتعثر قيد أنملة، ويَحكُمها جميعًا مكيالٌ منظم، مما يدل دلالة قاطعة على علم محيط بكل شيء ويشهد شهادة صادقة عليه.
بمعنى أن كل دليل من دلائل العلم دليل أيضًا على وجود العليم الخبير، إذ محالٌ وجودُ صفةٍ بلا موصوف، فجميع حُجج العلم الأزلي حجة قوية أيضًا على وجوب وجوده سبحانه وتعالى.
[الدليل الثالث: الحِكَم القصدية العامة]
الدليل الثالث: وهو (والحِكَم القصدية العامة).
أي إن حِكَمًا مقصودة بعلم، تُناط بكل مصنوع، وبكل طائفة في الكون الذي تجرى فيه الخلاقية الدائمة والفعالية المستمرة والتبدل الدائم والإحياء المستمر والتوظيف والتسريح المستديمان، تلك التي لها من الفوائد والوظائف بحيث لا يمكن إسنادها إلى المصادفة قطعًا، فنشاهد أنه من لا يملك علمًا محيطًا لا يمكن أن يكون مالكًا لأيّ منها وفي أية جهة كانت من حيث الإيجاد.
فمثلًا: اللسان جهاز واحد من مائة جهاز من أجهزة الإنسان، الذي هو واحد مما لا يحد من الأحياء، هذا اللسان عبارة عن قطعة لحم ليس إلّا، ولكنه يكون وسيلة لمئات من الحِكَم والنتائج والثمرات والفوائد بأدائه وظيفتين مهمتين:
فأداؤه لوظيفةِ تذوّقِ الأطعمة: هو إبلاغه الجسم والمعدة بعلمٍ عن جميع اللذائذ المتنوعة لكل نوعٍ من أنواع الأطعمة، وكونُه مفتشًا حاذقًا على مطابخ الرحمة الإلهية..
وأداؤه لوظيفة الكلمات: هو كونه مترجمًا أمينًا ومركزًا لبَثِّ ما يدور في القلب وما يراود الروح والدماغ من أمور.. كل ذلك يدل دلالة في منتهى السطوع والقطعية على علمٍ محيط لا شك فيه..
فلئن كان لسانٌ واحد يدل دلالةً إلى هذا الحد بما فيه من حِكم وثمرات، فإن ألسنةً غيرَ متناهية وذوي حياة غيرَ معدودين ومصنوعاتٍ لا منتهى لها تدل بلا شك دلالة أوضحَ من الشمس وتشهد شهادة أبيَن من النهار على علم لانهاية له، وتعلن جميعها أنه لا شيء خارجٌ عن دائرة علمِ علَّام الغيوب ولا خارجٌ عن مشيئته جل وعلا.
[الدليل الرابع: العنايات المخصوصة الشاملة]
الدليل الرابع هو: (والعنايات المخصوصة الشاملة).
أي إن أنواع العناية والشفقة والرعاية الخاصة المناسِبة لكل نوعٍ بل لكل فرد، والشاملة جميع ما في عالم الأحياء وذوي الشعور: تَدُلُّ دلالةً بدهيةً على علمٍ محيط، وتَشهَد شهاداتٍ لا حدَّ لها على وجوبِ وجودِ عليمٍ ذي عناية يَعلم أولئك الذين نالوا تلك العنايات ويعلم حاجاتهم.
تنبيه: إن إيضاح كلمات الفقرة العربية التي هي زبدةُ خلاصة الخلاصة لرسائل النور المترشحة من القرآن الكريم هو إشارة إلى ما استفاضته رسائلُ النور من الحقائق المنبعثة من لمعات آيات القرآن الكريم، ولا سيما الدلائل والحجج التي تخص “العلم” و”الإرادة” و”القدرة”، بحيث تفسِّر باهتمامٍ بالغٍ ما تشير إليه هذه الكلمات العربية من دلائل علمية؛ بمعنى أن كلًّا منها عبارةٌ عن بيانٍ لنكتةٍ وإشارةٌ لآيات قرآنية كريمة، وإلّا فهي ليست تفسيرًا لتلك الكلمات العربية وبيانها وترجمتها.
نرجع إلى الموضوع الذي نحن بصدده:
نعم، إننا نشاهد بأبصارنا أن عليمًا رحيمًا يَعرفنا ويعلم بحالنا وأحوال جميع ذوي الأرواح فيشملهم جميعًا بشفقته وحمايته، ويأخذهم تحت كنف رحمته عن معرفةٍ وبصيرة، ويوفي حاجاتِ كلٍّ منهم ومطاليبَه، فيغيثه بعنايته ورأفته.
نورد مثالًا واحدًا من بين أمثلته غير المحدودة: فالعنايات الخاصة والعامة والواردة من حيث رزق الإنسان وما يحتاجه من أدوية ومعادن تبين بيانًا جليًّا علمًا محيطًا، وتَشهد على الرحمن الرحيم بعدد الأرزاق والأدوية والمعادن.
نعم، إن إعاشةَ الإنسان، ولا سيما العاجزين والصغار الضعاف، وبخاصة إيصالَ الرزق إلى أعضاء الجسم المحتاجة إليه من مطبخ المعدة، حتى إلى حجيراته، كل بما يناسبه.. وكذا جَعْلَ الجبال الشوامخ مخازنَ للمعادن ومداخرَ أدويةٍ يحتاجها الإنسان، وأمثالَها من الأفعال الحكيمة، لا يمكن أن تحصل إلّا بعلم محيط بكل شيء.
فالمصادفة العشواء والقوة العمياء والطبيعة الصماء والأسباب الجامدة الفاقدة للشعور والعناصر البسيطة المستولية، لا يمكن أن تتدخل قطعًا في مثل هذه الإعاشة والإدارة والحماية والتدبير المتسمة بالعلم والبصر والحكمة والرحمة والعناية، فليست تلك الأسباب الظاهرية إلّا ستارًا لعزة القدرة الإلهية، بأمر العليم المطلق، وبإذنه، وضمن دائرة علمه وحكمته.
[الدليل الخامس والسادس: الأقضية المنتظمة والأقدار المثمرة]
الدليل الخامس والسادس: وهما: (والأقضية المنتظمة والأقدار المثمرة).
أي إن أشكال كل شيء، ولا سيما أشكال النباتات والأشجار والحيوانات والإنسان ومقاديرَها: قد فُصِّلت تفصيلًا متقنًا بدساتيرِ نوعَي العلم الأزلي، وهما القضاء والقدر، وخِيْطت بما يلائم قامة كلٍّ منها ملاءمةً تامة، وأُسبِغَت على كلٍّ منها فأُعطي لها شكل منتظم في غاية الحكمة، فكل شيء من هذه الأشياء وجميعها معًا تدل على علم لا نهاية له، وتَشهد بعددها على صانع عليم.
لنأخذ من أمثلتها غير المحدودة مثالًا واحدًا: شجرة واحدة، أو إنسان فرد، فنشاهد أن هذه الشجرة المثمرة وهذا الإنسان الحامل لأجهزة كثيرة قد رُسمت حدودُ ظاهرِه وباطنه بفَرْجارٍ غيبيٍّ وقلمِ علمٍ دقيق، إذ أُعطي بانتظام تام لكل عضو من أعضائه ما يناسبه من صورة لتثمر ثمراتِها وتنتج نتائجها وتؤدي وظائف فطرتها.
ولما كان هذا لا يحدث إلّا بعلمٍ لا نهاية له، يحتاج إلى علم غير محدودٍ لصانعٍ مصوِّر وعليم مقدِّر يعلم العلاقة بين الأشياء كلِّها، ويحسب ارتباط كل شيء بالأشياء كلها، ويعلم جميع أمثال هذه الشجرة وهذا الإنسان، وجميع أنواعهما، ويقدّر بفرجارِ وقلمِ قضائه وقدر علمه الأزلي مقاديرَ خارجِه وباطنه، ويصوِّر صورته تقديرًا حكيمًا، وعلى بصيرة وعلم، أي إن الدلائل والشهادات على وجوب وجوده سبحانه وعلى علمه المطلق هي بعدد النباتات والحيوانات.
[الدليل السابع والثامن: الآجال المعينة والأرزاق المقننة]
الدليل السابع والثامن: وهما: (والآجال المعينة والأرزاق المقننة).
إن الآجال والأرزاق اللذَين يبدوان بظاهر الأمر كأنهما مبهمان وغيرُ معيَّنَين، إلّا أنهما في الواقع مقدَّران تحت ستار إبهامٍ في دفتر القضاء والقدر الأزلي، وفي صحيفة المقدّرات الحياتية، فالأجل المحتوم لكل ذي حياة مقدرٌ ومعيَّن لا يتقدم ساعة ولا يتأخر، ورزقُ كل ذي روحٍ قد عُيِّن وخُصِّص، ومكتوبٌ كلُّ ذلك في لوح القضاء والقدر.
وهناك ما لا يحد من الأدلة على هذا الحِكم، منها:
أن موت شجرة ضخمة وتوريثها بذيراتِها التي هي بمثابة نوع من روحها، للقيام بمهامها التي كانت تؤديها، لا يتم إلّا بقانونٍ حكيم لعليم حفيظ.
وأن ما يتدفق من الأثداء من لبن خالص رزقًا للصغير، وخروجَه من بين فرثٍ ودمٍ دون اختلاط أو امتزاج، صافيًا طاهرًا، وسيلانه إلى فمه، لَيَردُّ ردًّا قويًّا احتمالَ وقوعهِ بالمصادفة، ويبيّن تحققَه في غاية القطعية أنه من جراء دستور ذي شفقة موضوعة من لدن رزاق عليم رحيم؛ وقس سائر ذوي الحياة وذوي الأرواح على هذين النموذجين الجزئيين.
ففي حقيقة الأمر إن الأجل معيَّن مقدر، والرزق كذلك، وقد أُدرجا في سجل المقدَّرات، وجُعِل كل منهما معينًا، ولكنهما يبدوان -في الظاهر- متواريين خلف الغيب، ومتعلقين في خيوط الإبهام غير المرئية، ويَظهران كأنهما غير معيَّنَين فعلًا، وكأنهما مشدودان إلى المصادفة.. كل ذلك لأجل حكمة دقيقة وفي غاية الأهمية!
إذ لو كان الأجل معينًا كغروب الشمس، لكان الإنسان يقضي شطر عمره في غفلة مطبِقة، ويضيّعه عازفًا عن السعي للآخرة، ثم يتورط في الشطر الآخر بخضمِّ المخاوف المذهلة، ويكون كمن يخطو خطوةً كلَّ يومٍ نحو أعواد المشانق، ولكانت المصيبة المندرجة في الأجل تتضاعف بالمئات.
ولأجل هذا السر الدقيق أُبقيت المصائب -التي تعاود الإنسان عادةً- تحت ستار الغيب، بل حتى إن أجلَ الدنيا الذي هو القيامة قد أخفاه سبحانه -رحمةً منه ورأفةً- خلف حجاب الغيب للسبب نفسه.
أما الرزق، فلكونه أعظم خزينة تَفيض بالنعم بعد نعمة الحياة.. وأغنى منبع يفعم بالشكر والحمد.. وأجمعَ كنـز للعبودية والدعاء وضروب الرجاء، فقد عُرض في صورته الظاهرة كأنه مبهمٌ ومشدود إلى المصادفة؛ وذلك لئلا يوصد باب طلب الرزق بالدعاء من الرزاق الكريم في كل حين، ولئلا ينغلق باب الالتجاء والتوسل المشفَّعة بالحمد والشكر للّٰه تعالى، إذ لو كان الرزق معيَّنًا كشروق الشمس وغروبها، لكانت ماهيتُه متغيرة كليًّا، ولكانت أبواب الرجاء ومنافذ التضرع ومعارج الدعاء الملفّعة كلها بالشكر الجميل والرضى الحسن قد انسدت عن آخرها، بل لكانت أبواب العبودية الخاشعة الضارعة قد انغلقت نهائيًّا.
[الدليل التاسع والعاشر: الإتقانات المفننة والاهتمامات المزينة]
الدليل التاسع والعاشر: وهما: (والإتقانات المفننة والاهتمامات المزينة).
أي إن كل مصنوع من جميع المخلوقات الجميلة المبثوثة على سطح الأرض كافة ولا سيما في موسم الربيع يُبيِّن تجلياتِ حُسنٍ سرمد وجمال خالد.
فخذ مثلًا: الأزاهير والثمرات والطُّوَيرات والحشرات، ولا سيما المذهّبة اللماعة؛ ففي خَلْقها وفي صورتها وفي أجهزتها من المهارة المعجزة والصنعة الدقيقة الخارقة والإتقان البديع والكمال المعجز لصانعها الجليل، في أشكال متنوعة وأنماط مختلفة ومكائن دقيقة ما يدل دلالة قاطعة على علمٍ محيطٍ بكل شيء ومَلَكةٍ علميةٍ ذات مهارات وفنون -إن جاز التعبير-، وتشهد شهاداتٍ صادقة على أن مداخلة المصادفة والأسباب المتشاكسة الفاقدة للشعور مُحالٌ في محال.
وإن عبارة “والاهتمامات المزيّنة” تفيد أن في تلك المصنوعات الجميلة تزيينًا لطيفًا حلوًا، وزينة فاخرة رائعة، وجمالَ صنعةٍ جاذبًا، فيفعل ما يفعل بعلم لا نهاية له، ويعلم أجمل حالة وألطف وضع لكل شيء، ويريد إظهار جمال كمال الإبداع وكمالَ جماله إلى ذوي الشعور، بحيث يَخلق أصغر زهيرة جزئية وأصغرَ حشرة، ويصورها باهتمام بالغ وبمهارة فائقة وبإتقان بديع.
فهذا التزيين والتجميل المتسم بالاهتمام والرعاية يدل بالبداهة على علمٍ محيطٍ بكل شيء، ويَشهد على وجوب وجود الصانع العليم ذي الجمال بعدد تلك المخلوقات الجميلة.
[الدليل الحادي عشر: غاية كمال الانتظام والاتزان والامتيازِ المطلقات في السهولة المطلقة]
الدليل الحادي عشر المتضمن لخمسة أدلة وخمس حجج:
(وغاية كمال الانتظام، الاتزان، الامتيازِ، المطلقات، في السهولة المطلقة..
وخلقُ الأشياء في الكثرة المطلقة مع الإتقان المطلق..
وفي السرعة المطلقة مع الاتزان المطلق..
وفي الوُسْعة المطلقة مع كمال حسن الصنعة..
وفي البُعْدَةِ المطلقة مع الاتفاق المطلق..
وفي الخلطة المطلقة مع الامتياز المطلق..)
هذا الدليل هو صياغة أخرى للدليل المذكور في ختام الفقرة العربية السابقة وأجملُ منها، وهو بيانٌ للدلائل الخمسة والستة الواسعة، نشير إليه بإشارة في منتهى الاختصار والقِصَر بسبب المرض الشديد.
أولًا: نشاهد على الأرض كافة أن صنعَ مكائن ذات حياة عجيبة، بكل سهولة ويسر دفعةً، نابعَين من علم كامل ومهارة تامة، بل صُنْع قسمٍ منها في دقيقة واحدة، وبشكل منسق موزون، مع فوارق عن مثيلاتها: يَدُل دلالة تامة على علمٍ لا نهاية له، وعلى كمال ذلك العلم بدرجة السهولة واليسر الناشئَين من المهارة العلمية في الصنعة.
ثانيًا: إنَّ خلق المخلوقات في غمرةِ الكثرة غير المتناهية والوفرة التي لا تحدها حدود، بإتقان وبلا خطأ ولا حيرة: يدل على علم لا حدّ له ضمن قدرة غير متناهية، ويشهد شهادات لا حدّ لها على العليم المطلق والقدير المطلق.
ثالثًا: إنّ خلق المخلوقات التي هي في غاية الميزان والمكيال في منتهى السرعة، يدل على علم لا حدود له، ويشهد بعدد تلك المخلوقات على العليم المطلق والقدير المطلق.
رابعًا: إنّ خلق ذوي حياة لا يحصرها العد، في وُسْعةٍ مطلقة تسع الأرض كلها، في أتم إتقان في الصنعة وفي أجمل زينة، وكمالِ حسن الصنعة: يَدل على علم محيط بكل شيء لا يضلّ ولا ينسى، ويرى الأشياء كلها دفعة واحدة، ولا يمنعه شيء عن شيء، ويشهد كل موجود – وجميعها معًا – على أنه مصنوعُ عليمٍ بكل شيء، وقديرٍ على كل شيء.
خامسًا: إن خلق أفراد الأنواع التي تفصل بينها مسافات هائلة، فأحدها في الشرق وآخر في الغرب، وآخر في الشمال وآخر في الجنوب، في وقت واحد، وعلى طراز واحد، متشابهًا متماثلًا، مع تميُّز كلٍّ منها عن الآخر في التشخص: لا يمكن أن يكون إلّا بقدرةِ قديرٍ مطلق القدرة يدير الكون بأسره بقدرته، وبعلم مطلق يحيط بالموجودات مع أحوالها، لذا فهذه المخلوقات تشهد شهادات لا حدود لها على علمٍ محيط بكل شيء وعلى علّام الغيوب.
سادسًا: إن خلق مكائن كثيرةٍ ذات حياةٍ في تميّزٍ خاصٍّ تامٍّ وعلاماتٍ فارقة عن مثيلاتها، مع أنها ضمن ازدحام شديد وفي أماكن مظلمة -كالنوى الموجودة تحت التراب- ومن دون التباس ولا خطأ ولا حيرة رغم أنها في اختلاط مطلق، وخَلْقَ جميع أجهزة كل منها بلا نقصان خلقًا معجزًا: يَدُلُّ دلالة واضحة كالشمس على علمٍ أزلي، ويشهد شهادة بينة كالنهار على ربوبيةِ وخلاقيةِ قديرٍ مطلق وعليمٍ مطلق.
[دلائل الإرادة الإلهية]
نختصر هذا البحث الطويل جدًّا محيلين تفاصيله إلى رسائل النور، ونبدأ الآن بمسألة “الإرادة” الموجودة في خلاصة الخلاصة.
(اللّٰه أكبر من كل شيء قدرة وعلمًا، إذ هو المريد لكل شيء، ما شاء اللّٰه كان وما لم يشأ لم يكن؛ إذ تنظيمُ إيجاد المصنوعات ذاتًا وصفاتٍ وماهيّةً وهويّة من بين الإمكانات الغير المحدودة والطرق العقيمة والاحتمالات المشوشة والأمثال المتشابهة، ومن بين سيول العناصر المتشاكسة، بهذا النظام الأدق الأرق، وتوزينُها بهذا الميزان الحسّاس الجسّاس، وتمييزُها بهذه الأمثال المتشابهة والتعيُّنات المزيَّنة المنتظمة، وخلْقُ المخلوقات المنتظمات الحيوية من البسيط الجامد الميت، كالإنسان بجهازاته من النطفة، والطيرِ بجوارحه من البيضة، والشجرةِ بأعضائها من النواة والحبة: تدل على أن كل شيء بإرادته تعالى واختياره وقصده ومشيئته سبحانه.
كما أن توافق الأشياء في أساسات الأعضاء النوعية والجنسية: يدل على أن صانع تلك الأفراد واحد أحد، كذلك إن تمايزها بالتعينات المنتظمة والتشخصات المتمايزة يدل على أن ذلك الصانع الواحد الأحد فاعل مختار يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد).
هذه الفقرة دليل واحد طويل وكلي من أدلة “الإرادة الإلهية” تتضمن حُججًا كلية كثيرة جدًّا، نبيّن -ضمن ترجمة فحواها ترجمةً مختصرة- دليلًا يثبت إثباتًا قاطعًا الإرادة الإلهية واختيارها ومشيئتها؛ فضلًا عن أن جميع دلائل “العلم الإلهي” المذكورة سابقًا هي بذاتها دليل على الإرادة الإلهية أيضًا، لأن جلوات “العلم والإرادة الإلهية” وآثارهما تشاهَدان معًا في كل مصنوع.
إن خلاصة الفحوى لهذه الفقرة العربية هي: أن كل شيء يحصل بإرادته ومشيئته سبحانه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، يفعل ما يشاء، ولا شيء ما لم يشأ.
[حجة: تمييز كل مصنوع بعلامات فارقة]
وحجة واحدة من حججها هي أننا نشاهد أن كل مصنوع من هذه المصنوعات متميزٌ بذاتٍ معينة وصفات مخصصة وماهيةٍ خاصة به، وصورةٍ ذات علامات فارقة متميزة؛ وبينما يمكن أن يكون كل هذه الأحوال ضمن إمكاناتٍ واحتمالات مشوشة لا حدّ لها، ويجري في طرقٍ عقيمة كثيرة خلال مداخلة سيول العناصر وضمن أمثاله المتشابهة الداعية على السهو والالتباس، فإن خلقه -إزاء هذه الحالات المضطربة المختلطة- ضمن نظام دقيق موزون ومنسق، وأَخْذَ كل عضو من أعضائه وأجهزته وفق ميزان حساس جساس كامل، وتمكين كلٍ منها في موضعه المناسب، وتقليده بوظائف، ومَنْح وجهِه سيماءً شخصيًا مزينًا جميلًا، وخَلْقَ أعضائه المتخالفة المتباينة من مادة بسيطة جامدة ميتة، حيّة متقنة الصنعة؛ كخلق الإنسان الحامل لمئات الأجهزة المتنوعة المتباينة في صور معجزة من قطرة ماء. وخَلْق الطير بأجهزة وجوارح مختلفة متنوعة من بيضة بسيطة، وإنشاء الشجرة بأغصانها الملتفة وأعضائها المتشابكة وأجزائها المتغايرة من بُذيرة صغيرة مركبة من أشياء بسيطة جامدة هي الكاربون والآزوت ومولد الحموضة ومولد الماء (الأوكسجين والهيدروجين)، وإضفاء شكل منظم ومثمر عليها.. يُثبت بلا شك وبالبداهة وبقطعية لا ريب فيها بل بدرجة الوجوب والضرورة واللزوم أن كل مصنوع من هذه المصنوعات يُعطَى له ذلك الوضعُ الخاص الكامل لجميع ذراته وأجهزته وصورته وماهيته، بإرادةِ قدير مطلق القدرة وبمشيئته واختياره وقصده جل وعلا، وأن ذلك المصنوع خاضع لحكم إرادة شاملة كل شيء.
[حجة: شهادة الموجودات بعدد أفرادها]
هذا وإن دلالة هذا المصنوع الواحد بما لا شك فيه على “الإرادة الإلهية” تبين أن جميع المصنوعات تشهد شهادة صادقة بليغة لا نهاية لها وبعدد أفرادها بقطعية ظاهرة كالشمس والنهار على “الإرادة الإلهية” الشاملة كل شيء، وأنها حجج قاطعة لا حدّ لها على وجوبِ وجودِ قديرٍ مريد.
[حجة: دلائل العلم هي دلائل للإرادة]
ثم إن جميع دلائل “العلم” المذكورة سابقًا هي دلائل “الإرادة الإلهية” أيضًا، إذ كلاهما يعملان مع “القدرة الإلهية” فلا ينفك أحدهما عن الآخر.
فكما أن توافق الأعضاء النوعية والجنسية لأفراد كل جنس ونوع يدل على أن صانعها واحد أحد، كذلك الاختلافات في ملامح وجوهها اختلافًا ذات حكمة، تدل دلالة قاطعة على أن ذلك الصانع الواحد الأحد، فاعل مختار، يخلق كل شيء بالإرادة والاختيار والمشيئة والقصد.
وهكذا فقد انتهى بيان الترجمة المختصرة للفقرة العربية المذكورة، الدالة دلالة كلية فريدة على “الإرادة الإلهية”.
كنت قد عزمت على كتابة نكات مهمة جدًّا تخص “الإرادة الإلهية” كما هي في مسألة “العلم الإلهي”، إلّا أن المرض الناشئ من التسمم قد ألحق إرهاقًا بدماغي، فأؤجلها إلى وقت آخر بمشيئة اللّٰه.
[دلائل القدرة الإلهية]
أما الفقرة التي تخص القدرة الإلهية فهي:
(اللّٰه أكبر من كل شيء قدرة وعلمًا، إذ هو القدير على كل شيء بقدرةٍ مطلقة محيطةٍ ضرورية ناشئة لازمة ذاتية للذات الأقدسية، فمحالٌ تداخلُ ضدها، فلا مراتب فيها، فتتساوى بالنسبة إليها الذراتُ والنجوم، والجزء والكل، والجزئي والكلي، والنواة والشجر، والعالَم والإنسان.. بسر مشاهدة غايةِ كمالِ الانتظام، الاتزانِ، الامتيازِ، الإتقانِ المطلقات.. مع السهولة في الكثرة والسرعة والخلطة المطلقة.. وبسر النورانية والشفافية والمقابلة والموازنة والانتظام والامتثال.. وبسر إمداد الواحدية ويُسر الوحدة وتجلي الأحدية. وبسر الوجوب والتجرد ومباينة الماهية.. وبسر عدم التقيد وعدم التحيز وعدم التجزؤ.. وبسر انقلاب العوائق والموانع إلى حُكْم الوسائل المسهِّلات.. وبسرِ أن الذرة والجزء والجزئي والنواة والإنسان ليست بأقلَّ صنعةً وجزالة من النجم والكل والكلي والشجر والعالم، فخالقها هو خالق هذه بالحدس الشهودي.. وبسر أن المحاط والجزئيات كالأمثلة المكتوبة المصغرة أو كالنقط المحلوبة المعصّرة، فلا بد أن يكون المحيط والكليات في قبضة خالق المحاط والجزئيات ليدرج مثالَها فيها بموازينِ علمه أو يعصّرها منها بدساتيرِ حكمته.. وبسرِّ كما أن قرآن العزّة المكتوب على الذرة المسماة بالجوهر الفرد بذرات الأثير ليس بأقل جزالة وخارقية صنعةٍ من قرآنِ العظمة المكتوب على صحيفة السماء بمداد النجوم والشموس، كذلك إن ورد الزهرة ليست بأقل جزالة وصنعة من دُرِّيِ نجمِ الزُهرة، ولا النملة من الفيلة، ولا المكروب من الكركدن، ولا النحلة من النخلة، بالنسبة إلى قدرة خالق الكائنات.
فكما أن غاية كمال السرعة والسهولة في إيجاد الأشياء أوقعت أهل الضلالة في التباسِ التشكيلِ بالتشكُّلِ المستلزم لمحالاتٍ غير محدودة تمجّها الأوهام، كذلك أثبتت لأهل الهداية تَساويَ النجوم مع الذرات بالنسبة إلى قدرة خالق الكائنات جلّ جلاله لا إله إلّا هو اللّٰه أكبر).
قبل الشروع ببيان فحوى مختصرٍ لهذه الفقرة العربية العظيمة التي تخص “القدرة الإلهية” والذي هو من قَبيلِ ترجمتِها ومضمونها، نُبيِّن حقيقةً أُخطرت إلى القلب، وهي أن وجود القدرة الإلهية أكثرُ قطعيةً من وجود الكون، بل إن جميع المخلوقات وكل مخلوق بالذات، كلماتٌ مجسَّمة لتلك القدرة، تُبيِّنها وتُظهرها بعين اليقين، وهي شهادات بعددها على موصوفها القدير المطلق، فلا داعي إذن إلى إثبات تلك القدرة بالحجج والبراهين، بل يلزم إثبات حقيقة جليلة تخص القدرة، والتي هي أساسٌ مهم في الإيمان، والحجر الأساس الرصين للحشر والنشور، والمدارُ اللازم لمسائلَ إيمانيةٍ كثيرة وحقائقَ قرآنيةٍ جليلة، والدعوى التي تعلنها الآية الكريمة: ﴿ما خلقكم ولا بعثكم إلّا كنفس واحدة﴾، والتي أعيت العقول دونها وظلت في حيرة وعجز، بل ضل قسم منها..
فذلك الأساس وذلك الحجر الزاوية وذلك المدار وتلك الدعوى وتلك الحقيقة هي معنى الآية الكريمة المذكورة.
أي أيها الجن والإنس.. إنّ خَلْقَكم جميعًا وبعثَكم يوم الحشر يسير على قدرتي يُسْرَ إيجادِ نفسٍ واحدة، فهو الذي يخلق الربيع بمثل خلقه زهرةً واحدة في سهولةٍ ويسر، فلا فرق بالنسبة لتلك القدرة بين الجزئي والكلي والصغير والكبير والقليل والكثير، فهي تُجري السيارات بسهولة إجرائها للذرات.
فتلك الفقرة العربية المذكورة تبين هذه المسألة الجليلة بحجة قوية قاطعة في تسع مراتب.
[المرتبة الأولى: الانتظام والاتزان مع السهولة والكثرة]
إن الفقرة الآتية تشير إلى أساس المراتب وتلخص باختصار شديد الفقرةَ العربية:
(إذ هو القدير على كل شيء بقدرة مطلقة محيطة ضرورية ناشئة لازمة ذاتية للذات الأقدسية، فمحالٌ تداخل ضدها، فلا مراتب فيها، فتتساوى بالنسبة إليها الذرات والنجوم، والجزء والكل، والجزئي والكلي، والنواة والشجر، والعالم والإنسان).
أي هو القدير على كل شيء بقدرةٍ محيطة بكل شيء، ولازمةٍ بلزومٍ ذاتي، وواجبة ضرورية ناشئة -كما في علم المنطق- للواجب الوجود، محالٌ انفكاكُها ولا يمكن ذلك قطعًا.
فما دامت مثل هذه القدرة لازمة بمثل هذا اللزوم للذات الأقدس، فلا شك أن العجز الذي هو ضد القدرة لا يدخلها بأية جهة كانت، فلا يكون عارضًا للذات الأقدس، وحيث إن وجود المراتب في شيء، هو بتداخلِ ضدِّه فيه -فمثلًا: مراتب الحرارة ودرجاتها هي بدخول البرودة، ودرجات الجمال هي بمداخلة القبح- فمحالٌ دنو العجز الذي هو ضده من هذه القدرة الذاتية، فلا بد أنْ لا مراتب في تلك القدرة المطلقة، وحيث لا مراتب فيها، تتساوى النجوم والذرات إزاءها، ولا فرق بين الجزء والكل والفرد الواحد وجميع نوعه والإنسان والكون بالنسبة لتلك القدرة، وإحياءُ نواة واحدة والشجرةِ الباسقة ونفسٍ واحدة وجميعِ ذوى الأرواح في الحشر سواءٌ إزاء تلك القدرة ويسيرٌ عليها، فلا فرق لديها بين الكبير والصغير والقليل والكثير، والشاهدُ الصادق القاطع على هذه الحقيقة هو ما نشاهده في خلق الأشياء من كمال الصنعة والنظام والميزان والتميز والكثرة في السرعة المطلقة مع السهولة المطلقة واليسر التام.
فهذه الحقيقة المذكورة هي مضمون المرتبة الأولى التي هي: (وبسر مشاهدة غاية كمال الانتظام، الاتزانِ، الامتيازِ، الإتقانِ المطلقات، مع السهولة المطلقة في الكثرة والسرعة والخلطة)
[المرتبة الثانية: سر النورانية والشفافية]
المرتبة الثانية: وهي: (وبسر النورانية والشفافية والمقابلة والموازنة والانتظام والامتثال)
نُحيل إيضاح هذه المرتبة وتفاصيلها إلى ختام “الكلمة العاشرة” وإلى “الكلمة التاسعة والعشرين” وإلى “المكتوب العشرين”، ونشير إليها هنا إشارة مختصرة:
نعم، كما أن دخولَ ضوء الشمس وصورتها -من حيث النورانية- بالقدرة الربانية في سطح البحر وفي حَبابه كلُّها يسيرٌ، كدخوله في قطعةٍ زجاجية، كلاهما سواء، كذلك القدرة النورانية لمن هو نور الأنوار، فإنَّ خلْقَها للسماوات والنجوم وتسييرها يسيرٌ عليها كخلق الذباب والذرات وتسييرِها، فلا يصعب عليها شيء.
وكما توجد -بخاصيةِ الشفافيةِ- صورةُ الشمس المثاليةُ في مرآة صغيرة وفي بؤبؤ العين بالقدرة الإلهية، فبالسهولة نفسها يُعطي ذلك الضوء وتلك الصور بالأمر الإلهي إلى جميع الأشياء اللماعة وإلى جميع القطرات وجميع الذرات الشفافة وإلى سطح البحار، كذلك فإن جلوة القدرة المطلقة وتأثيرها في إيجاد نفسٍ واحدة هو بالسهولة نفسها في خلقها الحيوانات كلها، حيث إن وجه الملكوتية والماهية للمصنوعات شفاف ولماع، فلا فرق بالنسبة إلى تلك القدرة بين القليل والكثير والصغير والكبير، وكما إذا وُضع جوزتان في كفتي ميزان حساس متقن يكيل الجبال، ثم وُضعت نواة صغيرة في إحدى الكفتين فإنها ترفعها بسهولة إلى قمة جبل وتخفض الأخرى إلى حضيض الوادي، وإذا ما وضع جبلان متساويان بدلًا عن الجوزتين، فإن أحد الجبلين يرتفع إلى السماوات وينخفض الآخر إلى أعماق الوديان بالسهولة نفسها فيما إذا وضعت في إحدى الكفتين نواة صغيرة.. كذلك: “الإمكان مساوي الطرفين” حسب تعبير علم الكلام، أي إن وجود الأشياء الممكنة والمحتملة -أي غير الواجبة والممتنعة- وعدمها سواء، لا فرق بين وجودها وعدمها إن لم يوجد سبب.
ففي هذا الإمكان والمساواة بين الوجود والعدم، يتساوى القليل والكثير، الصغير والكبير.
وهكذا فالمخلوقات ممكنات، وحيث إن وجودها وعدمها سواء ضمن دائرة الإمكان، فإن قدرة الواجب الوجود الأزلية المطلقة كما تعطي الوجودَ لممكنٍ واحد بسهولةٍ ويسر، تُلبِس كلَّ شيءٍ وجودًا يلائمه مُخِلَّة للتوازن بين الوجود والعدم، وتنـزع عنه لباس الوجود الظاهري إن كانت قد انتهت مهمته، وترسله إلى العدم صورةً وظاهرًا، بل إلى الوجود المعنوي في دائرة العلم.
بمعنى إنْ أُسندت الأشياء إلى القدير المطلق وفُوِّض أمرُها إليه سبحانه، فإنّ إحياء الربيع يَسْهُل كإحياء زهرةٍ واحدة، وإحياء الناس جميعًا في الحشر يَسْهُل كإحياء نفس واحدة، بينما إذا أُسند خلق الأشياء إلى الأسباب فإنّ خلقَ زهرة واحدة يصعب كصعوبة خلق الربيع كاملًا، وخَلْقَ ذبابة واحدة كخلق الأحياء بأسرها.
وكذا كما أن سفينة عظيمة وطائرة ضخمة تتحرك بمجرد مس مفتاح فيهما، بسر الانتظام، بسهولة نصبِ الساعة وتشغيلها، كذلك فإن إعطاء كل شيءٍ كلي وجزئي، صغيرٍ وكبير، قليلٍ وكثير، قالبًا معنويًّا، ومقدارًا خاصًّا وحدودًا معينة، بدساتيرِ العلم الأزلي، وبقوانينِ الحكمة السرمدية، وبالأصول المعينة والجلوات الكلية للإرادة الإلهية، يجعل الأشياء كلها ضمن الانتظام العلمي التام وقانون الإرادة، فلا شك أن تحريك المنظومة الشمسية بقدرة القدير المطلق وجريها سفينةَ الأرض في مدارها السنوي هي بسهولة جريها الدمَ وما فيه من كريات حمر وبيض وتدوير ذراتها، جريًا ودورانًا ضمن نظام وحكمة حتى إنها تخلق إنسانًا مع أجهزته الخارقة من قطرة ماء ضمن نظام الكون دون تعب ولا نصب.
بمعنى أنه إذا أُسنِد إيجاد الكون إلى تلك القدرة الأزلية المطلقة يكون الأمر سهلًا كإيجاد إنسان واحد، وإن لم يُسنَد إليها فإنَّ خلق إنسانٍ واحدٍ بأجهزته العجيبة ومشاعره الدقيقة، يكون مُشْكِلًا وعسيرًا كخلق الكون كله.
وكذا كما أن قائدًا واحدًا بأمره جنديًّا واحدًا بالهجوم يسوقه إلى الهجوم، بسر الإطاعة والامتثال وتَلَقّي الأوامرِ، فإنه بالأمر نفسِه وبالسهولة نفسِها يسوق جيشًا عظيمًا مطيعًا أيضًا إلى الهجوم.
كذلك المصنوعات التي كل منها في كمال الطاعة لقوانين الإرادة الإلهية لتَلَقّي إشاراتِ الأمر الرباني التكويني، وكالجندي المتأهب وكالعبد المأمور في مَيل فطريّ وشوق فطري ضمن دائرةِ دساتيرِ خط السير الذي عيّنه العلمُ الأزلي والحكمة الأزلية، وهو أكثر طاعةً وانقيادًا للأوامر بألف مرة عن طاعة جنود الجيش، فهذه المصنوعات ولا سيما ذوي الحياة منها عندما يتلقى كل منها الأمر الرباني: “اُخْرُجْ من العدم إلى الوجود وتقلّدْ وظيفةً” تُلبِسه القدرةُ الإلهية بسهولة مطلقةٍ وجودًا خاصًّا بالشكل الذي عيَّنه العلم، وبالصورة التي خصَّصتْها الإرادة، وتأخذ بيده إلى ميدان الوجود.
وكذلك بالسهولة نفسها وبالقوة والقدرة نفسَيهما يَخلق سبحانه جيش الأحياء في الربيع ويُوكِل إليه الوظائفَ.
بمعنى أن كل شيء إذا أُسند إلى تلك القدرة، فإن إيجاد جيوش الذرات كلِّها وفِرَقِ النجوم كلِّها سهلٌ كسهولةِ إيجادِ ذرةٍ واحدةٍ ونجمٍ واحد، بينما إذا أُسند إلى الأسباب فإنّ خلق ذرة في بؤبؤ عينِ كائنٍ حي وفي دماغه -بقابليةٍ لتؤديَ الوظائف العجيبة- يكون ذا مشكلات وصعوبة كخلقِ جميعِ الحيوانات.
[المرتبة الثالثة: سر إمداد الواحدية ويُسر الوحدة وتجلي الأحدية]
المرتبة الثالثة: وهي: (وبسر إمداد الواحدية ويُسر الوحدة وتجلي الأحدية)
سننظر إلى مضمونها بإشارات قصيرة جدًّا:
كما أن قائدًا عظيمًا وسلطانًا مهيبًا تَسهُل إزاءه إدارةُ أمور البلاد الواسعة والأمة العظيمة كسهولة إدارة أهالي قرية واحدة، وذلك من حيث وحدةُ حاكميتِه وعملُ رعيته وفق أوامره وحده، إذ من حيث الواحدية في حكمه تكون أفرادُ الأمة كأفراد الجيش وسائلَ للتسهيلات، فتطبق الأوامر والقوانين بيُسر وسهولة، بينما إذا فُوِّضت الأمور إلى حكام مختلفين، ففضلًا عن سقوطها في هاوية المشاكسات والاضطرابات، فإن إدارة قرية واحدة، بل بيت واحد، تكون ذات مشكلات كإدارة تلك البلاد الواسعة.
ثم إن كل فردٍ من أفراد تلك الأمة المطيعة المرتبطة بقائد واحد، كالجندي يستند إلى قوة ذلك القائد ويعتمد على مخازنِ أعتدته ويستمد من جيشه العظيم، لذا يستطيع أن يأسر ملكًا من الملوك، وينجز أعمالًا هي أضعافُ أضعافِ ما يؤديه من عمل شخصي، فيكون انتسابه إلى ذلك السلطان قوة عظمى لا منتهى لها، واقتدارًا لا حدود له، فيؤدي بها أعمالًا جسيمة جليلة، بينما إذا انقطع ذلك الانتساب، فإن تلك القوة الهائلة تذهب أدراج الرياح، فلا يمكن أن يؤدي من الأعمال إلّا بمقدار ما في ساعده من قوة جزئية، وما يحمله على ظهره من أعتدة قليلة وطلقات محدودة. ولو طُلب من ذلك الجندي ما يؤديه الجندي المستند المذكور من أعمال للزم وجود قوةِ جيشٍ كامل في ساعده، ومداخر أعتدة السلطان على ظهره!
كذلك الأمر، فإن سلطان الأزل والأبد، الصانع القدير، من حيث واحدية سلطنته وواحدية حاكميته المطلقة يدير الكون بسهولةِ إدارةِ مدينةٍ واحدة، ويخلق الربيع بسهولةِ خلق حديقة واحدة، ويحيي جميع الموتى في الحشر بسهولة خلق أوراق أشجار تلك الحديقة وأزاهيرها وثمراتها في الربيع المقبل، ويخلق الذباب بنظام نسر عظيم في سهولة ويسر، ويجعل إنسانًا في حكم كونٍ عظيم بسهولة ويسر أيضًا.
بينما إذا أُسند الأمر إلى الأسباب فإن خلق جرثومة واحدة يكون صعبًا بصعوبةِ خلقِ كركدن عظيم، وخلق ثمرةٍ من الثمرات بصعوبة خلق شجرةٍ كاملة ذات مشكلات.. بل يلزم أن يُعطى كل ذرة من الذرات العاملة في وظائفَ عجيبة في حجيراتِ جسم الكائن الحي بصرًا تُبصر به كلَّ شيء وعلمًا تدرِك به كلَ شيء، لتؤديَ تلك الوظائف الحياتية الدقيقة المتقنة.
ثم إن اليسر والسهولة يَبلغان في الوحدة بدرجة، بحيث يَسهل ورود تجهيزات جيشٍ كاملٍ من يدٍ واحدة من مصنع واحد، كسهولة تجهيز جندي واحد بالمعدات العسكرية، وإذا ما تدخلت أيدٍ مختلفة أخرى وأُخِذ كل جهاز من تلك الأجهزة المتنوعة من مصانع متباينة، فإن تجهيز جندي واحد -من حيث الكمية- لا يمكن إلّا بألف مشكلة ومشكلة، إذ تصعب الأمور إلى صعوبةِ تجهيزِ ألف جندي، حيث يتدخل أُمراء متعددون وضباط عديدون.
ثم إن إدارة ألف جندي والآمرية عليهم إذا أُسندت إلى ضابط واحد، تَسْهُل سهولةَ إدارة جندي واحد، من جهة، بينما إذا تُركت الإدارة إلى عشرة ضباط أو إلى الجنود أنفسهم، فيحدث كثير من الاختلاطات والفوضى والمشكلات، كذلك الأمر إذا أُسند كل شيء إلى الواحد الأحد، فإنه يسهل كسهولة الشيء الواحد، بينما إذا أُسند إلى الأسباب فإن أمر كائن حي واحدٍ يكون صعبًا وعسيرًا كالأرض كلها، بل يكون غير ممكن قطعًا.
بمعنى أن في الوحدة سهولةً بدرجة الوجوب واللزوم، وفي الكثرة ومداخلة الأيدي تبلغ الصعوبةُ بدرجة عدم الإمكان.
فكما ذُكر في “المكتوبات” من كليات رسائل النور أنه إذا فوّض اختلاف الليل والنهار وحركات النجوم وتحولات الفصول السنوية كالخريف والشتاء والربيع والصيف إلى مدبّر واحد وآمر واحد، فإن ذلك الآمر الأعظم يأمر الأرض التي هي جندي من جنوده أَنْ: قُومي، دُورِي، سِيرِي وهي بدورها تنهض منجذبة بنشوة الأمر وتتحرك كالعاشق المولوي حركتين: يومية وسنوية، وتصبح وسيلةً سهلةً جدًّا لتحولات المواسم وحركات النجوم الظاهرية والخيالية، مُظهِرةً السهولةَ التامة واليسر المتناهي في الوحدة.
ولكن لو تُرك الأمر -لا إلى ذلك الآمر الواحد- بل إلى الأسباب وإلى هوى النجوم ورغباتها، وقيل للأرض: قفي لا تجولي، فلربما يحصل وضع الأرض في حصول المواسم والليل والنهار بقطع ألوف النجوم والشموس التي هي أضخم من الأرض بألوف المرات مسافات تبلغ ملايين السنين بل مليارات السنين في كل ليلة وفي كل سنة!
أي يكون الأمر صعبًا ومشكلًا بدرجة المحال وغير الممكن.
وما في المرتبة الثالثة: من كلمة “تجلي الأحدية” تشير إلى حقيقة في منتهى السعة والعمق والدقة والعظمة، نحيل إيضاحها وإثباتها إلى رسائل النور مبينين نكتة من نكاتها ضمن تمثيل قصير جدًّا.
نعم، كما أن الشمس تنور الأرض كلَّها بضيائها، وتصبح مثالًا للواحدية، فهي بوجود صورتها ومثالها بألوانها السبعة وصورتها الذاتية في كل ما يقابلها من شيء شفاف كالمرآة فيها تصبح مثالًا للأحدية.
فلو كان للشمس علمٌ وقدرةٌ واختيار، وكانت للقطع الزجاجية وقطرات الماء والحباب التي تنعكس فيها الشُميسات قابلياتٌ، لكانت توجد شمس كاملة بقانون الإرادة الإلهية في كل منها وبجنب كل منها.. توجد بصفاتها وبصورتها، من دون أن يعيق أو ينقص وجودُها في سائر الأماكن عن تصرفها شيئًا، فتكون سببًا لمظاهر كبيرة جدًّا بأمر القدرة الربانية وتأثيرها وحكمها، فتبين ما في الأحدية من سهولة فوق المعتاد.
كذلك الصانع الجليل فإنه باعتبار الواحدية يرى الأشياء كلَها وهو رقيب عليها بعلمه وبإرادته وبقدرته المحيطة بكل شيء، كما أنه من حيث الأحدية وبتجليها موجود جنب كل شيء ولا سيما ذوي الحياة، بأسمائه وصفاته الجليلة، بحيث يخلق بسهولة تامة في آن واحد الذبابةَ في نظام النسر، والإنسانَ في نظام الكون العظيم، فيَخلق ذوي الحياة بمعجزات كثيرة وكثيرة بحيث لو اجتمعت جميعُ الأسباب لِخلقِ بلبل واحد أو ذبابة واحدة لعجزت، فالذي يخلق بلبلًا هو خالق الطيور لا غيره، والذي يخلق إنسانًا هو خالق الكون لا غيره.
[المرتبة الرابعة والخامسة: سر الوجوب والتجرد ومباينة الماهية، وسر عدم التقيد وعدم التحيز وعدم التجزي]
المرتبة الرابعة والخامسة: هما.. (وبسر الوجوب والتجرد ومباينة الماهية، وبسر عدم التقيد وعدم التحيز وعدم التجزي)
إن نقل ما تفيده هاتان المرتبتان إلى أفهام عامة الناس عسير جدًّا، لذا نبين فحواهما باختصار مع ذكر بضع نِكاتٍ قصيرة منهما.
أي إن قديرًا مطلقًا يملك وجودًا هو أقوى وأمتن مراتبِ الوجود، وهي مرتبة الوجوب الذي هو أزلي وأبدي، والمنـزّه عن الماديات والمجرّد عنها، ويحمل ماهية مقدسة مبايِنة لجميع الماهيات.. هذا القدير المطلق يسيرٌ إزاءَ قدرته إدارةُ النجوم كإدارة الذرات، والحشرُ الأعظم سهلٌ عليها كالربيع، وإحياءُ الناس جميعًا في الحشر هيّن عليها كإحياء نفس واحدة.
لأن مقدار أنملة من نوعٍ قوي من طبقات الوجود يمسك جبلًا ضخمًا لطبقة خفيفة من طبقات الوجود ويديره، فمثلًا المرآة، والقوة الحافظة وهما وجودان خارجيان -وهو وجود قوي- يمكنهما إن تضما وتديرا مائة من الجبال وألفًا من الكتب من الوجود المثالي والمعنوي الذي هو ضعيف وخفيف.. وهكذا، فكم هو أدنى من حيث القوة الوجودُ المثالي من وجود خارجي، فإن أنواع الوجود الحادثة والعارضة للممكنات أيضًا هي أدنى بألوف المرات وأخفُّ من وجودٍ واجب سرمدي أزلي، بحيث إن تجليًا من ذلك الوجود المقدس بمقدار ذرة يدير عالَمًا من الممكنات.
آسف فإن أسبابًا ثلاثة شبيهة بالمرض الناشئ من التسمم في الوقت الحاضر، لا تسمح لبيان هذه الحقيقة العظيمة بنِكاتها، فأحيلها إلى رسائل النور وإلى وقت آخر بمشيئة اللّٰه.
[المرتبة السادسة: سر انقلاب العوائق والموانع إلى حكم الوسائل المسهِّلات]
المرتبة السادسة: وهي: (وبسر انقلاب العوائق والموانع إلى حكم الوسائل المسهِّلات).
أي كما أنه بقانون من جلوات الإرادة الإلهية والأمر التكويني -والذي تعبّر عنه العلومُ الحديثة بالعقدة الحياتية- تسري المواد اللازمة والأرزاق بتوجه تلك الإرادة والأمر من تلك العقدة الحياتية التي هي كمحرك ونابض لها إلى ثمراتِ شجرةٍ عظيمة فاقدة للشعور وإلى أوراقها وثمراتها، ولا تكون أغصانُها المتشعبة ولا جذوعُها القوية الصلدة عوائقَ وموانع دونها، بل تكون وسائلَ تيسيرٍ ووسائط تسهيل، كذلك في خلق الكون وإيجاد المخلوقات كلها تدع جميعُ الموانع الإحجامَ والممانعة إزاء تجلٍّ للإرادة الإلهية ولتوجه الأمر الرباني، وتصبح وسيلةَ تسهيلٍ وتيسير، فالقدرةُ السرمدية تَخلُق الكونَ ومخلوقاتِ الأرضِ قاطبةً بسهولة خلقها تلك الشجرةَ، لا يصعب عليها شيء.
فلو لم تُسنَد جميع الخلق إلى تلك القدرة فإن إنشاء تلك الشجرة الواحدة وإدارتها تكون صعبةً صعوبةَ إدارةِ جميع الأشجار، بل صعوبةَ خلق الأرض وإدارتها، لأن كل شيء عندئذٍ يكون مانعًا وحائلًا، ولو اجتمعت الأسبابُ جميعُها في هذه الحالة لا تستطيع أن ترسل الأرزاق اللازمة من معدة عقدتها الحياتية ومن زمبركها الناشئة من الأمر والإرادة، وتوصيلَها بانتظام إلى ثمراتها وأوراقها وأغصانها، إلّا إذا أُسنِد إلى كل جزء من أجزاء الشجرة بل حتى إلى كل ذرة من ذراتها بصرٌ يبصر كلَّ الشجرة وكلَّ جزء منها وكلَّ ذرة من ذراتها، وعلمٌ محيطٌ بكل شيء، وقدرةً قادرة على كل شيء.
وهكذا اصعد هذه المراتبَ الخمس وانظر كم في الشرك والكفر من مشكلات ومحالات، واعلم مدى امتناعهما وبُعدهما عن معايير العقل والمنطق، ومدى السهولة في طريق الإيمان والقرآن، بل مدى ما فيها من حق وحقيقة مستساغة بدرجة الوجوب، ومدى معقوليتها وقطعيتها وسهولتها ومقبوليتها بدرجة اللزوم، شاهِدْ هذه الحقيقةَ وقل: الحمد للّٰه على نعمة الإيمان.
(لقد سببت الضغوط والمضايقات تأجيل القسم الباقي من هذه المرتبة العظيمة إلى وقت آخر بمشيئة اللّٰه).
[المرتبة السابعة: سر الأحدية والصمدية]
المرتبة السابعة: وهي: (وبسّر أن الذرة والجزء والجزئي والنواة والإنسان ليست بأقل صنعة وجزالة من النجم والكل والكلي والشجر والعالم).
تنبيه: إن أسس حقائق هذه المراتب التسع وكنـزها وشمسها هي آيتا سورة الإخلاص: ﴿قل هو اللّٰه احد ٭ اللّٰه الصمد﴾، فهي إشارات قصيرة إلى لمعاتٍ من تجليات سر الأحدية والصمدية.
نلقي نظرة إلى فحوى هذه المرتبة السابعة بنكتة أو نكتتين، محيلين تفاصيلها إلى رسائل النور.
وهي تعني أن الذرة التي تؤدي وظائف عجيبة في العين والدماغ ليست بأقل صنعة وإبداعًا من النجم، وليس الجزء بأقل جزالة من مجموعه الكل.
فمثلًا: ليس الدماغ والعين بأقلَّ إتقانًا وإبداعًا من الإنسان، ولا الفرد الجزئي بأقل إبداعًا من النوع عامة من حيث جمال الإتقان والغرابة في الخلق، ولا الإنسان بأقل صنعة من جنس الحيوان الكلي من حيث أجهزته العجيبة، ولا البذرة التي هي بمثابة فهرس وبرنامج وقوة حافظة بأقل إتقانًا من شجرتها الباسقة من حيث كمال الصنع والخزن، ولا الإنسان الذي هو كون صغير بأقل إبداعًا من الكون العظيم، من حيث إنه في أحسن تقويم ويملك أجهزة خارقة جامعة مهيأة للقيام بألوف الوظائف العجيبة.
فالذي يخلق الذرة إذن لا يعجز عن خلق النجم، والذي يخلق اللسان -وهو عضو في الإنسان- يخلق الإنسان بسهولة ويسر بلا شك؛ والذي يخلق الإنسان في أحسن تقويم لا شك أنه قادر على خلق الحيوانات كلها بسهولة كاملة، مثلما يخلقها أمام أنظارنا؛ والذي يخلق النواة بماهيةِ فهرسٍ وقائمةِ مفرداتٍ، ودفترِ قوانينَ أمريةٍ، وعقدةٍ حياتيةٍ، لا شك هو الذي يكون خالق جميع الأشجار؛ والذي جعل الإنسان أشبه ببذرة معنوية للعالم وثمرةٍ جامعة له، ومظهرًا لجميع أسمائه الإلهية ومرآة لها ومرتبطًا بالكائنات كلها وخليفة للأرض، لا شك أنه يملك قدرة قادرة على خلق الكون كله وتنسيقه بسهولةِ خلقِ الإنسان.
ولهذا فمن كان خالقًا وصانعًا وربًّا للذرة والجزء والجزئي والنواة والإنسان، فبالبداهة ولا شك أنه هو خالق النجوم والأنواع والكل والكليات والأشجار وجميعِ الكائنات وصانعُها وربُّها بالذات، فمحالٌ أن يكون غيرَه وممتنعٌ قطعًا.
[المرتبة الثامنة: سر كون الجزئيات نماذج مصغرة للكليات]
المرتبة الثامنة: (وبسرّ أن المحاط والجزئيات كالأمثلة المكتوبة المصغرة أو كالنقط المحلوبة المُعَصَّرة، فلا بد أن يكون المحيط والكليات في قبضة خالق المحاط والجزئيات، ليدرج مثالها فيها بموازين علمه، أو يعصرها منها بدساتير حكمته).
أي إن نسبة الجزئيات المحاطة والأفراد والنوى والبذور التي تتضمنها الكل والكليات إلى الكلّيّات الكبيرة المحيطة، شبيهةٌ بنماذج مصغرة وأمثلة مكتوب فيها ما كُتِب تمامًا في الكل والكليات كتابةً دقيقة تناسب تلك القطع الصغيرة؛ ولهذا فالكليات المحيطة هي في قبضة خالق تلك الجزئيات وتحت تصرفه بلا شك، وذلك ليُدرِج كتابَ ذلك المحيط الكبير بموازين علمه وبأقلامه الدقيقة في مئات من القطع والدفاتر الصغيرة.
ثم إن نسبة الأجزاء والجزئيات المحاطة إلى الكليات المحيطة، ومثالهما شبيه بالقطرات المحلوبة أو القطرات المُعَصَّرة من الكليات المحيطة.
فمثلًا نواة البطيخ كأنها قطرة محلوبة من جميع أنحاء البطيخ، أو هي نقطة كتب فيها كتاب البطيخ كاملًا، حتى إنها تحمل فهرسه وقائمة محتوياته وبرنامجه.
فما دام الأمر هكذا، يلزم أن تكون تلك الجزئيات والقطرات والنقاط والأفراد بيد صانع ذلك الكل المحيط وتلك الكليات المحيطة، ليَعصر تلك الأفرادَ والقطراتِ والنقطَ منها بدساتير حكمته الحساسة.
بمعنى أن خالق نواةٍ واحدةٍ وفردٍ واحد هو خالق ذلك الكل الكبير والكليات، وخالقُ الكليات والأجناس التي تكبرها وتحيط بها أيضًا وليس غيره، ولهذا فخالق نفس واحدة يخلق جميع الناس، والذي يبعث إنسانًا ميتًا واحدًا يبعث الجن والإنس والأموات جميعًا في الحشر، وسيبعثهم، وهكذا شاهِدْ مدى أحقية دعوى: ﴿ما خلقكم ولا بعثكم إلّا كنفسٍ واحدة﴾ ومدى ثبوتها وقطعيتها، شاهدها بأسطع وأجلى صورتها.
[المرتبة التاسعة: لا فرق بين الكبير والصغير إزاء القدرة]
المرتبة التاسعة: (وبسرّ كما أن قرآن العزّة المكتوبَ على الذرة المسماة بالجوهر الفرد بذرات الأثير ليس بأقل جزالة وخارقية صنعة من قرآن العظمة المكتوب على صحيفة السماء بمداد النجوم والشموس، كذلك إن ورد الزهرة ليست بأقل جزالة وصنعة من دُرِّيِّ نجم الزُهرة، ولا النملة من الفيلة، ولا المكروب من الكركدن، ولا النحلة من النخلة، بالنسبة إلى قدرة خالق الكائنات.
فكما أن غاية كمال السرعة والسهولة في إيجاد الأشياء أوقعت أهل الضلالة في التباس التشكيل بالتشكل المستلزم لمحالات غير محدودة تمجها الأوهام، كذلك أثبتت لأهل الهداية تساويَ النجوم مع الذرات بالنسبة إلى قدرة خالق الكائنات جلّ جلاله ولا إله إلّا هو اللّٰه أكبر).
كنت أود أن أبين مضمون هذه المرتبة الأخيرة بإسهاب ولكن مع الأسف حال دون ذلك العنتُ والضيق الناجم من التحكم الاعتباطي، والضعف الذي اعترى جسمي من التسمم فضلًا عن الأمراض المؤلمة، لذا اضطررت إلى الاكتفاء بإشارات قصيرة جدًّا إلى مضمونها.
وهي تعني: كما لو كُتب قرآنٌ عظيم في الذرة -التي يطلق عليها في علم الكلام والفلسفة الجوهر الفرد غير القابل للانقسام- بذرات الأثير التي هي أصغر منها، وكُتب أيضًا قرآن عظيم آخر في صحائف السماوات بالنجوم والشموس، ثم قورن بينهما، فلا شك أن القرآن المكتوب بالجوهر الفرد ليس بأقلّ جزالة وإعجازًا وإبداعًا من القرآن العظيم والكبير الذي جمّل وجه السماوات، وربما هو أكثر منه جزالة من جهة.
كذلك إن ورد الزهرة ليست بأقل جزالة وصنعة من دُرِّيِّ نجم الزُهرَة، ولا النملة أدنى من الفيل، بل المكروب أكثر إبداعًا من الكركدن خلقة، والنحلة بفطرتها العجيبة أعجب من النخلة بالنسبة إلى قدرة خالق الكائنات.
بمعنى أن خالق النحلة يخلق جميع الحيوانات، والذي يبعث نفسًا واحدة يجمع الناس على صعيد الحشر ويبعثهم جميعًا، وسيحشرهم حتمًا، فلا يصعب على تلك القدرة شيء، كما تشاهد مئات ألوف النماذج من الحشر في كل ربيع أمام أعيننا.
ومضمون الجملة العربية الأخيرة وفحواها المختصر هو أن أهل الضلالة لجهلهم بالحقائق الثابتة الراسخة للمراتب المذكورة، ولظهور الموجودات إلى الوجود في منتهى السرعة والسهولة، فقد التبس عليهم تشكيلها وإيجادها بقدرةِ صانعٍ قديرٍ مطلق القدرة، مع تشكّلها ووجودها بنفسها، فاتحين لأنفسهم أبواب خرافات ومحالات غير محدودة تمجّها الأوهام والأذهان، إذ في تلك الحالة- مثلًا- يلزم إعطاء كل ذرة من ذرات كائن حي قدرة قادرة على صنع كل شيء، وعلمًا وبصرًا يبصر كل شيء، أي إنهم بعدم قبولهم لإلهٍ واحدٍ أحدٍ اضطروا إلى قبول آلهة بعدد الذرات حسب مذهبهم، مستحِقين الدخول إلى أسفل سافلي جهنم.
أما أهل الهداية فقد منحت الحقائقُ القوية للمراتب السابقة والحججُ الرصينة إلى قلوبهم السليمة وعقولهم الصائبة قناعةً تامة قاطعة وإيمانًا قويًّا وتصديقًا بعين اليقين، حتى اعتقدوا بلا ريب ولا شبهة وبكل اطمئنانِ قلبٍ أنه لا فرق بين النجوم والذرات وأصغرِ شيء وأكبره إزاء القدرة الإلهية، حيث نشاهد أمامنا هذه المخلوقات العجيبة، فكل صنعة عجيبة منها تصدّق دعوى الآية الكريمة: ﴿ما خلقكم ولا بعثكم إلّا كنفسٍ واحدة﴾.
وتشهد أن حكمَها هو عين الحق ومحض الحقيقة، وتقول بلسان الحال: اللّٰه أكبر، ونحن بدورنا نقول: اللّٰه أكبر بعدد المخلوقات مصدقين حكمَ هذه الآية الكريمة بكل قوتنا وقناعتنا ونشهد أن حكمها هو عين الحق والحقيقة نفسها بحجج لا منتهى لها.
﴿سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلّا ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم﴾
اللّٰهمّ صلّ وسلم على من أرسلته رحمةً للعالمين، والحمد للّٰه ربّ العالمين.
بسم اللّٰه الرحمن الرحيم
يَا اَللّٰه، يَا رَحْمنُ، يَا رَحِيمُ، يَا فَردُ، يَا حَيُّ، يَا قَيُّومُ، يَا حَكَمُ، يَا عَدْلُ، يَا قُدُّوسُ.. بحق الاسم الأعظم وبحرمة القرآن المعجِز البيان وبكرامة الرسول الأعظم (ﷺ)، أدخِل الذين قاموا بطبع هذه المجموعة ومعاونيهم الميامين جنةَ الفردوس والسعادة الأبدية.. آمين. ووفّقهم في خدمة الإيمان والقرآن دومًا وأبدًا.. آمين. واكتب في صحيفة حسناتهم ألفَ حسنة لكل حرف من حروف كتاب “الشعاعات”.. آمين. وأحسِن إليهم الثبات والدوام والإخلاص في نشر رسائل النور.. آمين
يا أرحم الراحمين.. آتِ جميع طلاب النور في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.. آمين. واحفظهم من شر شياطين الجن والإنس.. آمين. واعف عن ذنوب هذا العبد العاجز الـضعيف سعيد.. آمين
باسم جميع طلاب النور
سعيد النورسي
❀ ❀ ❀