اللمعة السابعة عشرة
[هذه اللمعة عبارة عن مذكِّرات إيمانية تتحدث عن العناية بالقلب وإيقاظه من غفلته، ولزومِ العبدِ وظيفتَه، وتُحذِّر من الانخداع بزخرف أوروبا، وتبين شرف مقام النبوة وضرورتها]
تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

[اللمعة السابعة عشرة]
اللمعة السابعة عشرة
(عِبارة عن خمس عشرةَ مذكِّرةً تألَّقت مِن الزُّهرة)
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
[مقدمة]
المقدمة
قبلَ اثنَتَي عَشْرةَ سَنةً1أي: في سنة ١٣٤٠ هـ (١٩٢١م). مِن تَألِيفِ هذه اللَّمْعةِ وَفَّقَني المَولَى الكَرِيمُ وشَمِلَني بعِنايَتِه ولُطفِه، فكَتَبتُ بَعضَ ما تَألَّق مِن مَسائِلِ التَّوحِيدِ وبَعضَ ما تَظاهَرَ مِنها في أَثناءِ تَأمُّلٍ فِكرِيٍّ، وتَجوالٍ قَلبِيٍّ، وانكِشافٍ رُوحِيٍّ عَبْرَ العُرُوجِ في مَراتِبِ المَعرِفةِ الإِلٰهِيّةِ، كَتَبتُها باللُّغةِ العَرَبيّةِ على صُورةِ مُذَكِّراتٍ في رَسائِلَ مَوسُومةٍ بـ”زُهرَة” و”شُعلَة” و”حَبّة” و”شَمّة” و”ذَرّة” و”قَطْرة” وأَمثالِها.
وحَيثُ إنَّ تلك المُذكِّراتِ قد كُتِبَت لِأَجلِ إِراءةِ بِدايةِ حَقِيقةٍ عَظِيمةٍ واسِعةٍ، وإِبرازِ مُقَدِّمَتِها فحَسْبُ، ولِأَجلِ إِظهارِ شُعاعٍ مِن أَشِعّةِ نُورٍ ساطِعٍ باهِرٍ، فقد جاءَت على شَكلِ خَواطِرَ ومَلحُوظاتٍ وتَنبِيهاتٍ، سَجَّلتُها لِنَفسِي وَحدَها، الأَمرُ الَّذي جَعَل الِاستِفادةَ مِنها مَحدُودةً، خُصُوصًا وأنَّ القِسمَ الأَعظَمَ مِن أَخلَصِ إِخوانِي وأَخَصِّهِم لم يَدرُسُوا اللُّغةَ العَرَبيّةَ، فاضطُرِرتُ إِزاءَ إِصرارِهِم وإِلحاحِهِم إلى كِتابةِ إِيضاحاتٍ باللُّغةِ التُّركيّةِ لِقِسمٍ مِن تلك المُذَكِّراتِ واللَّمَعاتِ. وأَكتَفِي بتَرجَمةِ القِسمِ الآخَرِ مِنها. ولقد جاءَتِ التَّرجَمةُ إلى التُّركيّةِ نَصًّا دُونَ تَغيِيرٍ، حَيثُ تَراءَت “لِسَعِيدٍ الجَدِيدِ” هذه الخَواطِرُ الوارِدةُ في الرَّسائِلِ العَرَبيّةِ رُؤيةً أَشبَهَ ما تكُونُ بالشُّهُودِ، وذلك حِينَما شَرَع بالِاغتِرافِ مِن مَنهَلِ عِلمِ “الحَقِيقةِ”.. ولِأَجلِ هذا فقد ذُكِرَتْ بَعضُ الجُمَلِ بالرَّغمِ مِن أنَّها مَذكُورةٌ في رَسائِلَ أُخرَى بَينَما ذُكِرَ البَعضُ الآخَرُ في غايةِ الإِجمالِ ولم يُوَضَّحِ التَّوضِيحَ المَطلُوبَ، وذلك لِئَلّا يَفقِدَ لَطافَتَه الأَصلِيّةَ.
[المذكرة الأولى: لا تُعلق قلبَك بما يفنى]
المذكِّرة الأولى
كُنتُ قد خاطَبتُ نَفسِي قائِلًا:
اِعلَمْ أيُّها السَّعِيدُ الغافِلُ، إنَّه لا يَلِيقُ بك أن تَربِطَ قَلبَك وتُعَلِّقَه بما لا يُرافِقُك بعدَ فَناءِ هذا العالَمِ، بل يُفارِقُك بخَرابِ الدُّنيا! فلَيسَ مِنَ العَقلِ في شَيءِ رَبطُ القَلبِ بأَشياءَ فانيةٍ! فكَيفَ بما يَتْرُكُك بانقِراضِ عَصرِك ويُدِيرُ ظَهرَه لك؟ بل فكَيفَ بما لا يُصاحِبُك في سَفَرِ البَرزَخِ؟ بل فكَيفَ بما لا يُشَيِّعُك إلى بابِ القَبْرِ؟ بل فكَيفَ بما يُفارِقُك خِلالَ سَنةٍ أو سَنَتَينِ فِراقًا أَبدِيًّا، مُوَرِّثًا إِثمَه ذِمَّتَك، مُحَمِّلًا خَطاياه على ظَهرِك؟ بل فكَيفَ بما يَتْرُكُك على رَغمِك في لِحْظةِ وُصُولِه وحُصُولِه؟
فإن كُنتَ فَطِنًا عاقِلًا فلا تَهتَمَّ ولا تَغتَمَّ، واترُكْ ما لا يَقتَدِرُ أن يُرافِقَك في سَفَرِ الأَبدِ والخُلُودِ، بل يَضمَحِلُّ ويَفنَى تحتَ مُصادَماتِ الدُّنيا وانقِلاباتِها، وتَحتَ تَطَوُّراتِ البَرزَخِ، وتَحتَ انفِلاقاتِ الآخِرةِ.
ألا تَرَى أنَّ فيك لَطِيفةً لا تَرضَى إلّا بالأَبدِ والأَبدِيِّ، ولا تَتَوجَّهُ إلّا إلى ذلك الخالِدِ، ولا تَتَنزَّلُ لِما سِواه؟ حتَّى إذا ما أُعطِيَتِ الدُّنيا كُلَّها، فلا تُطَمْئِنُ تلك الحاجةَ الفِطرِيّةَ.. تلك هي سُلطانُ لَطائِفِك ومَشاعِرِك.. فأَطِعْ سُلطانَ لَطائِفِك المُطِيعِ لِأَمرِ فاطِرِه الحَكِيمِ جَلَّ جَلالُه، وانجُ بنَفسِك.
[المذكرة الثانية: دستور قرآني جليل]
المذكِّرة الثانية
لقد رَأَيتُ في رُؤْيا صادِقةٍ ذاتِ حَقِيقةٍ: أَنَّني أُخاطِبُ النّاسَ: أيُّها الإِنسانُ، إنَّ مِن دَساتيرِ القُرآنِ الكَرِيمِ وأَحكامِه الثّابِتةِ: ألّا تَحسَبَنَّ ما سِوَى اللهِ تَعالَى أَعظَمَ مِنك فتَرفَعَه إلى مَرتَبةِ العِبادةِ، ولا تَحسَبَنَّ أنَّك أَعظَمُ مِن شَيءٍ مِنَ الأَشياءِ بحَيثُ تَتَكبَّرُ علَيْه، إذ يَتَساوَى ما سِواه تَعالَى في البُعدِ عنِ المَعبُودِيّةِ وفي نِسبةِ المَخلُوقيّةِ.
[المذكرة الثالثة: قيامتك على وشك الوقوع]
المذكِّرة الثالثة
اِعلَمْ أَيُّها السَّعِيدُ الغافِلُ أنَّك تَرَى الدُّنيا الزّائِلةَ سَرِيعًا، كأَنَّها دائِمةٌ لا تَمُوتُ، فعِندَما تَنظُرُ إلى ما حَوْلَك مِنَ الآفاقِ تَراها ثابِتةً مُستَمِرّةً -إلى حدٍّ مّا- نَوعًا وجُمْلةً، ومِن ثَمَّ تَرجِعُ بالمِنظارِ نَفسِه فتَنظُرُ إلى نَفسِك الفانِيةِ، تَظُنُّها ثابِتةً أَيضًا، وعِندَها لا تَندَهِش إلّا مِن هَولِ القِيامةِ، وكأنَّك تَدُومُ إلى أن تَقُومَ السّاعةُ!
عُدْ إلى رُشْدِك، فأَنتَ ودُنياك الخاصَّةُ بك مُعرَّضانِ في كلِّ آنٍ إلى ضَرَباتِ الزَّوالِ والفَناءِ.. إنَّ مَثَلَك في خَطَأِ شُعُورِك وغَلَطِ حِسِّك هذا، مَثَلُ مَن في يَدِه مِرآةٌ تُواجِهُ قَصْرًا أو بَلَدًا أو حَدِيقةً، وتَرتَسِمُ الصُّورةُ المِثاليّةُ لِلقَصرِ أوِ البَلَدِ أوِ الحَدِيقةِ فيها، فإذا ما تَحَرَّكَتِ المِرآةُ أَدنَى حَرَكةٍ، وتَغيَّرَت أَقلَّ تَغَيُّرٍ، فسيَحدُثُ الهَرْجُ والمَرْجُ في تلك الصُّورةِ المِثاليّةِ، فلا يُفِيدُك بَعدُ البَقاءُ والدَّوامُ الخارِجِيّانِ في نَفسِ القَصرِ أوِ البَلَدِ أوِ الحَدِيقةِ، إذ ليس لك مِنها إلّا ما تُعطِيك مِرآتُك بمِقياسِها ومِيزانِها.
فاعْلَمْ أَنَّ حَياتَك وعُمُرَك مِرآةٌ، وأنَّها عِمادُ دُنياك وسَنَدُها ومِرآتُها ومَركَزُها؛ فتَأمَّلْ في مِرآتِك، وإِمكانِ مَوتِها، وخَرابِ ما فيها في كلِّ دَقِيقةٍ، فهِي في وَضعٍ يُشعِرُ كأَنَّ قِيامَتَك ستَقُومُ في كلِّ دَقِيقةٍ.. فما دامَ الأَمرُ هكذا فلا تُحمِّلْ حَياتَك ودُنياك ما لا طاقةَ لَهُما به.
[المذكرة الرابعة: إعادة نشر وحشر البشر أَولى]
المذكِّرة الرابعة
اِعلَمْ أنَّ مِن سُنّةِ الفاطِرِ الحَكِيمِ -في الأَكثَرِ- ومِن عاداتِه الجارِيةِ إِعادةُ ما له أَهَمِّيّةٌ وقِيمةٌ غالِيةٌ بِعَينِه لا بمِثلِه، فعِندَما يُجَدِّدُ أَكثرَ الأَشياءِ بمِثلِها عِندَ تَبَدُّلِ الفُصُولِ وتَغَيُّرِ العُصُورِ، يُعِيدُ تلك الأَشياءَ الثَّمِينةَ بعَينِها؛ فانظُرْ إلى الحَشرِ اليَومِيِّ -أي: الَّذي يَتِمُّ في كلِّ يَومٍ- وإلى الحَشرِ السَّنَوِيِّ، وإلى الحَشرِ العَصرِيِّ، تَرَ قاعِدةَ السُّنّةِ الكَونِيّةِ هذه مُطَّرِدةً.
وبِناءً على هذه القاعِدةِ الثَّابِتةِ نقُولُ:
قدِ اتَّفَقتِ الفُنُونُ وشَهِدَتِ العُلُومُ على أَنَّ الإِنسانَ هو أَكمَلُ ثَمَرةٍ في شَجَرةِ الخَلِيقةِ، وأنَّه أَهَمُّ مَخلُوقٍ بينَ المَخلُوقاتِ، وأَغلَى مَوجُودٍ بينَ المَوجُوداتِ، وأنَّ فَرْدًا مِنه بمَثابةِ نَوعٍ مِن سائِرِ الأَحياءِ، لِذا يُحكَمُ بالحَدْسِ القَطعِيِّ على أنَّ كلَّ فَردٍ مِن أَفرادِ البَشَرِ سيُعادُ في الحَشرِ الأَعظَمِ والنَّشرِ الأَكبَرِ بعَينِه وجِسمهِ واسمِه ورَسمِه.
[المذكرة الخامسة: توبيخ لأوروبا]
المذكِّرة الخامسة
[تمهيد: سعيد الجديد وموقفه من علوم الفلسفة]
حِينَما سارَ “سَعِيدٌ الجَدِيدُ” في طَرِيقِ التَّأمُّل والتَّفكُّرِ، انقَلَبَت تلك العُلُومُ الأَورُوبِّيةُ الفَلسَفِيّةُ وفُنُونُها الَّتي كانَت مُستَقِرّةً إلى حَدٍّ مّا في أَفكارِ “سَعِيدٍ القَدِيمِ” إلى أَمراضٍ قَلبِيّةٍ، نَشَأَت مِنها مَصاعِبُ ومُعضِلاتٌ كَثِيرةٌ في تلك السِّياحةِ القَلبِيّةِ؛ فما كانَ مِن “سَعِيدٍ الجَدِيدِ” إلّا القِيامُ بتَمخِيضِ فِكرِه والعَمَلِ على نَفضِه مِن أَدرانِ الفَلسَفةِ المُزَخرَفةِ ولَوْثاتِ الحَضارةِ السَّفِيهةِ، فرَأَى نَفسَه مُضطَرًّا إلى إِجراءِ المُحاوَرةِ الآتِيةِ معَ الشَّخصِيّةِ المَعنَوِيّةِ لِأَورُوبّا لِكَبحِ جِماحِ ما في رُوحِه مِن أَحاسِيسَ نَفسانيّةٍ مُنحازةٍ لِصالِحِ أَورُوبّا، فهِي مُحاوَرةٌ مُقتَضبةٌ مِن ناحِيةٍ ومُسهَبةٌ مِن ناحِيةٍ أُخرَى.
[احتراز: أوروبا اثنتان]
ولِئَلّا يُساءَ الفَهمُ لا بُدَّ أنْ نُنبِّهَ أنَّ أَورُوبّا اثنَتانِ:
إِحداها: هي أَورُوبّا النّافِعةُ لِلبَشَرِيّةِ، بما استَفاضَت مِنَ النَّصرانيّةِ الحَقّةِ، وأَدَّت خِدْماتٍ لِحَياةِ الإِنسانِ الِاجتِماعِيّةِ، بما تَوَصَّلَتْ إلَيْه مِن صِناعاتٍ وعُلُومٍ تَخدُمُ العَدْلَ والإِنصافَ، فلا أُخاطِب -في هذه المُحاوَرةِ- هذا القِسمَ مِن أَورُوبّا، وإنَّما أُخاطِبُ أَورُوبّا الثّانيةَ الفاسِدةَ، تلك الَّتي تَعَفَّنَت بظُلُماتِ الفَلسَفةِ الطَّبِيعيّةِ، وحَسِبَت سَيِّئاتِ الحَضارةِ حَسَناتٍ لها، وتَوَهَّمَت مَساوِئَها فَضائِلَ، فساقَتِ البَشَرِيّةَ إلى السَّفاهةِ وأَرْدَتْها في الضَّلالةِ والتَّعاسةِ.
خاطَبتُ في تلك السِّياحةِ الرُّوحِيّةِ الشَّخصِيّةِ المَعنَوِيّةِ الأَورُوبِّيّةِ بعدَ أنِ استَثنَيتُ مَحاسِنَ الحَضارةِ وفَوائِدَ العُلُومِ النّافِعةِ، فوَجَّهتُ خِطابِي إلى تلك الشَّخصِيّةِ الَّتي أَخَذَت بِيَدِها الفَلسَفةُ المُضِرّةُ التّافِهةُ والحَضارةُ الفاسِدةُ السَّفِيهةُ.. وخاطَبتُها قائِلًا:
[لا تملكين السعادة]
يا أَورُوبّا الثَّانيةُ، اِعلَمِي جَيِّدًا أنَّكِ قد أَخَذتِ بيَمِينِكِ الفَلسَفةَ المُضِلّةَ السَّقِيمةَ، وبشِمالِكِ المَدَنيّةَ المُضِرّةَ السَّفِيهةَ، فتَدَّعِينَ أنَّ سَعادةَ الإِنسانِ بهما.. ألَا شَلَّت يَداكِ، وبِئسَتِ الهَدِيّةُ هَدِيَّتُكِ، ولتَكُن وَبالًا علَيكِ، وستكُونُ.
أيَّتُها الرُّوحُ الخَبِيثةُ الَّتي تَنشُرُ الكُفرَ وتَبُثُّ الجُحُودَ، تُرَى! هل يُمكِنُ أن يَسعَدَ إِنسانٌ بمُجَرَّدِ تَمَلُّكِه ثَروةً طائِلةً، وتَرَفُّلِه في زِينةٍ ظاهِرةٍ خادِعةٍ، وهُو المُصابُ في رُوحِه وفي وِجْدانِه وفي عَقلِه وفي قَلبِه بمَصائِبَ هائِلةٍ؟ وهل يُمكِنُ أن نُطلِقَ علَيْه أنَّه سَعِيدٌ؟
ألَا تَرَينَ أنَّ مَن يَئِس مِن أَمرٍ جُزئيٍّ، وانقَطَع رَجاؤُه مِن أَمَلٍ وَهمِيٍّ، وخابَ ظَنُّه مِن عَمَلٍ تافِهٍ، كيفَ يَتَحوَّلُ خَيالُه العَذْبُ مُرًّا عَلْقمًا، وكَيفَ يَتَعذَّبُ مِمّا حَولَه مِن أَوضاعٍ لَطِيفةٍ، فتَضِيقُ علَيْه الدُّنيا كالسِّجنِ بما رَحُبَت! فكَيفَ بمَن أُصِيبَ بشُؤْمِكِ بضَرَباتِ الضَّلالةِ في أَعمَقِ أَعماقِ قَلبِه، وفي أَغوارِ رُوحِه، حتَّى انقَطَعَت -بتِلك الضَّلالةِ- جَمِيعُ آمالِه، فانشَقَّت عنها جَمِيعُ آلامِه، فأَيُّ سَعادةٍ يُمكِنُكِ أن تَضمَنِي لِمِثلِ هذا المِسكِينِ الشَّقِيِّ؟ وهل يُمكِنُ أن يُطلَقَ على مَن رُوحُه وقلبُه يُعذَّبانِ في جَهَنَّمَ، وجِسمُه فقط في جَنّةٍ كاذِبةٍ زائِلةٍ.. أنَّه سَعِيدٌ؟!
لقد أَفسَدْتِ -أيَّتُها الرُّوحُ الخَبِيثةُ- البَشَرِيّةَ حتَّى طاشَتْ بتَعالِيمِكِ، فتُقاسِي مِنكِ العَذابَ المَرِيرَ، بإِذاقَتِكِ إيّاها عَذابَ الجَحِيمِ في نَعِيمِ جَنّةٍ كاذِبةٍ.
[السعادة والشقاء في مثال تقريبي]
أيَّتُها النَّفسُ الأَمّارةُ لِلبَشَرِيّةِ، تَأمَّلي في هذا المِثالِ وافْهَمِي مِنه إلى أَينَ تَسُوقِينَ البَشَرِيّةَ؟
اِفتَرِضِي أنَّ أَمامَنا طَرِيقَينِ، فسَلَكْنا أَحَدَهُما، وإذا بنا نَرَى في كلِّ خُطْوةٍ نَخطُوها في الطَّرِيقِ الأوَّلِ مَساكِينَ عَجَزةً يَهجُمُ علَيْهِمُ الظّالِمُونَ، يَغصِبُونَ أَموالَهُم ومَتاعَهُم، يُخرِبُونَ بُيُوتَهُم وأَكواخَهُم، بل قد يَجرَحُونَهُم جَرحًا بَلِيغًا حتَّى تكادُ السَّماءُ تَبكِي على حالَتِهِمُ المُفجِعةِ؛ فأَينَما يُمَدُّ النَّظَرُ تُرَى الحالةُ نَفسُها، فلا يُسمَعُ في هذا الطَّرِيقِ إلّا ضَوْضاءُ الظَّالِمِينَ وصَخَبُهُم، وأَنينُ المَظلُومِينَ ونُواحُهُم، فكَأنَّ مَأْتَمًا عامًّا قد خَيَّم على الطَّرِيقِ.
ولَمَّا كانَ الإِنسانُ -بمُقتَضَى إِنسانيَّتِه- يَتَألَّمُ بأَلَمِ الآخَرِينَ، فلا يَستَطِيعُ أن يَتَحمَّلَ ما يَراه في هذا الطَّرِيقِ مِن أَلَمٍ غيرِ مَحدُودٍ، إذِ الوِجْدانُ لا يُطِيقُ أَلَمًا إلى هذا الحَدِّ، لِذا يُضطَرُّ سالِكُ هذا الطَّرِيقِ إلى أَحَدِ أَمرَينِ: إمّا أن يَتَجرَّدَ مِن إِنسانيَّتِه، ويَحمِلَ قَلبًا قاسِيًا غارِقًا في مُنتَهَى الوَحشةِ لا يَتَألَّمُ بِهَلاكِ الجَمِيعِ طالَما هو سالِمٌ مُعافًى، أو يُبطِلَ ما يَقتَضِيه القَلبُ والعَقلُ!
فيا أَورُوبّا الَّتي نَأَتْ عنِ النَّصرانيّةِ وابتَعَدَت عَنْها، وانغَمَسَت في السَّفاهةِ والضَّلالةِ.. لقد أَهدَيتِ بدَهائِكِ الأَعوَرِ كالدَّجَّالِ لِرُوحِ البَشَرِ حالةً جَهَنَّمِيّةً، ثمَّ أَدرَكتِ أنَّ هذه الحالةَ داءٌ عُضالٌ لا دَواءَ له، إذ يَهوِي بالإِنسانِ منِ ذِروةِ أَعلَى عِلِّيِّينَ إلى دَرَكِ أَسفَلِ سافِلِينَ، وإلى أَدنَى دَرَجاتِ الحَيَوانِ وحَضِيضِها، ولا عِلاجَ لكِ أَمامَ هذا الدّاءِ الوَبِيلِ إلّا مَلاهِيكِ الجَذّابةُ الَّتي تَدفَعُ إلى إِبطالِ الحِسِّ وتَخدِيرِ الشُّعُورِ مُؤقَّتًا، وكَمالِيّاتُكِ المُزَخرَفةُ وأَهواؤُكِ المُنوِّمةُ… فتَعْسًا لكِ ولِدَوائِكِ الَّذي يكُونُ هو القاضِيَ علَيْكِ.. نعم، إنَّ ما فَتَحتِيه أَمامَ البَشَرِيّةِ مِن طَرِيقٍ، يُشبِهُ هذا المِثالَ المَذكُورَ.
أمّا الطَّرِيقُ الثَّاني فهُو ما أَهداه القُرآنُ الكَرِيمُ مِن هَدِيّةٍ إلى البَشَرِيّةِ، فهَداهُم إلى الصِّراطِ السَّوِيِّ، فنَحنُ نَرَى في كلِّ مَنزِلٍ مِن مَنازِلِ هذا الطَّرِيقِ، وفي كلِّ مَوضِعٍ مِن مَواضِعِه، وفي كلِّ مَدِينةٍ تَقَعُ علَيْه، جُنُودًا مُطِيعِينَ أُمَناءَ لِسُلطانٍ عادِلٍ، يَتَجوَّلُونَ في كلِّ جِهةٍ يَنتَشِرُونَ في كلِّ ناحِيةٍ، وبينَ فَيْنةٍ وأُخرَى يَأتِي قِسمٌ مِن مَأْمُورِي ذلك المَلِكِ العادِلِ ومُوَظَّفِيه، فيُعفِي بَعضَ أُولَئِك الجُنُودِ مِن وَظائِفِهِم بأَمرِ السُّلطانِ نَفسِه، ويَتَسلَّمُ مِنهُم أَسلِحَتَهُم ودَوابَّهُم ومُعَدّاتِهِمُ الخاصّةَ بالدَّولةِ، ويُسَلِّمُ إلَيْهِم بِطاقةَ الإِعفاءِ.
وهَؤُلاءِ المُعفَوْنَ يَبتَهِجُونَ ويَفرَحُونَ -مِن زاوِيةِ الحَقِيقةِ- بإِعفائِهِم فَرَحًا عَظِيمًا لِرُجُوعِهِم إلى السُّلطانِ وعَودَتِهِم إلى دارِ قَرارِ سَلطَنَتِه، والمُثُولِ بزِيارَتِه الكَرِيمةِ، معَ أنَّهُم يَحزَنُونَ في ظاهِرِ الأَمرِ على ما أُخِذ مِنهُم مِن دابّةٍ ومُعَدّاتٍ أَلِفُوها.
ونَرَى أَيضًا أنَّه قد يَلتَقِي أُولَئِك المَأمُورُونَ مَن لا يَعرِفُهُم مِنَ الجُنُودِ، فعِندَما يُخاطِبُونَه: أَنْ سَلِّمْ سِلاحَك. يَرُدُّ علَيْهِمُ الجُندِيُّ: أنا جُندِيٌّ لَدَى السُّلطانِ العَظِيمِ وتَحتَ أَمرِه وفي خِدمَتِه، وإلَيْه مَصِيرِي ومَرجِعِي، فمَن أَنتُم حتَّى تَسلُبُوا مِنِّي ما وهَبَني السُّلطانُ العَظِيمُ؟ فإن كُنتُم قد جِئتُم بإِذنِه ورِضاه فعَلَى العَينِ والرَّأسِ، فأَرُونِي أَمرَه الكَرِيمَ، وإلّا تَنَحَّوا عَنِّي، فلَأُقاتِلَنَّـكُم ولو كُنتُ وَحْدِي وأَنتُم أُلُوفٌ، إذ لا أُقاتِلُ لِنَفسِي لِأنَّها لَيسَت لي، بل أُقاتِلُ حِفاظًا على أَمانةِ مالِكِي ومَوْلاي، وصِيانةً لِعِزَّتِه وعَظَمَتِه.. فأَنا لا أَرضَخُ لَكُم!
فدُونَكِ مِثالًا واحِدًا مِن أُلُوفِ الأَمثِلةِ على ما في هذا الطَّرِيقِ الثَّاني مِن مَصدَرِ فَرَحٍ ومَدارِ سَعادةٍ، فانسُجِي على مِنوالِه.
وعلى طُولِ الطَّرِيقِ الثَّاني، وطَوالَ مُدّةِ السَّفْرةِ كُلِّها نَرَى سَوقًا إلى الجُندِيّةِ، يَتِمُّ في فَرَحٍ وابتِهاجٍ وسُرُورٍ.. تلك هي الَّتي تُسَمَّى بـ”المَوالِيدِ”؛ وهُنالِك إِعفاءاتٌ ورُخَصٌ مِنَ الجُندِيّةِ، تَتِمُّ في فَرَحٍ وحُبُورٍ أَيضًا، وَسَطَ تَهلِيلٍ وتَكبِيرٍ.. تلك هي الَّتي تُسَمَّى بـ”الوَفَياتِ”.
هذا هو الَّذي أَهداه القُرآنُ الكَرِيمُ لِلبَشَرِيّةِ، فمَنِ اهتَدَى به فقد سَعِدَ في الدّارَينِ، ويَمضِي في طَرِيقِه -الثّاني- على هذه الصُّورةِ اللَّطِيفةِ بلا حُزنٍ وكَدَرٍ على ما فاتَ مِنه، وبلا خَوفٍ ووَجَلٍ مِمّا سيَأتِي علَيْه.
[أكذوبة قانون الصراع وأن كل حيٍّ مالكٌ لنفسه]
يا أَورُوبَّا الثَّانيةُ الفاسِدةُ، إنَّكِ تَستَنِدِينَ إلى أُسُسٍ واهِيةٍ نَخِرةٍ، فتَزعُمِينَ: أنَّ كلَّ كائِنٍ حيٍّ مالِكٌ لِنَفسِه، ابتِداءً مِن أَعظَمِ مَلَكٍ وانتِهاءً بأَصغَرِ سَمَكٍ يَعمَلُ لِذاتِه فقط، ولِأَجلِ ذاتِه فحَسْبُ، له حَقُّ الحَياةِ؛ فغايةُ هِمَّتِه وهَدَفُ قَصدِه هو ضَمانُ بَقائِه واستِمرارُ حَياتِه.. ثمَّ إنَّكِ تَرَينَ “قانُونَ التَّعاوُنِ” جارِيًا فيما بينَ المَخلُوقاتِ امتِثالًا لِأَمرِ الخالِقِ الكَرِيمِ الَّذي هو واضِحٌ جَلِيٌّ في أَرجاءِ الكَونِ كلِّه كإِمدادِ النَّباتاتِ لِلحَيَواناتِ والحَيَواناتِ لِلإِنسانِ، ثمَّ تَحسَبِينَ هذا القانُونَ والسُّنّةَ الإِلٰهِيّةَ وتلك التَّجَلِّياتِ الكَرِيمةَ الرَّحِيمةَ المُنبَعِثةَ مِن ذلك التَّعاوُنِ العامِّ جِدالًا وخِصامًا وصِراعًا، حتَّى حَكَمْتِ ببَلاهةٍ أنَّ الحَياةَ جِدالٌ وصِراعٌ!!
فيا سُبحانَ اللهِ!! كيفَ يكُونُ إِمدادُ ذَرّاتِ الطَّعامِ إِمدادًا بكَمالِ الشَّوقِ لِتَغذِيةِ خَلايا الجِسمِ جِدالًا وخِصامًا؟ بل ما هو إلّا سُنّةُ التَّعاوُنِ، ولا يَتِمُّ إلّا بأَمرِ رَبٍّ حَكِيمٍ كَرِيمٍ.
[أوضح دليل على بطلان هذه الأكذوبة]
وإنَّ ما تَستَنِدِينَ إلَيْه مِن أنَّ “كلَّ شَيءٍ مالِكٌ لِنَفسِه” واضِحُ البُطلانِ، وأَوْضَحُ دَليلٍ علَيْه هو أنَّ أَشرَفَ الأَسبابِ وأَوسَعَها إِرادةً واختِيارًا هو الإِنسانُ؛ والحالُ ليس في يَدِ اختِيارِه ولا في دائِرةِ اقتِدارِه مِن أَظهَرِ أَفعالِه الِاختِيارِيّةِ -كالأَكلِ والكَلامِ والتَّفكُّرِ- إلّا جُزءٌ واحِدٌ مُبهَمٌ مِن بينِ المِئةِ.. فالَّذي لا يَملِكُ واحِدًا مِنَ المِئةِ مِن مِثلِ هذا الفِعلِ الظَّاهِرِ، كيف يكُونُ مالِكًا لِنَفسِه؟! وإذا كان الأَشرَفُ والأَوسَعُ اختِيارًا مَغلُولَ الأَيدِي عنِ التَّملُّكِ الحَقِيقيِّ والتَّصَرُّفِ التّامِّ فكَيفَ بسائِرِ الحَيَواناتِ والجَماداتِ؟ أَليسَ الَّذي يُطلِقُ هذا الحُكمَ “بأنَّ الحَيَواناتِ والجَماداتِ مالِكةُ نَفسِها” أَضَلَّ مِنَ الأَنعامِ وأَفقَدَ لِلشُّعُورِ مِنَ الجَماداتِ؟
[الذكاء المنحوس والدهاء الأعور]
فيا أَورُوبّا، ما وَرَّطَكِ في هذا الخَطأِ المُشِينِ إلّا دَهاؤُكِ الأَعوَرُ، أي: ذَكاؤُكِ المَنحُوسُ الخارِقُ، فلَقَد نَسِيتِ بذَكائِكِ هذا رَبَّ كلِّ شَيءٍ وخالِقَه، إذْ أَسنَدتِ آثارَه البَدِيعةَ إلى الأَسبابِ والطَّبِيعةِ المَوهُومةِ! وقسَّمتِ مُلكَ ذلك الخالِقِ الكَرِيمِ على الطَّواغِيتِ الَّتي تُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ.. فانطِلاقًا مِن هذه الزّاوِيةِ الَّتي يَنظُرُ مِنها دَهاؤُكِ الأَعوَرُ يَضطَرُّ كلُّ ذِي حَياةٍ وكلُّ إِنسانٍ أن يُصارِعَ وَحْدَه ما لا يُعَدُّ مِنَ الأَعداءِ، ويَحصُلَ بنَفسِه على ما لا يُحَدُّ مِنَ الحاجاتِ، بما يَملِكُ مِنِ اقتِدارٍ كذَرّةٍ، واختِيارٍ كشَعرةٍ، وشُعُورٍ كلَمْعةٍ تَزُولُ، وحَياةٍ كشُعْلةٍ تَنطَفِئُ، وعُمُرٍ كدَقِيقةٍ تَنقَضِي، معَ أنَّه لا يَكفِي كلُّ ما في يَدِه لِواحِدٍ مِن مَطالِبِه؛ فعِندَما يُصابُ -مَثلًا- بمُصِيبةٍ فإنَّه لا يَرجُو الدَّواءَ لِدائِه إلّا مِن أَسبابٍ صُمٍّ عُمْيٍ، حتَّى يكُونُ مِصداقَ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾.
إنَّ دَهاءَكِ المُظلِمَ قد قَلَب نَهارَ البَشَرِيّةِ لَيلًا، ذلك اللَّيلَ البَهِيمَ بالجَورِ والمَظالِمِ، ثمَّ تُرِيدِينَ أن تُنوِّرِي ذلك الظَّلامَ المُخِيفَ بمَصابِيحَ كاذِبةٍ مُؤقَّتةٍ! هذه المَصابِيحُ لا تَبتَسِمُ بوَجهِ الإِنسانِ، بل تَستَهزِئُ به، وتَستَخِفُّ مِن ضَحِكاتِه الَّتي يُطلِقُها بِبَلاهةٍ وهُو مُتَمرِّغٌ في أَوْحالِ أَوْضاعٍ مُؤلِمةٍ مُبكِيةٍ! فكُلُّ ذِي حَياةٍ في نَظَرِ تَلامِيذِكِ: مِسكِينٌ مُبتَلًى بمَصائِبَ ناجِمةٍ مِن هُجُومِ الظَّلَمةِ؛ والدُّنيا مَأْتَمٌ عُمُوميٌّ، والأَصواتُ الَّتي تَنطَلِقُ مِنها نَعَياتُ المَوتِ، وأَنّاتُ الآلامِ، ونِياحاتُ اليَتامَى.
[تلميذ أوروبا]
إنَّ الَّذي يَتَلقَّى الدَّرسَ مِنكِ ويَستَرشِدُ بِهَديِكِ يُصبِحُ “فِرعَونًا” طاغِيةً.. ولِكنَّه فِرعونٌ ذَليلٌ، إذ يَعبُدُ أَخَسَّ الأَشياءِ، ويَتَّخِذُ كلَّ شَيءٍ يَنتَفِعُ مِنه رَبًّا له.
وتِلمِيذُكِ هذا “مُتَمرِّدٌ” أَيضًا، ولكِنَّه مُتَمرِّدٌ مِسكِينٌ، إذ لِأَجلِ لَذّةٍ تافِهةٍ يُقبِّلُ قَدَمَ الشَّيطانِ، ولِأَجلِ مَنفَعةٍ خَسِيسةٍ يَرضَى بمُنتَهَى الذُّلِّ والهَوانِ.
وهُو “جَبّارٌ” ولكِنَّه جَبّارٌ عاجِزٌ في ذاتِه، لِأنَّه لا يَجِدُ مُرتَكَزًا في قَلبِه يَأوِي إلَيْه.
إنَّ غايةَ ما يَصبُو إلَيْه تِلمِيذُكِ وذِروةَ هِمَّتِه: تَطمِينُ رَغَباتِ النَّفسِ وإِشباعُ هَواها، حتَّى إنَّه دَسّاسٌ يَبحَثُ تَحتَ سِتارِ الحَمِيّةِ والتَّضحِيةِ والفِداءِ عن مَنافِعِه الذّاتيّةِ، فيُطَمْئِنُ بدَسِيسَتِه وخُبثِه حِرْصَه ويُشبِـعُ نَهَمَ غُرُورِه، إذ لا يُحِبُّ حَقًّا إلّا نَفسَه، بل يُضَحِّي بكلِّ شَيءٍ في سَبِيلِها.
[تلميذ القرآن]
أمّا التِّلمِيذُ المُخلِصُ الخالِصُ لِلقُرآنِ الكَرِيمِ فهُو “عَبدٌ”، ولكِنَّه لا يَتَنزَّلُ لِعِبادةِ أَعظَمِ مَخلُوقٍ، فهُو “عَبدٌ عَزِيزٌ” لا يَرضَى حتَّى بالجَنّةِ -تلك النِّعمةِ العُظمَى- غايةً لِعُبُودِيَّتِه للهِ. وهُو “لَيِّنٌ هَيِّنٌ”، ولكِنَّه لا يَتَذلَّلُ لِغَيرِ فاطِرِه الجَلِيلِ، ولِغَيرِ أَمرِه وإِذنِه، فهُو صاحِبُ هِمّةٍ عُلْيا وعَزِيمةٍ صادِقةٍ.
وهُو “فَقِيرٌ”، ولكِنَّه مُستَغنٍ عن كلِّ شَيءٍ بما ادَّخَر له مالِكُه الكَرِيمُ مِنَ الثَّوابِ الجَزِيلِ.
وهُو “ضَعِيفٌ”، ولكِنَّه يَستَنِدُ إلى قُوّةِ سَيِّدِه المُطلَقةِ، فالقُرآنُ الكَرِيمُ لا يَرضَى لِتِلمِيذِه الخالِصِ حتَّى بالجَنّةِ الخالِدةِ مَقصَدًا وغايةً، فكَيفَ بهذه الدُّنيا الزّائِلةِ؟
فافْهَمِي مِن هذا مَدَى التَّفاوُتِ الكَبِيرِ والبَونِ الشّاسِعِ بينَ هِمّةِ هذَينِ التِّلمِيذَينِ!
[مقارنة بين التلميذَين]
وكَذلِك يُمكِنُكُم أن تَقِيسُوا مَدَى الفَرقِ الهائِلِ بينَ تَلامِيذِ الفَلسَفةِ السَّقِيمةِ وتَلامِيذِ القُرآنِ الحَكِيمِ مِن حَيثُ مَدَى التَّضحِيةِ والفِداءِ في كلٍّ مِنهُما بما يَأتِي:
[بين الأنانية والأُخوّة]
إنَّ تِلمِيذَ الفَلسَفةِ يَفِرُّ مِن أَخِيه إِيثارًا لِنَفسِه، ويُقِيمُ علَيْه الدَّعوَى؛ أمّا تِلمِيذُ القُرآنِ فإنَّه يَرَى جَمِيعَ عِبادِ اللهِ الصَّالِحِينَ في الأَرضِ والسَّماواتِ إِخوانًا له، ويَشعُرُ مِن أَعماقِ رُوحِه بأَواصِرِ شَوقٍ تَشُدُّه نَحوَهُم، فيَدعُو لَهُم دُعاءً خالِصًا نابِعًا مِن صَمِيمِ قَلبِه: “اللَّهُمَّ اغفِرْ لِلمُؤمِنِينَ والمُؤمِناتِ”، فهُو يَسعَدُ بسَعادَتِهِم، حتَّى إنَّه يَرَى ما هو أَعظَمُ الأَشياءِ -كالعَرشِ الأَعظَمِ والشَّمسِ الضَّخْمةِ- مَأمُورًا مُسَخَّرًا مِثلَه.
[سعة الروح]
ثمَّ يُمكِنُـكُم قِياسُ سُمُوِّ الرُّوحِ وانبِساطِها لَدَى التِّلمِيذَينِ بما يَأتِي:
إنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ يَمنَحُ تَلامِيذَه نَماءً سامِيًا لِلرُّوحِ وانبِساطًا واسِعًا لها، إذ يُسَلِّمُ إلى أَيدِيهِم بَدَلًا مِن تِسعٍ وتِسعِينَ حَبّةً مِن حَبّاتِ المِسبَحةِ، سِلسِلةً مُرَكَّبةً مِن ذَرّاتِ تِسعٍ وتِسعِينَ عالَمًا مِن عَوالِمِ الكَونِ الَّتي يَتَجلَّى فيها تِسعٌ وتِسعُونَ اسمًا مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى، ويُخاطِبُهُم: هاؤُمُ اقرَؤُوا أَوْرادَكُم بهذه السِّلسِلة، وهُم بدَوْرِهِم يَقرَؤُونَ أَوْرادَهُم بتلك المِسبَحةِ العَجِيبةِ، ويَذكُرُونَ رَبَّهُمُ الكَرِيمَ بأَعدادِها غيرِ المَحدُودةِ.
فإن شِئتَ فانظُرْ إلى تَلامِيذِ القُرآنِ مِنَ الأَولِياءِ الصّالِحِينَ أَمثالِ الشَّيخِ الكَيْلانِيِّ والشَّيخِ الرِّفاعيِّ والشَّيخِ الشّاذِليِّ رَضِيَ الله عَنهُم، وأَنصِتْ إلَيْهِم حِينَما يَقرَؤُونَ أَوْرادَهُم، وانظُرْ كيفَ أَخَذُوا في أَيادِيهِم سَلاسِلَ الذَّرّاتِ، وعَدَدَ القَطَراتِ، وأَنفاسَ المَخلُوقاتِ، فيَذكُرُونَ اللهَ بها ويُسَبِّحُونَه ويُقَدِّسُونَه.. تَأمَّلْ كيفَ يَتَعالَى ذلك الإنسانُ الهَزِيلُ الصَّغِيرُ الَّذي يُصارِعُه أَصغَرُ مَيكرُوبٍ ويَصرَعُه أَدنَى كَرْبٍ! وكيفَ يَتَسامَى في التَّربِيةِ القُرآنيّةِ الخارِقةِ فتَنبَسِطُ لَطائِفُه وتَسطَعُ بفَيضِ إِرشاداتِ القُرآنِ حتَّى إنَّه يَستَصغِرُ أَضخَمَ مَوجُوداتِ الدُّنيا مِن أن يكُونَ مِسبَحةً لِأَورادِه، بل يَستَقِلُّ الجَنّةَ العُظمَى أن تكُونَ غايةَ ذِكرِه للهِ سُبحانَه، معَ أنَّه لا يَرَى لِنَفسِه فَضْلًا على أَدنَى شَيءٍ مِن خَلقِ اللهِ.. إنَّه يَجمَعُ مُنتَهَى التَّواضُعِ في مُنتَهَى العِزّةِ.. فيُمكِنُك قِياسًا على هذا أن تُقدِّرَ مَدَى انحِطاطِ تَلامِيذِ الفَلسَفةِ ومَدَى دَناءَتِهِم.
[بين منظارَين إلى الوجود]
وهكذا، فالحَقائِقُ الَّتي تَراها الفَلسَفةُ السَّقِيمةُ الأَورُوبِّيّةُ بدَهائِها الأَعوَرِ مُشَوَّهةً زائِفةً، يَراها الهَدْيُ القُرآنِيُّ واضِحةً جَلِيّةً، ذلك النُّورُ الَّذي يَنظُرُ إلى كِلا العالَمَينِ مَعًا بعَينَينِ برَّاقَتَينِ نافِذَتَينِ إلى الغَيبِ، ويُشِيرُ بكِلْتا يَدَيه إلى السَّعادَتَينِ، ويُخاطِبُ البَشَرِيّةَ:
أيُّها الإِنسانُ، إنَّ ما تَملِكُه مِن نَفسٍ ومالٍ ليس مُلكًا لك، بل هو أَمانةٌ لَدَيك، فمالِكُ تلك الأَمانةِ قَدِيرٌ على كلِّ شَيءٍ، عَلِيمٌ بكلِّ شَيءٍ، رَحِيمٌ كَرِيمٌ، يَشتَرِي مِنك مُلكَه الَّذي عِندَك لِيَحفَظَه لك، لِئَلّا يَضِيعَ في يَدِك، وسيُكافِئُك به ثَمَنًا عَظِيمًا، فأَنتَ لَستَ إلّا جُندِيًّا مُكَلَّفًا بوَظِيفةٍ، فاعْمَلْ لِأَجلِه واسْعَ بِاسمِه، فهُو الَّذي يُرسِلُ إلَيْك رِزقَك الَّذي تَحتاجُه، ويَحفَظُك مِمّا لا تَقدِرُ علَيْه.
إنَّ غايةَ حَياتِك هذه ونَتِيجَتَها هي أن تكُونَ مَظهَرًا لِتَجلِّياتِ أَسماءِ ذلك المالِكِ، ومَعكَسًا لِشُؤُونِه الحَكِيمةِ.. وإذا ما أَصابَتْك مُصِيبةٌ فقُلْ: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، أي: أنا طَوْعُ أَمرِ مَوْلايَ، فإن كُنتِ قادِمةً أيَّتُها المُصِيبةُ بإِذنِه وبِاسمِه، فأَهلًا ومَرحَبًا بكِ، فنَحنُ لا مَحالةَ راجِعُونَ إلَيْه لا مَناصَ مِن ذلك، وسنَحظَى بالمُثُولِ بينَ يَدَيه، فنَحنُ حَقًّا مُشتاقُونَ إلَيْه.. فما دامَ سيُعتِقُنا يَومًا مِن تَكالِيفِ الحَياةِ فلْيَكُن ذلك على يَدَيكِ أيَّتُها المُصِيبةُ.. أنا مُستَسلِمٌ راضٍ؛ ولكِن إن كانَ الأَمرُ والإِرادةُ قد صَدَر إلَيْكِ مِنه سُبحانَه لِأَجلِ الِابتِلاءِ والِاختِبارِ لِمَدَى مُحافَظَتِي على الأَمانةِ ولِمَدَى قِيامِي بواجِباتِي، فلا أُسَلِّمُ ما استَطَعتُ أَمانةَ مالِكِي لِأَيدٍ غَيرِ أَمِينةٍ، ولا أَستَسلِمُ لِغَيرِ أَمرِه ورِضاه سُبحانَه.
[بين اليقظة والغفلة]
فدُونَكِ مِثالًا واحِدًا مِن بينِ الأُلُوفِ مِنه على مَعرِفةِ قِيمةِ ما يُلقِّنُه دَهاءُ الفَلسَفةِ، ومَرتَبةِ ما يُرشِدُه هَدْيُ القُرآنِ مِن دُرُوسٍ.
نعم، إنَّ الوَضْعَ الحَقِيقيَّ لِكِلا الطَّرَفَينِ هو على هذا المِنوالِ، بَيْدَ أنَّ دَرَجاتِ النّاسِ مُتَفاوِتةٌ في الهِدايةِ والضَّلالةِ، ومَراتِبَ الغَفْلةِ مُختَلِفةٌ مُتَبايِنةٌ، فلا يَشعُرُ كلُّ واحِدٍ بهذه الحَقِيقةِ في كلِّ مَرتَبةٍ، إذِ الغَفْلةُ تُبطِلُ الحِسَّ والشُّعُورَ وتُخَدِّرُهُما، وقد أَبطَلَتْ في هذا الزَّمانِ الحِسَّ والشُّعُورَ إلى حَدٍّ لم يَعُد يَشعُرُ بأَلَمِ هذا العَذابِ الأَلِيمِ ومَرارَتِه أُولَئِك السّائِرُونَ في رِكابِ المَدَنيّةِ الحاضِرةِ، ولكِنَّ سِتارَ الغَفْلةِ يَتَمزَّقُ بتَزايُدِ الإِحساسِ العِلمِيِّ، عَلاوةً على نَذِيرِ المَوتِ الَّذي يَعرِضُ جِنازةَ ثَلاثِينَ أَلفَ شَخصٍ يَومِيًّا.
فيا أَسفَى! ويا وَيلَ مَن ضَلَّ بطَواغِيتِ الأَجانِبِ وعُلُومِهِمُ المادِّيّةِ الطَّبِيعيّةِ! ويا خَسارةَ أُولَئِك الَّذِينَ يُقلِّدُونَهُم تَقلِيدًا أَعمَى، ويَتَّبِعُونَهُم شِبْرًا بشِبْرٍ وذِراعًا بذِراعٍ.
[تحذير]
فيا أَبناءَ هذا الوَطَنِ، لا تُحاوِلُوا تَقلِيدَ الإِفرَنجِ! وهل بعدَ كلِّ ما رَأَيتُم مِن ظُلمِ أَورُوبّا الشَّنِيعِ وعَداوَتِهِمُ اللَّدُودِ، تَتَّبِعُونَهُم في سَفاهَتِهِم، وتَسِيرُونَ في رِكابِ أَفكارِهِمُ الباطِلةِ؟! وتَلتَحِقُونَ بصُفُوفِهِم، وتَنضَمُّونَ تَحتَ لِوائِهِم بلا شُعُورٍ؟! فأَنتُم بهذا تَحكُمُونَ على أَنفُسِكُم وعلى إِخوانِكُم بالإِعدامِ.. كُونُوا راشِدِينَ فَطِنِينَ! إنَّكُم كُلَّما اتَّبَعتُمُوهُم في سَفاهَتِهِم وضَلالِهِمُ ازدَدتُم كَذِبًا وافتِراءً في دَعوَى الحَمِيّةِ والتَّضحِيةِ، لِأنَّ هذا الِاتِّباعَ استِخفافٌ بأُمَّتِكُم واستِهزاءٌ بمِلَّتِكُم!
﴿هَدانا اللهُ وإيّاكُمُ إلى الصِّراطَ المُستَقِيمَ﴾
[المذكرة السادسة: كثرةُ منكِري الحقائق لا تستلزم نفيَ الحقائق]
المذكِّرة السادسة
يا مَن يَضطَرِبُ ويَقلَقُ مِن كَثرةِ عَدَدِ الكُفّارِ، ويَتَزلزَلُ باتِّفاقِهِم على إِنكارِ بَعضِ حَقائِقِ الإِيمانِ.. اِعلَمْ أيُّها المِسكِينُ:
أنَّ القِيمةَ والأَهَمِّيّةَ لَيسَتا في وَفرةِ الكَمِيّةِ وكَثرةِ العَدَدِ، إذِ الإِنسانُ إن لم يَكُن إِنسانًا حَقًّا انقَلَب حَيَوانًا شَيْطانًا، لِأنَّ الإِنسانَ يَكسِبُ حَيَوانيّةً هي أَشَدُّ مِنَ الحَيَوانِ نَفسِه كُلَّما تَوَغَّلَ في النَّوازِعِ الحَيَوانيّةِ، كبَعضِ الأَجانِبِ أوِ السَّائِرِينَ في رِكابِهِم؛ فبَينَما تَرَى قِلّةَ عَدَدِ الإِنسانِ قِياسًا إلى كَثرةِ عَدَدِ الحَيَواناتِ إذا بك تَراه قد أَصبَحَ سُلطانًا وسَيِّدًا على جَمِيعِ أَنواعِها، وصارَ خَلِيفةً في الأَرضِ.
فالكُفَّارُ المُنكِرُونَ والَّذِينَ يَتَّبِعُونَ خُطُواتِهِم في السَّفاهةِ، هم نَوعٌ خَبِيثٌ مِن أَنواعِ الحَيَواناتِ الَّتي خَلَقَها الفاطِرُ الحَكِيمُ سُبحانَه لِعِمارةِ الدُّنيا، وجَعَلَهُم “وَحْدةَ قياسٍ” لِمَعرِفةِ دَرَجاتِ النِّعمةِ الَّتي أَسبَغَها على عِبادِه المُؤمِنِينَ، وسوفَ يُسَلِّمُهُم إلى جَهَنَّمَ وبِئسَ المَصِيرُ الَّذي يَستَحِقُّونَه، حِينَما يَرِثُ الأَرضَ ومَن علَيْها.
[ألْفُ منكِرٍ بمنزلةِ منكِر واحد]
ليس في إِنكارِ الكُفّارِ والضَّالِّينَ لِحَقِيقةٍ مِنَ الحَقائِقِ الإِيمانيّةِ قُوّةٌ، ولا في نَفيِهِم لها سَنَدٌ، ولا في اتِّفاقِهِم أَهَمِّيّةٌ، لِأنَّه نَفيٌ؛ فأَلفٌ مِنَ النّافِينَ هم في حُكمِ نافٍ واحِدٍ فقط.
مِثالُ ذلك: إذا نَفَى أَهلُ إسطَنبُولَ جَمِيعُهم رُؤيَتَهُم لِلهِلالِ في بِدايةِ رَمَضانَ المُبارَكِ، فإنَّ إِثباتَ اثنَينِ مِنَ الشُّهُودِ، يُسقِطُ قِيمةَ اتِّفاقِ كلِّ ذلك الجَمعِ الغَفِيرِ.. فلا قِيمةَ إِذًا في اتِّفاقِ الكُفّارِ الكَثِيرِينَ ما دامَت ماهِيّةُ الكُفرِ والضَّلالةِ نَفْيًا، وإِنكارًا، وجَهْلًا، وعَدَمًا.. ومِن هُنا يُرجَّحُ حُكمُ مُؤمِنَينِ اثنَينِ يَستَنِدانِ إلى الشُّهُودِ في المَسائِلِ الإِيمانيّةِ الثّابِتةِ إِثباتًا قاطِعًا على اتِّفاقِ ما لا يُحَدُّ مِن أَهلِ الضَّلالةِ والإِنكارِ ويَتَغلَّبُ علَيْهِم.
وسِرُّ هذه الحَقِيقةِ هو ما يَأتِي:
إنَّ دَعاوَى النَّافِينَ مُتَعدِّدةٌ، رَغمَ أنَّها تَبدُو واحِدةً في الظّاهِرِ، إذ لا يَتَّحِدُ بَعضُها معَ البَعضِ الآخَرِ كي يُعزِّزَه ويَشُدَّ مِن عَضُدِه؛ بَينَما دَعاوَى المُثبِتِينَ تَتَّحِدُ وتَتَسانَدُ ويَمُدُّ بَعضُها بَعضًا ويُقَوِّيه ويَدعَمُه، فالَّذي لا يَرَى هِلالَ رَمَضانَ في السَّماءِ يقُولُ: إنَّ الهِلالَ في نَظَرِي غيرُ مَوجُودٍ، وعِندِي غيرُ مَوجُودٍ.. والآخَرُ يقُولُ مِثلَه، فكُلٌّ مِنهُم يَنفِي مِن زاوِيةِ نَظَرِه، ولَيسَ مِن واقِعِ الحالِ، ومِنَ الأَمرِ بِذاتِه، لِذا فاختِلافُ نَظَرِهِم وتَنَوُّعُ الأَسبابِ الدّاعِيةِ إلى حَجْبِ الرُّؤيةِ، وتَعَدُّدُ مَوانِعِ النَّظَرِ لَدَى الأَشخاصِ، يَجعَلُ دَعاواهُم مُتَبايِنةً ومُختَلِفةً لا تَسنُدُ إِحداها الأُخرَى.
أمّا المُثبِتُونَ فلا يقُولُ أَحَدُهُم: الهِلالُ مَوجُودٌ في نَظَرِي، أو عِندِي، بل يقُولُ: إنَّ الهِلالَ مَوجُودٌ فِعلًا، وهُو في السَّماءِ بذاتِه.. والمُشاهِدُونَ جَمِيعًا يُصَدِّقُونَه في دَعواه هذه، ويُؤيِّدُونَه في الأَمرِ نَفسِه قائِلِينَ: الهِلالُ مَوجُودٌ في واقِعِ الحالِ.. أي: إنَّ جَمِيعَ الدَّعاوَى واحِدةٌ.
ولَمّا كانَ نَظَرُ النَّافِينَ مُختَلِفًا، فقد أَصبَحَت دَعاواهُم كَذلِك مُختَلِفةً، فلا يَسرِي حُكمُهُم على الأَمرِ بِذاتِه، لِأنَّه لا يُمكِنُ إِثباتُ النَّفيِ في الحَقِيقةِ، إذ يَلزَمُ الإِحاطةُ. ومِن هُنا صارَت مِنَ القَواعِدِ الأُصُوليّةِ: أنَّ “العَدَمَ المُطلَقَ لا يُثبَتُ إلّا بمُشكِلاتٍ عَظِيمةٍ”.
نعم، إذا قُلتَ: إنَّ شَيئًا مّا مَوجُودٌ في الدُّنيا. فيَكفِي لِإثباتِه إِراءَتُه فقط؛ ولكِن إنْ قُلتَ: إنَّه مَعدُومٌ، غيرُ مَوجُودٍ في الدُّنيا. أي: إذا نَفَيتَ وُجُودَه، فيَنبَغِي لِإثباتِ هذا النَّفيِ أوِ العَدَمِ أنْ تَبحَثَ عنه في أَطرافِ الدُّنيا كافّةً وإِراءَةُ عَدَمِه.
وبِناءً على هذا السِّرِّ: يَتَساوَى في إِنكارِ الكُفّارِ لِحَقِيقةٍ واحِدةٍ الواحِدُ معَ الأَلفِ، لِعَدَمِ وُجُودِ التَّسانُدِ فيه؛ يُشبِهُ ذلك: حَلَّ مَسأَلةٍ ذِهنِيّةٍ، أوِ المُرُورَ مِن ثُقبٍ، أوِ القَفزَ مِن فَوقِ الخَندَقِ، ممّا لا تَسانُدَ فيه.
أمّا المُثبِتُونَ فلِأنَّهُم يَنظُرُونَ إلى الأَمرِ نَفسِه، أي: إلى واقِعِ الحالِ، فإنَّ دَعاواهُم تَتَّحِدُ وتَتَعاوَنُ ويَمُدُّ بَعضُهُم البَعضَ الآخَرَ قُوّةً، بمِثلِ التَّعاوُنِ الحاصِل في رَفعِ صَخْرةٍ عَظِيمةٍ، فكُلَّما تَكاثَرَتِ الأَيدِي علَيْها، سَهُل رَفْعُها أكثَرَ، حَيثُ يَستَمِدُّ كلٌّ مِنهُمُ القُوّةَ مِنَ الآخَرِ.
[المذكرة السابعة: حَذارِ من التشويق إلى دنيا الأجانب]
المذكِّرة السابعة
يا مَن يَحُثُّ المُسلِمِينَ ويُشَوِّقُهُم على حُطامِ الدُّنيا، ويَسُوقُهُم قَسْرًا إلى صَنائِعِ الأَجانِبِ والتَّمَسُّكِ بأَذيالِ رُقيِّهِم.. ويا مُدَّعِي الحَمِيّةِ، أيُّها الشَّقِيُّ.. تَمَهَّل، وتَأمَّل! واحْذَرْ مِنِ انقِطاعِ عُرَى الدِّينِ لِبَعضِ أَفرادِ هذه الأُمّةِ وانفِصامِ رَوابِطِهِم مَعَه، لِأنَّه إذا انقَطَعَت تلك الرَّوابِطُ لَدَى البَعضِ تَحتَ سَطْوةِ مَطارِقِ التَّقلِيدِ الأَعمَى والسُّلوكِ الأَرعَنِ، فسيَكُونُونَ مُلحِدِينَ مُضِرِّينَ بالمُجتَمَعِ، مُفسِدِينَ لِلحَياةِ الِاجتِماعِيّةِ كالسُّمِّ القاتِلِ، إذِ المُرتَدُّ سُمٌّ زُعافٌ لِلمُجتَمَعِ، حيثُ قد فَسَد وِجْدانُه وتَعَفَّنَت طَوِيَّتُه كُلِّـيًّا؛ ومِن هُنا وَرَد في عِلمِ الأُصُولِ: “المُرتَدُّ لا حَقَّ له في الحَياةِ، خِلافًا لِلكافِرِ الذِّمِّيِّ أوِ المُعاهَدِ فإنَّ له حَقًّا في الحَياةِ”، وأنَّ شَهادةَ الكافِرِ مِن أَهلِ الذِّمّةِ مَقبُولةٌ عِندَ الأَحنافِ، بَينَما الفاسِقُ مَردُودُ الشَّهادةِ لِأنَّه خائِنٌ.
أيُّها الفاسِقُ الشَّقِيُّ، لا تَغْتَـرَّ بكَثْرةِ الفُسَّاقِ، ولا تَقُل: إنَّ أَفكارَ أَكثَرِيّةِ النّاسِ تُسانِدُني وتُؤيِّدُني، ذلك لِأنَّه لم يَدخُلِ الفِسقَ فاسِقٌ برَغبةٍ فيه وطَلَبًا لِذاتِ الفِسقِ، بل وَقَع فيه ولا يَستَطِيعُ الخُرُوجَ مِنه، إذ ما مِن فاسِقٍ إلّا ويَتَمنَّى أن يكُونَ تَقِيًّا صالِحًا، وأن يكُونَ رَئِيسُه وآمِرُه ذا دِينٍ وصَلاحٍ، اللَّهُمَّ إلّا مَن أُشرِبَ قَلبُه بالرِّدّةِ -والعِياذُ باللهِ- ففَسَد وِجدانُه بها، وأَصبَحَ يَلتَذُّ بِلَدْغِ الآخَرِينَ وإِيذائِهِم كالحَيّةِ.
أيُّها العَقلُ الأَبلَهُ والقَلبُ الفاسِدُ، أتَظُنُّ أنَّ المُسلِمِينَ لا يَرغَبُونَ في الدُّنيا، ولا يُفكِّرُونَ فيها، حتَّى أَصبَحُوا فُقَراءَ مُعْدِمِينَ، فتَراهُم بحاجةٍ إلى مَن يُوقِظُهُم مِن رَقْدَتِهِم كَيْلا يَنسَوْا نَصِيبَهُم مِنَ الدُّنيا؟
كلّا.. إنَّ ظَنَّك خَطَأٌ.. بل لَقدِ اشتَدَّ الحِرصُ، فهُم يَقَعُونَ في قَبضةِ الفَقرِ وشِباكِ الحِرمانِ نَتِيجةَ الحِرصِ، إذِ الحِرصُ لِلمُؤمِنِ سَبَبُ الخَيبةِ وقائِدُ الحِرمانِ والسَّفالةِ؛ وقد ذَهَب مَثلًا: الحَرِيصُ خائِبٌ خاسِرٌ.
نعم، إنَّ الأَسبابَ الدّاعِيةَ إلى الدُّنيا كَثِيرةٌ، والوَسائِلَ السّائِقةَ إلَيْها وَفِيرةٌ، وفي مُقدِّمَتِها ما يَحمِلُه كلُّ إِنسانٍ مِن نَفسٍ أَمّارةٍ بالسُّوءِ، وما يَكمُنُ فيه مِن هَوًى وحاجةٍ وحَواسَّ ومَشاعِرَ وشَيطانٍ عَدُوٍّ وحَلاوةٍ ظاهِرِيّةٍ لِلدُّنيا؛ فَضْلًا عن أَقرانِ السُّوءِ مِن أَمثالِك.. وغَيرِها الكَثيرِ مِنَ الدُّعاةِ إلَيْها، بَينَما الدُّعاةُ إلى الآخِرةِ وهِي الخالِدةُ والمُرشِدُونَ إلى الحَياةِ الأَبدِيّةِ قَلِيلُونَ.
فإن كانَ لَدَيك ذَرَّةٌ مِنَ الحَمِيّةِ والشَّهامةِ تِجاهَ هذه الأُمّةِ، وإن كُنتَ صادِقًا في دَعواك إلى التَّضحِيةِ والفِداءِ والإِيثارِ، فعَلَيك بمَدِّ يَدِ المُساعَدةِ إلى أُولَئِك القِلّةِ مِنَ الدَّاعِينَ إلى الحَياةِ الباقِيةِ؛ وإلَّا فإن عاوَنتَ الكَثْرةَ، وكَمَّمتَ أَفواهَ أُولَئِك الدُّعاةِ القِلَّةِ، فقد أَصبَحتَ لِلشَّيطانِ قَرِينًا، فساءَ قَرِينًا!
أوَتَظُنُّ أنَّ فَقْرَنا ناجِمٌ عن زُهدٍ نابِعٍ مِنَ الدِّينِ أو مِن كَسَلٍ ناشِئٍ مِن تَركِ الدُّنيا؟ إنَّك مُخطِئٌ في ظَنِّك أَشَدَّ الخَطَأِ.. ألا تَرَى أنَّ المَجُوسَ والبَراهِمةَ في الصِّينِ والهِندِ والزُّنُوجَ في إِفريقِيّةَ وأَمثالَهُم مِنَ الشُّعُوبِ المَغلُوبِ على أَمرِها والواقِعةِ تَحتَ سَطْوةِ أَورُوبّا، هُم أَفقَرُ مِنّا حالًا؟!
أوَلَا تَرَى أنَّه لا يَبقَى بأَيدِي المُسلِمِينَ سِوَى ما يَسُدُّ رَمَقَهُم ويُقِيمُ أَوَدَهُم، حَيثُ يَغصِبُه كُفّارُ أَورُوبَّا الظَّالِمُونَ مِنهُم أو يَسرِقُه مُنافِقُو آسِيا بما يَحِيكُونَ مِن دَسائِسَ خَبِيثةٍ؟!
إن كانَت غايَتُكُم مِن سَوقِ المُؤمِنِينَ قَسْرًا إلى المَدَنيّةِ الَّتي هي الدَّنيّةُ (أي: بلا مِيمٍ) تَسهِيلًا لِإدارةِ دَفّةِ النِّظامِ وبَسطِ الأَمنِ في رُبُوعِ المَمْلكةِ، فاعْلَمُوا جَيِّدًا أنَّكُم على خَطَأٍ جَسِيمٍ، إذ تَسُوقُونَ الأُمَّةَ إلى هاوِيةِ طَرِيقٍ فاسِدٍ، لِأنَّ إِدارةَ مِئةٍ مِنَ الفاسِقِينَ الفاسِدِينَ أَخلاقِيًّا والمُرتابِينَ في اعتِقادِهِم وإِيمانِهِم، وجَعْلَ الأَمْنِ والنِّظامِ يَسُودُ فيما بَينَهُم لَهُو أَصعَبُ بكَثِيرٍ مِن إِدارةِ أُلُوفٍ مِنَ الصَّالِحِينَ المُتَّقِينَ ونَشرِ الأَمنِ فيما بَينَهُم.
وبِناءً على ما تَقدَّمَ مِنَ الأُسُسِ فلَيسَ بالمُسلِمِينَ حاجةٌ إلى تَرغِيبِهِم وحَثِّهِم على حُبِّ الدُّنيا والحِرصِ علَيْها، فلا يَحصُلُ الرُّقيُّ والتَّقدُّمُ ولا يُنشَرُ الأَمنُ والنِّظامُ في رُبُوعِ البِلادِ بهذا الأُسلُوبِ، بل هم بحاجةٍ إلى تَنظِيم مَساعِيهِم، وبَثِّ الثِّقةِ فيما بَينَهُم، وتَسهِيلِ وَسائِطِ التَّعاوُنِ فيما بَينَهُم، ولا تَتِمُّ هذه الأُمُورُ إلّا باتِّباعِ الأَوامِرِ المُقدَّسةِ في الدِّينِ، والثَّباتِ علَيْها، معَ التِزامِ التَّقوَى مِنَ اللهِ سُبحانَه وابتِغاءِ مَرضاتِه.
[المذكرة الثامنة: في السعي ثواب عاجل ولذة فطرية]
المذكِّرة الثامنة
يا مَن لا يُدرِكُ مَدَى اللَّذّةِ والسَّعادةِ في السَّعيِ والعَمَلِ.. أيُّها الكَسلانُ! اِعلَمْ أنَّ الحَقَّ تَبارَك وتَعالَى قد أَدرَجَ لِكَمالِ كَرَمِه جَزاءَ الخِدمةِ في الخِدمةِ نَفسِها، وأَدمَجَ ثَوابَ العَمَلِ في العَمَلِ نَفسِه.
ولِأَجلِ هذا كانَتِ المَوجُوداتُ قاطِبةً بما فيها الجَماداتُ -مِن زاوِيةِ نَظَرٍ مُعيَّنةٍ- تَمتَثِلُ الأَوامِرَ الرَّبّانيّةَ بشَوقٍ كامِلٍ، وبنَوعٍ مِنَ اللَّذّةِ، عِندَ أَدائِها لِوَظائِفِها الخاصّةِ بها، والَّتي يُطلَقُ علَيْها: “الأَوامِرُ التَّكوِينيّةُ”، فكُلُّ شَيءٍ ابتِداءً مِنَ النَّحلِ والنَّمل والدَّجاجِ، وانتِهاءً بالشَّمسِ والقَمَرِ، كلٌّ مِنها يَسعَى بِلَذّةٍ تامّةٍ في أَداءِ مَهامِّه؛ أي: اللَّذّةُ كامِنةٌ في ثَنايا وَظائِفِ المَوجُوداتِ، حَيثُ إنَّها تقُومُ بها على وَجهٍ مِنَ الإِتقانِ التّامِّ، رَغمَ أنَّها لا تَعقِلُ ما تَفعَلُ، ولا تُدرِكُ نَتائِجَ ما تَعمَلُ.
[حتى الجمادات تشتاق إلى السعي والعمل]
فإن قُلتَ: إنَّ وُجُودَ اللَّذّةِ في الأَحياءِ مُمكِنٌ، ولكِن كَيفَ يكُونُ الشَّوقُ واللَّذّةُ مَوجُودَينِ في الجَماداتِ؟
فالجَوابُ: أنَّ الجَماداتِ تَطلُبُ شَرَفًا ومَقامًا وكَمالًا وجَمالًا وانتِظامًا، بل تَبحَثُ عن كلِّ ذلك وتُفتِّشُ عنه لِأَجلِ إِظهارِ الأَسماءِ الإِلٰهِيّةِ المُتَجلِّيةِ فيها، لا لِذاتِها؛ لِذا فهِي تَتَنوَّرُ وتَتَرقَّى وتَعلُو أَثناءَ امتِثالِها تلك الوَظِيفةَ الفِطْريّةَ، حَيثُ إنَّها تكُونُ بمَثابةِ مَرايا ومَعاكِسَ لِتَجَلِّياتِ أَسماءِ: “نُورِ الأَنوارِ”.
فمَثلًا: قَطْرةٌ مِنَ الماءِ -وقِطْعةٌ مِنَ الزُّجاج- رَغمَ أنَّها تافِهةٌ وقاتِمةٌ في ذاتِها، فإذا ما تَوَجَّهَت بقَلبِها الصّافي إلى الشَّمسِ، تَتَحوَّلُ إلى نَوعٍ مِن عَرشٍ لِتِلك الشَّمسِ، فتَلْقاك بوَجهٍ مُضِيءٍ!
وكَذلِك -على غِرارِ هذا المِثالِ- الذَّرّاتُ والمَوجُوداتُ مِن حَيثُ قِيامُها بوَظِيفةِ مَرايا عاكِسةٍ لِتَجَلِّياتِ الأَسماءِ الحُسنَى لِذِي الجَلالِ والجَمالِ والكَمالِ المُطلَقِ، فإنَّها تَسمُو وتَعلُو إلى مَرتَبةٍ مِنَ الظُّهُورِ والجَلاءِ والتَّنوُّرِ هي غايةٌ في العُلُوِّ والسُّمُوِّ، إذ تَرتَفِعُ تلك القَطْرةُ وتلك القِطْعةُ مِن حَضِيضِ الخُمُودِ والظُّلمةِ إلى ذِرْوةِ الظُّهُورِ والتَّنوُّرِ.. وبِما أنَّها تَكتَسِبُ -مِن حَيثُ الوَظِيفةُ- مَرتَبةً نُورانيّةً سامِيةً، فإِن كانَتِ اللَّذّةُ مُمكِنةً -أي: إن كانَ لها حِصّةٌ مِنَ الحَياةِ العامّةِ- أَمكَنَ القَولُ بأنَّ المَوجُوداتِ تقُومُ بأَداءِ وَظائِفِها في غايةِ اللَّذّةِ والمُتعةِ؛ وأَظهَرُ دَليلٍ على أنَّ اللَّذّةَ كامِنةٌ في ثَنايا الوَظِيفةِ نَفسِها هو ما يَأتِي:
تَأمَّلْ في وَظائِفِ أَعضائِك وحَواسِّك.. تَرَ أنَّ كُلًّا مِنها يَجِدُ لَذائِذَ مُتَنوِّعةً أثناءَ قِيامِه بمَهامِّه -في سَبِيل بَقاءِ الشَّخصِ أوِ النَّوعِ- فالخِدمةُ نَفسُها، والوَظِيفةُ عَينُها تكُونُ بمَثابةِ ضَربٍ مِنَ التَّلَذُّذِ والمُتعةِ بالنِّسبةِ إلَيْه، بل يكُونُ تَركُ الوَظِيفةِ والعَمَلِ عَذابًا مُؤلِمًا لِذلِك العُضوِ.
وهُناك دَليلٌ ظاهِرٌ آخَرُ هو: أنَّ الدِّيكَ -مَثلًا- يُؤْثِرُ الدَّجاجاتِ على نَفسِه، فيَتـرُكُ ما يَلتَقِطُه مِن حُبُوبِ رِزقِه إلَيهِنَّ دُونَ أن يَأكُلَ مِنها؛ ويُلاحَظُ أنَّه يقُومُ بهذه المُهِمّةِ وهُو في غايةِ الشَّوقِ وعِزِّ الِافتِخارِ وذِروةِ اللَّذّةِ؛ فهُنالِك إِذًا لَذّةٌ في تلك الخِدمةِ أَعظَمُ مِن لَذّةِ الأَكلِ.. وكذا الحالُ معَ الدَّجاجةِ الرّاعِيةِ لِأَفراخِها، فهِي تُؤْثرُها على نَفسِها، إذ تَدَعُ نَفسَها جائِعةً في سَبِيلِ إِشباعِ الصِّغارِ، بل تُضَحِّي بنَفسِها في سَبِيلِ الأَفراخِ، فتُهاجِمُ الكَلبَ المُغِيرَ علَيْها لِأَجلِ الحِفاظِ على الصِّغارِ.. ففي الخِدمةِ إِذًا لَذّةٌ تَفُوقُ كلَّ شَيءٍ، حتَّى إنَّها تَفُوقُ مَرارةَ الجُوعِ وتَرجَحُ على أَلَمِ المَوتِ.
فالوالِداتُ مِنَ الحَيَواناتِ تَجِدُ مُنتَهَى اللَّذّةِ في حِمايَتِها لِصِغارِها ما دامَت صَغِيرةً، ولكِن ما إن يَكبَرُ الصَّغِيرُ حتَّى تَنتَهِيَ مُهِمّةُ الأُمِّ فتَذهَبُ اللَّذّةُ أَيضًا، وتَبدَأُ الأُمُّ بضَربِ الَّذي كانَت تَرعاه، بل تَأخُذُ الحَبَّ مِنه.. هذه السُّنّةُ الإِلٰهِيّةُ جارِيةٌ في الحَيَواناتِ إلّا في الإِنسانِ، إذ تَستَمِرُّ مُهِمّةُ الأُمِّ نَوعًا مّا، لِأنَّ شَيئًا مِنَ الطُّفُولةِ يَظَلُّ في الإِنسانِ حَيثُ الضَّعفُ والعَجزُ يُلازِمانِه طَوالَ حَياتِه، فهُو بحاجةٍ إلى الشَّفَقةِ والرَّأفةِ كلَّ حِينٍ.
وهكذا، تَأمَّلْ في جَمِيعِ الذُّكُورِ مِنَ الحَيَواناتِ كالدِّيكِ، وجَمِيعِ الوالِداتِ مِنها كالدَّجاجِ، وافْهَمْ أنَّها لا تقُومُ بتلك الوَظِيفةِ ولا تُنجِزُ أيَّ شَيءٍ لِأَجلِ نَفسِها ولا لِكَمالِها بالذّاتِ حَيثُ تَفدِي نَفسَها إذا احتاجَ الأَمرُ؛ بل إنَّها تقُومُ بتلك المُهِمّةِ بِاسمِ المُنعِمِ الكَرِيمِ الَّذي أَنعَمَ علَيْها، وفي سَبِيلِ الفاطِرِ الجَلِيلِ الَّذي وَظَّفَها في تلك الوَظِيفةِ، فأَدرَجَ برَحمَتِه الواسِعةِ لَذّةً ضِمنَ وَظِيفَتِها، ومُتعةً ضِمنَ خِدمَتِها.
وهُناك دَليلٌ آخَرُ على أنَّ في العَمَلِ نَفسِه أُجرةً، وهُو أنَّ النَّباتاتِ والأَشجارَ تَمتَثِلُ أَوامِرَ فاطِرِها الجَلِيلِ على نَحوٍ يُشعِرُ بالشَّوْقِ واللَّذّةِ، لِأنَّ ما تَنشُرُه مِن رَوائِحَ طَيِّبةٍ، وما تَتَزيَّنُ به مِن زِينةٍ فاخِرةٍ تَستَهوِي الأَنظارَ، وما تُقدِّمُه مِن تَضحِياتٍ وفِداءٍ حتَّى الرَّمَقِ الأَخِيرِ لِأَجلِ سَنابِلِها وثِمارِها.. كلُّ ذلك يُعلِنُ لِأَهلِ الفِطْنةِ: أنَّ النَّباتاتِ تَجِدُ لَذّةً فائِقةً في امتِثالِها الأَوامِرَ الإِلٰهِيّةَ بما يَفُوقُ أيّةَ لَذّةٍ أُخرَى، حتَّى إنَّها تَمحُو نَفسَها وتُهلِكُها لِأَجلِ تلك اللَّذّةِ.. ألا تَرَى شَجَرةَ جَوزِ الهِندِ وشَجَرةَ التِّينِ كيف تُطعِمُ ثَمَرَتَها لَبنًا خالِصًا تَطلُبُه مِن خَزِينةِ الرَّحمةِ الإِلٰهِيّةِ بلِسانِ حالِها وتَتَسلَّمُه مِنها، وتَظَلُّ هي لا تُطعِمُ نَفسَها غيرَ الطِّينِ؟ وشَجَرةَ الرُّمانِ تَسقِي ثَمَرتَها شَرابًا صافِيًا، وَهَبَها رَبُّها إِيّاه، وهِي تَرضَى قانِعةً بِشُربِ ماءٍ عَكِرٍ؟ حتَّى إنَّك تَرَى ذلك في الحُبُوبِ كَذلِك، فهِي تُظهِرُ شَوقًا هائِلًا لِلتَّسَنبُلِ، بمِثلِ اشتِياقِ السَّجِينِ إلى رَحبِ الحَياةِ.
ومِن هذا السِّرِّ الجارِي في الكائِناتِ المُسَمَّى بـ”سُنّةِ اللهِ”، ومِن هذا الدُّستُورِ العَظِيمِ، يكُونُ العاطِلُ الكَسلانُ الطَّرِيحُ على فِراشِ الرّاحةِ أَشقَى حالًا وأَضيَقَ صَدرًا مِنَ السّاعِي المُجِدِّ، ذلك لِأنَّ العاطِلَ يكُونُ شاكِيًا مِن عُمُرِه، يُرِيدُ أن يَمضِيَ بسُرعةٍ في اللَّهوِ والمَرَحِ؛ بَينَما السّاعِي المُجِدُّ شاكِرٌ للهِ وحامِدٌ له، لا يُرِيدُ أن يَمضِيَ عُمُرُه سَرِيعًا، لِذا أَصبَحَ دُستُورًا عامًّا في الحَياةِ: “المُستَرِيحُ العاطِلُ شاكٍ مِن عُمُرِه، والسّاعِي المُجِدُّ شاكِرٌ”، وذَهَب مَثلًا: “الرّاحةُ مُندَمِجةٌ في الزَّحمةِ، والزَّحمةُ مُندَمِجةٌ في الرّاحةِ”.
نعم، إذا ما أُمعِنَ النَّظَرُ في الجَماداتِ، فإنَّ السُّنّة الإِلٰهِيّةَ المَذكُورةَ تَظهَرُ بوُضُوحٍ؛ فالجَماداتُ الَّتي لم تَتَكشَّفِ استِعداداتُها وباتَت ناقِصةً مِن هذه النّاحِيةِ، تَراها تَسعَى بشِدّةٍ، وتَبذُلُ جُهدًا عَظِيمًا لِكَي تَنبَسِطَ وتَنتَقِلَ مِن طَورِ “القُوّةِ” الكامِنةِ إلى طَورِ “الفِعلِ”؛ وعِندَها يُشاهَدُ علَيْها ما يُشِيرُ إلى أنَّ في تلك الوَظِيفةِ الفِطْرِيّةِ شَوقًا، وفي ذلك التَّحَوُّلِ لَذّةً، جَرْيًا بدُستُورِ سُنّةِ اللهِ، فإن كانَت لِذلِك الجامِدِ حِصّةٌ في الحَياةِ العامّةِ، فالشَّوقُ يَعُودُ إلَيْه، وإلّا فهُو يَعُودُ إلى الَّذي يُمثِّلُ ذلك الجامِدَ ويُشرِفُ علَيْه، بل يُمكِنُ أن يُقالَ بِناءً على هذا السِّرِّ: إنَّ الماءَ اللَّطِيفَ الرَّقراقَ ما إن يَتَسلَّمُ أَمرًا بالِانجِمادِ، حتَّى يَمتَثِلَ ذلك الأَمرَ بشِدّةٍ وشَوقٍ إلى حَدِّ أنَّه يَكسِرُ الحَدِيدَ ويُحَطِّمُه.. فإِذًا عِندَما تُبَلِّغُ البُرُودةُ بِدَرَجةِ الِانجِمادِ أَمرًا رَبّانيًّا بالتَّوَسُّعِ، إلى الماءِ في آنِيةٍ حَدِيديّةٍ مُغلَقةٍ، فإنَّ الماءَ يَمتَثِلُ الأَمرَ بشِدّةٍ وشَوقٍ بحَيثُ يُحَطِّمُ ذلك الحَدِيدَ، ويَنجَمِدُ.
وعلى هذا فقِسْ جَمِيعَ ما في الكَونِ مِن سَعيٍ وحَرَكةٍ، ابتِداءً مِن دَوَرانِ الشُّمُوسِ في أَفلاكِها، وانتِهاءً إلى دَوَرانِ الذَّرّاتِ -كالمَوْلَوِيِّ العاشِقِ- ودَوْراتِها واهتِزازاتِها.. فلا تَجِدُ أَحَدًا إلّا ويَجرِي على قانُونِ القَدَرِ الإِلٰهِيِّ، ويَظهَرُ إلى الوُجُودِ بالأَمرِ التَّكوِينيِّ الصّادِرِ مِن يَدِ القُدرةِ الإِلٰهِيّةِ والمُتَضمِّنِ الإِرادةَ والأَمرَ والعِلمَ الإِلٰهِيَّ.. حتَّى إنَّ كلَّ ذَرّةٍ، وكلَّ مَوجُودٍ، وكلَّ ذِي حَياةٍ، إنَّما هو كالجُندِيِّ الَّذي له عَلاقاتٌ مُتَبايِنةٌ ووَظائِفُ مُختَلِفةٌ، وارتِباطاتٌ مُتَنوِّعةٌ معَ كلِّ دائِرةٍ في الجَيشِ؛ فالذَّرّةُ المَوجُودةُ في عَينَيك -مَثلًا- لها عَلاقةٌ معَ خَلايا العَينِ، ومعَ أَعصابِ العَينِ في الوَجهِ، ومعَ الشَّرايِينِ والأَوْرِدةِ في الجِسمِ، وعلى أَساسِ هذه العَلاقاتِ والرَّوابِطِ تُعَيَّنُ لها وَظِيفةٌ، وعلى ضَوْئِها تُنتِجُ فَوائِدَ ومَصالِحَ، وهكذا..
فقِسْ على هذا المِنوالِ كلَّ شَيءٍ في الوُجُودِ.
وعلى هذا الأَساسِ فإنَّ كلَّ شَيءٍ في الوُجُودِ يَشهَدُ على وُجُوبِ وُجُودِ القَدِيرِ المُطلَقِ مِن جِهَتَينِ:
الأُولَى: قِيامُه بوَظائِفَ تَفُوقُ طاقَتَه المَحدُودةَ بآلافِ المَرّاتِ، معَ أنَّه عاجِزٌ عن ذلك، فيَشهَدُ بلِسانِ عَجزِه على وُجُودِ ذلك القَدِيرِ المُطلَقِ.
الثّانيةُ: تَوافُقُ حَرَكَتِه معَ الدَّساتِيرِ الَّتي تُكوِّنُ نِظامَ العالَمِ، وانسِجامُ عَمَلِه معَ القَوانِينِ الَّتي تُدِيمُ تَوازُنَ المَوجُوداتِ، فيَشهَدُ بهذا الِانسِجامِ والتَّوافُقِ على وُجُودِ ذلك العَلِيمِ القَدِيرِ؛ ذلك لِأنَّ جَمادًا كالذَّرّةِ أو حَشَرةً كالنَّحلةِ، لا تَستَطِيعُ أن تَعرِفَ النِّظامَ والمُوازَنةَ اللَّذَينِ هُما مِنَ المَسائِلِ الدَّقِيقةِ المُهِمّةِ المَسطُورةِ في الكِتابِ المُبِينِ، إذ أَينَ الذَّرّةُ والنَّحلةُ مِن قِراءةِ ذلك الكِتابِ الَّذي هو في يَدِ مَن يقُولُ: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾؟ فلا يَجرُؤُ أَحَدٌ أن يَرُدَّ هذه الشَّهادةَ لِلذَّرّةِ إلّا مَن يَتَوهَّمُ بحَماقةٍ مُتَناهِيةٍ أنَّها تَملِكُ عَينًا بَصِيرةً تُمَكِّنُها مِن قِراءةِ الحُرُوفِ الدَّقيقةِ لِذلِك الكِتابِ المُبِينِ.
نعم، إنَّ الفاطِرَ الحَكِيمَ يُدرِجُ دَساتِيرَ الكِتابِ المُبِينِ وأَحكامَه دَرجًا في غايةِ الجَمالِ، ويُجمِلُها في غايةِ الِاختِصارِ، ضِمنَ لَذّةٍ خاصّةٍ لِذلِك الشَّيءِ، وفي ثَنايا حاجةٍ مَخصُوصةٍ له؛ فإذا ما عَمِل الشَّيءُ وَفقَ تلك اللَّذّةِ الخاصّةِ والحاجةِ المَخصُوصةِ، فإنَّه يَمتَثِلُ -مِن حَيثُ لا يَشعُرُ- أَحكامَ ذلك الكِتابِ المُبِينِ.
فمَثلًا: إنَّ البَعُوضةَ في حِينِ مَولِدِها ومَجِيئِها إلى الدُّنيا تَنطَلِقُ مِن بَيتِها وتُهاجِمُ وَجهَ الإِنسانِ وتَضرِبُه بعَصاها الطَّوِيلةِ وخُرطُومِها الدَّقِيقِ وتُفجِّرُ به السّائِلَ الحَيَوِيَّ، وتَمَصُّه مَصًّا، وهي في هذا الهُجُومِ تُظهِرُ بَراعةً عَسكَرِيّةً فائِقةً..
تُرَى! مَن عَلَّم هذا المَخلُوقَ الصَّغِيرَ الَّذي أَتَى حَدِيثًا إلى الدُّنيا ولَيسَ له مِن تَجرِبةٍ سابِقةٍ، هذه المَهارةَ البارِعةَ، وهذه الفُنُونَ الحَربِيّةَ الدَّقِيقةَ، وهذا الإِتقانَ في التَّفجِيرِ؟ فمِن أَينَ اكتَسَب هذه المَعرِفةَ؟! فأَنا هذا السَّعِيدُ المِسكِينُ أَعتَرِفُ بأنِّي لو كُنتُ بَدَلًا مِنه، لَمَا كُنتُ أَتعَلَّمُ تلك المَهارةَ، وتلك الفُنُونَ العَسكَرِيّةَ مِن كَرٍّ وفَرٍّ، وتلك الأُمُورَ الدَّقِيقةَ في استِخراجِ السّائِلِ الحَيَوِيِّ إلّا بعدَ تَجارِبَ طَوِيلةٍ، ودُرُوسٍ عَدِيدةٍ، ومُدّةٍ مَدِيدةٍ.
فقِسْ على البَعُوضةِ النَّحلةَ المُلهَمةَ والعَنكَبُوتَ والبُلبُلَ النّاسِجَ لِعُشِّه نَسجًا بَدِيعًا، بل يُمكِنُك قِياسُ النَّباتاتِ على الحَيَواناتِ أَيضًا.
نعم، إنَّ الجَوادَ المُطلَقَ جَلَّ جَلالُه قد سَلَّم بِيَدِ كلِّ فَردٍ مِنَ الأَحياءِ “بِطاقةَ تَذكِرةٍ” مَكتُوبةً بمِدادِ اللَّذّةِ وحِبْرِ الِاحتِياجِ، فأَوْدَع سُبحانَه فيها مِنهاجَ أَوامِرِه التَّكوِينيّةِ، وفِهرِسَ ما يَقُومُ به الفَردُ مِن وَظائِفَ.. فسُبحانَه مِن حَكِيمٍ ذِي جَلالٍ، كَيفَ أَدرَج ما يَخُصُّ النَّحلَ مِن دَساتِيرِ الكِتابِ المُبِينِ في تلك “التَّذكِرةِ” الصَّغِيرةِ وسَطَّرَها في رَأسِ النَّحلةِ، وجَعَل مِفتاحَها لَذّةً خاصّةً بالنَّحلةِ الدّائِبةِ، لِتَفتَح به تلك “التَّذكِرةَ” المُودَعةَ في دِماغِها وتَقرَأَ مِنهاجَ عَمَلِها فيها وتُدرِكَ وَظِيفَتَها، وتَسعَى وتَجِدَّ وَفْقَها، وتُبْرِزَ حِكمةً مِنَ الحِكَمِ المَكنُونةِ في الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾.
فيا مَن يَقرَأُ أو يَسمَعُ هذه المُذكِّرةَ الثّامِنةَ، إنْ كُنتَ قد فَهِمتَها حَقَّ الفَهمِ فقد فَهِمتَ إِذًا سِرًّا مِن أَسرارِ: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾.
وأَدرَكتَ حَقِيقةً مِن حَقائِقِ: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾.
وتَوَصَّلتَ إلى دُستُورٍ مِن دَساتيرِ: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
وتَعَلَّمتَ مَسأَلةً لَطِيفةً مِن مَسائِلِ: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
[المذكرة التاسعة: النبوة فذلكة الخير وخلاصة الكمال]
المذكِّرة التاسعة
اِعلَمْ أنَّ النُّبوّةَ في البَشَرِيّةِ فَذْلَكةُ الخَيرِ وخُلاصةُ الكَمالِ وأَساسُه، وأنَّ الدِّينَ الحَقَّ فِهرِسُ السَّعادةِ، وأنَّ الإِيمانَ حُسنٌ مُنزَّهٌ وجَمالٌ مُجَرَّدٌ؛ وحَيثُ إنَّ حُسنًا ساطِعًا، وفَيضًا واسِعًا سامِيًا، وحَقًّا ظاهِرًا، وكَمالًا فائِقًا مُشاهَدٌ في هذا العالَمِ، فبِالبَداهةِ يكُونُ الحَقُّ والحَقِيقةُ في جانِبِ النُّبوّةِ، وفي يَدِ الأَنبِياءِ عَلَيهِم السَّلَام، وتكُونُ الضَّلالةُ والشَّرُّ والخَسارةُ في مُخالِفِيهِم.
[مشهد من مشاهد العبودية الجماعية التي أقامها النبي ﷺ]
فإن شِئتَ فانظُرْ إلى مِثالٍ واحِدٍ مِن بَينِ أُلُوفِ الأَمثِلةِ على مَحاسِنِ العُبُودِيّةِ الَّتي جاءَ بها النَّبيُّ ﷺ وهُو أنَّ النَّبيَّ ﷺ يُوَحِّدُ بالعِبادةِ قُلُوبَ المُوَحِّدِينَ في صَلاةِ العِيدِ والجُمُعةِ والجَماعةِ، ويَجمَعُ أَلسِنَتَهُم جَمِيعًا على كَلِمةٍ واحِدةٍ، حتَّى يُقابِلَ هذا الإِنسانُ عَظَمةَ الخِطابِ الصّادِرِ مِنَ المَعبُودِ الحَقِّ سُبحانَه بأَصواتِ قُلُوبٍ وأَلسِنةٍ لا تُحَدُّ وبدَعَواتِها، معَ تَمامِ التَّعاوُنِ والتَّسانُدِ، بحَيثُ يُظهِرُ الجَمِيعُ عُبُودِيّةً واسِعةً جِدًّا إِزاءَ عَظَمةِ أُلُوهِيّةِ المَعبُودِ الحَقِّ، فكأَنَّ كُرةَ الأَرضِ برُمَّتِها هي الَّتي تَنطِقُ بذلك الذِّكرِ، وتَدعُو بذلك الدُّعاءِ، وتُصَلِّي للهِ بأَقطارِها، وتَمتَثِلُ بأَرجائِها الأَمرَ النّازِلَ بالعِزّةِ والعَظَمةِ مِن فَوقِ السَّماواتِ السَّبعِ: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ وبِهذا الِاتِّحادِ صارَ الإِنسانُ -وهُو المَخلُوقُ الضَّعِيفُ الصَّغِيرُ الَّذي هو كالذَّرّةِ في هذه العَوالِمِ- عَبدًا مَحبُوبًا لَدَى خالِقِ السَّماواتِ والأَرضِ مِن جِهةِ عَظَمةِ عُبُودِيَّتِه له، وأَصبَحَ خَلِيفةَ الأَرضِ وسُلطانَها، وسَيِّدَ الحَيَواناتِ ورَئيسَها، وغايةَ خَلقِ الكائِناتِ ونَتِيجَتَها..
أَرأَيتَ لوِ اجتَمَعَت في عالَمِ الشَّهادةِ أَيضًا -كما هُو في عالَمِ الغَيبِ- أَصواتُ المُكَبِّرِينَ البالِغِينَ مِئاتِ المَلايِينِ مِنَ المُؤمِنِينَ بـ”اللهُ أَكبَرُ” عَقِبَ الصَّلَواتِ ولا سِيَّما صَلاةِ العِيدِ، واتَّحَدَت جَمِيعُها في آنٍ واحِدٍ، أمَا كانَت مُساوِيةً لِصَوتِ تَكبِيرةِ “اللهُ أَكبَرُ” تُطلِقُها كُرةُ الأَرضِ ومُتَناسِبةً معَ ضَخامَتِها والَّتي أَصبَحَت كأنَّها إِنسانٌ ضَخمٌ، إذ باتِّحادِ تَكبِيراتِ أُولَئِك المُوَحِّدِينَ في آنٍ واحِدٍ يكُونُ هُنالِك تَكبِيرةٌ عَظِيمةٌ جِدًّا كأنَّ الأَرضَ تُطلِقُها، بل كأنَّ الأَرضَ تَتَزلزَلُ زِلزالَها في صَلاةِ العِيدِ! إذ تُكبِّـرُ اللهَ بتَكبِيرِ العالَمِ الإِسلامِيِّ بأَقطارِه وأَوْتادِه، وتُسبِّحُه بتَسبِيحِهِم وأَذكارِهِم، فتَنوِي مِن صَمِيمِ قَلبِ كَعبَتِها المُشَرَّفةِ الَّتي هي قِبلَتُها، وتُكبِّـرُ بـ”اللهُ أَكبَرُ” بلِسانِ عَرَفةَ مِن فَمِ مَكّةَ المُكَرَّمةِ، فبِتَمَوُّجِ صَدَى “اللهُ أَكبَرُ” مُتَمثِّلًا في هَواءِ كُهُوفِ أَفواهِ جَمِيعِ المُؤمِنِينَ المُنتَشِرِينَ في العالَمِ بمِثلِ تَمَوُّجِ ما لا يُحَدُّ مِنَ الصَّدَى في كَلِمةٍ واحِدةٍ مِن “اللهُ أَكبَرُ”، بل تَتَموَّجُ تلك التَّكبِيراتُ والأَذكارُ في أَقطارِ السَّماواتِ وعَوالِمِ البَرزَخِ..
فالحَمدُ للهِ الَّذي جَعَل هذه الأَرضَ ساجِدةً عابِدةً له، وهَيَّأَها لِتَكُونَ مَسجِدًا لِعِبادِه ومَهْدًا لِمَخلُوقاتِه؛ فنَحمَدُه سُبحانَه ونُسَبِّحُه ونُكبِّـرُه بعَدَدِ ذَرّاتِ الأَرضِ، ونَرفَعُ إلَيْه حَمْدًا بعَدَدِ مَوجُوداتِه، أن جَعَلَنا مِن أُمّةِ مُحمَّدٍ ﷺ الَّذي عَلَّمَنا هذا النَّوعَ مِنَ العُبُودِيّةِ.
[المذكرة العاشرة: براهين معرفة الله ثلاثة أقسام]
المذكِّرة العاشرة
أيُّها السَّعِيدُ الغافِلُ المُتَخبِّطُ بسُوءِ حالِه.. اِعلَمْ أنَّ الوُصُولَ إلى نُورِ مَعرِفةِ الحَقِّ سُبحانَه، وإلى مُشاهَدةِ تَجَلِّياتِه في مَرايا الآياتِ والشَّواهِدِ والنَّظَرِ إلَيْه مِن مَساماتِ البَراهِينِ والدَّلائِلِ، يَقتَضِي ألّا تَتَفحَّصَ بأَصابعِ التَّنقِيدِ كلَّ نُورٍ جَرَى علَيْك، ووَرَد إلى قَلبِك، وتَظاهَرَ إلى عَقلِك، وألّا تَنقُدَه بِيَدِ التَّرَدُّد؛ فلا تَمُدَّنَّ يَدَك لِأَخذِ نُورٍ أَضاءَ لك، بل تَجَرَّدْ مِن أَسبابِ الغَفْلةِ، وتَعرَّضْ لِذَلِك النُّورِ، وتَوَجَّهْ إلَيْه، فإنِّي قد شاهَدتُ أنَّ شَواهِدَ مَعرِفةِ اللهِ وبَراهِينَها ثلاثةُ أَقسامٍ:
قِسمٌ مِنها: كالماءِ، يُرَى ويُحَسُّ، ولكِن لا يُمسَكُ بالأَصابعِ؛ ففي هذا القِسمِ علَيْك بالتَّجَرُّدِ عنِ الخَيالاتِ، والِانغِماسِ فيه بكُلِّيَّتِك، فلا تَتَجسَّس بأُصبُعِ التَّنقِيدِ، فإنَّه يَسِيلُ ويَذهَبُ، إذ لا يَرضَى ماءُ الحَياةِ ذاك بالأُصبُعِ مَحَلًّا.
القِسمُ الثّاني: كالهَواءِ، يُحَسُّ ولكِن لا يُرَى، ولا يُتَّخَذُ ولا يُمسَكُ، فتَوَجَّهْ لِنَفَحاتِ تلك الرَّحمةِ، وتَعَرَّضْ لها، وقابِلْها بوَجهِك وفَمِك ورُوحِك، فإنْ نَظَرتَ إلى هذا القِسمِ بِيَدِ التَّرَدُّدِ والرَّيبِ، ومَدَدتَ إلَيْه يَدَ التَّنقِيدِ، بَدَلًا مِنَ الِانتِعاشِ رُوحِيًّا، فإنَّه يَنطَلِقُ، إذ لا يَتَّخِذُ يَدَك مَسكَنًا له ولا يَرضَى بها مَنزِلًا.
القِسمُ الثَّالِثُ: فهُو كالنُّورِ، يُرَى ولكِن لا يُحَسُّ، ولا يُؤخَذُ ولا يُمسَكُ، فتَعَرَّضْ له وقابِلْه ببَصِيرةِ قَلبِك ونَظَرِ رُوحِك، وتَوَجَّهْ إلَيْه ببَصَرِك، ثمَّ انتَظِرْ، فلَرُبَّما يَأتِي بِذاتِه ومِن نَفسِه، لِأنَّ النُّورَ لا يُؤخَذُ باليَدِ، ولا يُصادُ بالأَصابعِ، بل بِنُورِ البَصِيرةِ؛ فإذا مَدَدتَ إلَيْه يَدًا مادِّيّةً حَرِيصةً، ووَزَنتَه بمَوازِينَ مادِّيّةٍ، فإنَّه يَختَفِي وإنْ لم يَنطَفِئْ، لِأنَّ نُورًا كهَذا مِثلَما أنَّه لا يَرضَى بالمادِّيِّ حَبْسًا، ولا يَدخُلُ بالقَيدِ أَبدًا، فإنَّه لا يَرضَى بالكَثِيفِ مالِكًا وسَيِّدًا علَيْه.
[المذكرة الحادية عشرة: كيف يخاطب القرآن العوام]
المذكِّرة الحاديةَ عشْرةَ
اُنظُرْ إلى دَرَجةِ رَحمةِ القُرآنِ الواسِعةِ وشَفَقَتِه العَظِيمةِ على جُمهُورِ العَوامِّ ومُراعاتِه لِبَساطةِ أَفكارِهِم ونَظَرِهِم غَيرِ الثَّاقِبِ إلى أُمُورٍ دَقِيقةٍ، اُنظُرْ كيفَ يُكرِّرُ ويُكثِرُ الآياتِ الواضِحةَ المَسطُورةَ في جِباهِ السَّماواتِ والأَرضِ، فيُقرِئُهُمُ الحُرُوفَ الكَبِيرةَ الَّتي تُقرَأُ بكَمالِ السُّهُولةِ، كخَلقِ السَّماواتِ والأَرضِ وإِنزالِ الماءِ مِنَ السَّماءِ، وإِحياءِ الأَرضِ.. وأَمثالِها مِنَ الآياتِ؛ ولا يُوجِّهُ الأَنظارَ إلى الحُرُوفِ الدَّقيقةِ المَكتُوبةِ في الحُرُوفِ الكَبِيرةِ إلّا نادِرًا، كَيْلا يَصْعُبَ علَيهِم فَهْمُ الأَمرِ.
ثمَّ انظُرْ إلى جَزالةِ بَيانِ القُرآنِ وسَلاسةِ أُسلُوبِه وفِطْرِيَّتِه، وكَأَنَّ القُرآنَ حافِظٌ يَتلُو ما كَتَبتْهُ القُدْرةُ الإِلٰهِيّةُ في صَحائِفِ الكائِناتِ مِن آياتٍ، حتَّى كأنَّ القُرآنَ قِراءةٌ لِكِتابِ الكائِناتِ وتِلاوةٌ لِأَنظِمَتِها، يَقرَأُ شُؤُونَ بارِئِها المُصَوِّرِ ويَكتُبُ أَفعالَه الحَكِيمةَ.. فإِن شِئتَ استَمِع بقَلبٍ شَهِيدٍ لِقَولِه تَعالَى: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ و﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ وأَمثالِهِما مِنَ الآياتِ الكَرِيمةِ.
[المذكرة الثانية عشرة: مناجاة تائب لائذٍ بحمى مولاه]
المذكِّرة الثانيةَ عَشْرةَ
يا أَحِبّائي المُستَمِعِينَ لِهذه المُذكِّراتِ، اعلَمُوا أنِّي قد أَكتُبُ تَضَرُّعَ قَلبِي إلى رَبِّي معَ أنَّ مِن شَأنِه أن يُستَرَ ولا يُسطَرَ، رَجاءً مِن رَحمَتِه تَعالَى أن يَقبَلَ نُطقَ كِتابِي بَدَلًا عنِّي إذا أَسكَتَ المَوتُ لِسانِي.. نعم، لا تَسَعُ تَوبةُ لِساني في عُمُرِي القَصِيرِ كَفّارةً لِذُنُوبِي الكَثِيرةِ، فنُطقُ الكِتابِ الثّابِتِ الدّائِمِ أَوفَى لها؛ فقَبلَ ثَلاثَ عَشْرةَ سَنةً2قبلَ ثلاثَ عشرةَ سنةً من تأليفِ هذه الرِّسالة. وأَثناءَ اضطِرابٍ رُوحِيٍّ عارِمٍ وفي غَمْرةِ تَحَوُّلِ ضَحِكاتِ “سَعِيدٍ القَدِيمِ” إلى بُكاءِ “سَعِيدٍ الجَدِيدِ” أَفَقتُ مِن لَيلِ الشَّبابِ على صُبحِ المَشِيبِ، فسَطَّرتُ هذه المُناجاةَ باللُّغةِ العَرَبِيّةِ، أُورِدُها كما هي: يا رَبِّي الرَّحِيمَ ويا إِلٰهِي الكَرِيمَ..
قد ضاعَ بسُوءِ اختِيارِي عُمُرِي وشَبابِي، وما بَقِيَ مِن ثَمَراتِه في يَدِي إلّا آثامٌ مُؤلِمةٌ مُذِلّةٌ، وآلامٌ مُضِرّةٌ مُضِلّةٌ، ووَساوِسُ مُزعِجةٌ مُعجِزةٌ؛ وأنا بهذا الحِملِ الثَّقِيلِ، والقَلبِ العَلِيلِ، والوَجهِ الخَجِيلِ مُتَقرِّبٌ بالمُشاهَدةِ بكَمالِ السُّرعةِ، بلا انحِرافٍ وبلا اختِيارٍ كآبائي وأَحبابِي وأَقارِبِي وأَقراني إلى بابِ القَبْرِ، بَيتِ الوَحْدةِ والِانفِرادِ في طَرِيقِ أَبدِ الآبادِ، لِلفِراقِ الأَبدِيِّ مِن هذه الدّارِ الفانيةِ الهالِكةِ باليَقِينِ، والآفِلةِ الرّاحِلةِ بالمُشاهَدةِ، ولا سِيَّما الغَدّارةِ المَكّارةِ لِمِثلي ذِي النَّفسِ الأَمّارةِ.
فيا رَبِّي الرَّحِيمَ، ويا رَبِّي الكَرِيمَ..
أُرانِي عن قَرِيبٍ لَبِستُ كَفَني ورَكِبتُ تابُوتِي، ووَدَّعتُ أَحبابِي، وتَوَجَّهتُ إلى بابِ قَبْرِي، فأُنادِي في بابِ رَحمَتِك: الأَمانَ الأَمانَ.. يا حَنَّانُ يا مَنَّانُ.. نَجِّنِي مِن خَجالةِ العِصيانِ.
آهٍ.. كَفَني على عُنُقي، وأنا قائِمٌ عِندَ رَأسِ قَبْرِي، أَرفَعُ رَأسِي إلى بابِ رَحمَتِك أُنادِي: الأَمانَ الأَمانَ.. يا رَحمٰنُ يا حَنَّانُ.. خَلِّصْني مِن ثِقَلِ حِملِ العِصيانِ.
آهٍ.. أنا مُلتَفٌّ بكَفَني، وساكِنٌ في قَبْرِي، وتَرَكَني المُشَيِّعُونَ، وأنا مُنتَظِرٌ لِعَفوِك ورَحمَتِك.. ومُشاهِدٌ أنْ لا مَلجَأَ ولا مَنجَا إلّا إلَيْك؛ وأُنادِي: الأَمانَ الأَمانَ.. مِن ضِيقِ المَكانِ، ومِن وَحشةِ العِصيانِ، ومِن قُبحِ وَجهِ الآثامِ.. يا رَحمٰنُ، يا حَنّانُ، يا مَنّان، ويا دَيّانُ.. نَجِّني مِن رَفاقةِ الذُّنُوبِ والعِصيانِ..
إِلٰهِي.. رَحمَتُك مَلجَئِي ووَسِيلَتِي، وإلَيْك أَرفَعُ بَثِّي وحُزنِي وشِكايَتي.
يا خالِقي الكَرِيمَ، ويا رَبِّي الرَّحِيمَ، ويا سَيِّدِي، ويا مَولايَ.. مَخلُوقُك، ومَصنُوعُك وعَبدُك العاصِي العاجِزُ، الغافِلُ، الجاهِلُ العَلِيلُ الذَّلِيلُ المُسِيءُ المُسِنُّ الشَّقِيُّ الآبِقُ، قد عادَ بعدَ أَربَعِينَ سَنةً إلى بابِك مُلتَجِئًا إلى رَحمَتِك، مُعتَرِفًا بالذُّنُوبِ والخَطِيئاتِ، مُبتَلًى بالأَوهامِ والأَسقامِ، مُتَضرِّعًا إلَيْك.. فإن تَقبَلْ وتَغفِرْ وتَرحَمْ فأَنتَ لِذاك أَهلٌ وأَنتَ أَرحَمُ الرّاحِمِينَ، وإلّا فأَيُّ بابٍ يُقصَدُ غيرُ بابِك.. وأَنتَ الرَّبُّ المَقصُودُ والحَقُّ المَعبُودُ، ولا إلٰهَ إلّا أنتَ وَحدَك لا شَرِيكَ لك؟!
آخِرُ الكَلامِ في الدُّنيا وأوَّلُ الكَلامِ في الآخِرةِ وفي القَبْرِ: “أَشهَدُ أنْ لا إلٰهَ إلَّا اللهُ، وأَشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رَسُولُ اللهِ ﷺ”.
[المذكرة الثالثة عشرة: خمس مسائل]
المذكِّرة الثالثةَ عشْرةَ
عِبارةٌ عن خَمسِ مَسائِلَ قد صارَت مَدارَ الِالتِباسِ.
[أولًا: قم بوظيفتك ولا تتدخل في شؤون ربك]
أُولَاها: أنَّ الَّذِينَ يَعمَلُونَ في طَرِيقِ الحَقِّ، ويُجاهِدُونَ في سَبِيلِه، في الوَقتِ الَّذي يَنبَغِي لَهُم أن يَحصُرُوا تَفكِيرَهُم في واجِبِهم وعَمَلِهم، إِلّا أنَّهُم يَشغَلُونَ أَنفُسَهُم فيما يَخُصُّ شُؤُونَ اللهِ سُبحانَه وتَدبِيرَه، ويَبنُونَ أَعمالَهُم علَيْه فيُخطِئُونَ.
وَرَد في كِتابِ “أَدَبُ الدُّنيا والدِّينِ” أنَّ إِبليسَ -لَعنةُ اللهِ علَيْه- حِينَ ظَهَر لِعِيسَى ابنِ مَريَمَ عَلَيهِ السَّلَام قال: أَلَستَ تقُولُ: إنَّه لن يُصِيبَك إلّا ما كَتَبه اللهُ علَيْك؟ قال: نعم. قال: فارْمِ نَفسَك مِن ذِروةِ هذا الجَبَلِ، فإنَّه إن يُقدِّر لك السَّلامةَ تَسلَمْ. فقال له: يا مَلعُونُ! إنَّ للهِ أن يَختَبِر عَبدَه ولَيسَ لِلعَبدِ أن يَختَبِرَ رَبَّه! أي: إنَّ اللهَ سُبحانَه هو الَّذي يَختَبِرُ عَبدَه ويقُولُ له: إذا عَمِلتَ هكذا سأُوافِيك بكَذا، أَرأَيتَك تَستَطِيعُ القِيامَ به؟ ولكِنَّ العَبدَ ليس له الحَقُّ ولا في طَوْقِه أَصلًا أن يَختَبِرَ رَبَّه ويقُولَ: إذا قُمتُ بالعَمَلِ هكذا فهل تَعمَلُ لي كذا؟ فهذا الأُسلُوبُ مِنَ الكَلامِ الَّذي يُومِئُ بالِاختِبارِ سُوءُ أَدَبٍ تِجاهَ الرُّبُوبيّةِ، وهُو مُنافٍ لِلعُبُودِيّةِ؛ فما دامَ الأَمرُ هكذا، فعلى المَرءِ أن يُؤدِّيَ واجِبَه ولا يَتَدخَّلَ بتَدبِيرِ اللهِ سُبحانَه وقَدَرِه.
كانَ جَلالُ الدِّينِ خُوارَزْم شاه وهُو أَحَدُ أَبطالِ الإِسلامِ الَّذي انتَصَر على جَيشِ جِنكِيزخان انتِصاراتٍ عَدِيدةً، كان يَتَقدَّمُ جَيشَه إلى الحَربِ، فخاطَبَه وُزَراؤُه ومُقرَّبُوه: سيُظهِرُك اللهُ على عَدُوِّك، وتَنتَصِرُ علَيْهِم! فأَجابَهُم: “عَلَيَّ الجِهادُ في سَبِيلِ اللهِ اتِّباعًا لِأَمرِه سُبحانَه، ولا حَقَّ لي فيما لم أُكلَّف به مِن شُؤُونِه، فالنَّصرُ والهَزِيمةُ مِن تَقدِيرِه سُبحانَه“، ولِبُلُوغِ هذا البَطَلِ العَظِيمِ إِدراكَ هذا السِّرِّ الدَّقيقِ في الِاستِسلامِ إلى أَمرِ اللهِ والِانقِيادِ إلَيْه، كان النَّصرُ حَلِيفَه في أَغلَبِ الأَحيانِ نَصرًا خارِقًا.
نعم، إنَّ الإِنسانَ الَّذي يَقُومُ بِأَفعالِه المُخَصَّصةِ بما لَدَيْه مِنَ الجُزءِ الِاختِيارِيِّ، لا يَنبَغِي له أن يُفكِّرَ بالنَّتائِجِ الَّتي يَتَولَّى اللهُ سُبحانَه شُؤُونَها.
فمَثلًا: يَزدادُ حَماسُ بَعضِ الإِخوةِ وشَوقُهُم إلى “رَسائِلِ النُّورِ” باستِجابةِ النّاسِ لها، فيَنشَطُونَ أَكثَرَ.. ولكِن عِندَما لا يَستَجِيبُ لها النّاسُ، تَفتُرُ قُوّةُ الضُّعَفاءِ المَعنَوِيّةُ وتَنطَفِئُ جَذْوةُ شَوقِهِم! والحالُ أنَّ سَيِّدَنا الرَّسُولَ الأَعظَمَ ﷺ وهُو الأُستاذُ الأَعظَمُ ومُقتَدَى الكُلِّ والرّائِدُ الأَعلَى قدِ اتَّخَذ الأَمرَ الإِلٰهِيَّ: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ دَليلًا ومُرشِدًا له، فكُلَّما أَعرَض النّاسُ عنِ الإِصغاءِ وتَوَلَّوْا عنه ازْدادَ جِهادًا وسَعْيًا في سَبِيلِ التَّبلِيغِ، لِأنَّه عَلِم يَقِينًا أنَّ جَعْلَ النّاسِ يُصغُونَ ويَهتَدُونَ إنَّما هو مِن شُؤُونِ اللهِ سُبحانَه، وَفقَ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، فما كانَ يَتَدخَّلُ ﷺ في شُؤُونِه سُبحانَه.
لِذا فيا إِخوَتِي، لا تَتَدخَّلُوا في أَعمالٍ وشُؤُونٍ لا تَعُودُ إلَيْكُم، ولا تَبنُوا علَيْها أَعمالَكُم، ولا تَتَّخِذُوا طَورَ الِاختِبارِ تِجاهَ خالِقِكُم.
[ثانيًا: غاية العبودية الامتثالُ لا الفوائد الدنيوية]
المَسأَلةُ الثّانيةُ: إنَّ غايةَ العُبُودِيّةِ امتِثالُ أَمرِ اللهِ ونَيلُ رِضاه، فالدَّاعِي إلى العُبُودِيّةِ هو الأَمرُ الإِلٰهِيُّ، ونَتِيجَتُها نَيلُ رِضاه سُبحانَه؛ أمّا ثَمَرتُها وفَوائِدُها فأُخرَوِيّةٌ.. إلَّا أنَّه لا تُنافِي العُبُودِيّةَ إذا مُنِحَت ثَمَراتٌ تَعُودُ فائِدَتُها إلى الدُّنيا، بشَرطِ ألّا تكُونَ عِلَّتَها الغائيّةَ، وألّا يُقصَد في طَلَبِها، فالفَوائِدُ الَّتي تَعُودُ إلى الدُّنيا والثَّمَراتُ الَّتي تَتَرتَّبُ علَيْها مِن نَفسِها وتُمنَحُ مِن دُونِ طَلَبٍ لا تُنافِي العُبُودِيّةَ، بل تكُونُ بمَثابةِ حَثٍّ وتَرجِيحٍ لِلضُّعَفاءِ، ولكِن إذا صارَتِ الفَوائِدُ الدُّنيَوِيّةُ أو مَنافِعُها عِلّةً، أو جُزءًا مِنَ العِلّةِ لِتِلك العُبُودِيّةِ أو لِذلِك الوِردِ أوِ الذِّكرِ، فإنَّها تُبطِلُ قِسمًا مِن تلك العُبُودِيّةِ، بل تَجعَلُ ذلك الوِردَ الَّذي له خَصائِصُ عِدّةٌ عَقِيمًا دُونَ نَتِيجةٍ.
فالَّذِينَ لا يَفهَمُونَ هذا السِّرَّ، ويَقرَؤُونَ “الأَورادَ القُدسِيّةَ لِلشّاهِ النَّقْشَبَندِ” مَثلًا الَّتي لها مِئةٌ مِنَ المَزايا والخَواصِّ، أو يَقرَؤُونَ “الجَوشَنَ الكَبِيرَ” الَّذي له أَلفٌ مِنَ المَزايا والفَضائِلِ، وهُم يَقصِدُونَ بعضَ تلك الفَوائِدِ بالذّاتِ، لا يَجِدُونَ تلك الفَوائِدَ، بل لن يَجِدُوها ولن يُشاهِدُوها، وليس لَهُمُ الحَقُّ لِمُشاهَدَتِها البَتّةَ، لِأنَّه لا يُمكِنُ أن تكُونَ تلك الفَوائِدُ عِلّةً لِتِلك الأَورادِ، فلا تُطلَبُ مِنها تلك الفَوائِدُ قَصْدًا، لِأنَّ تلك الفَوائِدَ تَتَرتَّبُ بصُورةِ فَضْلٍ إِلٰهِيٍّ على ذلك الوِردِ الَّذي يُقرَأُ قِراءةً خالِصةً دُونَ طَلَبِ شَيءٍ؛ فأمّا إذا نَواها القارِئُ فإنَّ نيَّتَها تُفسِدُ إِخلاصَه جُزئيًّا، بل تُخرِجُها مِن كَونِها عُبُودِيّةً، فتَسقُطُ قِيمَتُها.
بَيْدَ أنَّ هُنالِك أَمرًا آخَرَ، هو أنَّ أَشخاصًا ضُعَفاءَ بحاجةٍ إلى مُشَوِّقٍ ومُرجِّحٍ، فإذا ما قَرَأ الأَورادَ قِراءةً خالِصةً لله، مُتَذكِّرًا تلك الفَوائِدَ، فلا بَأسَ في ذلك، بل هو مَقبُولٌ.
ولِعَدَمِ إِدراكِ هذه الحِكْمةِ، يَقَعُ الكَثِيرُونَ فَرِيسةَ الرَّيبِ والشَّكِّ عِندَ عَدَمِ وِجدانِهِم تلك الفَوائِدَ الَّتي رُوِيَت عنِ الأَقطابِ والسَّلَفِ الصّالِحِينَ، بل قد يُنكِرُونَها.
[ثالثًا: طوبى لمن عرف حدَّه ولم يتجاوز قدرَه]
المَسألةُ الثّالثةُ: “طُوبَى لِمَن عَرَفَ حَدَّه ولَم يَتَجاوَز طَوْرَه”:
إنَّ هُنالِك تَجَلِّياتٍ لِلشَّمسِ على كلِّ شَيءٍ، ابتِداءً مِن ذَرّةٍ وزُجاج وقَطرةِ ماءٍ ومِنَ الحَوضِ الكَبِيرِ والبَحرِ العَظِيمِ، وانتِهاءً بالقَمَرِ والكَواكِبِ السَّيّارةِ، كلٌّ مِنها يَطبَعُ على نَفسِه انعِكاسَ الشَّمسِ وصُورَتَها حَسَبَ قابِلِيَّتِه، ويَعرِفُ حَدَّه؛ فتَستَطِيعُ قَطْرةُ ماءٍ أن تقُولَ: عِندِي انعِكاسٌ لِلشَّمسِ، وذلك حَسَبَ قابِلِيَّتِها، ولكِن لا تَجرُؤُ على القَولِ: أنا مِرآةٌ لِلشَّمسِ كالبَحرِ.
كَذلِك الأَمرُ في مَقاماتِ الأَولياءِ، ففِيها مَراتِبُ عِدّةٌ، حَسَبَ تَنوُّعِ تَجَلِّياتِ الأَسماءِ الإِلٰهِيّةِ الحُسنَى، فكُلُّ اسمٍ مِنَ الأَسماءِ الحُسنَى له تَجَلِّياتٌ -كالشَّمسِ في المِثالِ- ابتِداءً مِنَ القَلبِ وانتِهاءً بالعَرشِ؛ فالقَلبُ عَرشٌ، ولكِن لا يَستَطِيعُ أن يقُولَ: “أنا كالعَرشِ الأَعظَمِ”؛ ومِن هُنا كان السَّالِكُ في سَبِيلِ الفَخرِ والغُرُورِ يَلتَبِسُ علَيْه الأَمرُ فيَجعَلُ قَلبَه الصَّغِيرَ جِدًّا كالذَّرّةِ مُساوِيًا لِلعَرشِ الأَعظَمِ، ويَعتَبِرُ مَقامَه الَّذي هو كالقَطْرةِ كُفُؤًا معَ مَقامِ الأَولياءِ العِظامِ الَّذي هو كالبَحرِ؛ فبَدَلًا مِن أن يَصرِفَ هَمَّه لِمَعرِفةِ أَساسِ العُبُودِيّةِ الَّذي هو العَجزُ والفَقرُ وإِدراكُ تَقصِيرِه ونَقصِه أَمامَ بارِئِه القَدِيرِ، والتَّضَرُّعُ أَمامَ عَتَبةِ أُلُوهِيَّتِه سُبحانَه، والسُّجُودُ عِندَها بكلِّ ذُلٍّ وخُضُوعٍ، تَراه يَبدُرُ مِنه التَّصَنُّعُ والتَّكلُّفُ لِأَجلِ أن يُلائِمَ نَفسَه ويُحافِظَ علَيْها معَ مُستَوَى تلك المَقاماتِ السّامِيةِ، فيَقَعُ فيما لا طائِلَ وَراءَه مِنَ الغُرُورِ والأَنانيّةِ والمَشاكِلِ العَوِيصةِ.
الخُلاصةُ: لقد وَرَد في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: “هَلَكَ النّاسُ إلّا العَالِمُونَ، وهَلَكَ العَالِمُونَ إلَّا العَامِلُونَ، وهَلَكَ العَامِلوُنَ إلّا المُخْلِصُونَ، والمُخْلِصُونَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ”، أي: إنَّ مِحوَرَ النَّجاةِ ومَدارَها الإِخلاصُ، فالفَوزُ به إِذًا أَمرٌ في غايةِ الأَهَمِّيّةِ، لِأنَّ ذَرّةً مِن عَمَلٍ خالِصٍ أَفضَلُ عِندَ اللهِ مِن أَطنانٍ مِنَ الأَعمالِ المَشُوبةِ؛ فالَّذي يَجعَلُ الإِنسانَ يُحرِزُ الإِخلاصَ هو تَفَكُّرُه في أنَّ الدّافِعَ إلى العَمَلِ هو الأَمرُ الإِلٰهِيُّ لا غَيرُ، ونَتِيجَتَه كَسْبُ رِضاه وَحْدَه، ثمَّ عَدَمُ تَدَخُّلِه في الشُّؤُونِ الإِلٰهِيّةِ.
إنَّ هُنالِك إِخلاصًا في كلِّ شَيءٍ، حتَّى إنَّ ذَرّةً مِن حُبٍّ خالِصٍ تَفضُلُ على أَطنانٍ مِنَ الحُبِّ الصُّورِيِّ الشَّكليِّ؛ وقد عَبَّر أَحَدُهُم شِعرًا عن هذا النَّوعِ مِنَ الحُبِّ:
ومَا أنَا بِالبَاغِي عَلَى الحُبِّ رِشْوَةً * ضَعِيفُ هَوًى يُبْغَى عَلَيْهِ ثَوَابُ
أي: لا أَطلُبُ على الحُبِّ رِشوةً ولا أُجرةً ولا عِوَضًا ولا مُكَافأةً، لِأنَّ الحُبَّ الَّذي يَطلُبُ ثَوابًا ومُكافأةً حُبٌّ ضَعِيفٌ لا يَدُومُ؛ فهذا الحُبُّ الخالِصُ قد أَودَعَه اللهُ سُبحانَه في فِطْرةِ الإِنسانِ ولا سِيَّما الوالِداتِ عامّةً، فشَفَقةُ الوالِدةِ مِثالٌ بارِزٌ على هذا الحُبِّ الخالِصِ.
والدَّليلُ على أنَّ الوالِداتِ لا يَطلُبنَ تِجاهَ مَحَبَّتِهِنَّ لِأَولادِهِنَّ مُكافأةً ولا رِشوةً قَطُّ هو جُودُهُنَّ بأَنفُسِهِنَّ لِأَجلِ أَولادِهِنَّ، بل فِداؤُهُنَّ حتَّى بآخِرتِهِنَّ لِأَجلِهِم؛ حتَّى تَرَى الدَّجاجَ تُهاجِمُ الكَلبَ إِنقاذًا لِأَفراخِها مِن فَمِه -كما شاهَدَها “خُسرَو”- عِلمًا أنَّ حَياتَها هي كلُّ ما لَدَيْها مِن رَأسِ مالٍ.
[رابعًا: خذ النعمة من عباد الله باسم الله]
المَسألةُ الرَّابعة: لا يَنبَغِي أن تُؤخَذَ النِّعَمُ الَّتي تَرِدُ بأَسبابٍ ووَسائِلَ ظاهِرِيّةٍ على حِسابِ تلك الأَسبابِ والوَسائِلِ، لِأنَّ ذلك السَّبَبَ وتلك الوَسِيلةَ: إمّا له اختِيارٌ أو لا اختِيارَ له؛ فإن لم يَكُن له اختِيارٌ -كالحَيَوانِ والنَّباتِ- فلا رَيبَ أنَّه يُعطِيك بحِسابِ اللهِ وبِاسمِه؛ وحَيثُ إنَّه يَذكُرُ اللهَ بلِسانِ حالِه، أي: يقُولُ: بِاسمِ اللهِ. ويُسَلِّمُك النِّعمةَ، فخُذْها بِاسمِ اللهِ وكُلْها.
ولكِن إن كانَ ذلك السَّبَبُ له اختِيارٌ، فعَلَيْه أن يَذكُرَ اللهَ ويقُولَ: بِاسمِ اللهِ. فلا تَأخُذْ مِنه إلّا بعدَ ذِكرِه اسمَ اللهِ، لِأنَّ المَعنَى الإِشارِيَّ -فَضْلًا عنِ المَعنَى الصَّرِيحِ- لِلآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ يَرمُزُ إلى: لا تَأكُلُوا مِن نِعمةٍ لم يُذكَرِ اسمُ مالِكِها الحَقِيقيِّ علَيْها وهُو اللهُ، ولم تُسلَّم إلَيْك بِاسمِه.
وعلى هذا: فعَلَى المُعطِي أن يَذكُرَ اسمَ اللهِ، وعلى الآخِذِ أن يَذكُرَ اسمَ اللهِ؛ فإن كانَ المُعطِي لا يَذكُرُ اسمَ اللهِ، وأنتَ في حاجةٍ إلى الأَخذِ، فاذكُرْ أنتَ اسمَ اللهِ، ولكِنِ ارفَعْ بصَرَك عالِيًا فوقَ رَأسِ المُعطِي، وانظُرْ إلى يَدِ الرَّحمةِ الإِلٰهِيّةِ الَّتي أَنعَمَت علَيْه وعلَيْك مَعًا، وقَبِّلها بالشُّكرِ، وتَسَلَّمْ مِنها النِّعمةَ.
أي: انظُرْ إلى الإِنعامِ مِن خِلالِ النِّعمةِ، وتَذَكَّرِ المُنعِمَ الحَقِيقيَّ مِن خِلالِ الإِنعامِ، فهذا النَّظَرُ والتَّذكُّرُ شُكرٌ؛ ومِن ثَمَّ ارجِعْ بَصَرَك -إن شِئتَ- وانظُرْ إلى السَّبَبِ أوِ الوَسِيلةِ، وادْعُ له بالخَيرِ، وأَثْنِ علَيْه، لِوُرُودِ النِّعمةِ على يَدَيه.
[الاقتران لا يستوجب العِلِّيّة]
إنَّ الَّذي يُوهِمُ عَبَدةَ الأَسبابِ ويَخدَعُهُم هو: اعتِبارُ أَحَدِ الشَّيئَينِ عِلّةً لِلآخَرِ عِندَ مَجِيئِهِما مَعًا، أو عِندَ وُجُودِهِما معًا؛ وهذا هو الَّذي يُسَمَّى بـ”الِاقتِرانِ”.
وحَيثُ إنَّ عَدَمَ وُجُودِ شَيءٍ مّا، يُصبِحُ عِلّةً لِعَدَمِ وُجُودِ نِعمةٍ، لِذا يَتَوهَّمُ المَرءُ أنَّ وُجُودَ ذلك الشَّيءِ هو عِلّةٌ لِوُجُودِ تلك النِّعمةِ، فيَبدَأُ بتَقدِيمِ شُكرِه وامتِنانِه إلى ذلك الشَّيءِ فيُخطِئُ، لِأنَّ وُجُودَ نِعمةٍ مّا يَتَرتَّبُ على مُقدِّماتٍ كَثِيرةٍ وشَرائِطَ عَدِيدةٍ، بَينَما انعِدامُ تلك النِّعمةِ يَحدُثُ بمُجَرَّدِ انعِدامِ شَرطٍ واحِدٍ فقط.
مَثلًا: إنَّ الَّذي لا يَفتَحُ مَجرَى السَّاقِيةِ المُؤَدِّيةِ إلى الحَدِيقةِ يُصبِحُ سَبَبًا وعِلّةً لِجَفافِ الحَدِيقةِ ووَسِيلةً لِمَوتِها، وبالتَّالي إلى انعِدامِ النِّعَمِ الَّتي فيها؛ ولكِنَّ وُجُودَ النِّعَمِ في تلك الحَدِيقةِ لا يَتَوقَّفُ على عَمَلِ ذلك الشَّخصِ وَحْدَه، بل يَتَوقَّفُ أَيضًا على مِئاتٍ مِنَ الشَّرائِطِ الأُخرَى، بل لا تَحصُلُ تلك النِّعَمُ كلُّها إلّا بالعِلَّةِ الحَقِيقيّةِ الَّتي هي القُدرةُ الرَّبّانيّةُ والإِرادةُ الإِلٰهِيّةُ.
فافْهَمْ مِن هذا مَدَى الخَطَأِ في هذه المُغالَطةِ، واعْلَمْ فَداحةَ خَطَأِ عَبَدةِ الأَسبابِ.
نعم، إنَّ الِاقتِرانَ شَيءٌ والعِلّةَ شَيءٌ آخَرُ، فالنِّعمةُ الَّتي تَأتِيك وقدِ اقتَرَنَت بنِيّةِ إِحسانٍ مِن أَحَدِهِم إلَيْك، عِلَّتُها الرَّحمةُ الإِلٰهِيّةُ؛ ولَيسَ لِذاك الشَّخصِ إلّا الِاقتِرانُ دُونَ العِلّةِ.
نعم، لو لم يَنوِ ذلك الشَّخصُ تلك النِّيّةَ في الإِحسانِ إلَيْك لَمَا كانَت تَأتِيك تلك النِّعمةُ، أي: إنَّ عَدَمَ نِيَّتِه كانَ عِلّةً لِعَدَم مَجِيءِ النِّعمةِ، ولكِنَّ ذلك المَيلَ لِلإِحسانِ لا يكُونُ عِلّةً لِوُجُودِ النِّعمةِ أَبدًا، بل رُبَّما يكُونُ مُجَرَّدَ شَرطٍ واحِدٍ مِن بينِ مِئاتِ الشُّرُوطِ الأُخرَى.
ولَقدِ الْتَبَس الأَمرُ على بَعضِ “طُلّابِ رَسائِلِ النُّورِ” مِمَّن أَفاضَ اللهُ علَيْهِم مِن نِعَمِه (أَمثالَ خُسرَو ورَأفَت..) فالْتَبَس علَيهِمُ الِاقتِرانُ بالعِلّةِ، فكانُوا يُبْدُونَ الرِّضَا بأُستاذِهِم ويُثنُونَ علَيْه ثَناءً مُفرِطًا! والحالُ أنَّ اللهَ سُبحانَه قد قَرنَ نِعمةَ استِفادَتِهِم مِنَ الدُّرُوسِ القُرآنيّةِ معَ إِحسانِه إلى أُستاذِهِم مِن نِعمةِ الإِفادةِ، فالأَمرُ اقتِرانٌ ليس إلّا.
فهُم يقُولُونَ: لو لم يَقدَمْ أُستاذُنا إلى هُنا، ما كُنّا لِنَأخُذَ هذا الدَّرسَ الإِيمانِيَّ، فإِفادَتُه إِذًا هي عِلّةٌ لِاستِفادَتِنا نحنُ. وأنا أَقُولُ: يا إِخوَتِي الأَحِبّةَ، إنَّ الحَقَّ سُبحانَه وتَعالَى قد قَرَن النِّعمةَ الَّتي أَنعَمَها عَلَيَّ بالَّتي أَنعَمَها علَيْكُم، فالعِلّةُ في كِلْتا النِّعمَتَينِ هي الرَّحمةُ الإِلٰهِيّةُ.
وقد كُنتُ يَومًا أَشعُرُ بامتِنانٍ بالِغٍ نحوَ طُلَّابٍ يَملِكُونَ قَلَمًا سَيَّالًا مِثلَكُم، ويَسعَوْنَ إلى خِدمةِ النُّورِ، فالْتَبَس عَلَيَّ الِاقتِرانُ بالعِلّةِ، فكُنتُ أَقُولُ: تُرَى! كيفَ كانَ يَنهَضُ في أَداءِ خِدمةِ القُرآنِ الكَرِيمِ مَن كانَ مِثلِي في رَداءةِ الخَطِّ، لَوْلا هَؤُلاءِ الطَّلَبةُ؟! ولكِن فَهِمتُ بَعدَئذٍ أنَّ الحَقَّ سُبحانَه وتَعالَى بعدَما أَنعَم علَيكُمُ النِّعمةَ المُقدَّسةَ بجَوْدةِ الكِتابةِ، مَنَّ عَلَيَّ بالتَّوفِيقِ في السَّيرِ في هذه الخِدمةِ القُرآنيّةِ؛ فاقتَرَن الأَمرانِ مَعًا، فلا يكُونُ أَحَدُهُما عِلّةً لِلآخَرِ قَطُّ، لِذا فلا أُقدِّمُ شُكرِي وامتِنانِي لكُم، بل أُبشِّرُكُم وأُهنِّئكُم.. وعلَيكُم أَنتُم كَذلِك أن تَدْعُوا لي وتُهَنِّـئُوني بَدَلًا مِنَ الِامتِنانِ والثَّناءِ.
ففي هذه المَسأَلةِ مِيزانٌ دَقِيقٌ تُعرَفُ به دَرَجاتُ الغَفْلةِ.
[خامسًا: إسناد إنجاز الجماعة إلى فردٍ ظلمٌ للجماعة]
المَسألةُ الخامِسةُ: كما أنَّه ظُلمٌ عَظِيمٌ إذا ما أُعطِيَ لِشَخصٍ واحِدٍ ما تَملِكُه الجَماعةُ، ويكُونُ الشَّخصُ مُرتَكِبًا ظُلمًا قَبِيحًا إذا ما غَصَبَ ما هو وَقْفٌ على الجَماعةِ، كَذلِك الأَمرُ في النَّتائِجِ الَّتي تَتَحصَّلُ بمَساعِي الجَماعةِ وعَمَلِهِم؛ والشَّرَفُ والمَنزِلةُ المُتَرتِّبةُ على مَحاسِنِ الجَماعةِ وفَضائِلِها، إذا ما أُسنِدَ إلى رَئيسِها أو أُستاذِها أو مُرشِدِها يكُونُ ظُلمًا واضِحًا بحَقِّ الجَماعةِ، كما هو ظُلمٌ بيِّنٌ بحَقِّ الأُستاذِ أوِ الرَّئيسِ نَفسِه، لِأنَّ ذلك يُداعِبُ أَنانيَّتَه المُستَتِرةَ فيه ويَسُوقُه إلى الغُرُورِ؛ فبَينَما هو حارِسٌ بَوّابٌ لِلجَماعةِ، إذا به يَتَزيّا بزِيِّ السُّلطانِ ويُوهِمُ الآخَرِينَ بزِيِّه، وأَيضًا يَظلِمُ نَفسَه، بل رُبَّما يَفتَحُ له هذا طَرِيقًا إلى نَوعٍ مِن شِركٍ خَفِيٍّ.. نعم، إنَّه لا يَحِقُّ لِآمِرِ طابُورٍ أَن يَحُوزَ الغَنائِمَ الَّتي حَصَل علَيْها الجُنُودُ مِن فَتحِهِم قَلعةً حَصِينةً، ولا يُمكِنُه أن يُسنِدَ انتِصارَهُم إلى نَفسِه.
لِأَجلِ هذا يَجِبُ ألّا يُنظَرَ إلى الأُستاذِ أوِ المُرشِدِ على أنَّه المَنبَعُ أوِ المَصدَرُ، بل يَنبَغِي اعتِبارُه والنَّظَرُ إلَيْه على أنَّه مَعكَسٌ ومَظهَرٌ فحَسْبُ، كالمِرآةِ الَّتي تَعكِسُ إلَيْك حَرارةَ الشَّمسِ وضَوْءَها، فمِنَ البَلاهةِ أن تَتَلقَّى المِرآةَ كأنَّها مَصدَرٌ لَهُما فتَنسَى الشَّمسَ نَفسَها، ومِن ثَمَّ تُولِي اهتِمامَك ورِضاك إلى المِرآةِ بَدَلًا عنِ الشَّمسِ! نعم، إنَّه لا بُدَّ مِنَ الحِفاظِ على المِرآةِ لِأنَّها مَظهَرٌ يُظهِرُ تلك الصِّفاتِ، فرُوحُ المُرشِدِ وقَلبُه مِرآةٌ، تُصبِحُ مَعكَسًا لِلفُيُوضاتِ الرَّبّانيّةِ الَّتي يُفِيضُها الحَقُّ سُبحانَه علَيْها، فيُصبِحُ المُرشِدُ وَسِيلةً لِانعِكاسِ تلك الفُيُوضاتِ إلى مُرِيدِه.
لِذا يَجِبُ ألّا يُسنَدَ إلَيْه مَقامٌ أَعلَى مِن مَقامِ الوَسِيلةِ مِن حَيثُ الفُيُوضاتُ، بل يَحتَمِلُ ألّا يكُونَ ذلك الأُستاذُ الَّذي يُنظَرُ إلَيْه كأنَّه مَصدَرٌ مَظهَرًا ولا مَصدَرًا، وإنَّما يَرَى مُرِيدُه ما أَخَذَه مِن فُيُوضاتٍ -في طَرِيقٍ آخَرَ- يَراها في مِرآةِ رُوحِ شَيخِه، وذلك لِمَا يَحمِلُ مِن صَفاءِ الإِخلاصِ نَحوَه وشِدّةِ العَلاقةِ به ودُنُوِّ صِلَتِه به وحَصْرِ نَظَرِه فيه؛ مَثَلُه في هذا كمَثَلِ المُنوَّمِ مِغناطِيسِيًّا إذ يَنفَتِحُ في خَيالِه نافِذةٌ إلى عالَمِ المِثالِ بعدَ إِمعانِه النَّظَرَ في المِرآةِ، فيُشاهِدُ فيها مَناظِرَ غَرِيبةً عَجِيبةً، عِلْمًا أنَّ تلك المَناظِرَ لَيسَت في المِرآةِ وإنَّما فيما وَراءَ المِرآةِ مِمّا يَتَراءَى له مِن نافِذةٍ خَياليّةٍ انفَتَحَت نَتِيجةَ إِمعانِ النَّظَرِ في المِرآةِ.
لِهذا يُمكِنُ أن يكُونَ مُرِيدٌ مُخلِصٌ لِشَيخٍ غيرِ كامِلٍ أَكمَلَ مِن شَيخِه، فيَنبَرِي إلى إِرشادِ شَيخِه، ويُصبِحُ شَيخًا لِشَيخِه.
[المسألة الرابعة عشرة: أربعة رموز تخص التوحيد]
المذكِّرة الرابعةَ عَشْرةَ
تَتَضمَّنُ أَربَعةَ رُمُوزٍ صَغِيرةٍ تَخُصُّ التَّوحِيدَ:
[الأول: اختلاف العناصر مع حسن البنيان دليل على أن الباني مهيمن]
الرَّمزُ الأوَّلُ: يا مَن يَستَمِدُّ مِنَ الأَسبابِ، إذا رَأَيتَ -مثَلًا- قَصرًا عَجِيبًا يُبنَى مِن جَواهِرَ غَرِيبةٍ، لا يُوجَدُ وَقتَ البِناءِ بَعضُ تلك الجَواهِرِ إلّا في الصِّينِ، وبَعضُها إلّا في الأَندَلُسِ، وبَعضُها إلّا في اليَمَنِ، وبَعضُها إلّا في سَيبِيرْيا.. وإذا شاهَدتَ أنَّ البِناءَ يَتِمُّ على أَحسَنِ ما يكُونُ، وتُجلَبُ له تلك الأَحجارُ الكَرِيمةُ مِنَ الشَّرقِ والغَربِ والشَّمالِ والجَنُوبِ بأَسرَعِ وَقتٍ وبسُهُولةٍ تامّةٍ وفي اليَومِ نَفسِه.. فهل يَبقَى لَدَيك رَيبٌ في أنَّ بَنّاءَ ذلك القَصرِ باسِطٌ هَيمَنَتَه على الكُرةِ الأَرضِيّةِ؟
وهكَذا كلُّ كائِنٍ حَيٍّ بِمَثابةِ قَصرٍ إِلٰهِيٍّ، ولا سِيَّما الإِنسانُ، فهُو مِن أَجمَلِ تلك القُصُورِ ومِن أَعجَبِها، لِأنَّ قِسمًا مِنَ الأَحجارِ الكَرِيمةِ لِهذا القَصرِ البَدِيعِ مِن عالَمِ الأَرواحِ، وقِسمًا مِنها مِن عالَمِ المِثالِ واللَّوحِ المَحفُوظِ، وقِسمًا آخَرَ مِن عالَمِ الهَواءِ، ومِن عالَمِ النُّورِ، ومِن عالَمِ العَناصِرِ؛ كما امتَدَّت حاجاتُه إلى الأَبدِ، وانتَشَرَت آمالُه في أَقطارِ السَّماواتِ والأَرضِ، وشَرَّعَت رَوابِطُه وعَلاقاتُه في طَبَقاتِ الدُّنيا والآخِرةِ.
فيا هذا الإِنسانُ الَّذي يَحسِبُ نَفسَه إِنسانًا، أنتَ قَصرٌ عَجِيبٌ جِدًّا، وعِمارةٌ غَرِيبةٌ جِدًّا؛ فما دامَت ماهِيَّتُك هكَذا، فلا يكُونُ خالِقُك إِذًا إلّا ذلك الَّذي يَتَصرَّفُ في الدُّنيا والآخِرةِ بيُسرِ التَّصَرُّفِ في مَنزِلَينِ اثنَينِ، ويَتَصرَّفُ في الأَرضِ والسَّماءِ كتَصَرُّفِه في صَحِيفَتَينِ، ويَتَصرَّفُ في الأَزَلِ والأَبَدِ كأنَّهُما الأَمسُ والغَدُ، فلا مَعبُودَ يَلِيقُ بك، ولا مَلجَأَ لك، ولا مُنقِذَ إلّا ذلك الَّذي يَحكُمُ على الأَرضِ والسَّماءِ ويَملِكُ أَزِمّةَ الدُّنيا والعُقبَى.
[الثاني: توجَّه إلى الشمس لا إلى المرآة]
الرَّمزُ الثّاني: هُنالِك بَعضُ الحَمقَى يَتَوجَّهُ بحُبِّه إلى المِرآةِ إذا ما رَأَى الشَّمسَ فيها، وذلك لِعَدَمِ مَعرِفَتِه بالشَّمسِ نَفسِها، فيُحافِظُ على المِرآةِ بحِرصٍ شَدِيدٍ لِاستِبقاءِ الشَّمسِ، ولِكَيْلا تَضِيعَ! ولكِن إذا تَفَطَّن أنَّ الشَّمسَ لا تَمُوتُ بمَوتِ المِرآةِ، ولا تَفنَى بانكِسارِها تَوَجَّه بمَحَبَّتِه كُلِّها إلى الشَّمسِ الَّتي في السَّماءِ، وعِندَئذٍ يُدرِكُ أنَّ الشَّمسَ الَّتي تُشاهَدُ في المِرآةِ لَيسَت تابِعةً لِلمِرآةِ، ولا يَتَوقَّفُ بَقاؤُها ببَقاءِ المِرآةِ، بل إنَّ بَقاءَ حَيَويّةِ المِرآةِ وتَلَألُئِها إنَّما هو بِبَقاءِ تَجَلِّياتِ الشَّمسِ ومُقابَلَتِها؛ فبَقاءُ المِرآةِ تابِعٌ لِبَقاءِ الشَّمسِ.
فيا أيُّها الإِنسانُ، إنَّ قَلبَك وهُوِيَّتَك وماهِيَّتَك مِرآةٌ، وما في فِطْرَتِك مِن حُبِّ البَقاءِ ليس لِأَجلِها، بل لِأَجلِ ما فيها مِن تَجَلٍّ لِاسمِ الباقِي ذِي الجَلالِ، الَّذي يَتَجلَّى فيها حَسَبَ استِعدادِ كلِّ إِنسانٍ؛ ولكِن صُرِفَ وَجهُ تلك المَحَبّةِ إلى جِهةٍ أُخرَى نَتِيجةَ البَلاهةِ.. فما دامَ الأَمرُ هكَذا فقُل: يا باقِي أنت الباقِي. فإذْ أنتَ مَوجُودٌ وباقٍ، فلْيَفعَلِ الفَناءُ بنا ما شاءَ، فلا نُبالي بما نُلاقِي.
[الثالث: في الإنسان لطائف صغيرة تبتلع أمورًا كبيرة]
الرَّمزُ الثّالثُ: أيُّها الإِنسانُ، إنَّ مِن غَرائِبِ ما أَوْدَع الفاطِرُ الحَكِيمُ في ماهِيَّتِك أنَّه بَينَما لا تَسَعُك الدُّنيا أَحيانًا فتقُولُ ضَجَرًا: أُفٍّ! أُفٍّ! كالمَسجُونِ المَخنُوقِ، وتَبحَثُ عن مَكانٍ أَوسَعَ مِنها، إذا بك تَسَعُك خَرْدَلةٌ مِن عَمَلٍ، مِن خاطِرةٍ، مِن دَقيقةٍ، حتَّى تَفنَى فيها.. فقَلبُك وفِكرُك اللَّذانِ لا تَسَعُهُما الدُّنيا الضَّخْمةُ، تَسَعُهُما الذَّرّةُ الصَّغِيرةُ، فتَجُولُ بأَشَدِّ أَحاسِيسِك ومَشاعِرِك في دَقيقةٍ وخاطِرةٍ صَغِيرةٍ.
وقد أَودَع البارِئُ سُبحانَه في ماهِيَّتِك أَجهِزةً ولَطائِفَ مَعنَوِيّةً دَقيقةً، إذا ابتَلَع بَعضُها الدُّنيا فلا يَشبَعُ، ويَضِيقُ بَعضُها ذَرْعًا عن ذَرّةٍ ولا يَتَحمَّلُ شُعِيرةً، كالعَينِ الَّتي لا تَتَحمَّلُ شَعرةً والرَّأسِ الَّذي يَتَحمَّلُ أَثقالًا هائِلةً؛ فتِلك اللَّطِيفةُ لا تَتَحمَّلُ ثِقَلًا كالشَّعرةِ الدَّقيقةِ، أي: لا تَتَحمَّلُ حالةً هَيِّنةً جِدًّا نَشَأَت مِنَ الضَّلالةِ ونَجَمَت مِنَ الغَفْلةِ، بل قد تَنطَفِئُ جَذْوَتُها وتَمُوتُ.
فاحْذَرْ! وخَفِّفِ الوَطْءَ، وخَفْ مِنَ الغَرَقِ، فيَغرَقُ مَعَك أَلطَفُ لَطائِفِك الَّتي تَبتَلِعُ الدُّنيا في أَكْلةٍ، أو كَلِمةٍ، أو لَمْعةٍ، أو إِشارةٍ، أو بَقْلةٍ، أو قُبْلةٍ.. فهُنالِك أَشياءُ صَغِيرةٌ جِدًّا تَتَمكَّنُ -في جِهةٍ- أن تَستَوعِبَ ما هو ضَخمٌ جِدًّا.. فانظُرْ إن شِئتَ كيفَ تَغرَقُ السَّماءُ بنُجُومِها في مِرآةٍ صَغِيرةٍ، وكيفَ كَتَب الحَقُّ سُبحانَه في خَرْدَلةِ حافِظَتِك أَكثَرَ ما في صَحِيفةِ أَعمالِك وأَغلَبَ ما في صَحائِفِ أَعمارِك! فهُناك أَشياءُ جُزئيّةٌ صَغِيرةٌ تَبتَلِعُ -بجِهةٍ ما- تلك الأَشياءَ الكَبِيرةَ وتَستَوعِبُها.
[الرابع: دنياك منزل ضيق لكن جدرانه مرايا متقابلة]
الرَّمزُ الرّابعُ: يا عابِدَ الدُّنيا، إنَّ دُنياك الَّتي تَتَصوَّرُها واسِعةً فَسِيحةً ما هي إلّا كمَنزِلٍ ضَيِّقٍ أَشبَهَ بِالقَبْرِ، ولكِنَّ جُدْرانَه مِن مِرآةٍ تَتَعاكَسُ فيها الصُّوَرُ، فتَراه فَسِيحًا رَحْبًا واسِعًا مَدَّ البَصَرِ، فبَينَما مَنزِلُك هذا هو كالقَبْرِ تَراه كالمَدِينةِ الشَّاسِعةِ، ذلك لِأنَّ الجِدارَ الأَيمَنَ والأَيسَرَ لِتِلك الدُّنيا واللَّذَينِ يُمَثِّلانِ الماضِيَ والمُستَقبَلَ -رَغمَ أنَّهُما مَعدُومانِ وغيرُ مَوجُودَينِ- فإنَّهُما كالمِرآةِ تَعكِسانِ الصُّوَرَ في بَعضِهِما بَعضًا، فتُوسِّعانِ وتَبسُطانِ أَجنِحةَ زَمانِ الحالِ الحاضِرةِ الَّذي هو قَصِيرٌ جِدًّا وضَيِّقٌ جِدًّا، فتَختَلِطُ الحَقِيقةُ بالخَيالِ، فتَرَى الدُّنيا المَعدُومةَ مَوجُودةً.
فكما أنَّ خَطًّا مُستَقِيمًا -وهُو في حَقِيقَتِه رَفِيعٌ جِدًّا- إذا ما تَحَرَّك بسُرعةٍ يَظهَرُ واسِعًا كأنَّه سَطحٌ كَبِيرٌ، كَذلِك دُنياك أنتَ، هي في حَقِيقَتِها ضَيِّقةٌ جِدًّا، إِلّا أَنَّ جُدرانَها قد تَوَسَّعَت ومُدَّت بغَفْلَتِك وتَوَهُّمِ خَيالِك، حتَّى إذا ما تَحَرَّك رَأسُك مِن جَرَّاءِ مُصِيبةٍ أَصابَتْك، تَراه يَصدُمُ ذلك الجِدارَ الَّذي كُنتَ تَتَصوَّرُه بَعِيدًا جِدًّا، فيُطَيِّـرُ ما تَحمِلُه مِن خَيالٍ، ويَطرُدُ نَومَك.. وعِندَئِذٍ تَجِدُ دُنياك الواسِعةَ أَضيَقَ مِنَ القَبْرِ، وتَرَى زَمانَك وعُمُرَك يَمضِي أَسرَعَ مِنَ البَرقِ، وتَنظُرُ إلى حَياتِك تَراها تَسِيلُ أَسرَعَ مِنَ النَّهرِ.
فما دامَتِ الحَياةُ الدُّنيا والعَيشُ المادِّيُّ والحَياةُ الحَيَوانيّةُ هكذا، فانْسَلَّ إِذًا مِنَ الحَيَوانيّةِ، ودَعِ المادِّيّةَ، وادْخُلْ مَدارِجَ حَياةِ القَلبِ.. تَجِدْ مَيدانَ حَياةٍ أَرحَبَ، وعالَمَ نُورٍ أَوسَعَ مِمّا كُنتَ تَتَوهَّمُه مِن تلك الدُّنيا الواسِعةِ.
وما مِفتاحُ ذلك العالَمِ الأَرحَبِ إلّا إِنطاقُ القَلبِ، وتَشغِيلُ الرُّوحِ بالكَلِمةِ المُقدَّسةِ: “لا إلٰهَ إلّا اللهُ” الَّتي تَدُلُّ على مَعرِفةِ الله وعلى أَسرارِ التَّوحِيدِ.
[المذكرة الخامسة عشرة: ثلاث مسائل]
المذكِّرة الخامِسةَ عَشْرةَ
وهِي ثَلاثُ مَسائِلَ:
[المسألة الأولى: مشهد لتجلي اسم الله الحفيظ]
المَسألةُ الأُولى: يا مَن يُرِيدُ أن يَرَى دَليلًا على حَقِيقةِ الآيتَينِ الكَرِيمَتَينِ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ اللَّتَينِ تُشِيرانِ إلى التَّجَلِّي الأَتَمِّ لِاسمِ اللهِ “الحَفِيظِ”.
إنَّ التَّجَلِّيَ الأَعظَمَ لِاسمِ اللهِ الحَفِيظِ، ومِثالَ الحَقِيقةِ الكُبْرَى لِهاتَينِ الآيتَينِ: مَبثُوثٌ في الأَرجاءِ كافَّةً، يُمكِنُك أن تَجِدَه بالنَّظَرِ والتَّأمُّلِ في صَحائِفِ كِتابِ الكائِناتِ، ذلك الكِتابِ المَكتُوبِ على مِسطَرِ الكِتابِ المُبِينِ وعلى مَوازِينِه ومَقايِيسِه.
خُذْ -مَثلًا- غَرْفةً بقَبضَتِك مِن أَشتاتِ بُذُورِ الأَزهارِ والأَشجارِ، تلك البُذَيراتِ المُختَلِطةِ والحَبّاتِ المُختَلِفةِ الأَجناسِ والأَنواعِ وهِي المُتَشابِهةُ في الأَشكالِ والأَجرامِ، اِدفِنْ هذه البُذَيراتِ في ظُلُماتِ تُرابٍ بَسِيطٍ جامِدٍ، ثمَّ اسْقِها بالماءِ الَّذي لا مِيزانَ له ولا يُميِّزُ بينَ الأَشياءِ، فأَينَما تُوَجِّهُه يَسِيلُ ويَذهَبُ؛ ثمَّ عُدْ إلَيْه عِندَ الرَّبِيعِ الَّذي هو مَيدانُ الحَشرِ السَّنَوِيِّ، وانظُرْ وتَأمَّلْ كيفَ أنَّ مَلَك “الرَّعدِ” يَنفُخُ في صُورِه في الرَّبِيعِ كنَفخِ إِسرافِيلَ، مُنادِيًا المَطَرَ ومُبَشِّرًا البُذَيراتِ المَدفُونةَ تَحتَ الأَرضِ بالبَعثِ بعدَ المَوتِ؛ فأَنتَ تَرَى أنَّ تلك البُذَيراتِ الَّتي هي في مُنتَهَى الِاختِلاطِ والِامتِزاجِ معَ غايةِ التَّشابُهِ تَمتَثِلُ تحتَ أَنوارِ تَجَلِّي اسمِ “الحَفِيظِ”، امتِثالًا تامًّا بلا خَطَأِ الأَوامِرِ التَّكوِينيّةِ الآتِيةِ إلَيْها مِن بارِئِها الحَكِيمِ، فتُلائِمُ أَعمالَها وتُوافِقُ حَرَكاتِها معَ تلك الأَوامِرِ بحَيثُ تَستَشِفُّ مِنها لَمَعانَ الكَمالِ والحِكمةِ والعِلمِ والإِرادةِ والقَصدِ والشُّعُورِ والبَصِيرةِ.
ألا تَرَى كيفَ تَتَمايَزُ تلك البُذَيراتُ المُتَماثِلةُ، ويَفتَرِقُ بَعضُها عنِ البَعضِ الآخَرِ، فهذه البُذَيرةُ قد صارَت شَجَرةَ تِينٍ تَنشُرُ نِعَمَ الفاطِرِ الحَكِيمِ فَوقَ رُؤُوسِنا، وتَنثُرُها علَيْنا وتَمُدُّها إلَيْنا بأَيدِي أَغصانِها.. وهاتانِ البُذَيرَتانِ المُتَشابِهتانِ بها قد صارَتا زَهرةَ الشَّمسِ وزَهرةَ البَنَفسَجِ.. وأَمثالُها كَثِيرٌ مِنَ الأَزهارِ الجَمِيلةِ الَّتي تَتَزيَّنُ لِأَجلِنا وتُواجِهُنا بوَجهٍ طَلِيقٍ مُبتَسِمٍ مُتَودِّدةً إلَيْنا..
وهُنالِك بُذَيراتٌ أُخرَى قد صارَت فَواكِهَ طَيِّبةً نَشتَهِيها، وسَنابِلَ مَلْأَى، وأَشجارًا يافِعةً، تُثِيرُ شَهِيَّتَنا بطُعُومِها الطَّيِّبةِ، ورَوائِحِها الزَّكِيّةِ، وأَشكالِها البَدِيعةِ، فتَدعُونا إلى أَنفُسِها، وتَبذُلُها لِأَجْلِنا، كي تَصعَدَ مِن مَرتَبةِ الحَياةِ النَّباتيّةِ إلى مَرتَبةِ الحَياةِ الحَيَوانيّةِ.. حتَّى نَمَت تلك البُذَيراتُ نُمُوًّا واسِعًا إلى حَدٍّ صارَت تلك الغُرفةُ مِنها -بإِذنِ خالِقِها- حَدِيقةً غَنّاءَ وجَنّةً فَيْحاءَ، مُزدَهِرةً بالأَزهارِ المُتَنوِّعةِ والأَشجارِ المُختَلِفةِ، فانظُرْ: هل تَرَى خَطَأً أو فُطُورًا ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾؟
لقد أَظهَرَت كُلُّ بِذْرةٍ بتَجَلِّي اسمِ اللهِ “الحَفِيظِ” وإِحسانِه ما وَرِثَته مِن مِيراثِ أَبِيها وأَصلِها بلا نُقصانٍ وبلا الْتِباسٍ.
فالحَفِيظُ الَّذي يَفعَلُ هذا الحِفظَ المُعجِزَ يُشِيرُ به إلى إِظهارِ التَّجَلِّي الأَكبَرِ لِلحَفِيظِيّةِ يَومَ الحَشرِ الأَكبَرِ والقِيامةِ العُظمَى.
نعم، إنَّ إِظهارَ كَمالِ الحِفظِ والعِنايةِ في مِثلِ هذه الأُمُورِ الزّائِلةِ التّافِهةِ بلا قُصُورٍ، لَهُو حُجّةٌ بالِغةٌ على مُحافَظةِ ومُحاسَبةِ ما لَه أهَمِّيّةٌ عَظِيمةٌ وتَأثيرٌ أَبدِيٌّ كأَفعالِ خُلَفاءِ الأَرضِ وآثارِهِم، وأَعمالِ حَمَلةِ الأَمانةِ وأَقوالِهِم، وحَسَناتِ عَبَدةِ الواحِدِ الأَحَدِ وسَيِّئاتِهِم..
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى؟!﴾ بلَى، إنَّه لَمَبعُوثٌ إلى الأَبدِ، ومُرَشَّحٌ لِلسَّعادةِ الأَبدِيّةِ أوِ الشَّقاءِ الدّائِمِ، فيُحاسَبُ على السَّبَدِ واللَّبَدِ فإمّا الثَّوابُ وإمّا العِقابُ.
وهكَذا، فهُنالِك ما لا يُحَدُّ ولا يُعَدُّ مِنَ الشَّواهِدِ على التَّجَلِّي الأَكبَرِ لِاسمِ اللهِ “الحَفِيظُِ” وعلى حَقِيقةِ الآيةِ المَذكُورةِ.
فهذا المِثالُ الَّذي تَنسُجُ على مِنوالِه ليس إلّا قَبْضةً مِن صُبْرةٍ، أو غَرْفةً مِن بَحرٍ، أو حَبّةً مِن رِمالِ الدَّهناء، ونُقطةً مِن تِلالِ الفَيْفاءِ، وقَطْرةً مِن زُلالِ السَّماءِ.. فسُبحانَه مِن حَفِيظٍ رَقِيبٍ وشَهِيدٍ حَسِيبٍ!
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
❀ ❀ ❀