موجز حياة الأستاذ النورسي
[ez-toc]
المولد والنشأة
وُلد سعيد النورسي سنة 1877للميلاد، في قريةٍ بولاية بِتليس شرقيَّ الأناضول تدعى «نُوْرْس»، وإليها يُنسَب.
ونشأ النورسي في أسرةٍ معروفةٍ بالتقوى والصلاح؛ فقد كان والدُه المشهور بـ«الصوفي ميرزا» مضرِبَ المثل في الورع والتحرز عن الشبهات، وبلغ من ذلك أنه كان حين يعود بماشيته من المرعى كان يُكمِّم أفواهَها لئلا تأكل من زروع الناس؛ وكانت والدتُه «نُوريَّة» سيدةً فاضلةً بلغ من تقواها أنها لم تكن ترضع أطفالها إلا على وضوء؛ وكان شقيقه الأكبر «الملا عبد الله» عالِمًا فاضلًا سالكًا مشتغلًا بالعلم على النهج المتَّبَع في بلاد الأكراد.
تحصيل العلم
ظهرت مخايل النجابة على سعيد النورسي منذ الصغر، وحُبِّب إليه طلب العلم، فأقبل على تحصيله في سنٍّ مبكِّر، فتلقى العلم أولَ ما تلقّاه على شقيقه الأكبر «الملا عبد الله»، ثم حضر مجالسَ الشيوخ وحلقاتِ الدرس، ثم التحق بمدرسة الشيخ «محمد جلالي»، فأقبل على التحصيل بهمَّةٍ فذةٍ وتوجُّهٍ تام، فأتقنَ في أشهرٍ معدودةٍ المقررات التي يستغرق تعليمُها سنين طويلة، فتخرج بها وأجازه الشيخ الجلالي.
وانقطع النورسي إلى القراءة والمطالعة بذهنٍ وقّادٍ وحافظةٍ فريدة، فكان نِصابُه في اليوم مئتَي صفحةٍ مع الفهم والاستيعاب، وحفِظَ عن ظهرِ قلبٍ تسعين كتابًا من أمهات كتب العلوم الإسلامية، فكان يتعهدها بالمراجعة غيبًا ويختمها كل ثلاثة أشهر.
وقد فاق النورسي بنجابته ونبوغه أقرانَه، وشهِدَ له بذلك الشيوخ، وامتحنه أهل العلم في مناظرات مشهورة، فكان لفرطِ ذكائه وقوةِ حافظته وقيامه بالحجة مثارَ إعجابِ شيوخه وأساتذته، وكان ذلك مدعاةً لاشتهاره وهو بعدُ فتى.
وشرَعَ بحفظ القرآن الكريم غيبًا، فكان يحفظ في اليوم مقدار جزأين منه، حتى إذا بلغ أكثرَه توقف عن حفظِه وانصرف إلى درسِ معانيه، لئلا تُخِلَّ سُرعة الحفظ باحترام القرآن، ولأن الحاجة إلى معرفة حقائقه أولى وأهم.
لماذا لُقِّبَ ببديع الزمان؟
لم يتوقف النورسي عند تحصيل علوم الدين، بل ضمَّ إليها دراسة العلوم الحديثة، وكان ذلك لما أقام بمدينة «وان» قرابة خمس عشرة سنة، وكانت إقامته بدار الوالي التي تضم مكتبةً زاخرةً بأحدث مؤلَّفات العلوم الحديثة، وكانت تُعقد فيها لقاءاتٌ علميةٌ في شتى أنواع العلوم والمعارف والآداب، فأقبل النورسي على دراسة العلوم الحديثة من رياضيات وفيزياء وفلك وجغرافيا وكيمياء، وتوفَّر على تعلمها حتى بلغَ فيها مبلغًا مَكَّنه من أن يؤلِّف فيها ويناظرَ أهلَها، فأُطلِق عليه حينئذٍ لقب: «بديع الزمان»، حيث جَمَع بين علوم الشريعة وعلوم الطبيعة، وهو أمرٌ قَلَّ من يُحسنه.
ويَرى بعضُ مَن ألَّفوا في ترجمته أن معنى «بديع الزمان» لا يقتصر على جَمْعه بين علوم الدين والعلوم الحديثة، بل لأنه كان كذلك بديعًا في مسلكه وحركته ودعوته ومجمل شخصيته رحمه الله.
بواكير الدعوة والإصلاح
كان للنورسيِّ جهودٌ دعويةٌ وجولاتٌ للإرشاد والتعليم والإصلاح منذ أن كان فتًى في مقتبل العمر، ولم يقتصر على مخاطبة فئةٍ بعينها، بل كان يدعو العامة، ويلتقي الزعماء والوجهاء، ويُصلِح بين العشائر، وينصح الأمراء والولاة، ويؤلِّف بين أهل العلم، وقد عُرِف بالجرأة والثبات والصدع بالحق، مع نفْسٍ حرةٍ أبيّةٍ تأنف الضيم والصَّغار.
حياةٌ من أجل القرآن
كان من الأمور التي تركت في نفس النورسي أثرًا بالغًا أنه قرأ في العام 1900 خبرًا مفادُه أن وزير المستعمرات البريطاني «غلادستون» وقف في مجلس العموم البريطاني وبيده نسخةٌ من المصحف الشريف، وخاطب النوابَ بقوله: «ليس بمقدورنا أن نحكم المسلمين ما دام بأيديهم هذا القرآن؛ فإما أن ننتزعه من أيديهم، وإما أن نصرفهم عنه»؛ فكان هذا الخبر نقطةً فاصلةً في حياة بديع الزمان، إذ تحول إلى بركانٍ هادرٍ لا يقف أمام عزيمته شيء، وأعلن من حينه عن العمل الذي سَيَهَبُ له حياتَه: «لأثبِتَنَّ للعالم أن القرآن شمسٌ معنويةٌ لا يَخبو سناها ولا يُطفأ نورُها».
وكان سبيله إلى تحقيق هذا المقصد أمران:
الأول: بيانُ كون القرآن الكريم معجزةً حيةً باقية، وإظهارُ إعجازه من وجوهٍ شتى، ومنها بيان حقائقه العُلوية الخالدة التي يحتاجها كلُّ إنسان.
والآخَر: إنشاء مدرسةٍ جامعةٍ تُخرِّجُ طلبةً يَجمعون بين العلوم الدينية القرآنية والمعارف الكونية الحديثة.
مشروع المدرسة الزهراء
شرَعَ النورسي من فوره بتنفيذ مشروعه في المدرسة التي أنشأها بمساعي الوالي في «وان»، ونهَجَ فيها منهجًا تجديديًّا، حيث اتخذ القرآن متنًا أساسيًّا تنبثق منه المعارف وتنتظم العلوم، فكان -كما يَذْكر طلبتُه- يأخذ القرآن بيده ويلقي الدروس في شتى العلوم انطلاقًا من القرآن، ويستطرد ويفصل ويشرح ويقرر في ضوء آيات القرآن ومنظاره.
وكان بالإضافة إلى هذا يُعِد العدة ويرسم الخطة لتحويل نظام هذه المدرسة إلى نظام جامعة، فلما اكتملت الرؤية والخطة توجه في عام 1907إلى إستانبول عاصمة الخلافة الإسلامية آنذاك لتحقيق أهم مشاريعه الإصلاحية، ألا وهو إصلاح التعليم من خلال ما سماه: «المدرسة الزهراء».
تَقدَّمَ النورسي بطلبٍ إلى السلطان عبد الحميد لإنشاء جامعةٍ إسلاميةٍ حديثةٍ سمَّاها «المدرسة الزهراء»، تكون على غرار «الجامع الأزهر» في تعليم علوم العربية والدين، وتزيد عليه بتدريس العلوم الحديثة، لتُخرِّج أجيالًا ناهضةً من المتعلِّمين منوَّرِي القلب والعقل، يجمعون بين العلوم الدينية والعلوم الكونية من غير تنافر، وإذا كان لكل إقليم من أقاليم العالم الإسلامي مدرسته العريقة، القرويين والقيروان والأزهر والمدارس النظامية، فإن إقليم الأناضول أحوج ما يكون إلى إنشاء هذه «المدرسة الزهراء»، لكنّ هذا المطلبَ لم يَلْقَ قبولًا من السلطان ولا من وزير داخليته، بل قوبل بعكس المراد.
في ظل الإصلاح السياسي
وفي تلك الآونة كانت الدولة العثمانية تشهد تحدياتٍ وتحوُّلاتٍ هائلة، حيث اضطر السلطان عبد الحميد إلى إعلان المشروطية في عام 1908، وبموجبها يقيِّد مجلسُ النواب صلاحياتِ السلطان ويزاحمه في قراراته.
ومع أن البلاد كانت بحاجةٍ إلى نوعٍ من الحرية وإقرار نظامٍ للشورى، إلا أن جمعية الاتحاد والترقي كانت تسعى لاتخاذ المشروطية مطيَّةً للانقلاب على نظام الدولة؛ فكان للنورسي –بخُطبه ومقالاته- نشاطٌ بارزٌ في توعية الناس من إساءة فهم الحرية وإساءة استخدامها بما يُخالف أسس الشريعة وأحكامها، وفي منع انتشار الفوضى، وفي توحيد صفوف ورصِّها أمام مشاريع الأوربيين وأنشطة الجمعيات السرية الهادفة إلى الإطاحة بدولة نظام الخلافة وتفتيتها.
ولما نجحت جمعية الاتحاد والترقي في الاستيلاء على مقاليد الأمور وخَلَعت السلطان عبد الحميد في عام 1909، أقامتْ محكمةً عسكريةً لاحقتْ فيها خصومها وحصدتْ أرواحهم على أعواد المشانق؛ وكان بديع الزمان واحدًا ممن حُوكموا في تلك المحكمة الرهيبة، لكنْ صدرتْ بحقِّه البراءة من الجلسة الأولى إثر مدافعته الباهرة في جرأتها وقوَّتها وصدْعِها بالحق.
الخطبة الشامية
في عام 1911 زار النورسي بلاد الشام، وألقى في المسجد الأموي بدمشق خطبةً فذَّةً جامعةً عُرِفَتْ بـ«الخطبة الشامية»، حضرها جمعٌ غفيرٌ من العلماء وطلاب العلم، وقد شخَّصَ فيها بدقَّةٍ الأمراضَ التي أصابت الأمة الإسلامية، ثم قدَّم العلاج من صيدلية القرآن الكريم.
ولما عاد إلى إستانبول، قابل السلطان محمد رشاد وحصل منه ومن الحكومة على موافقةٍ ودعمٍ لإنشاء «الجامعة الزهراء»، ووضَعَ حجر الأساس لهذا المشروع في مدينة «وان»، إلا أن اندلاع الحرب العالمية الأولى حالَ دون إكمال المشروع.
مجاهدة الاحتلال الروسي
حين اندلعت الحرب العالمية الأولى احتلت القوات الروسية أجزاءً من المناطق الشرقية للدولة العثمانية، فشكَّل بديع الزمان مع طلبته المدرَّبين فرقةً من المتطوعين التحقوا بالجيش العثماني وتصدوا للعدوان الروسي في معارك عدة، وأنقذوا المدنيين من مذابح مروعة.
وفي تلك الأثناء، وفي تلك الجبهات، ألَّف بديع الزمان تفسيرَه النفيس «إشارات الاعجاز في مظانِّ الإيجاز»، فكان يُمليه من صدره على تلميذه المُلّا حبيب الذي استشهد في أثناء الجهاد، وهو وإن لم يتيسر له إتمامه، لكنه نموذج فريد في التفسير وبيان نظم القرآن.
وفي إحدى المواجهات أُصِيبَ النورسي إصابةً بالغة فوقع أسيرًا بيدِ الروس، ونُفي إلى معسكرات «كوستروما» شمال روسيا، وبقي في الأسر مدة سنتين وأربعة أشهر، ثم تمكن من الهرب إثر الثورة البلشفية في روسيا.
وحين عاد من الأسر في عام 1918 استُقبِل في إستانبول استقبالًا حافلًا، وعُيِّنَ عضوًا في «دار الحكمة الإسلامية» التي كانت تضم كبار العلماء والشخصيات؛ وفَرضتْ له الحكومة مرتَّبًا، ولكنه لم يأخذ منه إلا ما يقيم أَوَده، وأنفق الباقي على طباعة رسائله العلمية التي كان يوزِّعها مجانًا.
مجاهدة الاحتلال الإنكليزي
مع وقوع عاصمة الخلافة تحت سطوة الاحتلال الإنكليزي، لم يكن خطر الإنكليز السياسي بأقل من خطرهم العسكري، فقد سعَوا بخبثٍ بالغ لتفرقة المجتمع المسلم وتمزيق مرجعياته وتشويش تصوراته، فتصدى بديع الزمان لمشاريعهم الخبيثة من خلال رسالته «الخطوات الست» التي نشَرها وتحدث بها في المجامع، كان لها دورٌ مؤثِّر في كشف مخططات المحتل الإنكليزي وتعزيز الانتماء الإسلامي.
حقبة تأسيس الجمهورية
بعد أن انطلقت في أرض الأناضول «حرب التحرير الوطنية»، تشكلت في أنقرة حكومةٌ لإدارة شؤون البلاد، وفي عام 1922 دعت حكومةُ أنقرة الأستاذَ النورسي لزيارتها تقديرًا لجهوده، فاستُقبِل فيها استقبالًا كريمًا، لكنْ ساءَه حالُ كثيرٍ من رجالِ الحكومة وما هم عليه من إهمالٍ لشعائر الإسلامٍ وسلوكٍ مُضادٍّ لأصوله وقِيَمِهِ، فوجَّه بيانًا وُزِّعَ في مجلس النواب وتُلِيَ على مسامعهم يذكِّرهم بمسؤوليتهم تجاه أمَّتهم، ويحضُّهم على التمسك بأصول الإسلام وشعائره وفي مقدمتها الصلاة.
وكان لهذا البيان أثرُه المُجْدي لدى كثيرٍ من النوَّاب، إلا أن مغزاه لم يَرُقْ للقيادات في ذلك الحين، وأوجسوا منه الخيفة والحذَر، وجرتْ بينه وبينهم مناقشة حادة؛ وفي المقابل وَجد النورسيُّ في هؤلاء علاماتِ أشخاصِ آخر الزمان الذين أخبر عنهم النبيُّ ﷺ وحذَّر من فتنتهم، فرفض النورسي جميع ما عرضوا عليه من مناصب مغرية، وقرَّر اعتزالهم، وغادر أنقرة متوجهًا إلى «وان» منزويًا عن الحياة الاجتماعية ليخلو في إحدى مغارات جبل «أَرَك»، طاويًا آخر صفحةٍ من حقبة «سعيد القديم».
سعيد الجديد ومشروع إنقاذ الإيمان
حين غادر النورسي أنقرة متوجهًا إلى مسقط رأسه، كان قد نفض من يده آخر أملٍ في الإصلاح السياسي، وطوى آخر صفحةٍ من حياة «سعيد القديم»، ليدخل في مرحلة «سعيد الجديد» الذي قرر اعتزال العمل السياسي قائلًا قولته الشهيرة: «أعوذ بالله من الشيطان والسياسة».
لم يعد مجديًا الحديث عن إصلاح سياسي بينما العالَم الإسلامي دويلات ممزقة تتناهبها قوى الاحتلال الأوروبي، والمجتمعات المسلمة ترزح تحت حملات التغريب والإضلال وفلسفات الإلحاد والتيه التي كانت تفتك بالعقول والقلوب.. في هذا الواقع المرير وجد النورسي أن لا شيء يهدد الإنسانَ أخطر من ظلمات الشك والشرك والإلحاد، ولا وظيفة أَولى ولا أسمى من «إنقاذ الإيمان»، فهو أساسُ كل صلاحٍ وازدهار، وبدونه يخيم على الحياة اليأس والبؤس مهما تجملت بزينة زائفة.
من هنا نذر «سعيد الجديد» أنفاسَ حياته لـ«خدمة الإيمان» و«إنقاذ الإيمان»، وأعلنها أولويةً مطلقة قائلًا: هذا زمان إنقاذ الإيمان.. ليس زمان الطريقة، يمكن لكثير من الناس أن يدخلوا الجنة بدون طريقة، ولكن لا أحد يدخل الجنة بغير إيمان.. هذه هي القضية الكبرى، ومن خَسِرها خسِر كل شيء.
ميلاد رسائل النور
لم يكد النورسي يستقر في «وان» حتى اندلعت في شرق البلاد ثورةٌ مسلَّحةٌ بقيادة الشيخ سعيد بيران ترفض سياساتِ حكومةِ الجمهورية وإجراءاتها الساعية إلى طمس معالِم الإسلام، والقضاء على هُويَّته، ومَسْخِه في الأذهان والوجدان.
وكان من تدابير مواجهةِ هذه النقمة نفيُ جميع الشخصيات البارزة من الشرق إلى أنحاءَ متفرِّقةٍ من تركيا؛ فصدرَ في العام 1925 أمرٌ باعتقال بديع الزمان سعيدٍ النورسي ونفيِه من «وان» إلى غرب الأناضول، إلى قريةٍ معزولةٍ تُدعى «بارلا» بغيةَ أن يندرِس أثره ويطويَه النسيان.
ولكن كان للقدر حكمةٌ خفية.. فمن تلك القرية النائية بزغت شمسٌ معنويةٌ تُبدد ظلمات الضلالة الجاثمة على البلاد.. بزغت شمس رسائل النور.
التفَّ حول النورسي في منفاه رجالٌ خُلَّص، اجتمعوا عليه لأجل الآخرة، ولم يكن لهم مقصد سوى إنقاذ حياتهم الأبدية، فكان يملي عليهم مباحثَ إيمانية ومعارفَ قرآنية تداوي جراحاتهم المعنوية وتبثهم سلوانَ الإيمان وعافية اليقين، ثم كانوا ينسخون ما كتبوا فيقرؤونه لأنفسهم ويقرؤونه لمن حولهم، وشيئًا فشيئًا تُستنسخ الرسائل وتتسع دائرة قراءها وناشريها بصمت من غير ضجيج ولا حاجة إلى مطبعة، ولم تزل تنتشر وتتسع حتى بلغ قراؤها مئات الآلاف لا تقدر أي حكومة على وقفها مهما حاولت، بل كانت كلما حاربتها الحكومة ازدادت انتشارًا وقوة.
ومنذ ذلك الحين عَرَف المجتمعُ المسلم نمطًا غير مسبوق من العمل الإيماني الدعوي الإصلاحي، هو ما عُرِف بعد بـ:«خدمة الإيمان» التي غايتها أن يعمل المرء على إنقاذ إيمانه وإيمان مَن حولَه، وكان المنهج واضحًا: رسائل النور قراءةً ومُدارسةً واستنساخًا ونشرًا وإقراءً.
وحيثما وُجِدتْ رسائل النور وُجِدتْ «مدرسة نورية»، وتُعَدُّ «بارلا» المدرسةَ النُّوريةَ الأولى، ومنها انتشرتْ رسائلُ النور في الآفاق؛ وكانت الرسائل في أوَّل الأمر تُسْتَنْسَخ كتابةً بخط اليد، وتُتَداولُ سِرًّا، فيتلقَّاها الناس بلهفةٍ، إذْ يجدون فيها ضالَّتهم وطوقَ نجاتهم في خِضَمِّ المحنة، وينهلون من كوثرها في زمن القحط المعنوي العصيب، فيعُمُّ نفعُها ويزداد الإقبال عليها واستنساخها باضطراد.
خدمة الإيمان مدى الحياة
منذ أن توجه سعيد الجديد إلى خدمة القرآن والإيمان بواسطة رسائل النور لم يعرف راحةَ بدنٍ ولا استقرارًا في وطن، بل تحولت حياته إلى محطاتٍ يتوالى عليه فيها النفي ثم المحاكمة ثم السجن، وهكذا دواليك إلى أن توفاه الله.
في العام 1925 نُفي النورسي إلى «بارلا» تسع سنين، وهناك ألَّفَ معظم رسائل النور تحت وطأةِ ظروفٍ قاسيةٍ من المرض والرقابة والترصُّد والتضييق.
ولما استشعرت الجمعيات السرِّيَّة الملحِدة الخطر الذي يتهددها من رسائل النور أمرتْ باعتقال الأستاذ ومجموعةٍ من طلابه في سنة 1934، فسِيقوا إلى محكمةٍ في «إسكي شهير» لَفَّقتْ عليهم تُهَمًا وقضتْ بموجبها عليهم بالسجن.
لبث النورسي في سجن «إسكي شهير» قرابة عامَين، وما أن غادره حتى فُرِضَتْ عليه إقامة جبريَّة في «قسطموني»، فتابع دعوتَه من هناك، وحَظي فيها بطلابٍ جددٍ صادقين أوفياء تفانَوا في خدمة رسائل النور ونشرِها.
وفي عام 1944 استُدعِي بديعُ الزمان إلى محكمة «دنيزلي»، فلما لم تجد ما تُدينه به قضتْ ببرائتِه، ومع ذلك نُفي إلى «أميرداغ» للإقامة الجبرية، ثم اعتُقِل مجدَّدًا في سنة 1948ليُرسَل هو وطلابه إلى سجن «أفيون»، ثم جرتْ محاكمتهم وصدر الحكم ببرائتِهم، فلما أُطلق من السجن أعيد إلى «أميرداغ» في إقامةٍ جبريةٍ من جديد سنةَ 1949.
ثم قَدِم إلى إستانبول سنةَ 1952ليُحاكَم بخصوصِ قضيةِ رسالة «مُرشد الشباب»، وأعلنت المحكمة براءتَه، فعاد في سنة 1953 إلى «إسبارطة»، وبقي فيها حتى أواخر أيامه.
وفي العام 1956 صدرَ الحكم الرسمي ببراءة رسائل النور، وقُضِي بردِّ جميع الرسائل التي احتُجِزتْ، فطُبِعتْ كاملةً في سنة 1957 ونُشِرتْ في أنحاء البلاد.
وعلى امتداد هذه السنين الشديدة لم يتوقف النورسي لحظةً عن القيام بخدمته الإيمانية، بل كان يجد في كل منفى تلامذة صادقين جادِّين مخلصين، يحملون دعوة النور بين جوانحهم، ويفدونها بأنفسهم.
وما دخل سجنًا إلا حوَّله إلى «مدرسة يوسفية» يتلقى فيها السجناء دروس الإيمان، فيتحولون من مجرمين عتاةٍ إلى تائبين صادقين صالحين.
وكان في كل محكمةٍ يصدَع بالحق على رؤوس الأشهاد، ويقول كلمة الحق لا يخاف لومة لائم.
وقد حَفِظت مراسلاته الشخصية كثيرًا من هذه المواقف ووثقت كثيرًا من المشاهد، لا سيما في «المَلاحق» و«الشعاعات»، رحمه الله وأجزل له الأجر
وفاته
وبعد حياةٍ حافلةٍ بالجهاد والفداء، والمصابرة والثبات، توفي الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1379 هـ الموافق 23 آذار 1960م في مدينة «أورفا» ودُفن بها، لكن السلطات العسكرية لم تدعه يرتاح حتى في قبره؛ فقامت بهدمه بعد أربعة أشهر من وفاته، ونقلتْ جثمانه بالطائرة إلى جهةٍ مجهولة، وما يزال قبره مجهولًا حتى الآن.
فيديو تعريفي بشخصية بديع الزمان سعيد النورسي