اللمعة العشرون: الإخلاص (1)

[هذه اللمعة هي لمعة الإخلاص الأولى، وتتحدث عن أسباب اتفاق أهل الضلالة رغم كونهم على الباطل، واختلاف أهل الإيمان رغم كونهم على الحق]

تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي

ترجمة: إحسان قاسم الصالحي

إنَّ إقبالَ النّاسِ وتَوَجُّهَهم لا يُطلَبُ، بل يُوهَبُ، ولو حَصَل الإقبالُ فلا يُسَرُّ به. وإذا ما ارتاحَ المَرءُ لِتَوجُّهِ النّاسِ إلَيْه فقد ضَيَّعَ الإخلاصَ ووَقَع في الرِّياءِ. أمّا التَّطَلُّعُ إلى نَيلِ الشُّهْرةِ والصِّيتِ مِمّا يَتَضمَّنُ تَوَجُّهَ النّاسِ والرَّغبةَ في إِقبالِهم فهُو ليس بأُجْرةٍ ولا ثَوابٍ، بل عِتابٌ وعِقابٌ نابِعانِ مِن فِقْدانِ الإخلاصِ. نعم، إنَّ تَوَجُّهَ النّاسِ وإِقبالَهُم لا يُرادُ، لأنَّ ما فيه مِن لَذّةٍ جُزْئيّةٍ تَضُرُّ بالإخلاصِ الَّذي هو رُوحُ الأَعمالِ الصَّالِحةِ، ثمَّ إنَّه لا يَستَمِرُّ إلَّا إلى حَدِّ بابِ القَبْرِ. فَضْلًا عن أنَّه يَكتَسِبُ ما وَراءَ القَبْرِ صُورةً أَلِيمةً مِن عَذابِ القَبْرِ. فلا يُرغَبُ في تَوَجُّهِ النّاسِ ونَيلِ رِضاهُم إذًا، بل يَلْزَمُ الفِرارُ والتَّهَيُّبُ مِنه. فلْيُصْغِ إلى هذا عُبَّادُ الشُّهْرةِ والمُتَلهِّفُون على كَسْبِ رِضَا النّاسِ.

[اللمعة العشرون]

 

اللمعة العشرون

تَخُصُّ الإخلاص

أَحْرَزَ هذا البَحثُ أَهمِّيّةً خاصّةً أَهَّلَتْه لِيَكُونَ “اللَّمْعةَ العِشْرِين” بعدَ أن كان النُّقطةَ الأُولَى مِن خَمسِ نِقاطٍ مِنَ المَسأَلةِ الثّانيةِ مِنَ المَسائِلِ السَّبْعِ لِلمُذَكِّرةِ السَّابِعةَ عَشْرةَ مِنَ “اللَّمْعةِ السّابِعةَ عَشْرةَ”.‌

[الإخلاص]

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾

وقال الرَّسُولُ الأَعظَمُ ﷺ: «هَلَكَ النَّاسُ إلّا العَالِمُونَ، وهَلَكَ العَالِمُونَ إلّا العَامِلُونَ، وهَلَكَ العَامِلوُنَ إلّا المُخْلِصُونَ، والمُخْلِصُونَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيم»، أو كما قال.

تَدُلُّنا هذه الآيةُ الكَرِيمةُ والحَدِيثُ النَّبوِيُّ الشَّرِيفُ مَعًا على مَدَى أَهَمِّيّةِ الإخلاصِ في الإسلامِ، ومَدَى عَظَمَتِه.

فمِن بينِ النُّكَتِ الَّتي لا حَصْرَ لَها لِمَبْحَثِ “الإخلاص” نُبيِّنُ باختِصارٍ خَمْسَ نِقاطٍ فقط:

تنبيه: إنَّ ما يُوجِبُ الشُّكْرَ على هذه البَلْدةِ الطَّيِّبة “إسبارطة” أن قد آتاها اللهُ حَظًّا عظيمًا، فلا يَبدُو بينَ مَن فيها مِن المُتَّقين والصّالِحِين وأهلِ الطُّرُقِ الصُّوفيّةِ والعُلَماءِ اختِلافٌ مَشُوبٌ بالحَسَدِ، حتى لو ظَهَر فهو أَخَفُّ بكثيرٍ مِمّا هو عليه في سائرِ المَناطِقِ. وعلى الرَّغمِ مِن أنَّ المَحَبّةَ الخالِصةَ والِاتِّفاقَ التّامَّ غيرُ مَوجُودَينِ كما يَنبَغي، فإنَّ الِاختِلافَ المُضِرَّ والحَسَدَ المَمقُوتَ مَفقُودانِ أيضًا بالنِّسبة إلى المَناطِقِ الأُخرَى.

[النقطة الأولى: لماذا يختلف أهل الحق؟ ولماذا يتفق أهل الباطل؟]

النُّقطة الأُولى

سؤالٌ مُهِمٌّ ومُثِيرٌ للدَّهْشةِ: لِماذا يَختَلِفُ أَصحابُ الدِّينِ والعُلَماءُ وأَربابُ الطُّرُقِ الصُّوفيّةِ وهُم أَهلُ حَقٍّ ووِفاقٍ ووِئامٍ بالتَّنافُسِ والتَّزاحُمِ، في حِينِ يَتَّفِقُ أَهلُ الدُّنيا والغَفْلةِ بل أَهلُ الضَّلالةِ والنِّفاقِ مِن دُونِ مُزاحَمةٍ ولا حَسَدٍ فيما بَينَهُم؛ معَ أنَّ الِاتِّفاقَ هُو مِن شَأْنِ أَهلِ الوِفاقِ والوِئامِ، والخِلافَ مُلازِمٌ لِأَهلِ النِّفاقِ والشِّقاقِ؛ فكيف استَبْدَلَ الحَقُّ والباطِلُ مَكانَهُما، فأَصْبَحَ الحَقُّ بجانِبِ هؤلاءِ، والباطِلُ بجانِبِ أُولَئِك؟!

الجَوابُ: سنُبيِّنُ سَبعةً مِنَ الأَسبابِ العَدِيدةِ لِهذه الحالةِ المُؤْلِمةِ الَّتي تَقُضُّ مَضْجَعَ الغَيارَى الشُّهُومِ.

[سبب 1: إذا تخصصت الوظيفة وتعينت الأجرة قلَّ النزاع]

السَّببُ الأوَّل:

إنَّ اختِلافَ أَهلِ الحَقِّ غيرُ نابِعٍ مِن فِقْدانِ الحَقِيقةِ، كما أنَّ اتِّفاقَ أَهلِ الغَفْلةِ ليس نابِعًا مِن رُكُونِهم إلى الحَقِيقةِ؛ بل إنَّ وَظائِفَ أَهل الدُّنيا والسِّياسةِ والمُثقَّفِين وأَمثالِهم مِن طَبَقاتِ المُجتَمَعِ قد تَعَيَّنَت وتَمَيَّزَت، فلِكُلِّ طائِفةٍ وجَماعةٍ وجَمْعِيّةٍ مُهِمّةٌ خاصّةٌ تَنشَغِلُ بها، وما يَنالُونَه مِن أُجْرةٍ مادِّيّةٍ لِقاءَ خِدْماتِهِم ولِإِدامةِ مَعِيشَتِهم هي كذلك مُتَميِّزةٌ ومُتَعيِّنةٌ، كما أنَّ ما يَكسِبُونَه مِن أُجْرةٍ مَعنَوِيّةٍ كحُبِّ الجاهِ وذُيُوعِ الصِّيتِ والشُّهْرةِ، هي الأُخرَى مُتَعيِّنةٌ ومُخَصَّصةٌ ومُتَميِّزةٌ1تَحذِيرٌ: إنَّ إقبالَ النّاسِ وتَوَجُّهَهم لا يُطلَبُ، بل يُوهَبُ، ولو حَصَل الإقبالُ فلا يُسَرُّ به. وإذا ما ارتاحَ المَرءُ لِتَوجُّهِ النّاسِ إلَيْه فقد ضَيَّعَ الإخلاصَ ووَقَع في الرِّياءِ. أمّا التَّطَلُّعُ إلى نَيلِ الشُّهْرةِ والصِّيتِ مِمّا يَتَضمَّنُ تَوَجُّهَ النّاسِ والرَّغبةَ في إِقبالِهم فهُو ليس بأُجْرةٍ ولا ثَوابٍ، بل عِتابٌ وعِقابٌ نابِعانِ مِن فِقْدانِ الإخلاصِ. نعم، إنَّ تَوَجُّهَ النّاسِ وإِقبالَهُم لا يُرادُ، لأنَّ ما فيه مِن لَذّةٍ جُزْئيّةٍ تَضُرُّ بالإخلاصِ الَّذي هو رُوحُ الأَعمالِ الصَّالِحةِ، ثمَّ إنَّه لا يَستَمِرُّ إلَّا إلى حَدِّ بابِ القَبْرِ. فَضْلًا عن أنَّه يَكتَسِبُ ما وَراءَ القَبْرِ صُورةً أَلِيمةً مِن عَذابِ القَبْرِ. فلا يُرغَبُ في تَوَجُّهِ النّاسِ ونَيلِ رِضاهُم إذًا، بل يَلْزَمُ الفِرارُ والتَّهَيُّبُ مِنه. فلْيُصْغِ إلى هذا عُبَّادُ الشُّهْرةِ والمُتَلهِّفُون على كَسْبِ رِضَا النّاسِ..

فليس هُناك إذًا ما يُولِّدُ مُنافَسةً أو مُزاحَمةً أو حَسَدًا فيما بَينَهُم، وليس هُناك ما يُوجِبُ المُناقَشةَ والجِدالَ، لِذا تَراهُم يَتَمكَّنُون مِنَ الِاتِّفاقِ مَهْما سَلَكُوا مِن طُرُقِ الفَسادِ.

أمّا أَهلُ الدِّينِ وأَصحابُ العِلمِ وأَربابُ الطُّرُقِ الصُّوفيّةِ فإنَّ وَظِيفةَ كلٍّ مِنهُم مُتَوجِّهةٌ إلى الجَمِيعِ، وأنَّ أُجْرَتَهُمُ العاجِلةَ غيرُ مُتَعيِّنةٍ وغيرُ مُتَخصِّصةٍ، كما أنَّ حَظَّهُم مِنَ المَقامِ الِاجتِماعيِّ وتَوَجُّهِ النَّاسِ إلَيْهِم والرِّضَا عَنهُم لم يَتَخصَّصْ أَيضًا؛ فهُناك مُرَشَّحُون كَثِيرُون لِمَقامٍ واحِدٍ، وقد تَمتَدُّ أَيْدٍ كَثِيرةٌ جِدًّا إلى أَيّةِ أُجْرةٍ مادِّيّةً كانَت أو مَعنَوِيّةً. ومِن هُنا تَنشَأُ المُزاحَمةُ والمُنافَسةُ والحَسَدُ والغَيْرةُ، فيَتَبدَّلُ الوِفاقُ نِفاقًا والِاتِّفاقُ اختِلافًا وتَفَرُّقًا.

فلا يَشْفِي هذا المَرَضَ العُضالَ إلّا بَلْسَمُ الإخلاصِ النّاجِعُ، أي: أن يَنالَ المَرءُ شَرَفَ امتِثالِ الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾ بإيثارِ الحَقِّ والهُدَى على اتِّباعِ النَّفْسِ والهَوَى، وبِتَرجِيحِ الحَقِّ على أَثَرةِ النَّفْسِ.. وأن يَحصُلَ لَه امتِثالٌ بالآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ باستِغْنائِه عنِ الأَجْرِ المادِّيِّ والمَعنَوِيِّ المُقْبِلَينِ مِنَ النّاسِ2لا بُدَّ مِن جَعْلِ شِيمةِ “الإيثارِ” الَّتي تَحَلَّى بها الصَّحابةُ الكِرامُ رِضوانُ اللهِ تَعالَى علَيْهم ونالُوا بها ثَناءَ القُرآنِ الكَرِيمِ نُصْبَ العَينِ، واتِّخاذِها دَليلًا ومُرشِدًا، وهذا يَعنِي: تَفْضِيلَ الآخَرِين على النَّفسِ عِندَ قَبُولِ الهَدايا والصَّدَقاتِ، وعَدَمَ قَبُولِ شَيءٍ مُقابِلَ ما يقُومُ به المَرءُ مِن خِدْماتٍ في سَبِيلِ الدِّينِ، بل لا يَطلُبُه قَلْبًا. وإذا حَصَل شَيءٌ مِن هذا القَبِيلِ فلْيَعُدَّه إِحسانًا إِلٰهِيًّا مَحْضًا، مِن دُونِ البَقاءِ تَحتَ مِنّةِ النّاسِ، إذ ما يَنبَغِي أن يُسأَلَ شَيءٌ في الدُّنيا لِقاءَ خِدْماتٍ في سَبِيلِ الدِّينِ، لِئلَّا يَضِيعَ الإخلاصُ؛ فالأُمّةُ وإن كان علَيْها أن تَضْمَنَ مَعاشَ هَؤُلاءِ، كما أنَّهم يَستَحِقُّون الزَّكاةَ، إلّا أنَّ هَؤُلاء العامِلِين لا يَسأَلُون النّاسَ شَيْئًا ورُبَّما يُوهَبُ لَهُم، حتَّى لو وُهِبَ لَهُم شَيءٌ فلا يَأْخُذُونَه لِقِيامِهم في خِدْمةِ الدِّينِ. فالأَفضَلُ إيثارُ مَن هُم أَهلٌ لَها على النَّفْسِ، والرِّضَا بما قَسَم اللهُ مِن رِزقٍ والقَناعةُ به، كي يَحظَى المَرءُ بالثَّناءِ القُرآنِيِّ العَظِيمِ ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾، وعِندَئِذٍ يكُونُ ظافِرًا بالإخلاصِ ومُنقِذًا نَفسَه مِن شُرُورِ هذه التَّهلُكةِ الخَطِرة.، مُدرِكًا أَنَّ استِحْسانَ النّاسِ كَلامَه وحُسْنَ تَأْثيرِه فيهم ونَيْلَ تَوَجُّهِهِم إلَيْه هُو مِمّا يَتَولّاه اللهُ سُبحانَه وتَعالَى ومِن إحسانِه وفَضْلِه وَحْدَه، وليس داخِلًا ضِمْنَ وَظِيفَتِه الَّتي هي مُنحَصِرةٌ في التَّبلِيغِ فحَسْبُ، بل لا يَلْزَمُه ذلك ولا هُو مُكَلَّفٌ به أَصْلًا؛ فمَن وَفَّقَه اللهُ إلى ما ذُكِرَ آنِفًا يَجِدُ لَذّةَ الإخلاصِ، وإلّا يَفُوتُه الخَيرُ الكَثِيرُ.

[سبب 2: اتفاقٌ سببُه الذلة]

السَّببُ الثّاني:

إنَّ اتِّفاقَ أَهلِ الضَّلالةِ نابِعٌ مِن ذِلَّتِهِم، بَينَما اختِلافُ أَهلِ الهِدايةِ نابِعٌ مِن عِزَّتِهم، إذ لَمّا كان أَهلُ الدُّنيا والضَّلالةِ الغافِلُون لا يَستَنِدُون إلى الحَقِّ والحَقِيقةِ فهُم ضُعَفاءُ وأَذِلّاءُ، يَشعُرُون بحاجةٍ ماسّةٍ إلى اكتِسابِ القُوّةِ، فيَتَشبَّثُون بشِدّةٍ بِأمرِ مُعاوَنةِ الآخَرِين والِاتِّفاقِ مَعَهُم، ويَحرِصُون على هذا الِاتِّفاقِ ولو كان مَسلَكُهُم ضَلالةً، فكأنَّهم يَعمَلُون حَقًّا في تَسانُدِهِم على الباطِلِ، ويُخلِصُون في ضَلالِهِم، ويُبدُون ثَباتًا وإِصرارًا على إِلْحادِهم، ويَتَّفِقُون في نِفاقِهم؛ فلِأَجْلِ هذا يُوَفَّقُون في عَمِلِهم، لأنَّ الإخلاصَ التّامَّ ولو كان في الشَّرِّ لا يَذهَبُ سُدًى، ولا يكُونُ دُونَ نَتِيجةٍ. فما مِن سائِلٍ يَسأَلُ بإِخلاصٍ أَمْرًا إلّا قَضاه اللهُ لَه3نعم، إنَّ دُستُور “مَن طَلَب وَجَدَّ وَجَدَ” مِن دَساتيرِ الحَقِيقةِ، لَه مِنَ السَّعةِ والشُّمُولِ ما يَشمَلُ مَسْلَكَنا أَيضًا..

أَمّا أَهلُ الهِدايةِ والدِّينِ وأَصحابُ العِلمِ والطَّرِيقةِ فلِأَنَّهم يَستَنِدُون إلى الحَقِّ والحَقِيقةِ، ولِأَنَّ كُلًّا مِنهُم أَثناءَ سَيرِه في طَرِيقِ الحَقِّ لا يَرجُو إلّا رِضَا رَبِّه الكَرِيمِ ويَطْمَئِنُّ إلَيْه كُلَّ الِاطمِئْنانِ، يَنالُ عِزّةً مَعنَوِيّةً في مَسْلَكِه نَفسِه، إذ حالَما يَشعُرُ بضَعْفٍ يُنِيبُ إلى رَبِّه دُونَ النّاسِ، ويَستَمِدُّ مِنه وَحْدَه القُوّةَ، زِدْ على ذلك يَرَى أَمامَه اختِلافَ المَشارِبِ معَ ما هُو علَيْه، لِذا تَراه لا يَستَشْعِرُ بدَواعِي التَّعاوُنِ معَ الآخَرِينَ، بل لا يَتَمكَّنُ مِن رُؤْيةِ جَدْوَى الِاتِّفاقِ معَ مَن يُخالِفُ ظاهِرَ مَشرَبِه، ولا يَجِدُ في نَفسِه الحاجةَ إلَيْه.

وإذا ما كان ثَمَّةَ غُرُورٌ وأَنانيّةٌ في النَّفْسِ يَتَوهَّمُ المَرءُ نَفْسَه مُحِقًّا ومُخالِفِيه على باطِل، فيَقَعُ الِاختِلافُ والمُنافَسةُ بَدَلَ الِاتِّفاقِ والمَحَبّةِ، وعِندَها يَفُوتُه الإِخلاصُ ويَحبَطُ عَمَلُه ويكُونُ أَثَرًا بعدَ عَينٍ.

[تسعة توجيهات للخلاص من الاغترار بالذات]

والعِلاجُ الوَحِيدُ لِهَذه الحالةِ والحَيْلُولةِ دُونَ رُؤيةِ نَتِيجَتِها الوَخِيمةِ هو في تِسْعةِ أُمُورٍ آتِيةٍ:

١- العَمَلُ الإيجابيُّ البَنّاءُ، وهو: عَمَلُ المَرْءِ بمُقتَضَى مَحَبَّتِه لِمَسْلَكِه فحَسْبُ، مِن دُونِ أن يَرِد إلى تَفْكِيرِه، أو يَتَدخَّلَ في عِلْمِه عَداءُ الآخَرِينَ أوِ التَّهْوِينُ مِن شَأْنِهم، أي: لا يَنشَغِلَ بهم أَصْلًا.

٢- بل علَيْه أن يَتَحرَّى رَوابِطَ الوَحْدةِ الكَثِيرةِ الَّتي تَربِطُ المَشارِبَ المَعرُوضةَ في ساحةِ الإِسلام مَهْما كان نَوعُها، تلك الرَّوابِطُ الَّتي هي مَنابِعُ مَحَبّةٍ ووَسائِلُ أُخُوّةٍ واتِّفاقٍ بَينَ المَشارِبِ، فيَتَّفِقَ مَعَها.

٣- واتِّخاذُ دُستُورِ الإِنصافِ دَليلًا ومُرشِدًا، وهو: أنَّ صاحِبَ كلِّ مَسْلَكٍ حَقٍّ يَستَطِيعُ القَولَ: “إنَّ مَسلَكِي حَقٌّ وهو أَفضَلُ وأَجمَلُ” مِن دُونِ أن يَتَدخَّلَ في أَمرِ مَسالِكِ الآخَرِين، ولكن لا يَجُوزُ له أن يقُولَ: “الحَقُّ هُو مَسْلَكِي فحَسْبُ”، أو “أنَّ الحُسْنَ والجَمالَ في مَسْلَكِي وَحْدَه”، ممّا يَقْضِي ببُطْلانِ المَسالِكِ الأُخرَى وفَسادِها.

٤- العِلمُ بأنَّ الِاتِّفاقَ معَ أَهلِ الحَقِّ هو أَحَدُ وَسائِلِ التَّوفيقِ الإِلٰهِيِّ وأَحَدُ مَنابعِ العِزّةِ الإسلاميّةِ.

٥- الحِفاظُ على الحَقِّ والعَدْلِ بإيجادِ شَخصٍ مَعنَوِيٍّ، وذلك بالِاتِّفاقِ معَ أَهلِ الحَقِّ لِلوُقُوفِ تِجاهَ أَهلِ الضَّلالةِ والباطِلِ الَّذين أَخَذُوا يُغِيرُون بِدَهاءِ شَخصٍ مَعنَوِيٍّ قَوِيٍّ في صُورةِ جَماعةٍ على أَهلِ الحَقِّ بما يَتَمتَّعُون به مِن تَسانُدٍ واتِّفاقٍ، معَ الإِدراكِ بأنَّ أَيّةَ مُقاوَمةٍ فَردِيّةٍ -مَهْما كانَت قَوِيّةً- مَغلُوبةٌ على أَمرِها تِجاهَ ذلك الشَّخصِ المَعنَوِيِّ للضَّلالةِ.

٦- ولِأَجْلِ إِنقاذِ الحَقِّ مِن صَوْلةِ الباطِلِ:

٧- تَركُ غُرُورِ النَّفسِ وحُظُوظِها.

٨- وتَركُ ما يُتَصَوَّرُ -خَطَأً- أنَّه مِنَ العِزّةِ والكَرامةِ.

٩- وتَركُ دَواعِي الحَسَدِ والمُنافَسةِ والأَحاسِيسِ النَّفسانيّةِ التّافِهةِ.

بهذه النِّقاطِ التِّسْعِ يَظفَرُ الإنسانُ بالإخلاصِ، ويُوفِّي وَظِيفَتَه حَقَّ الوَفاءِ، ويُؤَدِّيها على الوَجْهِ المَطلُوبِ4لقد ثَبَت في الحَدِيثِ الصَّحيحِ أنَّ المُتَديِّنين الحَقِيقيِّين مِنَ النَّصارَى سيَتَّفِقُون في آخِرِ الزَّمانِ مُستَنِدِين إلى أَهلِ القُرآنِ لِلوُقُوفِ معًا تِجاهَ عَدُوِّهِمُ المُشتَرَكِ: الزَّندَقةِ، لِذا فأَهلُ الإيمانِ والحَقِيقةِ في زَمانِنا هذا لَيسُوا بحاجةٍ إلى الِاتِّفاقِ الخالِصِ وَحْدَه فيما بَينَهُم، بل مَدْعُوُّون أَيضًا إلى الِاتِّفاقِ حتَّى معَ الرُّوحانيِّين المُتَديِّنين الحَقِيقيِّين مِنَ النَّصارَى، فيَتْرُكُوا مُؤَقَّتًا كلَّ ما يُثِيرُ الخِلافاتِ والمُناقَشاتِ دَفْعًا لِعَدُوِّهِمُ المُشتَرَكِ المُلحِدِ المُتَعدِّي..

[سبب 3: اتفاقٌ سببُه دناءة الهمة]

السَّببُ الثّالثُ:

إنَّ اختِلافَ أَهلِ الحَقِّ ليس ناشِئًا عنِ الوَضاعةِ وفِقْدانِ الهِمّةِ، كما أنَّ اتِّفاقَ أَهلِ الضَّلالةِ ليس ناشِئًا عن عُلُوِّ الهِمّةِ، بل إنَّ اختِلافَ أَهلِ الهِدايةِ نابعٌ مِن سُوءِ استِعمالِ عُلُوِّ الهِمّةِ والإِفراطِ فيه، واتِّفاقَ أَهلِ الضَّلالةِ مَرَدُّه الضَّعفُ والعَجْزُ الحاصِلانِ مِنِ انعِدامِ الهِمّةِ.

والَّذي يَسُوقُ أَهلَ الهِدايةِ إلى سُوءِ استِعمالِ عُلُوِّ الهِمّةِ وبالتّالي إلى الِاختِلافِ والغَيْرةِ والحَسَدِ، إنَّما هو المُبالَغةُ في الحِرْصِ على الثَّوابِ الأُخْرَوِيِّ -الَّذي هو في حَدِّ ذاتِه خَصْلةٌ مَمْدُوحةٌ- وطَلَبُ الِاستِزادةِ مِنها دُونَ قَناعةٍ وحَصْرُها على النَّفْسِ. وهذا يَستَدْرِجُ الحَرِيصَ شَيْئًا فشَيْئًا حتَّى يَصِلَ به الأَمرُ إلى أن يَتَّخِذَ وَضْعًا مُنافِسًا إِزاءَ أَخِيه الحَقِيقيِّ الَّذي هو بأَمَسِّ الحاجةِ إلى مَحَبَّتِه ومُعاوَنَتِه وأُخُوَّتِه والأَخْذِ بِيَدِه؛ كأَنْ يقُولَ مَثلًا: لِأَغْنَمْ أَنا هذا الثَّوابَ، ولْأُرْشِدْ أَنا هَؤُلاءِ النّاسَ، ولْيَسْمَعُوا مِنِّي وَحْدِي الكَلامَ.. وأَمثالَها مِن طَلَبِ المَزِيدِ مِنَ الثَّوابِ لِنَفسِه.

أو يقُولَ: لِماذا يَذهَبُ تَلامِيذِي إلى فُلانٍ وعَلّانٍ؟ ولِماذا لا يَبلُغُ تَلامِيذِي عَدَدَ تَلامِيذِه وزِيادةً؟

فتَجِدُ رُوحُ الأَنانيّةِ لَدَيه -بهذا الحِوارِ الدّاخِلِيِّ- الفُرصةَ سانِحةً لِتَرفَعَ رَأْسَها وتَبْرُزَ، فتَسُوقُه تَدرِيجِيًّا إلى التَّلَوُّثِ بصِفةٍ مَذمُومةٍ، تلك هي التَّطَلُّعُ إلى حُبِّ الجاهِ، فيَفُوتُه الإخلاصُ ويَنسَدُّ دُونَه بابُه، بَينَما يَنفَتِحُ بابُ الرِّياءِ لَه على مِصْراعَيه.

[علاج نزعة الأنانية في الدعوة إلى الله]

إنَّ عِلاجَ هذا الخَطَأِ الجَسِيمِ والجُرحِ البَلِيغِ والمَرَضِ الرُّوحِيِّ العُضالِ هو:

العِلمُ بأنَّ رِضَا اللهِ لا يُنالُ إلّا بالإخلاصِ، فرِضاه سُبحانَه ليس بكَثْرةِ التّابِعِين ولا باطِّرادِ النَّجاحِ والتَّوفِيقِ في الأَعمالِ، ذلك لأنَّ تَكْثِيرَ التّابِعِين والتَّوفِيقَ في الأَعمالِ هو مِمّا يَتَولّاه اللهُ سُبحانَه بفَضْلِه وكَرَمِه، فلا يُسأَلُ ولا يُطلَبُ، بل يُؤتِيه اللهُ سُبحانَه مَن يَشاءُ.

نعم، رُبَّ كَلِمةٍ واحِدةٍ تكُونُ سَبَبًا لِلنَّجاةِِ، وتُصبِحُ مَوْضِعَ رِضا اللهِ سُبحانَه، ورُبَّ إِرشادِ شَخْصٍ واحِدٍ يكُونُ مَوْضِعَ رِضا اللهِ سُبحانَه بِقَدْرِ إِرشادِ أَلفٍ مِنَ النّاسِ؛ فلا يَنبَغِي أن تُؤخَذَ الكَمِيّةُ بنَظَرِ الِاعتِبارِ كَثِيرًا.

ثمَّ إنَّ الإخلاصَ في العَمَلِ ونُشدانَ الحَقِّ فيه إنَّما يُعرَفُ بصِدْقِ الرَّغبةِ في إِفادةِ المُسلِمِين عامّةً أَيًّا كان مَصدَرُ الِاستِفادةِ ومِن أيِّ شَخْصٍ صَدَر، وإلّا فحَصْرُ النَّظَرِ بأن يُؤخَذَ الدَّرسُ والإرشادُ مِنِّي فقط لِأَفُوزَ بالثَّوابِ الأُخْرَوِيِّ هو حِيلةُ النَّفسِ وخَدِيعةُ الأَنانيّةِ.

فيا مَن يَحرِصُ على المَزِيدِ مِنَ الثَّوابِ ولا يَقْنَعُ بما قامَ به مِن أَعمالٍ لِلآخِرةِ..

اِعْلَمْ أنَّ اللهَ سُبحانَه قد بَعَث أَنبِياءَ كِرامًا، وما آمَنَ مَعَهُم إلّا قَلِيلٌ، ومعَ ذلك نالُوا ثَوابَ النُّبوّةِ العَظِيمِ كامِلًا غيرَ مَنقُوصٍ، فلَيسَ السَّبْقُ والفَضْلُ إذًا في كَثْرةِ التّابِعِين، وإنَّما في نَيْلِ شَرَفِ رِضَا اللهِ سُبحانَه؛ فمَنْ أَنتَ أيُّها الحَرِيصُ حتَّى تَتَدخَّلَ في تَدبِيرِ اللهِ وتَقْدِيرِه، مُتَغافِلًا عن واجِبِك قائِلًا: “فلْيَسمَعْنِي الكُلُّ”؟! قُمْ بأَداءِ واجِبِك، ولا تُحاوِلْ أن تَتَدخَّلَ في تَدبِيرِ اللهِ وتَقدِيرِه.. اِعْلَمْ أنَّ تَصْدِيقَ النّاسِ كَلامَك وقَبُولَهُم دَعْوَتَك وتَجَمُّعَهُم حَوْلَك إنَّما هُو مِن فَضْلِ اللهِ يُؤْتيه مَن يَشاءُ، فلا تَشْغَلْ نَفْسَك فيما يَخُصُّه سُبحانَه مِن تَقدِيرٍ وتَدبِيرٍ، بلِ اجْمَعْ هَمَّك في القِيامِ بما أُنِيطَ بك مِن واجِبٍ.

ثمَّ إنَّ الإِصغاءَ إلى الحَقِّ والحَقِيقةِ، ونَوالَ المُتَكلِّمِ بِهما الثَّوابَ ليس مُنحَصِرًا في الجِنسِ البَشَرِيِّ وَحْدَه، بل للهِ عِبادٌ مِن ذَوِي الشُّعُورِ ومِنَ الرُّوحانيِّين والمَلائِكةِ قد مَلَؤُوا أَركانَ الكَوْنِ وعَمَرُوها. فإن كُنتَ تُرِيدُ مَزِيدًا مِنَ الثَّوابِ الأُخْرَوِيِّ فاسْتَمْسِكْ بالإِخلاصِ واتَّخِذْه أَساسًا لِعَمَلِك، واجْعَلْ مَرْضاةَ اللهِ وَحْدَها الهَدَفَ والغايةَ في عَمَلِك، كي تَحْيا أَفرادُ تلك الكَلِماتِ الطَّيِّبةِ المَنطُوقةِ مِن شَفَتَيْك مُنتَشِرةً في جَوِّ السَّماءِ بالإخلاصِ وبالنِّـيّةِ الخالِصةِ، لِتَصِلَ إلى أَسماعِ مَخلُوقاتٍ مِن ذَوِي المَشاعِرِ الَّذين لا يَحصُرُهُمُ العَدُّ، فتُنوِّرَهم، وتَنالَ بها الثَّوابَ العَظِيمَ أَضْعافًا مُضاعَفةً.

ذلك لِأنَّك إذا قُلتَ: “الحَمْدُ للهِ” مَثلًا فستُكْتَبُ بأَمرِ اللهِ على إِثْرِ نُطْقِك بهذه الكَلِمةِ مَلايِينُ المَلايِينِ مِنَ “الحَمْدُ للهِ” صَغِيرةً وكَبِيرةً في الفَضاءِ؛ فلَقد خَلَق سُبحانَه ما لا يُعَدُّ مِنَ الآذانِ والأَسماعِ تُصْغِي إلى تلك الكَلِماتِ الكَثِيرةِ الطَّيِّبةِ، حيثُ لا عَبَثَ ولا إِسرافَ في عَمَلِ البارِئِ الحَكِيمِ، فإذا ما بَعَث الإخلاصُ والنِّيّةُ الصّادِقةُ الحَياةَ في تلك الكَلِماتِ المُنتَشِرةِ في ذَرّاتِ الهَواءِ فستَدْخُلُ أَسماعَ أُولَئِك الرُّوحانيِّين لَذِيذةً طَيِّبةً كلَذّةِ الفاكِهةِ الطَّيِّبةِ، ولكن إذا لم يَبْعَثْ رِضا اللهِ والإخلاصُ الحَياةَ في تلك الكَلِماتِ، فلا تُستَساغُ، بل تَنبُو عَنها الأَسماعُ، ويَبقَى ثَوابُها مُنحَصِرًا فيما تَفَوَّه به الفَمُ.. فلْيُصْغِ إلى هذا قُرّاءُ القُرآنِ الكَرِيمِ الَّذين يَتَضايَقُون مِنِ افْتِقارِ أَصْواتِهم إلى الجَوْدةِ والإِحسانِ، فيَشْكُون مِن قِلّةِ السّامِعِين لَهُم.

[سبب 4: اتفاق سببُه المصلحة العاجلة]

السَّببُ الرّابعُ:

إنَّ اختِلافَ أَهلِ الهِدايةِ وتَحاسُدَهُم ليس كائِنًا مِن عَدَمِ التَّفكُّرِ في مَصِيرِهم ولا مِن قِصَرِ نَظَرِهم، كما أنَّ الِاتِّفاقَ الجادَّ بينَ أَهلِ الضَّلالةِ ليس ناشِئًا مِنَ القَلَقِ على المَصِيرِ ولا مِن سُمُوِّ نَظَرِهم وعُمْقِ رُؤْيَتِهم؛ بل إنَّ عَجْزَ أَهلِ الهِدايةِ عنِ الثَّباتِ على الِاستِقامةِ في السَّيْرِ، وتَقْصِيرَهُم عنِ الإخلاصِ في العَمَلِ يَحرِمُهُم مِنَ التَّمتُّعِ بمَزايا ذلك المُستَوَى الرَّفيعِ، فيَسقُطُون في هُوّةِ الِاختِلافِ رَغمَ كَوْنِهم يَستَرشِدُون بالعَقْلِ والقَلْبِ البَصِيرَيْنِ لِلعاقِبةِ، ويَستَفِيضُون مِنَ الحَقِّ والحَقِيقةِ، ولا يَمِيلُون معَ شَهَواتِ النَّفْسِ ولا معَ أَحاسِيسِهِمُ الكَلِيلةِ عن رُؤْيةِ العُقْبَى.

أمّا أَهلُ الضَّلالةِ فبِإغراءِ النَّفْسِ والهَوَى، وبمُقتَضَى المَشاعِرِ الشَّهَوِيّةِ والأَحاسِيسِ النَّفْسانيّةِ الكَلِيلةِ عن رُؤْيةِ العُقْبَى، والَّتي تُفَضِّلُ دِرْهَمًا مِن لَذّةٍ عاجِلةٍ على أَرْطالٍ مِنَ الآجِلةِ، تَراهُم يَتَّفِقُون فيما بَينَهُمُ اتِّفاقًا جادًّا، ويَجْتَمِعُون حَولَ الحُصُولِ على مَنفَعةٍ عاجِلةٍ ولَذّةٍ حاضِرةٍ.

نعم، إنَّ عَبِيدَ النَّفْسِ السَّفَلةَ مِن ذَوِي القُلُوبِ المَيتةِ والهائِمِين في الشَّهَواتِ الدَّنِيئةِ يَتَّحِدُون ويَتَّفِقُون فيما بَينَهُم على مَنافِعَ دُنيَوِيّةٍ عاجِلةٍ.. بَينَما يَنبَغِي لِأَهلِ الهِدايةِ الِاتِّفاقُ الجادُّ والِاتِّحادُ الكامِلُ والتَّضْحِيةُ المُثْمِرةُ والِاستِقامةُ الرَّصِينةُ فيما بَينَهُم، حيثُ إنَّهم يَتَوجَّهُون بنُورِ العَقْلِ وضِياءِ القَلْبِ إلى جَنْيِ كَمالاتٍ وثَمَراتٍ أُخْرَوِيّةٍ خالِدةٍ آجِلةٍ، ولكِن لِعَدَمِ تَجَرُّدِهم مِنَ الغُرُورِ والكِبْرِ والإِفْراطِ والتَّفْرِيطِ يُضَيِّعُون مَنْبَعًا عَظِيمًا ثَرًّا يُمِدُّهُم بالقُوّةِ، ألا وهُو الِاتِّفاقُ؛ فيَضِيعُ بدَوْرِه الإِخلاصُ ويَتَحطَّمُ، وتَتَضَعْضَعُ الأَعمالُ الأُخْرَوِيّةُ وتَذْهَبُ سُدًى، ويَصْعُبُ الوُصُولُ إلى نَيْلِ رِضَا اللهِ سُبحانَه.

[علاجُ الغرور بين أهل الحق]

وعِلاجُ هذا المَرَضِ الوَبِيلِ ودَواؤُه هو:

الِافتِخارُ بصُحْبةِ السّالِكِين في مَنهَجِ الحَقِّ، ورَبْطُ عُرَى المَحَبّةِ معَهُم تَطْبِيقًا لِلحَدِيثِ الشَّرِيفِ: “الحُبُّ في اللهِ”، ثمَّ السَّيرُ مِن خَلْفِهِم وتَرْكُ شَرَفِ الإِمامةِ لَهُم، وتَرْكُ الإِعجابِ بالنَّفْسِ والغُرُورِ، بِناءً على احتِمالِ كَوْنِ سالِكِ الحَقِّ -أَيًّا كان- هو خَيْرًا مِنه وأَفْضَلَ، وذلك لِيَسْهُلَ نَيْلُ الإِخلاصِ.

ثمَّ العِلمُ بأنَّ دِرْهَمًا مِن عَمَلٍ خالِصٍ لِوَجْهِ اللهِ أَوْلَى وأَرْجَحُ مِن أَرْطالِ أَعمالٍ مَشُوبةٍ لا إِخْلاصَ فيها.

ثمَّ إِيثارُ البَقاءِ في مُستَوَى التّابِعِ دُونَ التَّطَلُّعِ إلى تَسَلُّمِ المَسؤُولِيّةِ الَّتي قَلَّما تَسْلَمُ مِنَ الأَخْطارِ.

بهذه الأُمُورِ يُعالَجُ هذا المَرَضُ الوَبِيلُ ويُعافَى مِنه، ويَظفَرُ المُؤْمِنُ بالإِخلاصِ، ويكُونُ مِمَّن أَدَّى أَعمالَه الأُخْرَوِيّةَ حَقَّ الأَداءِ.

[سبب 5: اتفاقٌ سببُه الضعف]

السَّببُ الخامِسُ:

إنَّ اختِلافَ أَهلِ الهِدايةِ وعَدَمَ اتِّفاقِهِم ليس نابِعًا مِن ضَعْفِهِم، كما أنَّ الِاتِّفاقَ الصّارِمَ بينَ أَهلِ الضَّلالةِ ليس نابِعًا مِن قُوَّتِهم؛ بل إنَّ عَدَمَ اتِّفاقِ أَهلِ الهِدايةِ ناجِمٌ عن عَدَمِ شُعُورِهِم بالحاجةِ إلى القُوّةِ، لِمَا يُمِدُّهُم به إيمانُهُمُ الكامِلُ مِن مُرتَكَزٍ قَوِيٍّ.

وإنَّ اتِّفاقَ أَهلِ الغَفْلةِ والضَّلالةِ ناجِمٌ عنِ الضَّعْفِ والعَجْزِ، حيثُ لا يَجِدُون في وِجْدانِهم مُرَتَكَزًا يَستَنِدُون إلى قُوَّتِه، فلِفَرْطِ احتِياجِ الضُّعَفاءِ إلى الِاتِّفاقِ تَجِدُهُم يَتَّفِقُون اتِّفاقًا قَوِيًّا، ولِضَعْفِ شُعُورِ الأَقْوِياءِ بالحاجةِ إلى الِاتِّفاقِ يكُونُ اتِّفاقُهُم ضَعِيفًا؛ مَثَلُهُم في هذا كمَثَلِ الأُسُودِ والثَّعالِبِ الَّتي لا تَشعُرُ بالحاجةِ إلى الِاتِّفاقِ، فتَعِيشُ فُرادَى، بَينَما الوَعْلُ والماعِزُ الوَحْشِيُّ تَعِيشُ قُطْعانًا خَوْفًا مِنَ الذِّئابِ.

أي إنَّ جَمْعِيّةَ الضُّعَفاءِ والشَّخْصَ المَعنَوِيَّ المُمَثِّلَ لَهُم قَوِيٌّ، كما أنَّ جَمْعِيّةَ الأَقْوِياءِ والشَّخْصَ المَعنَوِيَّ المُمَثِّلَ لَهُم ضَعِيفٌ5إنَّ ما يُؤيِّدُ دَعْوانا هذه هو أنَّ أَقوَى المُنَظَّماتِ الأَورُوبِّيةِ وأَكثَرَها تَأْثِيرًا في المُجتَمَعِ وأَشَدَّها مِن جِهةٍ، هي مُنَظَّماتُ النِّساءِ -وهُنَّ الجِنسُ اللَّطِيفُ- في أَمرِيكا الَّتي تُطالِبُ بحُقُوقِ المَرأةِ وحُرِّيَّتِها.. وكذلك مُنَظَّماتُ الأَرْمَنِ الَّذين هُم أَقَلِّيّةٌ وضُعَفاءُ بينَ الأُمَمِ، إلّا أنَّهم يُبدُون تَضْحِيةً وبَسالةً فائِقةً..

وهُناك إِشارةٌ لَطِيفةٌ إلى هذا السِّرِّ في نُكْتةٍ قُرآنيّةٍ ظَرِيفةٍ، وهي إِسنادُ الفِعْلِ “قالَ” بِصِيغةِ المُذَكَّرِ إلى جَماعةِ الإِناثِ معَ كَوْنِها مُؤَنَّثةً مُضاعَفةً، وذلك في قَوْلِه تَعالَى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ﴾، بَينَما جاءَ الفِعلُ “قالَت” بصِيغةِ المُؤَنَّثِ في قَوْلِه تَعالَى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ﴾ وهُم جَماعةٌ مِنَ الذُّكُورِ، مِمّا يُشِيرُ إِشارةً لَطِيفةً إلى أنَّ جَماعةَ النِّساءِ الضَّعِيفاتِ اللَّطِيفاتِ تَتَخاشَنُ وتَتَقوَّى وتَكْسِبُ نَوْعًا مِنَ الرُّجُولةِ، فاقْتَضَتِ الحالُ صِيغةَ المُذَكَّرِ، فجاءَ فِعلُ “قالَ” مُناسِبًا وفي غايةِ الجَمالِ؛ أمّا الرِّجالُ الأَقْوِياءُ فلِأَنَّهُم يَعتَمِدُون على قُوَّتِهم ولا سِيَّما الأَعْرابُ البَدَوِيُّون فتكُونُ جَماعَتُهم ضَعِيفةً كأنَّها تَكْسِبُ نَوْعًا مِن خاصِّيّةِ الأُنُوثةِ مِن تَوَجُّسٍ وحَذَرٍ ولُطْفٍ ولِينٍ، فجاءَت صِيغةُ التَّأْنِيثِ لِلفِعْلِ مُلائِمةً جِدًّا في قَوْلِه تَعالَى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ﴾.

نعم، إنَّ الَّذين يَنشُدُون الحَقَّ لا يَرَوْن وَجْهَ الحاجةِ إلى مُعاوَنةِ الآخَرِين لِما يَحْمِلُون في قُلُوبِهِم مِن إِيمانٍ قَوِيٍّ يُمِدُّهُم بسَنَدٍ عَظِيمٍ، ويَبْعَثُ فِيهِمُ التَّوَكُّلَ والتَّسْلِيمَ، حتَّى لوِ احتاجُوا إلى الآخَرِين فلا يَتَشبَّثُون بهم بقُوّةٍ؛ أمّا الَّذين جَعَلُوا الدُّنيا هَمَّهُم، فلِغَفْلَتِهم عن نُقطةِ استِنادِهِم ومُرتَكَزِهِمُ الحَقِيقيِّ يَجِدُون في أَنفُسِهِمُ الضَّعْفَ والعَجْزَ في إِنجازِ أُمُورِ الدُّنيا، فيَشْعُرُون بحاجةٍ مُلِحّةٍ إلى مَن يَمُدُّ لَهُم يَدَ التَّعاوُنِ، فيَتَّفِقُون مَعَهُمُ اتِّفاقًا جادًّا لا يَخْلُو مِن تَضْحِيةٍ وفِداءٍ.

وهكذا، فلِأنَّ طُلّابَ الحَقِّ لا يُقَدِّرُون قُوّةَ الحَقِّ الكامِنةَ في الِاتِّفاقِ ولا يُبالُون بها، يَنساقُون إلى نَتِيجةٍ باطِلةٍ وَخِيمةٍ تلك هي الِاختِلافُ؛ بَينَما أَهلُ الباطِلِ والضَّلالةِ فلِأَنَّهم يَشعُرُون -بسَبَبِ عَجْزِهم وضَعْفِهم- بما في الِاتِّفاقِ مِن قُوّةٍ عَظِيمةٍ، فقد نالُوا أَمْضَى وَسِيلةٍ تُوصِلُهم إلى أَهْدافِهم، تلك هي الِاتِّفاقُ.

[علاج تفرق الكلمة]

وطَرِيقُ النَّجاةِ مِن هذا الواقِعِ الباطِلِ الأَلِيمِ والتَّخَلُّصِ مِن هذا المَرَضِ الفَتّاكِ -مَرَضِ الِاختِلافِ الَّذي أَلَمَّ بأَهْلِ الحَقِّ- هو اتِّخاذُ النَّهْيِ الإِلٰهِيِّ في الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾، واتِّخاذُ الأَمرِ الرَّبّانِيِّ في الآيةِ الكَرِيمةِ: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ دُسْتُورَينِ لِلعَمَلِ في الحَياةِ الِاجتِماعِيّةِ.

ثمَّ العِلمُ بمَدَى ما يُسَبِّبُه الِاختِلافُ مِن ضَرَرٍ بَلِيغٍ في الإِسلامِ والمُسلِمِين، وبِمَدَى ما يُيَسِّرُ السَّبِيلَ أَمامَ أَهلِ الضَّلالةِ لِيَبسُطُوا أَيدِيَهُم على أَهلِ الحَقِّ.

ثمَّ الِالْتِحاقُ بقافِلةِ الإِيمانِ الَّتي تَنشُدُ الحَقَّ، والِانخِراطُ في صُفُوفِها بِتَضْحِيةٍ وفِداءٍ وبشُعُورٍ نابِعٍ مِن عَجْزٍ كامِلٍ وضَعْفٍ تامٍّ، وذلك معَ نُكْرانِ الذّاتِ والنَّجاةِ مِنَ الرِّياءِ ابتِغاءَ الوُصُولِ إلى نَيْلِ شَرَفِ الإِخلاصِ.

[سبب 6: اتفاقٌ سببُه غايات دنيوية]

السَّببُ السّادس:

إنَّ اختِلافَ أَهلِ الحَقِّ ليس ناشِئًا مِن فِقْدانِ الشَّهامةِ والرُّجُولةِ، ولا مِنِ انحِطاطِ الهِمّةِ وانعِدامِ الحَمِيّةِ؛ كما أنَّ الِاتِّفاقَ الجادَّ بينَ الغافِلِين الضّالِّين الَّذين يَبغُون الدُّنيا في أُمُورِهِم ليس ناشِئًا مِنَ الشَّهامةِ والرُّجُولةِ، ولا مِنَ الحَمِيّةِ وعُلُوِّ الهِمّةِ؛ بل إنَّ أَهلَ الحَقِّ وَجَّهُوا نَظَرَهُم إلى ثَوابِ الآخِرةِ على الأَكْثَرِ، فتَوَزَّعَ ما لَدَيهِم مِن حَمِيّةٍ وهِمّةٍ وشَهامةٍ إلى تلك المَسائِلِ المُهِمّةِ والكَثِيرةِ، ونَظَرًا لِكَوْنِهم لا يَصْرِفُون أَكثَرَ وَقْتِهمُ الَّذي هو رَأْسُ مالِهِمُ الحَقِيقِيُّ إلى مَسأَلةٍ مُعَيَّنةٍ واحِدةٍ، فلا يَنعَقِدُ اتِّفاقُهُم عَقْدًا مُحْكَمًا معَ السّالِكِين في نَهْجِ الحَقِّ، حيثُ إنَّ المَسائِلَ كَثِيرةٌ والمَيْدانَ واسِعٌ جِدًّا.

أمّا الدُّنيَوِيُّون الغافِلُون، فلِكَوْنِهم يَحصُرُون نَظَرَهم حَصْرًا في الحَياةِ الدُّنيا -فهِيَ أَكبَرُ هَمِّهِم ومَبلَغُ عِلْمِهم- تَراهُم يَرتَبِطُون معَها بأَوْثَقِ رِباطٍ وبكُلِّ ما لَدَيهِم مِن مَشاعِرَ ورُوحٍ وقَلْبٍ؛ فأَيُّما شَخْصٍ يَمُدُّ لَهُم يَدَ المُساعَدةِ يَستَمْسِكُون بها بقُوّةٍ، فهُم يَحصُرُون وَقْتَهُمُ الثَّمِينَ جِدًّا في قَضايا دُنيَوِيّةٍ لا تُساوِي شَيْئًا في الحَقِيقةِ لَدَى أَهلِ الحَقِّ، مَثَلُهُم في هذا كمَثَلِ ذلك الصّائِغ اليَهُودِيِّ المَجنُونِ الَّذي اشتَرَى قِطَعًا زُجاجِيّةً تافِهةً بأَثْمانِ الأَحجارِ الكَرِيمةِ الباهِظةِ. فابتِياعُ الشَّيءِ بأَثْمانٍ باهِظةٍ، وصَرْفُ المَشاعِرِ كُلِّها نَحوَه يُؤَدِّي حَتْمًا إلى النَّجاحِ والتَّوفيقِ ولو كان في طَرِيقٍ باطِلٍ، لأنَّ فيه إِخلاصًا جادًّا.

ومِن هُنا يَتَغلَّبُ أَهلُ الباطِل على أَهلِ الحَقِّ، فيَفقِدُ أَهلُ الحَقِّ الإخلاصَ، ويَسقُطُون في مَهاوِي الذُّلِّ والتَّصَنُّعِ والرِّياءِ، ويُضطَرُّون إلى التَّمَلُّقِ والتَّزَلُّفِ إلى أَربابِ الدُّنيا المَحرُومِين مِن كُلِّ مَعاني الشَّهامةِ والهِمّةِ والغَيْرةِ.

[علاج مرض الاختلاف]

فيا أَهلَ الحَقِّ، ويا أَهلَ الشَّرِيعةِ والحَقِيقةِ والطَّرِيقةِ، ويا مَن تَنشُدُون الحَقَّ لِأَجلِ الحَقِّ.. اِسْعَوْا في دَفْعِ هذا المَرَضِ الرَّهِيبِ -مَرَضِ الِاختِلافِ- بِتَأَدُّبِكُم بالأَدَبِ الفُرقانِيِّ العَظِيمِ، ألا وهُو: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾، فاعْفُوا عن هَفَواتِ إِخوانِكُم واصْفَحُوا عن تَقْصِيراتِهم، وغُضُّوا أَبصارَكُم عن عُيُوبِ بَعضِكُم بَعضًا، ودَعُوا المُناقَشاتِ الدّاخِلِيّةَ جانِبًا، فالأَعداءُ الخارِجِيُّون يُغِيرُون علَيكُم مِن كُلِّ صَوْبٍ.

واجْعَلُوا إِنقاذَ أَهلِ الحَقِّ مِنَ السُّقُوطِ والذِّلّةِ مِن أَهَمِّ واجِباتِكُمُ الأُخرَوِيّةِ وأَوْلاها بالِاهتِمامِ، وامْتَثِلُوا لما تَأْمُرُكُم به مِئاتُ الآياتِ الكَرِيمةِ والأَحادِيثِ الشَّرِيفةِ مِنَ التَّآخِي والتَّحابُبِ والتَّعاوُنِ، واسْتَمْسِكُوا بكُلِّ مَشاعِرِكُم بعُرَى الِاتِّفاقِ والوِفاقِ معَ إِخوانِكُم في الدِّينِ ونَهْجِ الحَقِّ المُبِينِ بأَشَدَّ مِمّا يَستَمْسِكُ به الدُّنيَوِيُّون الغافِلُون، واحْذَرُوا دائِمًا مِنَ الوُقُوعِ في شِباكِ الِاختِلاِف.

ولا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم: “سأَصْرِفُ وَقْتِي الثَّمِينَ في قِراءةِ الأَوْرادِ والأَذكارِ وفي التَّأَمُّلِ، بَدَلًا مِن أن أَصْرِفَه في مِثلِ هذه الأُمُورِ الجُزئيّةِ”، فيَنسَحِبَ مِنَ المَيْدانِ ويُصْبِحَ وَسِيلةً في تَوْهِينِ الِاتِّفاقِ والِاتِّحادِ، وسَبَبًا في إِضْعافِ الجَماعةِ المُسلِمةِ، ذلك لِأَنَّ المَسائِلَ الَّتي تَظُنُّونَها جُزئيّةً وبَسِيطةً رُبَّما هي على جانِبٍ عَظِيمٍ مِنَ الأَهَمِّيّةِ في هذا الجِهادِ المَعنَوِيِّ.

فكما أنَّ مُرابَطةَ جُندِيٍّ في ثَغْرٍ مِنَ الثُّغُورِ الإسلامِيّةِ -ضِمنَ شَرائِطَ خاصّةٍ مُهِمّةٍ- لِساعةٍ مِنَ الوَقتِ قد تكُونُ بمَثابةِ سَنةٍ مِنَ العِبادةِ، فإنَّ يَوْمَك الثَّمِينَ هذا الَّذي تَصْرِفُه في مَسأَلةٍ جُزئِيّةٍ مِن مَسائِلِ الجِهادِ المَعنَوِيِّ -ولا سِيَّما في هذا الوَقتِ العَصِيبِ الَّذي غُلِبَ أَهلُ الحَقِّ فيه على أَمْرِهِم- أَقُولُ: إنَّ يَوْمَك هذا رُبَّما يَأْخُذُ حُكْمَ ساعةٍ مِن مُرابَطةِ ذلك الجُندِيِّ، أي: يكُونُ ثَوابُه عَظِيمًا، بل رُبَّما يكُونُ يَومُك هذا كأَلفِ يَوْمٍ، إذ ما دامَ العَمَلُ لِوَجْهِ اللهِ وفي سَبِيلِه فلا يُنظَرُ إلى صِغَرِه وكِبَرِه ولا إلى سُمُوِّه وتَفاهَتِه، فالذَّرَّة في سَبِيلِ رِضاه سُبحانَه معَ الإِخلاصِ تُصبِحُ نَجْمةً مُتَلَأْلِئةً، فلا تُؤْخَذُ ماهِيّةُ الوَسِيلةِ بنَظَرِ الِاعتِبارِ، وإنَّما العِبْرةُ في النَّتِيجةِ والغايةِ، وحيثُ إنَّها رِضَا اللهِ سُبحانَه، وأنَّ أَساسَ العَمَلِ هو الإخلاصُ، فلَن تكُونَ تلك المَسأَلةُ إذًا مَسأَلةً صَغِيرةً، بل هي كَبِيرةٌ وعَظِيمةٌ.

[سبب 7: اتفاقٌ سببُه الحرص]

السَّببُ السّابعُ:

إنَّ اختِلافَ أَهلِ الحَقِّ والحَقِيقةِ ومُنافَسَتَهُم ليس ناشِئًا مِنَ الغَيْرةِ فيما بَينَهُم ولا مِنَ الحِرصِ على حُطامِ الدُّنيا، كما أنَّ اتِّفاقَ الدُّنيَوِيِّين الغافِلِين ليس مِن كَرامَتِهِم وشَهامَتِهِم؛ بل إنَّ أَهلَ الحَقِيقةِ لم يَتَمكَّنُوا مِنَ الحِفاظِ على الفَضائِلِ والمَكارِمِ الَّتي يَحصُلُون علَيْها مِن تَمَسُّكِهِم بالحَقِيقةِ ولم يَستَطِيعُوا البَقاءَ والثَّباتَ ضِمْنَ مُنافَسةٍ شَرِيفةٍ نَزِيهةٍ في سَبِيلِ الحَقِّ، بِتَسَلُّلِ القاصِرِين مِنهُم في هذا المَيدانِ؛ لِذا فقد أَساؤُوا بعضَ الإِساءةِ إلى تلك الصِّفاتِ المَحمُودةِ، وسَقَطُوا في الِاختِلافِ والخِلافِ نَتِيجةَ التَّحاسُدِ، فأَضَرُّوا بأَنفُسِهِم وبجَماعةِ المُسلِمِين أَيَّما ضَرَرٍ.

أمّا الضَّالُّون والغافِلُون فنَظَرًا لِفِقْدانِهِمُ المُرُوءةَ والحَمِيّةَ لِعَجْزِهِم وذِلَّتِهِم، فقد مَدُّوا أَيدِيَهُم واتَّحَدُوا اتِّحادًا صادِقًا معَ أُناسٍ أيًّا كانُوا، بل معَ الدَّنِيئِين الوَضِيعِين مِنَ النّاسِ كَيْلا تَفُوتَهُم مَنافِعُ يَلْهَثُون وَراءَها، ولا يُسخِطُوا أَصدِقاءَهم ورُؤَساءَهُمُ الَّذين يَأْتَمِرُون بأَوامِرِهِم إلى حَدِّ العِبادةِ، لِذا اتَّفَقُوا معَ مَن يُشارِكُهُم في الأَمرِ اتِّفاقًا جادًّا، واجْتَمَعُوا معَ مَن يَجْتَمِعُ حَوْلَ تلك المَنافِعِ بأيِّ شَكْلٍ مِن أَشكالِ الِاجتِماعِ، فبَلَغُوا إلى ما يَصبُون إلَيْه مِن جَرَّاءِ هذا الجِدِّ والحَزْمِ في الأَمرِ.

فيا أَهلَ الحَقِّ وأَصحابَ الحَقِيقةِ، ويا مَنِ ابتُلِيتُم بِبَلْوَى الِاختِلافِ.. لقد ضَيَّعتُمُ الإِخلاصَ في هذا الظَّرْفِ العَصِيبِ، ولم تَجعَلُوا رِضَا اللهِ الغايةَ الوَحِيدةَ لِمَسْعاكُم، فمَهَّدتُّمُ السُّبُلَ لِإِسقاطِ أَهلِ الحَقِّ مَغلُوبِين على أَمرِهِم، وجَرَّعتُمُوهُم مَرارةَ الذُّلِّ والهَوانِ.

[أمور الدين ليست محل تنافس وتحاسد]

اِعْلَمُوا أنَّه ما يَنبَغِي أن يكُونَ حَسَدٌ ولا مُنافَسةٌ ولا غَيْرةٌ ولا غِبطةٌ في أُمُورِ الدِّينِ والآخِرةِ، فلَيس فيها في نَظَرِ الحَقِيقةِ أَمثالُ هذه الأُمُورِ، ذلك لأنَّ مَنشَأَ الحَسَدِ والمُنافَسةِ إنَّما هُو مِن تَطاوُلِ الأَيدِي الكَثِيرةِ على شَيءٍ واحِدٍ، وحَصْرِ الأَنظارِ إلى مَقامٍ واحِدٍ، واشْتِهاءِ المَعِداتِ الكَثِيرةِ طَعامًا واحِدًا، فتَؤُولُ إلى الغِبطةِ وبَعدَها إلى الحَسَدِ وذلك بسَبب المُسابَقةُ والمُزاحَمةُ. ولَمّا كانَتِ الدُّنيا ضَيِّقةً ومُؤَقَّتةً ولا تُشبِعُ رَغَباتِ الإنسانِ ومَطالِبَه الكَثِيرةَ، وحَيثُ إنَّ الكَثِيرِين يَتَهالَكُون على شَيءٍ واحِدٍ، فالنَّتِيجةُ إذًا السُّقُوطُ في هاوِيةِ الحَسَدِ والمُنافَسةِ؛ أمّا في الآخِرةِ الفَسِيحةِ فلِكُلِّ مُؤْمِنٍ جَنّةٌ عَرْضُها السَّماواتُ والأَرضُ، تَمتَدُّ إلى مَسافةِ خَمسِ مِئةِ سَنةٍ6 سؤالٌ مُهِمٌّ وارِدٌ مِن جانِبٍ عَظِيمِ الأَهَمِّيّة: كيف تَستَوعِبُ عُقُولُنا الدُّنيَوِيّةُ القاصِرةُ حَقِيقةَ ما رُوِي أنَّ المُؤمِنَ يُمنَحُ جَنّةً عَرضُها خَمسُ مِئةِ سَنةٍ؟

الجَوابُ: كما أنَّ لِكُلِّ شَخصٍ في هذه الدُّنيا دُنيا مُؤَقَّتةً خاصَّةً به، قِوامُها حَياتُه يَستَمتِعُ بها بحَواسِّه الظَّاهِرةِ والباطِنةِ، حتَّى يُمكِنُه أن يقُولَ: الشَّمسُ مِصباحٌ لي والنُّجُومُ قَنادِيلُ لي، فلا يُنازِعُه في مُلكِيَّتِه هذه وُجُودُ سائِرِ المَخلُوقاتِ وذَوِي الأَرواحِ، بل يَعمُرُون دُنياه الخاصَّةَ ويُجَمِّلُونها.. كذلك الأَمرُ في الجَنّةِ، معَ فارِقٍ عَظِيمٍ، فكُلُّ مُؤمِنٍ -فَضْلًا عن رَوْضَتِه الخاصّةِ الَّتي تَضُمُّ أُلُوفَ القُصُورِ والحُورِ العِينِ- لَه جَنّةٌ خاصّةٌ به بِسَعةِ خَمسِ مِئةِ سَنةٍ مِنَ الجَنّةِ العامّةِ، يَستَمتِعُ بها استِمتاعًا يَلِيقُ بالجَنّةِ والخُلُودِ بما يَنكَشِفُ مِن حَواسِّه ويَنبَسِطُ مِن مَشاعِرِه حَسَبَ دَرَجةِ كلِّ مُؤْمِنٍ، فلا يَنقُصُ وُجُودُ الآخَرِين مَعَه ومُشارَكَتُهم لَه شَيئًا مِن تَنَعُّمِه وتَلَذُّذِه وتَمَلُّكِه، بل يَعمُرُون جَنَّتَه الخاصَّةَ والواسِعةَ ويُزَيِّنُونها.

نعم، فكما يَتَمتَّعُ الإنسانُ في الدُّنيا بفَمِه وأُذُنِه وعَينِه وأَذْواقِه الأُخرَى ومَشاعِرِه وحَواسِّه كُلِّها في مَسافةِ ساعةٍ يَقْضِيها في حَدِيقةٍ، أو في مَسافةِ يَومٍ يُمضِيه في سِياحةٍ، أو في مَسِيرةِ شَهر كامِلٍ في مَمْلَكةٍ، أو في سَنةٍ مِن عُمُرِه يَستَجِمُّ بها في رِحْلةٍ وسَفْرةٍ.. كذلك الأَمرُ هُناك في الجَنّةِ، تَتَمتَّعُ حاسّةُ الذَّوْقِ والشَّمِّ في تلك المَمْلَكةِ الخالِدةِ في مَسافةِ سَنةٍ كامِلةٍ بمثل ما كانَت تَتَمتَّعُ في هذه الحَياةِ الفانِيةِ في ساعةٍ مِن حَدِيقةٍ غَنّاءَ، وتَتَمتَّعُ حاسّةُ الإِبصارِ والسَّمْعِ في تلك المَمْلَكةِ الأَبدِيّةِ الزّاهِيةِ مِن أَقْصاها إلى أَقْصاها ضِمنَ رِحلةٍ أَمَدُها خَمسُ مِئةِ سَنةٍ تَمَتُّعًا يُلائِمُ خُلُودَها، ما تَتَمتَّعُ به مِن سِياحةٍ وتَجْوالٍ ورِحْلاتٍ يُمضِيها الإنسانُ في سَنةٍ في هذه الدُّنيا؛ فلِكُلِّ مُؤْمِنٍ حَسَبَ دَرَجَتِه وحَسَبَ ما نالَه مِن ثَوابٍ على أَعمالِه الدُّنيوِيّةِ وحَسَبَ كَمِيّةِ حَسَناتِه، تَنكَشِفُ مَشاعِرُه وتَنبَسِطُ حَواسُّه، فتَستَمتِعُ تلك المَشاعِرُ والحَواسُّ هُناك في الجَنّةِ بما يُلائِمُ خُلُودَها.
، ولِكُلٍّ مِنهُم سَبعُون أَلْفًا مِنَ الحُورِ والقُصُورِ، فلا مُوجِبَ هُناك إذًا لِلحَسَدِ والمُنافَسةِ قَطُّ. فيَدُلُّنا هذا على أنَّه لا حَسَدَ ولا مُشاحَنةَ في الأَعمالِ الصّالِحةِ المُتَوجِّهةِ إلى الآخِرةِ، أي: لا مَجالَ للمُنافَسةِ والتَّحاسُدِ فيها، فمَن تَحاسَدَ فهو لا شَكَّ مُراءٍ. أي: إنَّه يَتَحرَّى مَغانِمَ دُنيَوِيّةً تَحتَ سِتارِ الدِّينِ، ويَبحَثُ عن مَنافِعَ باسمِ العَمَلِ الصَّالِحِ؛ أو إنَّه صَدِيقٌ جاهِلٌ لا يَعلَمُ أَينَ وِجهةُ الأَعمالِ الصَّالِحةِ، ولم يُدرِكْ بَعدُ أنَّ الإِخلاصَ رُوحُ الأَعمالِ الصَّالِحةِ وأَساسُها، فيَتَّهِمُ سَعةَ الرَّحْمةِ الإِلٰهِيّةِ كأنَّها لا تَسَعُه، ويَبدَأُ بالحَسَدِ والمُنافَسةِ والمُزاحَمةِ مُنطَوِيًا في قَرارةِ نَفسِه على نَوعٍ مِنَ العَداءِ معَ أَوْلِياءِ اللهِ الصَّالِحِين الصَّادِقِين.

وسأَذكُرُ هُنا حادِثةً تُؤيِّدُ هذه الحَقِيقةَ:

كان أَحَدُ أَصدِقائِنا السَّابِقِين يَحمِلُ في قَلْبِه ضَغِينةً وعَداءً نَحوَ شَخصٍ مُعَيَّنٍ، وعِندَما أُثنِيَ على هذا الشَّخصِ أَمامَه في مَجلِسٍ وقِيلَ في حَقِّه: “إنَّه رَجُلٌ صالِحٌ، إنَّه وَلِيٌّ مِن أَوْلِياءِ اللهِ” رَأَيْنا أنَّ هذا الكَلامَ لم يُحرِّكْ فيه شَيْئًا، فلم يُبْدِ ضِيقًا مِنَ الثَّناءِ على عَدُوِّه؛ ولَكِن عِندَما قال أَحَدُهم: “إنَّه قَوِيٌّ وشُجاعٌ” رَأَيْناه قدِ انتَفَضَ عِرْقُ الحَسَدِ والغَيْرةِ لَدَيْه.

فقُلْنا له: “يا هَذا إنَّ مَرتَبةَ الوِلايةِ والتَّقوَى مِن أَعظَمِ المَراتِبِ في الآخِرةِ، فلا يُقاسُ علَيْها شَيءٌ آخَرُ، فأَينَ الثَّرَى مِنَ الثُّرَيّا؟! لقد شاهَدْنا أنَّ ذِكْرَ هذه المَرتَبةِ لم يُحَرِّك فيك ساكِنًا، بَينَما ذِكْرُ القُوّةِ العَضَلِيّةِ الَّتي تَملِكُها حتَّى الثِّيرانُ والشَّجاعةُ الَّتي تَملِكُها السِّباعُ قد أَثارَتَا فيك نَوازِعَ الحَسَدِ”!

أَجابَ: “لقدِ استَهْدَفْنا كِلانا هَدَفًا ومَقامًا مُعَيَّنًا في هذه الدُّنيا، فالقُوّةُ والشَّجاعةُ وأَمثالُهُما هي مِن وَسائِلِ الوُصُولِ إلى ما استَهْدَفْناه مِن مَرتَبةٍ دُنيَوِيّةٍ، فلِأَجلِ هذا شَعَرتُ بدَواعِي المُنافَسةِ والحَسَدِ؛ أمَّا مَنازِلُ الآخِرةِ ومَراتِبُها فلا تُحَدُّ بحُدُودٍ، ورُبَّما يُصبِحُ هُناك مَن كان عَدُوًّا لي أَحَبَّ صَدِيقٍ وأَعَزَّه”.

فيا أَهْلَ الحَقِيقةِ والطَّرِيقةِ، إنَّ خِدْمةَ الحَقِّ ليس شَيْئًا هَيِّنًا، بل هي أَشْبَهُ ما تكُونُ بحَمْلِ كَنزٍ عَظِيمٍ ثَقِيلٍ والحِفاظِ علَيْه، فكُلَّما سارَعَت أَيدٍ قَوِيّةٌ وسَواعِدُ مَتِينةٌ لِمُساعَدةِ حامِلِيه وتَخفِيفِ العِبْءِ عن كَواهِلِهِم، كانَ ذلك أَدعَى لِفَرَحِهِم وسُرُورِهِم وامتِنانِهِم لا لِغَيرَتِهِم؛ ومُوجِبًا لِأَن يُقابِلُوا هَؤُلاءِ الأَعوانَ الجُدُدَ بِخالِصِ المَحَبّةِ الصّادِقةِ، ويُرَحِّبُوا بِهِم بِحَماسٍ، ويَفخَرُوا بِانضِمامِ إِخوةٍ لَهُم يَفُوقُونَهُم قُوَّةً وعَوْنًا وتَأْثِيرًا.

أَجَل، هذا هو اللَّازِمُ، فلِمَ إذًا يُنظَرُ إلَيْهِم نَظَرَ المُنَافَسة، فيَفسُدُ الإِخلاصُ نَتِيجةَ هذه الحالةِ، وتكُونُ أَعمالُكُم ومُهِمَّتُـكُم مَوْضِعَ تُهَمِ الضَّالِّين، فيَضَعُونَـكُم في مُستَوًى أَقَلَّ مِنكُم وأَوْطَأَ مِن مَسلَكِكُم بكَثِيرٍ، بل يَقرِنُونَـكُم معَ أُولَئِك الَّذين يَأْكُلُون الدُّنيا بالدِّينِ، ويُضَمِّنُون عَيْشَهُم تَحتَ سِتارِ عِلْمِ الحَقِيقةِ، ويَجعَلُونَـكُم مِنَ المُتَنافِسِين الحَرِيصِين على حُطامِ الدُّنيا، وأَمثالِها مِنَ الِاتِّهاماتِ الظّالِمةِ؟!

[علاج التنافس بين أهل الحق]

إنَّ العِلاجَ الوَحِيدَ لِهَذا المَرَضِ هو اتِّهامُ المَرءِ نَفسَه، والِانحِيازُ إلى جِهةِ رَفيقِه في نَهْجِ الحَقِّ الِّذي إِزاءَه، وعَدَمُ الِانحِرافِ عن دُستُورِ الإِنصافِ وابتِغاءِ الحَقِّ الَّذي ارْتَضاه عُلَماءُ فَنِّ الآدابِ والمُناظَرةِ وهو: “إذا أَرادَ المَرءُ أن يَظهَرَ الحَقُّ على لِسانِه دُونَ غيرِه -في مُناظَرةٍ مُعَيَّنةٍ- وانسَرَّ لِذلِك واطْمَأَنَّ أن يكُونَ خَصْمُه على باطِلٍ وخَطَأٍ فهُو ظالِمٌ غيرُ مُنصِفٍ”، فَضْلًا عن أنَّه يَتَضرَّرُ نَتِيجةَ ذلك لِأَنَّه لم يَتَعلَّم شَيْئًا جَدِيدًا -مِن تلك المُناظَرةِ- بظُهُورِ الحَقِّ على لِسانِه، بل قد يَسُوقُه ذلك إلى الغُرُورِ فيَتَضَرَّرُ.. بَينَما إذا ظَهَر الحَقُّ على لِسانِ خَصْمِه فلا يَضُرُّه شَيءٌ ولا يَبعَثُ فيه الغُرُورَ، بل يَنتَفِعُ بتَعَلُّمِه شَيئًا جَدِيدًا. أي: إنَّ طالِبَ الحَقِّ المُنصِفَ يُسخِطُ نَفسَه لِأَجْلِ الحَقِّ، وإذا ما رَأَى الحَقَّ لَدَى خَصْمِه رَضِيَ به وارتاحَ إلَيْه. فلَوِ اتَّخَذَ أَهلُ الدِّينِ والحَقِيقةِ والطَّرِيقةِ والعِلْمِ هذا الدُّستُورَ دَلِيلًا لَهُم في حَياتِهِم وعَمَلِهم، فإنَّهُم سيَظْفَرُون بالإِخلاصِ بإِذنِ اللهِ، ويُفلِحُون في أَعمالِهِمُ الأُخرَوِيّةِ، ويَنجُون برَحْمةٍ مِنه سُبحانَه وفَضْلٍ مِن هذه المُصِيبةِ الكُبْرَى الَّتي أَلَمَّت بهم وأَحاطَت بهم مِن كُلِّ جانِبٍ.

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

❀   ❀   ❀

 

 

Exit mobile version